الجمعة، 20 يونيو 2014

حدث في العشرين من شعبان

 
في العشرين من شعبان من عام 987 قتل غيلة، عن 75 سنة، الصدر الأعظم محمد باشا صُقُلَلي، الذي خدم ثلاثة سلاطين: سليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث، وبقي في منصب الصدر الأعظم مدة 14 سنة، وكان من كبار رجال الدولة العثمانية في زمانه، وسيرته تظهر الدولة العثمانية في قمة مجدها، وكيف كانت تستوعب الكفاءات وتقدمها أياً كان أصلها وجنسها.
ولد محمد باشا صقللي، في سنة 912 تقديراً، في قصبة تدعى صُقُلو Sokol على مسافة قريية في الشرق من سرايفو، وكان سليل عائلة صربيةمسيحية، وكان يدعى باجو نيناديك، ودخل في خدمة الدولة العثمانية وفق نظام اسمه دوشيرمة، وتعني بالتركية الجمع أو القطف، وهو نظام أدخله السلطان مراد، ويقضي بإحضار الأولاد اليافعين من أبناء البلقان مرة كل 4 أو 5 سنوات، وتعليمهم وتدريبهم ليخدموا فيما بعد في سلك الدولة أو الجيش.
وترك محمد صقللي أهله وبلده وهو في حوالي العاشرة والتحق بمدرسة في أدرنة تلقى فيها التعليم التركي والإسلامي، على أساس أنه سيلتحق بالجيش، ولكن مواهبه جعلت القائمين على التعليم يلحقونه بمدرسة قصر طوب قبو في استانبول ليكون في سلك العاملين في القصر السلطاني، وقد تعلم عدداً من اللغات إضافة إلى اللغة الصربية الكرواتية، وتذكر الروايات أنه كان يتكلم التركية والعربية والفارسية والإيطالية واللاتينية.
شارك محمد صقللي في معركة موهاكس في أواخر سنة 932=1526، والتي دحرت فيها الجيوش العثمانية بقيادة السلطان سليمان القانوني قوات لويس الثاني ملك المجر، الذي فقد في المعركة، واستولت على هنغارية، وعين السلطان الأمير جان زابولي ملكاً على المجر، ولكن فرديناند الأول ملك النمسا ادعى أحقيته في ملك المجر لقرابته من الملك لويس، وحشد القوات لنيل ذلك بالقوة، واحتل عاصمتها بود، جزء من بودابست اليوم، فعاد السلطان سليمان في سنة 936=1529إلى هنغارية فهرب فريناند إلى فيينة، فأجلس السلطان الملك زابولي على عرش المجر ثم أغار على مدينة فيينة ومعه الملك زابولي وحاصرها في أوائل 938 ثم عاد عنها دون أن يفتحها، وهي أول مرة لم ينتصر فيها سليمان القانوني.
وكان صقللي من القادة في حملة السلطان سليمان القانوني سنة 941=1535 لاسترجاع بغداد من الشاه إسماعيل الصفوي، وفي سنة 947 أصبح حاجب السلطان ثم صار كبير الحرس، وهما منصبان كبيران تعلم فيهما الكثير عن إدارة الدولة وشؤون السلطنة.
ولما توفى رئيس الأسطول العثماني خير الدين باشا المعروف بباربروس في سنة 953=1546، عينه السلطان مكانه، وذلك لأن الدولة العثمانية كانت في طور توسع بحري كبير، فقام بهذه المهمة خير قيام، وبنى كثيراً من السفن، وكانت أسبانية تطمع في احتلال الجزائر وطرابلس الغرب لتتم لها السيطرة على البحر المتوسط، حيث كانت صقلية ونابولي تابعتين لها، فأمر صقللي القائد طرغود بالتوجه إلى طرابلس الغرب سنة 958=1551 وأعلنها جزءاً من الدولة العثمانية، وفي ذات السنة عينه السلطان والياً برتبة نائب السلطنة على الولاية الغربية التي كانت تسمى رومِلي، وعاصمتها صوفية، وهناك زار لأول مرة منذ 30 سنة مسقط رأسه وقابل والدته ووالده الذي أسلم وحسن إسلامه.
ونعود إلى النمسة و المجر، ففي سنة 944 اتفق فرديناند وزابولي سراً على أن يكون الملك بعد زابولي لفرديناند، ولكن زابوليمات في سنة 947 بعد 15 يوماً من ولادة ولد له نودي به ملكاً بعد موت والده، فهاجم فرديناند المجر، واستنجدت إيزابيلا والدة الملك الرضيع بالسلطان سليمان القانوني، فسار بنفسه إلى المجر فانسحب النمساويون من حصارهم لمدينة بود، وأعاد السلطان الملك الرضيع إلى العرش، وقرر أن يحتل المجر حتى يبلغ ملكها سن الرشد، واستمرت حروب الدولة العثمانية مع النمسة حتى سنة 954 حين عقدت النمسة مع العثمانيين هدنة مدتها خمس سنوات، تقاسمت بموجبها الدولتان النفوذ في هنغارية، مع إقرار الدولة العثمانية للملك الرضيع بوصاية أمه ورعاية الدولة ذاتها.
وفي سنة 958=1551 حدث خلل في العلاقات مع النمسة والمجر، فقد قام الراهب مارتنيوزي المقرب من الملكة إيزابيلا بالوساطة بينها وبين الإمبراطور النمساوي فرديناند، وعقد الطرفان اتفاقاً تنازلت فيه الملكة للنمسة عن إقليم ترانسلفانيا ومدينة تمشورا، فأمر السلطان صقللي باشا بالتوجه إلى هنغارية على رأس جيش يتكون من 90.000 جندي و 54 مدفعاً،  فاتجه واستولى على كل المدن التي في طريقه حتى وصل تيمشوار التي استعصت عليه، فعاد إلى بلغراد لحلول الشتاء، وبدأ محادثات سلام مع الراهب مارتينوزي الذي أبدى ميلاً لذلك إن عينه السلطان والياً على ترانسلفانيا، وعلم فرديناند بالأمر فأرسل من اغتال مارتينوزي بعد وقت قصير من بدء المحادثات، فتوقفت المساعي السلمية واستأنف صقللي حملته العسكرية واستولى على تمشوار وغيرها من المدن في سنة 959= 1552 وعاد ظافراً  إلى بلاده.
وانتهز الشاه طهماسب الصفوي في إيران انشغال الدولة العثمانية بهذه المعارك الأوربية وبدأ هجوماً على قواتها في الشرق، فأعلن السلطان سليمان في سنة 960 الحرب على الصفويين، وأرسل صقللي باشا مع قواته من ولاية الروم ليترأس الحملة على الصفويين، وقضت هذه القوات الشتاء في توقاد في شمالي وسط الأناضول، ثم شنت في صيف 961 الحرب التي كانت نتائجها في صالح العثمانيين وكارثة على طهماسب.
ومكافأة على ما أبداه من مهارة ونجاح عين السلطان سليم في سنة 962= 1555صقللي باشا في مرتبة الوزير الثالث وصار أحد أفراد الديوان السلطاني، وعين السلطان بتروف باشا والياً على الروم، وهو كذلك من الهرسك وصديق قديم لصقللي باشا.
وما أن استقر صقللي باشا في منصبه حتى اندلع تمرد في سالونيك، وهي اليوم في اليونان، قاده شخص اسمه مصطفى بك، ادعى أنه ابن السلطان سليمان، وكان السلطان سليمان قد قتل ابنه هذا لشكه في أنه يتآمر عليه، وتلك حادثة لا مجال لتفصيلها هنا، فأرسل السلطان صقللي باشا على رأس قوة من 4000 فارس و3000 جندي قضت على التمرد وأعدمت المدعي.
أشرنا من قبل إلى أن صقللي باشا ولد لأسرة صربية، وكان أحد إخوته، المدعو ماكاريج، قد دخل في سلك الرهبنة مع الرهبان الأرثوذكس في دير في جبل آثوس المقدس في اليونان، وجاء الأخ إلى استانبول سنة 964= 1557 والتمس من أخيه أن تمنح الكنيسة الصربية الأرثوذكسية استقلالها من جديد، بعد أن أصبحت جزءاً من الكنيسة اليونانية، وبعد أشهر صدر فرمان عن يد صقللي باشا أعلن إعادة الكنيسة الصربية الأرثوذكسية كنيسة مستقلة مقرها بش وبطركها ماكاريج صُقُلوفيتش وتقام الصلوات فيها باللغة الصربية، وشمل الفرمان كذلك التأكيد على ضمان الحقوق والحريات الدينية لكل سكان الدولة العثمانية.
وفي سنة 962 عزل السلطان سليم القانوني الصدر الأعظم أحمد باشا وشنقه، وعين محله صهره رستم باشا البوسني الأصل، وكان هذا له أعداء كثيرون في صفوف الحاشية فسعى كبيرهم لاله قره مصطفى باشا في تحريض بايزيد ابن السلطان، نائب السلطنة بكرمان، على التمرد على أخيه سليم ولي العهد المتوقع، ومرة ثانية عهد السلطان لصقللي باشا بقمع هذا التمرد، فسار على رأس جيش إلى قونية وهزم قوات بايزيد في سنة 968، وهرب بايزيد إلى الشاه طهماسب في إيران، ولم يعد صقللي باشا إلى استانبول بل أمضى الشتاء في الأناضول يفاوض الشاه على تسليم بايزيد، وتكللت مفاوضاته بالنجاح بعد فترة ليست بالقصيرة، وفي أول سنة 969 سلم طهماسب بايزيد وأولاده الأربعة ليلقوا مصيرهم المحتوم: الإعدام!
وتوفي الصدر الأعظم رستم باشا في سنة 968 وحل محله سِميز علي باشا البوسني الأصل، وصار صقللي باشا الوزير الثاني، وأصبح صديقه بتروف باشا الوزير الثالث، وفي سنة 969 تزوج صقللي باشا بحفيدة السلطان من ابنه سليم، واسمها أسمهان، وفي سنة 971=1564 أصبح ابن أخيه مصطفى بك صقللي نائب السلطنة في ولاية البوسنة.
وفي آواخر سنة 979 توفي الصدر الأعظم سِميز علي باشا، فعين السلطان سليمان القانوني صقللي باشا في ذلك المنصب، وهو في الستين من عمره، بعد الأعمال الجليلة والحنكة والإخلاص الذي أبداه في خدمة الدولة العثمانية.
ولئن كانت الدولة العثمانية هي أكبر دولة مسلمة في ذلك العصر، فقد كان يقابلها في الطرف المسيحي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وهي امبراطورية ضمت بلاد ألمانية والنمسة والتشيك وشمال ووسط إيطالية وسويسرة وشرق فرنسة، ويرأسها عادة الإمبراطور الألماني وتحت يده ملوك هذه البلاد، وكان التناحر والحروب لا يكاد ينتهي بين هاتين الإمبراطوريتين المتنافستين، وبخاصة على بلاد البلقان، وفي سنة 1565 أعلن الإمبراطور ماكسميليان الثاني رغبته في ضم بعض مدن البوسنة التي استعادها أحد قواد الدولة العثمانية من البوسنيين، ولما رفض العثمانيون ذلك، أعلن الحرب في سنة 973= 1566.
وأصدر صقللي باشا أوامره لابن أخيه في البوسنة ليسير لمواجهة ماكسيميليان الثاني، فسار واستولى على بعض المدن، وكان ذلك بانتظار أن يحشد صقللي باشا الجيش الرئيس ويتجه لمواجهة الإمبراطور، وسار صقللي بالجيش ثم لحق به السلطان في بلغراد على أن يتوجها إلى فيينة لحصارها والاستيلاء عليها.
واعترضت طريق الجيش قلعة سيجتوار أو سكتوار، في جنوب هنغارية اليوم، والتي كان يقوم عليها أمير كرواتي من أسرة زرِنسكي متحالف مع الألمان هو الأمير نيقولا سوبيك زرنسكي، فقام السلطان بحصارها  قرابة شهر حتى استولى عليها في صفر سنة 974 = أيلول/سبتمبر 1566، ولكن بعد تضحيات جسيمة بلغت 20.000 قتيل إلى جانب توقف المسير إلى فيينة، ولم يهاجم الأتراك بعدها فيينة حتى سنة 1683.
وانجلت المعركة عن مقتل الأمير زرنسكي الذي وارى الأتراك جثمانه في التراب في تكريم تقديراً لشجاعته ونبله، وانجلت المعركة كذلك وقد توفي السلطان سليمان القانوني عن 74 عاماً وفاة طبيعية أثناء الحصار وقبل أن ينتصر العثمانيون، وقام صقللي باشا بإخفاء وفاة السلطان ومنح الجوائز للذين شاركوا في المعركة وزاد رواتب الجنود، وأرسل يخبر الأمير سليم، والد زوجته، بوفاة والده ويستدعيه للحضور، واستمر يدير الأمور ويسير الجيوش، وكأن شيئاً لم يحدث للسلطان.
وأدار  صقللي باشا أمور السلطان سليم الثاني كما أدار أمور والده؛ بكل إخلاص وصدق، فلما لحق به السلطان في فوكوفار أشار عليه أن يذهب إلى بلغراد، حيث معظم الجيش، ليتم إعلان سلطنته وتتم له البيعة، وأشار على السلطان الجديد أن يتبع عادة أسلافه في أن السلطان الجديد يجري الإنعامات على الوزراء والباشوات وكبار القادة، ولكن حاشية السلطان الغيرى من صقللي باشا أقنعت السلطان ألا يفعل ذلك، وكان نتيجة ذلك تمرد القوات الموجودة في استانبول، وأضعف ذلك موقف السلطان الجديد والذي كان بعض حاشيته يستخفون به ويسخرون منه على أعين الناس، فقد كان السلطان سليم الثاني منهكماً في ملذاته، وفي عهده بدأت نساء القصر وبخاصة محظيات السلطان في التدخل في السياسة، ولكن وجود صقللي باشا قمع هذه النزعة إلى حد كبير.
وعاد صقللي باشا والسلطان إلى استانبول لمعالجة الموقف، ولكنهم واجهوا عقبات من القوات الإنكشارية اليت اعترضت الطريق، وهنا برزت مهارة وكفاءة صقللي باشا الذي أقنع السلطان بأن ينزع فتيل الأزمة ويمنحهم المكافآت وفقاً للتقاليد، وما أن استقر السلطان في استانبول حتى قامت القوات الأخرى مطالبة بالمال، ولكن صقللي باشا استعمل الحزم هذه المرة فسجن آغوات هذه القوات واستبدل بهم آخرين على الفور، فخمدت الفتنة وهدأت الأمور.
وبعد قرابة سنة ونصف من معركة سيجتوار توصل صقللي باشا في شعبان 975 إلى اتفاقية سلام في أدرنة مع الإمبراطور ماكسميليان الثاني تضمنت في شروطها أن يدفع للسلطان مبلغ 30.000 دوقة ذهبية، ولم تكن هذه نهاية المشاكل، فقد واجه صقللي باشا مشكلة أخرى مع روسية القيصرية، كانت  نذيراً بالعداء الذي سيطول بين الدولة العثمانية وبين روسية.
وفي سنة 1569 أرادت الدولة العثمانية شق قناة طولها 60 كيلومتراً تخترق أراضي غير مبسوطة التضاريس لتصل نهر الفولجا مع نهر الدون، والهدف منها تسهيل حركة الجيش للدفاع عن حدود الدولة الشمالية في وجه هجوم روسي محتمل، وكذلك لنقل قواتها إلى جنوب القوقاز ومهاجمة الصفويين من الشمال إن لزم الأمر، وأرسلت قوة من الإنكشارية والفرسان ومعهم المهندسون والعمال للمباشرة في أعمال القناة، وفي نفس الوقت حاصرت بحر آزوف ضمن البحر الأسود، ولكن القيصر إيفان، الملقب بالمخيف، اعتبر ذلك اعتداء على مناطق نفوذه واستطاعت قواته هزيمة قوات التتار العثمانية، وهبت عاصفة حطمت الأسطول العثماني، فانتهت المحاولة بالفشل، وبعدها بشهور وقعت الدولة العثمانية مع روسية معاهدة صداقة وحسن جوار.
ولما كان السلطان سليم الثاني منساقاً وراء شهواته لا يكاد يفيق من غيه، أصبح الحكم في الحقيقة بيد صهره صقللي باشا لضعف السلطان من جهة، وللإصلاحات الإدارية التي أجراها السلطان سليمان القانوني والتي وسعت من صلاحيات الصدر الأعظم.
وقام صقللي باشا في سنة 977 بإرسال حملة عسكرية ضمت الحجاز واليمن للسلطنة العثمانية، وكان هذا أمراً في غاية الأهمية لمواجهة الأساطيل البرتغالية التي كانت تبحر من مستعمراتها في الهند، وتجوب البحر الأحمر وبحر العرب بغرض الاستيلاء على بعض الموانئ لتأمين تجارتها مع الهند ومالقة، وهاجمت جدة لأهداف دينية وهددت في فترة سابقة باحتلال الحجاز، وكان من مشاريع صقللي باشا التي ماتت بعد خطوة من مسيرها شق قناة تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر بهدف قمع البرتغاليين ومهاجمة الصفويين من خليج فارس.
وفي سنة 978 انتزعت القوات العثمانية قبرص من البندقية وأسند صقللي باشا ولايتها إلى صديقه أحمد باشا العربي الأصل، وأد ى الاستيلاء على قبرص إلى تشكيل العصبة المقدسة ومعركة ليبانتو البحرية التي لقي فيها الأسطول العثماني خسارة فادحة في السفن والأفراد، وبرزت بعد المعركة مرة أخرى كفاءة صقللي باشا الذي صرف إمكانيات الدولة لبناء الأسطول من جديد فلم تمض 8 شهور حتى صار في الأسطول 250 سفينة بينها 8 سفن أكبر من أية سفينة تشق عباب البحرالمتوسط، فصار لا منافس له في البحر، ولجأت سفن العصبة المقدسة إلى موانئها خشية العطب، وجرت مفاوضات بعدها مع البندقية انتهت باتفاق سلام تنازلت فيه رسمياً عن قبرص في 980، ويقال إن صقللي باشا قال لمفاوضه البندقي: لقد قطعنا ذراعكم عندما أخذنا قبرص، أما أنتم حين هزمتمونا في ليبانتو فقد حلقتم لحيتنا، والذراع المقطوعة لا تعود، أما اللحية المحلوقة فتعود أكثر غزارة من جديد.
وأدى الاتفاق مع البندقية إلى أن ينفرط عقد العصبة المقدسة ويزول تهديدها للدولة العثمانية، واستكمالاً لأجواء السلام مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة مدد صقللي باشا اتفاقية أدرنة 8 سنوات إضافية، وكان يحافظ على السلام في ربوع البلقان من خلال سيطرته على الكنيسة الصربية الأرثوذكسية، فبعد وفاة أخيه البطرك ماكاريج في سنة 982 عين صقللي باشا ابن أخيه أنطونيجه صُقُلوفيتش بطركاً للكنيسة ولما توفي بعدها بقليل عين صقللي باشا قريباً آخر له في ذلك المنصب.
وفي سنة 974 توفي السلطان سليم، عن 52 سنة، وكان ابنه مراد الوالي على مغنيسة، فأخفى صقللي خبر موته ريثما يصل مراد الذي تسلطن باسم مراد الثالث وعمره 21 سنة، ومع وجود سلطان صغير السن بدأت متاعب صقللي باشا، فقد كان السلطان الشاب واقعاً تحت تأثير والدته نور بانو وزوجته البندقية الأصل صفية، وبرز أكثر في عهده تدخل سيدات القصر في السياسة، ورغم أن مراد أبقى صقللي باشا في منصب الصدر الأعظم إلا أن علاقاتهما بدأت تزداد صعوبة وبدأ نفوذ صقللي باشا في الأفول، ومعه قوة منصب الصدر الأعظم، وخلا الجو لمكائد الحاشية والطامعين في النفوذ والمال.
وفي سنة 985 أعلن السلطان مراد الحرب على الصفويين في إيران، فقد كان الشاه طهماسب قد توفى سنة 984 وقتل على الإثر ابنه حيدر، وتولى بعدهما إسماعيل بن طهماسب الذي مات مسموماً سنة 985، واختلفت البلاد على خليفته محمد خدا بند، فأشار لاله مصطفى باشا على السلطان بأن يشن الحرب على إبران ويستولي عليها، وكان صقللي باشا لا يحبذ هذا القرار، فقد كانت موارد الدولة المادية وعلاقاتها المتوترة مع أوربا لا تسمح لها بخوض الحرب، وصدق حدسه فقد استمرت هذه الحرب 12 عاماً دون أن تحقق أية نتائج تذكر لصالح الدولة العثمانية.
ورغم أن السلطان مراد كان يكن احتراماً فائقاً لرجل الدولة الخبير، الذي خدم والده وجده من قبل، إلا أنه وبتأثير من حاشيته اتخذ عدة خطوات كان من الواضح أنها تستهدف الوزير المحنك المخضرم وأفراد أسرته المبثوثين في الدولة وأعوانه وصنائعه من غيرهم، والذين ما كان بدونهم ليستطيع إحكام سيطرته وإدارته على الدولة المترامية الأطراف المتعددة المشارب والمصالح.
فقد أبعد السلطان فريدون بك أحد أقرب الناس لصقللي باشا بأن عيّنه والياً على بلغراد بعد أن كان مسؤولاً عن ما يشبه وزارة المالية اليوم، وقام جنود متمردون في قبرص بقتل صديقه واليها أحمد باشا، وكان من أثرياء ذلك الزمن تاجر يوناني الأصل يدعى ميخائيل كانتاكوزينوس وكان صُقللي يتعهده ويدير من خلاله أمور الملة الأرثوذكسية اليونانية، وكان قد تبرع ببناء 60 سفينة للأسطول العثماني بعد هزيمة ليبانتو، فقام أفراد حاشية مراد في سنة 984 بحبسه ومصادرة أمواله، فتدخل صقللي باشا بما بقي له من نفوذ فأطلقت الدولة سراحه وأعادت له أملاكه، ولكن الحاسدين الحاقدين ما لبثوا في سنة 985 أن لفقوا له تهمة ثم عجلوا بشنقه على باب قصره، وفي سنة 986 اغتيل ابن أخي صقللي باشا المدعو مصطفى بك وهو على رأس ولايته في بودين في كرواتيا.
وبعدها بسنة، في العشرين من شعبان من سنة 987، جاء درويش معتوه إلى باب قصر صقللي باشا وطلب مقابلة الصدر الأعظم، فأمر بإدخاله عليه وبينما هو في حضرته إذ أخرج سكيناً وطعن به الوزير فتوفي بعد ثلاث ساعات، عن عمر يناهز 75 سنة، ودفن في مدفن خلف مسجد أبي أيوب الأنصاري بناه له معمار سنان باشا، ودفنت إلى جانبه زوجته أسماء فيما بعد، وتحوي التربة عدداً من عائلته وسلالته.
وعين السلطان بعده عدوه اللدود شمسي أحمد باشا ولكنه لم يدم في هذا المنصب سوى 6 أشهر واستبدله السلطان بلاله مصطفى باشا الذي لم يدم كذلك غير 4 أشهر،  مما يدل على أن مقتله كان خسارة كبيرة للحكومة العثمانية، فقد صار التنافس على المناصب والتعاقب عليها سمة واضحة في بلاط السلطان مراد الثالث الذي امتد حكمه 16 سنة أخرى بعد مقتل صقللي باشا.
وعند مقتل رجل في مثل منصبه وتاريخه تدور الشائعات في دوائر لا نهاية لها، وتتجه أصابع الاتهام إلى القريب والبعيد، وبخاصة إذا كان أمراً غير معهود من قبل، هكذا كانت هناك روايات متعددة عمن كان وراء مقتله، ومن المؤرخين من يجعل زوجة السلطان مراد وراء ذلك، وهو مستبعد لأن صقللي باشا كان قد غاب عنه سلطانه القديم وسطوته المعهودة، وهو في ذات الوقت تقدمت به السن  وأضحى على شفا القبر، ولعل أقرب تبرير أن الحاشية أرادت التعجيل بذهابه ليعين السلطان مراد واحداً منها في هذا المنصب فتزول من أمامها كل الحواجز والقيود، وقد فعل كما رأينا.
وعلى عادة الأمراء الأتراك بنى صقللي باشا مسجداً في سنة 979 بناه له المعمار التركي الشهير سنان باشا، وهو يعد أجمل مسجد في استانبول بعد المساجد السلطانية الكبيرة، ولصقللي باشا آثار معمارية كثيرة من أبرزها جسر يحمل اسمه بطول 180 متراً على نهر الدرين في الجمهورية الصربية من البوسنة والهرسك، ويعد الجسر من روائع أعمال المعمار سنان باشا، وقد جعلته اليونسكو من معالم التراث العالمي.

 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer