الجمعة، 6 يونيو 2014

حدث في السادس من شعبان

 
في السادس من شعبان من عام 1205 توفي في القاهرة، عن 60 عاماً، العلامة اللغوي المحدث أبو الفيض مرتضى الزَبيدي، محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الحنفي الواسطي البلجرامي الزَبيدي، صاحب كتاب تاج العروس، المعجم اللغوي الضخم، وغيره من المؤلفات النفيسة، وأحد أفراد العالم في سعة العلم والاطلاع وغزارة المؤلفات. واستقيت معظم هذه الترجمة، ككل من ترجموا له، مما ذكره عبد الرحمن الجبرتي، المولود سنة 1167 والمتوفى سنة 1237، في كتابه عجائب الآثار، والذي صاحبه وخدمه منذ أن جاء إلى مصر، وهو يذكره باسم: شيخنا محدث العصر.
ولد الزبيدي سنة 1145 في بليدة بلجرام أو بلكرام Bilgram قرب قِنَّوج، Kannauj في ولاية أُتار براديش،  وهي بلدة تقع على بعد 400 كيلو جنوبي شرق دهلي، وقد جاء أجداده، وهم من السادة، من واسط في العراق قبل قرون كثيرة واستوطنوا المنطقة، وصاروا وجهاءها وأمراءها ومُلاّك أراضيها، ثم اضمحل أمرهم بعد استقلال الهند والإصلاح الزراعي فيها، ولا يزال لهم فيها وجود ضعيف إلى يومنا هذا.
طلب الزبيدي العلم على علم الهند، وكانت زاخرة بالعلماء المتابعين والمجددين، الخاملين والناشطين، ومن أبرز من درس عليهم الإمام الكبير المحدث الفقيه شاه ولي الله الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم، المولود سنة 1110 والمتوفى سنة 1176، ورائد نهضة العلوم الشرعية والحركة الدعوية في تلك الديار.
رحل الزبيدي للحج وطلب العلم في سنة 1161، وهو في الخامسة عشرة، فذهب إلى ميناء سورات ومنها في البحر إلى ميناء مُخا في اليمن ومنها إلى زبيد ثم إلى مكة المكرمة عن طريق البر، وقد مكث في زَبيد بضع سنوات، وسمع بها الصحيحين وسنن النسائي والتفسير على الشيخ عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي المولود سنة 1100 والمتوفى سنة 1182.
فقد ذهب إلى مكة سنة 1163، وحج في سنة 1164، واجتمع في الحرمين بعلمائهما ومحديثهما، ومن أكثر من روى عنه الشيخ المسند عمر بن أحمد السقاف المولود بمكة سنة 1102 والمتوفى سنة 1174، وأخذ عن مشايخ المذاهب الأربعة في مكة، ومن أبرز من أخذ عنهم الشيخ عبد الرحمن بن مصطفى العيدروس، المولود بتريم في حضرموت سنة 1135 والمتوفى بمصر سنة 1192، ولازمه بضعة سنوات ملازمة كلية، وقرأ عليه مختصر السعد التفتازاني في علوم البلاغة، وكذلك جانباً من إحياء علوم الدين للغزالي، وأجازه بمروياته ومسموعاته، وألبسه الخرقة بيده رمزاً إلى انتمائه على يده إلى الطريقة النقشبندية الصوفية.
وشجعه شيخه العيدروس على زيارة مصر وشوَّقه إلى الرحلة إليها، ورؤية علمائها وأمرائها وأدبائها، فعاد لليمن ثم في سنة 1166 سافر بحراً من الحُديدة إلى جدة وذهب إلى الطائف، فقرأ فيها الفقه على الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن ميرغني الطائفي، المتوفى سنة 1208، ثم بدأ رحلته إلى مصر بعد أن حج فاتجه شمالاً فزار بيت المقدس وسار منها إلى غزة حتى وصل القاهرة في 9 صفر 1167.
وكانت المدة التي أقامها الزبيدي في زبيد مما لم يهتد المحققون في السابق لتحديده، وعلى رأسهم الدكتور هاشم طه شلاش رحمه الله في كتابه مع الزبيدي في تاج العروس، ووالدي رحمه الله تعالى في تقدمته لكتاب الزبيدي: بُلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب، ولكن باحثاً من ندوة العلماء في الهند، هو الأستاذ قمر شعبان الندوي، بالرجوع لمصادر هندية، حدد أنه ابتدأ رحلته سنة 1161، ومما سبق يتضح أن إقامته بزبيد لم تكن طويلة خلاف ما يفترضه بعض المؤرخين بسبب الاسم، ويبدو أن أُلف الناس لاسم زَبيد، وغرابة اسم مسقط رأسه ومنطقته، دفعه لينتسب إلى زبيد، أو دفع الناس لينسبوه إليها، وأياً كان فلا شك في أن الزبيدي قد توجه على صغر سنه إلى طلب العلم بالأخذ عن العلماء واستجازتهم وجمع الأسانيد على عادة المحدثين، وأنه كذلك يتبع مدرسة تكثر بين علماء الهند أكثر من غيرهم، وتهتم كثيراً بالترويج الذاتي وتسعى له مستندة إلى مؤهلات حقة وعلم متين وحضور بديهة وشخصية قوية.
وبدأ الزبيدي في حضور دروس مشايخ مصر في مختلف العلوم، وسماع الحديث من محدثيها، وممن أخذ عنه من مشايخها الكبار؛ الشيخ أحمد الملوي المجيري، المولود سنة 1088 والمتوفى سنة 1181، والشيخ العدوي الصعيدي المالكي، علي بن أحمد بن مكرم المولود سنة 1112 والمتوفى سنة 1189، ولم يكتف بعلماء القاهرة بل رحل إلى جهات مصر البحرية مثل الإسكندرية ورشيد ودمياط، وسافر إلى الصعيد وبلاده ثلاث مرات، واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمائه، يتضح هذا في ثنايا كتابه تاج العروس، حين يرد ذكر إحدى القرى المصرية بحريها أو قبليها فيقول: زرتها أو مررت بها. و وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية، تحتوي على لطائف ومحاورات ومدائح نظماً ونثراً، لو جمعت كانت مجلداً ضخماً.
وفي الصعيد التقى الزبيدي بشيخ العرب الأمير شرف الدولة همام بن يوسف الهواري، وكان أميراً شهماً سخياً مضيافاً، له صلات وإغداقات وغلال يرسلها للعلماء وأرباب المظاهر بمصر في كل سنة، فلما زاره الزبيدي عرف فضله وأكرمه إكراماً كثيراً وأنعم عليه بغلال وسكر وجوار وعبيد.
وبرز شأن الزبيدي بين علماء مصر، وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه، واعتنى به أمير كبير من أمراء المماليك هو إسماعيل كتخدا عزبان، ووالاه بره وإنعامه، فتحسنت أحواله وكثرت أمواله، ولبس الملابس الفاخرة وركب الخيل المسومة، وصار من علية القوم.
واشتُهِر الزبيدي بمعجمه الجامع الكبير في اللغة العربية الذي تعقب فيه وزاد على معجم القاموس المحيط، ولذا أسماه تاج العروس من جواهر القاموس، الذي صنفه قبل قرابة 300 سنة الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، المولود قرب شيراز سنة 729  والمتوفى بزَبيد سنة 817، ولكن أساس عمله هو شرح القاموس لعالم مغربي لغوي تتلمذ عليه الزبيدي في الحجاز، وهو أبو عبد الله محمد بن الطيِّب الفاسيّ، المولود بفاس سنة 1110 والمتوفى بالمدينة المنورة سنة 1170، والمسمى إضاءة الراموس في إفاضة الناموس على إضافة القاموس، قال عنه الزبيدي في المقدمة: وهو عُمدتي في هذا الفنّ، والمقلِّد جيدي العاطل بِحُلى تقريرِه المستحسن.
وأورد الزبيدي في المقدمة الكتب التي رجع أثناء تصنيفه لتاج العروس، ثم قال رحمه الله: فجاءَ بحمد الله تعالى هذا الشرحُ واضحَ المَنهج، كثير الفائدة، سهل السُّلوك، مَوصول الفائدة، آمناً بِمِنَّة الله من أن يصبح مثل غيره وهو مطروح متروك، عظُم إن شاء الله تعالى نفعُه بما اشتملَ عليه، وغَنِي ما فيه عن غيره وافتقر غيرُه إليه، وجمع من الشواهد والأدلّة ما لم يَجمَعْ مِثلُه مِثلَه، لأن كل واحدٍ من العلماء انفرد بقول رواه أو سَماعٍ أدّاه، فصارت الفوائدُ في كتبهم مُفرَّقة، وسارت أنجمُ الفضائل في أفلاكِها هذه مُغرّبةٌ وهذه مُشرِّقة، فجمعت منها في هذا الشرحِ ما تَفرَّق، وقرنت بين ما غرَّب منها وبين ما شرَّق، فانتظم شمل تلك الأصول والموادّ كُلِّها في هذا المجموع، وصار هذا بمنزلة الأصل وأولئك بمنزلة الفروع، فجاء بحمد الله تعالى وَفْقَ البُغْيَةِ، وفوق المُنْيَة، بديع الإتقان، صحيح الأركان، سليماً من لفظة لو كان، حَللْتُ بوضعه ذِرْوَة الحُفَّاظ، وحَللت بجمعه عُقدةَ الألفاظ.
ثم يقول في تواضع: وأنا مع ذلك لا أدَّعي فيه دَعْوى فأقول: شافَهْتُ أو سمعت، أو شَددْتُ أو رحَلت، أو أخطأَ فلانٌ أو أصاب، أو غَلِطَ القائلُ في الخطاب، فكلُّ هذه الدَّعاوى لم يَترك فيها شيخُنا لقائلٍ مقالاً، ولم يُخْلِ لأحدٍ فيها مَجالا، فإنه عُنِيَ في شرحه عمن رَوى، وبَرْهن عما حَوَى، ويَسَّر في خَطْبِه فادَّعى، ولعمري لقد جَمع فأوْعَى، وأتى بالمقاصد ووَفى، وليس لي في هذا الشرح فضيلةٌ أمُتُّ بها، ولا وسيلة أتمسّك بها، سوى أنني جمعتُ فيه ما تفرّق في تلك الكتب من منطوق ومفهوم، وبسطتُ القول فيه ولم أشبع باليسير، وطالبُ العِلم مَنهوم، فمن وَقف فيه على صوابٍ أو زلل أو صحّة أو خَلل، فعُهدتُه على المصنِّف الأول، وحَمْدُه وذمُّه لأصله الذي عليه المُعوَّل، لأني عن كل كتابٍ نقلت مضمونه، فلم أُبدِّل شيئاً فيقال: فإنَّما إثْمُهُ على الّذينَ يُبَدِّلونَهُ. بل أدَّيت الأمانة في شرح العبارة بالفَصّ، وأوردتُ ما زِدْت على المؤلِّف بالنَّص...
والله تعالى... هو المسئول أن يُعاملني فيه بفضله وإحسانه، ويُعينني على إتمامه بكرمه وامتنانه، فإنني لم أقصد سوى حِفظِ هذه اللغة الشريفة، إذْ عليها مَدار أحكامِ الكتاب العزيز والسُّنّة النبويّة، ولأن العالِم بغوامضها يعلم ما يوافق فيه النيةَ اللسانُ، ويخالف فيه اللسانُ النيّة، وقد جمعته في زمنٍ أهله بغير لغته يفخرون، وصَنعته كما صنع نوح عليه السلام الفلك وقومه منه يسخرون، وسميته تاج العروس من جواهر القاموس.
ثم أشار إلى تاريخ تأليفه وكونه معجماً ضخماً لا يظن أن السابقين قد تركوه للاحقين، فقال: وكأني بالعالم المنصِف قد اطّلع عليه فارتضاه، وأجال فيه نظرة ذي عَلَقٍ فاجتباه، ولم يلتفت إلى حدوث عهده وقربِ ميلاده، لأنَّه إنما يُستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته لا لِقدَمِه وحُدوثه، وبالجاهل المُشِطّ قد سَمِع به فسارع إلى تَمزيق فروته وتوجيه المَعاب إليه ولمَّا يعرفْ نَبْعَه من غَرَبِه، ولا عَجم عودَه، ولا نَفض تهائمَه ونُجودَه، والذي غرَّه منه أنه عَملٌ محدثٌ ولا عمل قديم، وحسبك أن الأشياءَ تُنتَقد أو تُبهرَج لأنها تَليدَة أو طارِفة، ولله درُّ من يقول:
إذا رضيَتْ عني كرامُ عشيرتي... فلا زال غضباناً عليَّ لئامُها
وأرجو من الله تعالى أن يرفع قدرَ هذا الشرح بمنِّه وفَضْله، وأن ينفع به كما نَفع بأصلِه، وأنا أبرأ إلى الله عزّ وجلَّ من القوة والحَوْل، وإياه أستغفر من الزلل في العملِ والقول، لا إله غيره ولا خير إِلا خَيْرُه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبِه وسَلَّم تسليماً كثيرا.
وكان الزبيدي قد بدأ بتصنيفه في سنة 1174 وانتهى منه بعد أكثر من 14 سنة في رجب من عام 1188، وذلك كما ذكر في آخره، ثم قال في تواضع العلماء الصادقين المخلصين: وأنا أسأل الله تعالى الهداية الى مراضيه، والتوفيق لما به بمنه وكرمه، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم تسليما، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وكتبه العبد العاجز المقصر محمد مرتضى الحسينى الواسطي الزبيدى، نزيل مصر عفا الله عنه وسامحه بمنه وكرمه آمين.
وفي سنة 1181 أولم الزبيدي وليمة حافلة جمع فيها طلبة العلم ومشايخ الوقت وأطلعهم على مصنفه الجديد تاج العروس، فشهدوا بفضله وسعة اطلاعه، ورسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تقاريظهم نثرا ونظما، وكان منهم مشايخه مثل الشيخ على الصعيدي والسيد عبد الرحمن العيدروس، وغيرهم من كبار المشايخ الأفاضل، ويحفل بهذه التقاريظ كتاب هام في معرفة حياة الزبيدي حققه مؤخراً فضيلة الشيخ نظام يعقوبي وفضيلة الشيخ محمد بن ناصر العجمي هو المعجم المختص الذي عدَّد فيه الزبيدي وترجم من التقى بهم من مشايخه وطلابه وزائريه، ويزعم الجبرتي أن الزبيدي كان يخرج تاج العروس لكل من يزوره طالباً منه أن يقرظه، قال الجبرتي: والشيخ محمد سعيد السويدي هو آخر من قرظ عليه، وكنت إذ ذاك حاضراً، وكتبه نظماً ارتجالاً، وذلك في منتصف جمادى الآخرة سنة 1194.
واشتهر أمر هذا الكتاب الجليل الواسع الشامل، الذي بلغت مخطوطته 10 مجلدات، والذي لا تستغني عنه مكتبة في القديم ولا في الحديث، وتسامع به ملوك الإسلام فأرسلوا يطلبونه لخزانة كتبهم، فطلب منه السلطان العثماني نسخة وكذلك ملك المغرب وسلطان دارفور، وكان من أمراء ذلك الزمان أمير اللواء محمد بك أبو الذهب، وكان قد بنى جامعاً قرب الأزهر ووقف عليه مكتبة كبيرة، فقال له المشايخ عن هذا الكتاب، وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها، وانفردت بذلك دون غيرها، ورغبوه في ذلك، فطلبه منه وعوضه عنه 100.000 درهم فضة. وأحدث طبعة لكتاب تاج العروس هي طبعة دولة الكويت في 40 مجلداً قام على مراجعتها 25 عالماً بالعربية واستغرق استكمالها 36 سنة.
وليس هذا الكتاب المصنف الوحيد للزبيدي، بل له غيره ما يزيد على مئة كتاب، منها كتابه الذي يلي تاج العروس في الشهرة: إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، وقد استغرق منه إملاؤه 11 عاماً، وتتناول كتبه الأخرى مختلف المواضيع من لغة وحديث وتفسير وفقه وتصوف بين منثور ومنظوم، ومنها كتاب بُلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب، الذي حققه والدي رحمه الله.
ومن الكتب التي لم تكتمل للزبيدي كتابٌ في التاريخ والتراجم انبثق عنه كتاب  الجبرتي عجائب الآثار، ولذلك قصة ينبغي إيرادها لتعجب من همة ومروءة شاب في أوائل الثلاثين من عمره، وهو السيد محمد خليل بن علي المرادي، مفتي دمشق ونقيب أشرافها، المولود سنة 1173 والمتوفى بحلب سنة 1206، وصاحب كتاب سلك الدر في أعيان القرن الثاني عشر، قال الجبرتي عند ذكر وفاة المرادي: وكان هو السبب الأعظم الداعي لجمع هذا التاريخ على هذا النسق، فإنه كان راسل شيخنا السيد محمد مرتضى، والتمس منه نحو ذلك، فأجابه لطُلبته ووعده بأمنيته، فعند ذلك تابعه بالمراسلات وأتحفه بالصلات المترادفات، وشرع شيخنا المرحوم في جمع المطلوب بمعونة الفقير، ولم يذكر السبب الحامل على ذلك، وجمع الحقير أيضاً ما تيسر جمعه، وذهبت به يوماً وعنده بعض الشاميين فأطلعته عليه، فسر بذلك كثيراً، وطارحني وطارحته في نحو ذلك بسمع من المُجالَس، ولم يلبث السيد إلا قليلاً وأجاب الداعي، وتنوسي هذا الأمر شهوراً، ووصل نعي السيد الى المترجم والصورة الواقعة، وكانت أوراق السيد مختوماً عليها، فعند ذلك أرسل إليّ كتاباً وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي، يستدعي تحصيل ما جمعه السيد من أوراقه، وضم ما جمعه الفقير وما تيسر ضمه أيضاً وإرساله...
وإذا علمت هذا زال عنك الاستغراب الذي أبداه فضيلة الشيخين يعقوبي والعجمي في مقدمتها للمعجم المختص من أن يكون هو أكبر مواد الجبرتي في تاريخه، فها هو الجبرتي يعترف بذلك ولا ينكره، والزبيدي في المعجم ذاته يقول في ترجمة الجبرتي: وقد جمع تاريخاً لعصره ذكر فيه أشياء مستجادة، أعانه الله تعالى على إتمامه، وأعانني على بعض تراجم احتجتُ إليها في كتاب التاريخ الكبير لأهل القرن الثاني عشر.
ومن الطريف، والمألوف لدى بعض علماء الهند، أن بعض مؤلفات الزبيدي كانت تكريماً لعلماء التقى بهم وناله فضلهم وإكرامهم، وقد ذكر ذلك الجبرتي، في تراجم بعض هؤلاء، فمنهم الفقيه علي بن صالح الشاوري، مفتي فرشوط المتوفى سنة 1185، الذي ألف الزبيدي باسمه نشق الغوالي من المرويات العوالي، ومنهم الخطاط المتأدب التركي الأصل علي بن عبد الله الرومي، المتوفى سنة 1199،وهو والد زوجة الجبرتي، قال الجبرتي: ولأجله ألف شيخناً السيد محمد مرتضى شرح الصدر في شرح أسماء أهل البدر، في عشرين كراساً، والتفتيش في معنى لفظ درويش كراساً. ومنهم الأمير حسن أفندي الرشيدي الرومي، الكاتب الخطاط، المتوفى سنة 1205، فقد ألف من أجله كتاب حكمة الإشراق إلى كُتِّاب الآفاق، جمع فيه الزبيدي ما يتعلق بفن الخط بالأسانيد. ومنهم شيخ الطريقة الأوسية عبد الوهاب بن زين الدين الشربيني، المتوفى سنة 1181، ألف باسمه رسالة في الطريقة الأوسية سماها: عقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحزاب.
ويبدو أن الزبيدي قد تحسنت أحواله المادية بعد تصنيفه كتاب تاج العروس، فانتقل في أوائل سنة 1189 من منزله في عطفة الغسال بخط سويقة المظفر إلى منزل بسويقة اللالا تجاه جامع محرم أفندي، وكان هذا حياً يسكن فيه الأعيان والأثرياء، فأقبلوا  عليه واستأنسوا به، ورغبوا في معاشرته، وأحبوه لأنه كان لطيف الشكل والذات، حسن الصفات، على غير صورة العلماء المصريين وشكلهم، ويعرف اللغة التركية والفارسية وشيئاً من اللغة الجورجية.
وأكرمه جيرانه وواسوه وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف، وصار يعظهم ويفيدهم بفوائد، ويجيزهم بقراءة أوراد وأحزاب، فتناقلوا خبره وحديثه، فأقبل عليه الناس من كل جهة، فشرع في إملاء الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، وكل من قدم عليه يملى عليه الحديث المسلسل بالأولية، وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه، ويكتب له سندا بذلك وإجازة بسماع الحاضرين، فيعجبون من ذلك، لأن علم الحديث في مصر كان قد أضحى ضعيفاً في ذلك الوقت.
ثم وصل صيته إلى علماء الأزهر وتبينت له مكانته في الحديث، فذهب إليه بعض من أفاضلهم وطلبوا منه الإجازة بمروياته، فقال لهم لابد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة كل يوم اثنين وخميس من كل جمعة، فشرع في صحيح البخاري بقراءة السيد حسين الشيخونى.
وإلى جانب ذلك كانت هناك مجالس لقراءة الصحيحين كاملين، يبتدأ المجلس من طلوع الشمس إلى بعد العصر، ويذكر الجبرتي أن البخاري استغرق 12 مجلساً، وصحيح مسلم 6 مجالس.
وانتشر في الناس إقرار علماء الأزهر للزبيدي بالفضل وسعيهم للأخذ عنه، فازداد شأنه وعظم قدره، واجتمع عليه أهل تلك النواحى وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني، فانتقل من الرواية إلى الدراية، وصار درساً عظيماً وازدادت شهرته، وأقبلت الناس من كل ناحية لسماعه وصار درساً عظيماً، وعند ذلك انقطع أغلب أهل الأزهر عن حضوره لتقدمهم في علوم الدراية، وصار يملى على الحضور في درسه بعد قراءة شئ من الصحيح حديثا من المسلسلات أو فضائل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه، ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق في المدرسين المصريين.
وانتشر في الطبقة الراقية حب التبرك برواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم، وعملوا من أجله ولائم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقرئ والمستملي وكاتب الأسماء، فيقرأ لهم شيئاً من الأجزاء الحديثية كثلاثيات البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات، بحضور الجماعة وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده وبناته ونسائه من خلف الستائر، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة، ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسماء الحاضرين والسامعين حتى النساء والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك صح ذلك، وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق.
قال الجبرتي: يقول الحقير: إني كنت مشاهداً وحاضراً في غالب هذه المجالس والدروس، ومجالس أخر خاصة بمنزله وبسكنه القديم وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزاهة مثل غيط المعدية والأزبكية وغير ذلك، فكنا نشغل غالب الأوقات بسرد الأجزاء الحديثية وغيرها وهو كثير بثبوت المسموعات على النسخ وفي أوراق كثيرة موجودة الى الآن..
وانجذب إلى الزبيدي بعض الأمراء الكبار، فسعوا الى منزله، وترددوا على مجالس دروسه، وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال، وفي سنة 1190 حضر إلى مصر عبد الرزاق أفندي، رئيس الكتاب في ديوان السلطنة في استانبول، وسمع بالزبيدي فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس جامع شيخون، ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية.
وفي نفس السنة جاء والٍ جديد إلى مصر هو محمد باشا عزت الكبير، وكان الصدر الأعظم من قبل، فسمع بالزبيدي، فاستدعاه إلى القلعة إليه وخلع عليه فروة سمور، ورتب له من الأرزاق والأعلاف شيئاً وفيراً، والتمس من الدولة في استانبول أن تفرض له راتباً دائماً فجاء الجواب بمنحه مرتباً جزيلاً قدره مائة وخمسون نصفاً فضة في كل يوم.
وكان على عرش السلطنة العثمانية في ذلك الوقت سلطانٌ تقي صالح يحب العلم والعلماء، هو السلطان العثماني عبد الحميد الأول، المولود سنة 1137 والذي تولى العرش سنة 1187والمتوفى سنة 1203، فدعاه في سنة 1194 لزيارة استانبول تكريماً له، فأجاب ثم اعتذر، فاستجازه هو والصدر الأعظم محمد باشا، فأجازهما بمروياته وأرسل لهما إجازة تليق بذلك وأصحبها قصيدة في مدح السلطان، فصار له جاه كبير عند الدولة وأضحى مقبول القول لدى أولي الأمر في الطلبات والشفاعات.
وتواترت على الزبيدي طلبات الإجازات من أقطار الإسلام القريبة والبعيدة، وبلغ كما يقول الجبرتي: ما لا مزيد عليه من الشهرة وعِظَم الجاه عند الخاص والعام... وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق وملوك المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية، وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشياء الغريبة، وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة عظيمة الجثة يشبه رأسها رأس العجل، وأرسلها الى أولاد السلطان عبد الحميد، فوقعت منهم موقعاً، وكذلك أرسلوا له من طيور الببغا والجواري والعبيد والطواشية، فكان يرسل من طرائف الناحية الى الناحية المستغرب من ذلك عندها، ويأتيه في مقابلتها أضعافها، وأتاه من طرائف الهند وصنعاء اليمن وبلاد سورات وغيرها أشياء نفيسة.
وصار للزبيدي عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زائد، حتى أن أحدهم إذا ورد الى مصر حاجاً ولم يزره ولم يصله بشيء لا يكون حجه كاملاً... فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح الى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيئاً ما فضة أو تمراً أو شمعاً على قدر فقره وغناه، وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها، ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة، فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قبل حجه، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده ودامت حسرته الى يوم ميعاده، ثم ختم الجبرتي كعادته في مغمز ناعم: وقِسْ على ذلك ما لم يُقل!
وفي سنة 1196 توفيت زوجته زبيدة بنت ذي الفقار الدمياطي فحزن عليها حزناً كثيراً، ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية، وعمل على قبرها مقاماً ومقصورة وستوراً وفرشاً وقناديل، ولازم قبرها أياماً كثيرة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسو، والقهوة والشربات، واشترى مكاناً بجوار المقبرة المذكورة وعمره بيتاً صغيراً وفرشه وأسكن به أمها، ويبيت به أحياناً، وقصده الشعراء بالمراثي فيقبل منهم ذلك، ويجزيهم عليه.
ويذكر الجبرتي أن الزبيدي قرر فجأة اعتزال الناس والاحتجاب حتى عن الأصحاب وترك التدريس والإقراء، وردَّ الهدايا التي تأتيه من الأكابر، ولا يحدد الجبرتي تاريخ ذلك الاحتجاب، وروايته مشكوك فيها كما سنرى، وإذا أخذنا بروايته فإنني أقدره بحوالي 5 سنوات قبل وفاته، لأن الجبرتي يذكر في ذلك الصدد أن مولاي محمداً سلطان المغرب وصله بصلات من قبل كان يقبلها ويقابلها بالحمد والثناء والدعاء، فأرسل له في سنة 1201 صلة لها قدْر فردها وتورع عن قبولها، وضاعت ولم ترجع الى السلطان، فأرسل إليه السلطان رسالة عتاب وتوبيخ.
وقد شككت في رواية الجبرتي لأن لها وجهاً آخر أورده المحدث الحافظ عبد الحي الكتاني في كتابه فهرس الفهارس نقلاً عن كتاب تذكرة المحسنين في وفيات الأعيان وحوادث السنين لعبد الكبير الفاسي المتوفى سنة 1295 الذي ينقل بدوره عن الفقيه العلامة سيدي محمد بن سعد التلمساني أنه لما بلغته الرسالة مع شيخ الحجيج المغربي، قال له: إني سائلك هل علماء المغرب يستوفون حقهم من بيت المال؟ قال: نعم، قال: فهل أشرافهم وضعفاؤهم ليس بهم خصاصة؟ فسكت، فقال الزبيدي: لا يحل لي أخذ شيء من ذلك وإني في غير إيالته، ثم رجع بها لمحله، وبعد مدة من شهر أو أكثر طلبه وقال له: ادفع المال لرجل عيَّنه، وأمره أن يبني به مسجداً ففعل، ويعرف بزاويته إلى الآن يقام به الذكر ونوافل الخيرات. وقد قال عبد الحي الكتاني في ما رواه الجبرتي عن شيخه الزبيدي: ومع أكْلِ الجبرتي لمعجم السيد هذا أكلاً لمّا، لم يكن يبقي ولا يذر قدحاً فيه ولمزاً، والحسد قتال، وعند الله تجتمع الخصوم.
ثم إن الزبيدي أجاز في سنة 1203 العلامة أبا عبد الله محمد البخاري بن الحاج بو طاهر النيزاوي الفلالي، وأجاز محمد سعيد بن عبد الله السويدي، المولود سنة 1141 والمتوفى سنة 1223، إجازة ثانية في المحرم من عام 1204، وقال فيها الزبيدي: ولما ورد مصر ثانياً وتشرفت بالاجتماع به، جددت معه المذاكرة في أنواع الفنون.
وقد عزا الجبرتي اعتزال الزبيدي إلى الزهد، ولكنني لما سبق أرجح أنه نوبات اكتئاب نفسي عانى منها الزبيدي من قبل لسنوات عديدة ثم ألقت عليها كلكلها فأقعدته فترات طويلة نسبياً، لأنه قال في خاتمة تاج العروس: وكانت مدة إملائي في هذا الكتاب من الأعوام أربع عشرة سنة وأيام مع شواغل الدهر وتفاقم الكروب بلا انفصام. ويقول في رسالة بعدها بسنوات لأحد أحبابه رداً على عتابه:
غير أني ابن غربة ... هاضه الدهر منغضا
لست أدري بما جرى ... أومض البرق أو مضى
ويبث أشجانه في رسالة أرسلها يطلب الإجازة من شيخه في زبيد سليمان بن يحيى الأهدل: وإنما يمنعني من إرسال المكاتيب كثرة أشغالي وتضاعيف الهموم والأحزان بالقلب البالي، والتي لا يخلو الإنسان منها ولو كان في أجل النعم.
وفي ربيع الأول من سنة 1205 ظهر مرض الطاعون في مصر، واشتد في رجب ومات به ناس كثيرون، كان منهم الزبيدي الذي توفاه الله في يوم الأحد السادس من شعبان من عام 1205، وأخرج في جنازة عادية لانشغال الناس بوباء الطاعون وكثرة الوفيات من جرائه، ودُفن في قبر أعده لنفسه في مسجد السيدة رقية قرب زوجته الأولى.
كان لدى الزبيدي مكتبة عامرة بأمهات الكتب ونفائسها ونوادرها من المشرق والمغرب، وكان يراسل العلماء ليقتنوا له ما بطرفهم من الكتب، ومن ذلك ما ذكره الأستاذ الزركلي في الأعلام في ترجمة الفقيه السكتاني، أحمد بن عبد الله السوسي التونسي، المتوفى سنة 1193، أنه كان متصلا بمراسلة السيد محمد مرتضي الزبيدي، يرسل إليه في كل سنة قائمة بالكتب الغريبة التي يطالعها وقد اجتمع عنده شئ كثير منها، ويشتري له ما يطلبه. ويذكر الزبيدي في كتابه المعجم المختص خطيب المسجد النبوي، عبد القادر بن خليل بن عبد الله كدك زاده الرومي الأصل المدني الدار، المولود بالمدينة سنة 1140،  والمتوفى سنة 1187 أثناء رحلته في نابلس، ثم يقول: كان معه بنابلس لما مات كُتُبُه، وما جمعه في سفره من شعره، والمعجمُ الذي جمع في الشيوخ والأجزاء والأمالي التي حصل من عندي ومن عند غيري، فكاتبت قاضي نابلس بأن يرسلها إليّ ولم أظفر بالمراد، ولله في خلقه ما أراد.
ولم يكن الزبيدي ضنيناً بكتبه ضن العلماء المعهود، بل أهدى بعضاً منها للفقيه الإمام المحدث ابن عبد السلام الناصري، أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، المتوفى سنة 1239، حين زاره في القاهرة سنة 1196 وهو في طريقه إلى الحج، فصادف من الزبيدي أكبر إقبال، وأجازه نظماً ونثراً، ووهب له عدة أسفار نادرة أخرجها من مكتبته وأعطاها له، قال عبد الحي الكتاني: وقد صار إلى مكتبتي بعضها والحمد لله.
وراحت مقتنيات الزبيدي النفيسة من تحف بعد وفاته شذر مذر، فلم يكن له أولاد ولا وارث غير زوجته، فتصرفت فيها وهو في مرض الموت ثم بعد وفاته، قال الجبرتي: أخفت زوجته وأقاربها موته حتى نقلوا الأشياء النفيسة والمال والذخائر والأمتعة والكتب المكلفة... ونقلوا الأشياء الثمينة والنفيسة الى دارهم، ونسي أمره شهوراً... وتزوجت زوجته برجل من الأجناد فعند ذلك فتحوا التركة بوصاية الزوجة من طرف القاضي خوفاً من ظهور وارث، وأظهروا ما انتفوه مما انتقوه من الثياب وبعض الأمتعة والكتب والدشتات، وباعوها بحضرة الجمع فبلغت نيفاً ومئة ألف نصف فضة... وكانت مخلفاته شيئاً كثيراً جداً، أخبرني المرحوم حسن الحريري وكان من خاصته، وممن يسعى في خدمته ومهماته، أنه حضر إليه في يوم السبت، وطلب الدخول لعيادته فأدخلوه إليه، فوجده راقداً معتقل اللسان، وزوجته وأصهاره في كبكبة واجتهاد في إخراج ما في داخل الخبايا والصناديق الى الليوان، قال: ورأيت كوماً عظيماً من الأقمشة الهندية والمقصبات والكشميري والفراء من غير تفصيل نحو الحملين، وأشياء في ظروف وأكياس لا أعلم ما فيها، ورأيت عدداً كثيراً من ساعات العب الثمينة مبدداً على بساط للقاعة وهي بغلافات بلادها، فجلست عند رأسه حصة، وأمسكت يده، ففتح عينيه ونظر إلي، وأشار كالمستفهم عما هم فيه، ثم غمض عينيه وذهب في غطوسه فقمت عنه.
أما مكتبة الزبيدي فقد اشتراها السلطان العثماني وجعلها وقفاً على طلبة العلم في مصر، وفقاً لما ينقله عبد الحي الكتاني عن الفاسي في  تذكرة المحسنين في وفيات الأعيان وحوادث السنين؛ أن كتب الزبيدي قومت بخمسة وعشرين ألفاً، فبلغ الخبر إلى السلطان التركي فقال: لقد بخستموها، فجعل لها خمسة وسبعين ألفاً، وجعلها حبساً على طلبة العلم بمصر.
وصف الزبيديَ تلميذُه الجبرتي فقال: كان الزبيدي ربعة نحيف البدن، ذهبي اللون، متناسب الأعضاء، معتدل اللحية، قد وخطه الشيب في أكثرها، مترفها في ملبسه، ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض، ولها عَذَبة مرخية على قفاه، ولها حبكة وشراريب حرير طولها قريب من فتر، وطرفها الآخر داخل طي العمامة، وكان لطيف الذات، حسن الصفات، بشوشاً بسوماً، وقوراً محتشماً، مستحضراً للنوادر والمناسبات، ذكياً لوذعياً فطناً ألمعياً، روض فضله نضير، وماله في سعة الحفظ نظير، جعل الله مثواه قصور الجنان، وضريحه مطاف وفود الرحمة والغفران.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer