السبت، 3 أكتوبر 2015

حدث في الثامن عشر من ذي الحجة

 

في الثامن عشر من ذي الحجة من عام 852 توفي في القاهرة، عن 79 سنة، الإمام ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي، الكناني العسقلاني، علامة زمانه في الحديث والفقه والتاريخ،  وأبرز محدث منذ القرن الثامن إلى الآن.

ولد ابن حجر في مصر القديمة في 12 شعبان من سنة 773 لأسرة أصلها من ثغر عسقلان في فلسطين، وحجر نسبة إلى آل حجر وأرضهم قابس في تونس اليوم، وكانت أسرته معروفة بالعلم والفقه، فعم والده عثمان بن محمد بن علي المتوفى سنة 714، كان أكبر فقهاء الإسكندرية في مذهب الشافعي، وكان والده المولود في حدود سنة 720 موصوفاً بالعقل والمعرفة والديانة والأمانة ومكارم الأخلاق ومحبة الصالحين والمبالغة في تعظيمهم، وكان يعمل في التجارة على أنه معدود من أهل الفقه والعلم بالعربية والأدب، وكان ينظم الشعر وله عدة دواوين في المدائح النبوية والمكية، وكان الإمام النحوي الشهير بهاء الدين ابن عقيل يحبه كثيراً، وجعله نائبه عندما تولى القضاء، ومن شعر الوالد:

يا رب أعضاء السجود عتقتها ... من فضلك الوافي وأنت الواقي

والعتق يسري في الفتى يا ذا الغنى ... فامنن على الفاني بعتق الباقي

وتوفي والده وهو طفل في سنة 779، وأوصى به والده إلى زكي الدين الخروبي، أبو بكر بن علي، المولود سنة 725، وسبب الوصية أن والد ابن حجر وعمه كانا قد تزوجا من آل الخروبي كما تزوج أحد آل الخروبي عمة ابن حجر، وكان الوصي كبير التجار ورئيسهم جواداً ممدحاً، فعاش ابن حجر في كنفه سنوات حتى وفاته سنة 787.

ويبدو أن والدة ابن حجر توفيت كذلك وهو صغير، فإنه يذكر أخته الأكبر: ست الرَكْب، المولودة في ركب الحج سنة 770، ويقول عنها: وكانت قارئة كاتبة، أعجوبة في الذكاء، وهي أمي بعد أمي، أُصبت بها في جمادى الآخرة من سنة 798.

ودخل ابن حجر الكُتَّاب في سن الخامسة وحفظ القرآن في التاسعة عند الشيخ الفقيه القارئ صدر الدين السفطي، محمد بن محمد، المتوفى سنة 808، وحفظ عدداً من المتون الفقهية وألفية العراقي في علوم الحديث ومختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، وحج مع وصيه في سنة 784 فالتقى بالحافظ أبي حامد محمد ابن ظهيرة المتوفى سنة 785 وبحث عليه شيئاً من عمدة الأحكام لعبد الغني المقدسي، وسمع بها صحيح البخاري على عفيف الدين النشاوري أو النيسابوري، عبد الله بن محمد المكي، المولود سنة 705 والمتوفى سنة 790 قال ابن حجر: وهذا الشيخ هو أول شيخ أعرف أنني سمعت عليه الحديث، وذلك في شهر رمضان سنة 785، وأنا مجاور مع بعض أهلي، وصليت في تلك السنة بالناس التراويح، وأُحضر هذا الشيخ إلى المكان الذي يقرئني فيه المؤدب، فقرأ عليه شهاب الدين السلاوي صحيح البخاري فيما بين الظهر والعصر كل يوم ونحن نسمع، ولكنني لا أضبط ما فاتني عليه. ولعل هذه الرحلة هي التي شرب فيها ابن حجر من زمزم ودعا الله عزوجل أن يصل إلى مرتبة الإمام الذهبي في الحفظ، وسيأتي من بعده من يدعو أن يكون كابن حجر في الحديث. 

وبعد وفاة زكي الدين الخروبي صار وصياً عليه شمس الدين ابن القطان، محمد بن علي، المولود سنة 737 والمتوفى سنة 813، وهو فقيه وعالم بالقراءات، فدرس عليه الفقه والعربية والحساب، ودرس الفقه على صديق والده الشيخ برهان الدين الأنباسي، إبراهيم بن موسى، المولود سنة 725 والمتوفى سنة 802، ولازمه فترة طويلة، وحضر مدة عند مجتهد عصره في الفقه الشافعي الإمام سراج الدين البُلقيني، عمر بن رسلان المولود سنة 724 والمتوفى سنة 805،  ولازم ابن حجر العلامة عز الدين ابن جماعة، محمد بن أبي بكر بن عبد العزيز الكناني، المولود  في ينبع سنة 749 والمتوفى بالقاهرة سنة 819، وكان عالماً بالأصول والجدل واللغة والبيان والطب، وكان مكثرا من التصنيف، جمعت أسماء كتبه في كراسين، ودرس عليه ابن حجر أصول الفقه، وأخذ ابن الحجر عن العلامة الحافظ سراج الدين ابن الملقن، عمر بن علي الأنصاري، المولود سنة 723 و المتوفى سنة 804.، درس عليه قطعة كبيرة من شرحه على كتاب الإمام النووي؛ المنهاج في فقه الشافعية.

وأخذ ابن حجر القراءات عن شيخ الإقراء ومسند القاهرة الإمام أبي إسحاق برهان الدين التنوخي، إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد التنوخي البعلي، المولود في دمشق نحو سنة 709، والمتوفى في القاهرة سنة 800، وهو شيخ الإمام الذهبي من قبل، قال ابن حجر عنه في إنباء الغمر: قرأت عليه الكثير، ولازمته طويلاً، وصار سهل الانقياد للسماع بملازمتي له بعد أن كان عسراً جداً، فإنني خرّجت له عشاريات مئة، ثم خرجت له المعجم الكبير في أربعة وعشرين جزءاً، فصار يتذكر به مشايخه وعهده القديم، فانبسط للسماع وحبب إليه، فأخذ عنه أهل البلد والرحالة فأكثروا عنه، وكان قد أضر بأخرة، وحصل له خلط ثقل منه لسانه فصار كلامه قد يخفى بعضه بعد أن كان لسانه كما يقال كالمبرد.

ورحل ابن حجر إلى الإسكندرية وقوص والقطيعة بصعيد مصر، ورحل كذلك إلى دمشق، حيث التقى بأصحاب الحافظ ابن عساكر وسمع منهم، وزار بيت المقدس، ونابلس، والرملة، وغزة، وحج مرات، ودخل اليمن مرتين في سنة 800 وفي سنة 806، ووصل عدن، واجتمع في زبيد بالعلامة مجد الدين الفيروزآبادي الشيرازي صاحب القاموس وأخذ عنه اللغة، وكتب ابن حجر إجازة تناقلتها الأجيال وحافظت عليها أجاز فيها أهل زبيد خصوصاً وأهل اليمن عموماً أن يرووا عنه عدداً من الكتب الحديثية: بأسانيدي التي ذكرتها إجازة مُعيَّن لمعين، وكذلك ما يصح عندهم من مروياتي من الأجزاء الحديثية والكتب المسندة، وما لي من قول ونظم ونثر على اختلاف جميع ذلك وتباين أنواعه وأجناسه، إجازة تامة بشرطه المعتبر عند أهل الأثر.

وبدأ اهتمام ابن حجر بالحديث يقوى من سنة 793، وفي سنة 796 أقبل عليه إقبالاً تاماً، سماعاً وكتابة وتخريجاً وتعليقا وتصنيفا، ولازم حافظ عصره زين الدين العراقي، عبد الرحيم بن الحسين، المولود سنة 725 والمتوفى سنة 806، قال ابن حجر في ترجمته لشيخه في إنباء الغمر: لازمت شيخنا عشر سنين تخلّل في أثنائها رحلاتي إلى الشام وغيرها، قرأت عليه كثيراً من المسانيد والأجزاء، وبحثت عليه شرحه على منظومته وغير ذلك، وشهد لي بالحفظ في كثير من المواطن، وكتب لي خطه بذلك مراراً، وسئل عند موته عمّن بقي بعده من الحفّاظ فبدأ بي، وثنّى بولده، وثلّث بالشيخ نور الدين، وكان سبب ذلك ما أشرت إليه من أكثريّة الممارسة، لأن ولده تشاغل بفنون غير الحديث، والشيخ نور الدين كان يدري منه فنّاً واحداً، وكان السائل للشيخ عن ذلك القاضي كمال الدين ابن العديم، ثم سأله الشيخ نور الدين الرشيدي على ما أخبرني بذلك بعد ذلك فقال: في فلان كفاية. وذكر أنه عناني وصرّح بذلك.

والشيخ نور الدين الذي ذكره الحافظ العراقي هو شيخ ابن حجر كذلك، وهو نور الدين الهيثمي، علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي، المولود سنة 735، وهو تلميذ الحافظ العراقي منذ أن كان صغيراً، ولم يكن يفارقه حضراً ولا سفراً، وتزوج ابنته، وخرج الهيثمي زوائد الكتب الستة؛ وجمع ثقات ابن حبان وثقات العجلي مرتبين على حروف المعجم، قال عنه ابن حجر وهو يترجم للحافظ العراقي: ومن أخصهم به صهره شيخنا نور الدين الهيثمي، وهو الذي درّبه وعلًمه كيفية التخريج والتصنيف، وهو الذي يعمل له خطب كتبه ويسميها له، وصار الهيثمي لشدّة ممارسته أكثر استحضاراً للمتون من شيخه حتى يظن من لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك لأن الحفظ المعرفة ... وكان هيناً ليناً خيراً ديناً محباً في أهل الخير، لا يسأم ولا يضجر من خدمة الشيخ وكتابة الحديث، وكان سليم الفطرة كثير الخير، كثير الاحتمال للأذى خصوصاً من جماعة الشيخ، قرأت عليه الكثير وكان يودني كثيراً ويشهد لي بالتقدم في الفن جزاه الله عني خيراً، وكنت قد تتبعت أوهامه في كتابه مجمع الزوائد، فبلغني أن ذلك شقَّ عليه فتركته رعاية له.

ولما توفي الحافظ العراقي رثاه ابن حجر بقصيدة مما جاء فيها:

فيا أهل الشآم ومصر فابكوا ... على عبد الرحيم ابن العراقي

على حاوي علوم الشرع جمعاً ... بحفظ لا يخاف من الإباق

فيا أسفي عليه لحسن خلق ... أرق من النسيمات الرقاق

ويا أسفي عليه لحفظ ود ... إذا نسيت مودات الرفاق

وتابع ابن حجر دراسته وتعمقه في علم الحديث حتى شهد له شيوخه بالحفظ، ثم صار حافظ الإسلام، علامة في معرفة الرجال واستحضارهم، والعالي والنازل مع معرفة تامة بعلل الأحاديث وغيرها، وصار هو المعول عليه في هذا الشأن في سائر أقطار الأرض، وقد جمع ابن حجر شيوخه وترجم لهم في كتابه: المجمع المؤسس بالمعجم المفهرس، جمع فيه أسماء شيوخه على حروف المعجم، وقسمهم إلى قسمين: الأول: فيمن حمل عنه على طريق الرواية، والثاني: فيمن قرأ عليه شيئا على طريق الدراية، وقسمهم من حيث العلو إلى خمس طبقات، وذكر في ترجمة كل شيخ ما سمع منه، ليكون كالفهرست لمسموعاته، وفرغ من تأليفه يوم الخميس 16 جمادى الآخرة من سنة 829.

وقد اجتمع لابن حجر من الشيوخ الأعلام المعول عليهم في المشكلات ما لم يجتمع لأحد من أهل عصره، لأن كل واحد من شيوخه كان بحراً في علمه ورأساً في فنه الذي اشتهر به لا يلحق فيه، فالتنوخي في معرفة القراءت وعلو سنده فيها، وزين الدين العراقي في معرفة علوم الحديث ومتعلقاته، والهيثمي في حفظ المتون واستحضارها، والبلقيني في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقن في كثرة التصانيف، والفيروزابادي في حفظ اللغة واطلاعه عليها، والغُماري في معرفة العربية ومتعلقاتها، وكان فائقاً في حفظها، وعز الدين ابن جماعة في تفننه في علوم كثيرة بحيث أنه كان يقول: أنا أقرئ في خمسة عشر علماً لا يعرف علماء عصري أسماءها.

وأذن له شيوخه في إجازاتهم بالإفتاء والتدريس، وأثنوا عليه الثناء العاطر، وكان الإمام سراج الدين عمر  البلقيني، المولود سنة 724 والمتوفى سنة 805، أول من أذن لابن حجر بالإفتاء والتدريس، وخرَّج له ابن حجر 40 حديثاً عن 40 شيخاً.

وما لبث ابن حجر أن اشتُهر بالحفظ والثقة والأمانة والمعرفة التامة والذهب الوقاد والذكاء المفرط وسعة العلم في فنون شتى، وأصبح محج طلبة العلم والعلماء، ومن أبرز تلاميذه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، زكريا بن محمد، المولود سنة 823 والمتوفى سنة 926، والإمام الحنفي الفقيه الكبير كمال الدين ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد السيواسي، المولود نحو سنة 790 والمتوفى سنة 861.

ولكن أكثر تلاميذه وفاء وذكراً له هو الإمام المؤرخ المحدث شمس الدين السخاوي، محمد بن عبد الرحمن المولود بالقاهرة 831 والمتوفى بالمدينة المنورة سنة 902، والذي كان بيت والده مجاوراً لبيت ابن حجر، والتقى به أول مرة في سنة 838، قال السخاوي عن نفسه: سمع مع والده ليلاً الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة شهاب الدين ابن حجر... وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن. وأقبل عليه بكليته إقبالاً يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه... وداوم الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علماً جماً، واختص به كثيراً بحيث كان من أكثر الآخذين عنه؛ وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر... وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدّة حرصه على ذلك فكان يرسل خلفه أحياناً بعض خدمه لمنزله؛ يأمره للمجيء للقراءة.

وألف السخاوي في سيرة شيخه كتاباً كبيراً مفصلاً أسماه: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر. قال السخاوي مبيناً العلاقة بين الشيخ وتلميذه: وقد قرأت عليه الكثير جداً من تصانيفه ومروياته، بحيث لا أعلم من شاركني في مجموعها، وكان رحمه الله يودني كثيراً، وينوه بذكرى في غيبتي، مع صغر سني، حتى قال: ليس في جماعتي مثله. وكتب لي على عدة من تصانيفي، وأذن لي في الإقراء والإفادة بخطه، وأمرني بتخريج حديث ثم أملاه. وينقل السخاوي عنه في كتابه الضوء اللامع لأهل القرن التاسع نقلاً كثيراً لا تكاد تخلو منه ترجمة.

تولى ابن حجر عدة وظائف تدريس في مدارس وجوامع القاهرة، ودرَّس فيها التفسير والحديث، وحضر دروسه علماء العصر وقضاته، وقرأ عليه غالب فقهاء مصر، وأملى بخانقاه بيبرس نحواً من عشرين سنة، كما تولى مشيخة مدرسة الظاهر بيبرس والإفتاء بدار العدل والخطابة بحامع الأزهر ثم بجامع عمرو بن العاص، وغير ذلك من وظائف الأوقاف الإسلامية، وكانت أوقاته للطلبة مقسمة تقسيماً لمن ورد عليه آفاقياً كان أو عنده مقيماً، مع كثرة المطالعة والتأليف والتصدي للإفتاء والتصنيف.

وتولى ابن حجر القضاء أول مرة في سنة 827 في عهد الملك الأشرف برسباي، وكان ذلك مستغرباً لأنه كان قد عُرض عليه من قبل عدة مرات فأباه، ولكنه ما لبث بعد سنتين أن تنازل عن مرتب القضاء وعبّر عن ندمه لقبول هذا المنصب الذي جعله عرضة لمحاولة أرباب الدولة التدخل في أقضيته والتأثير عليه، وحيث لم يدارِهم فقد زاد الناقمون عليه والمتربصون به، وبقي ابن حجر في منصب القضاء قرابة 25 سنة يعزل عنه ويعين ابن شيخه علم الدين صالح بن سراج الدين عمر البلقيني، ثم يعاد إليه، ولكنه في سنة 852 أعلن زهده التام في القضاء ورفضه للتلبس به أكثر مما فعل.

بدأ الإمام ابن حجر في التصنيف في حدود سنة 796، وله مؤلفات كثيرة تربو 150 كتاباً، ومع كونه شافعياً وفي عصر ساد فيه الانتساب والانتصار للمذاهب، إلا أن ابن حجر كان أوسع أفقاً وعلماً من أن يتعصب لمذهب أو رأي، ولذلك نجد في مؤلفاته: القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد، رد فيه على من قال إن في المسند أحاديث موضوعة.

وكان ابن حجر سريع الكتابة، غير جيد الخط، لا يجري في كتابته على نمط واحد، وإذا راجعها تصير مبيضته مسودة، ولذا اختلفت نسخ مؤلفاته، ونجتزئ بذكر بعض منها لأهميته أو طرافته، وعلى رأسها بضعة كتب تعد من أمهات الكتب في مواضيعها.

وأولها فتح الباري بشرح صحيح البخاري الذي لم يسبق له مثيل، وكان له قبول كبير في المشارق والمغارب، وطلبه الملوك بسؤال علمائهم لهم في طلبه، وبيع بنحو ثلثمئة دينار، وانتشر في الآفاق، ولما اكتمل الكتاب أقيمت وليمة كبيرة في ظاهر القاهرة احتفاء بهذا الإنجاز المبارك لم يتخلف عنها أحد من العلماء والوجهاء، كلفت نحو خمسمئة دينار، وتضمنت قراءة شيئ خفيف من آخر الكتاب، وبعد ختمه قام الشعراء فألقوا قصائدهم في مدح الكتاب ومصنفه، وبعده بيوم اجتمعوا في خانقاه بيبرس في حفل شعري ألقى فيه شعراء آخرون مدائحهم وأجيزوا عليها بجوائز سنية.

وقال معاصره  ابن خلدون كان شرح صحيح البخاري ديناً على هذه الأمة فأداه الحافظ ابن حجر،وقيل للإمام محمد بن عليّ الشوكاني: أما تشرح الجامع الصحيح للبخاري كما شرحه الآخرون؟ فقال في لفتة لطيفة: لاهجرة بعد الفتح! يعني فتح الباري للحافظ ابن حجر.

وثانيها كتاب الإصابة في تمييز الصحابة، وهو أجمع كتاب في ذكر أسماء الصحابة حيث يشتمل على تراجم 12304 من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورتبه رحمه الله على أربعة أقسام: الأول: فيمن وردت صحبته بطريق الرواية عنه، أو عن غيره، أو وضع ذكره بما يدل على الصحبة، والثاني: فيمن ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، وهم دون سن التمييز، والثالث: في المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا رأوه أسلموا في حياته أم لا، وهؤلاء ليسوا صحابة باتفاق أهل الحديث، والرابع: في من ذُكر في الكتب المتقدمة في أسماء الصحابة على سبيل الوهم والغلط.

وثالثها كتاب لسان الميزان في علم الرجال، والذي أخرجه والدي رحمه الله في حلة جديدة محققة تليق بالمؤلِف والمؤلَف، وهو يعني بالميزان كتاب الإمام الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال. والذي هو إمام كتب الضعفاء والمجروحين، وسمى ابن حجر كتابه لسان الميزان لكون اللسان يبين اعتدال كفتي الميزان بين راجح ومرجوح، قال ابن حجر في المقدمة: ثم ألف الحفاظ في أسماء المجروحين كتباً كثيرة، كلٌّ منهم على مبلغ علمه ومقدار ما وصل إليه اجتهاده، ومن أجمع ما وقفت عليه في ذلك كتاب الميزان الذي ألفه الحافظ أبو عبد الله الذهبي. وقد كنت أردت نسخه على وجهه، فطال علي، فرأيت أن أحذف منه أسماء من أخرج له الأئمة الستة في كتبهم أو بعضهم، فلما ظهر لي ذلك استخرت الله تعالى وكتبت منه ما ليس في تهذيب الكمال، وكان لي من ذلك فائدتان: أحداهما الاختصار والاقتصار، فإن الزمان قصير والعمر يسير، والأخرى أن رجال التهذيب إما أئمة موثقون، وإما ثقات مقبولون، وإما قوم ساء حفظهم ولم يطرحوا، وإما قوم تُرِكوا وجرحوا، فإن كان القصد بذكرهم أنه يعلم أنه تكلم فيهم في الجملة، فتراجمهم مستوفاة في التهذيب، وقد جمعتُ أسماءهم أعني من ذُكر منهم في الميزان وسردتها في فصل آخر الكتاب، ثم إني زدت في الكتاب جملة كثيرة، فما زدته عليه من التراجم المستقلة جعلت قبالته أو فوقه.

ورابعها كتابه إنباء الغمر بأبناء العمر، والغُمر هو الرجل غير المجرب، هو تراجم لمعاصريه، تتراوح بين الإيجاز والاعتدال ويندر فيها التطويل، وكثيراً ما تتضمن هذه التراجم معالم في حياة ابن حجر ووقائع حدثت معه تعطينا لمحات عن هؤلاء الأشخاص، وعن شخصية ابن حجر رحمه الله في التواضع والإنصاف والتجرد في تاريخه، فهو عندما يتناول واقعة حدثت معه يشير إلى نفسه في تواضع جم بلفظ: كاتبه، ويتناول عزله أو تعيينه في القضاء ببساطة شديدة، وإذا أشار إلى أسباب ذلك لم يفتخر أو يتشدق، فنراه في أحداث سنة 840 يتحدث عن أن السلطان طلب منه شيئاً من المال مقابل استمراره في القضاء، وهو تقليد مذموم انتشر كثيراً في الدولة المملوكية، ولم يتورع عنه كثير من العلماء والقضاة، فكانوا يوسطون بعض الأمراء وكبار رجال الدولة ليعرضوا على السلطان أن يعينهم في منصب القضاء مقابل مبلغ يسوقوه إلى خزينته، يقول ابن حجر: وفي أول شوال جَدَّد الساعي السؤال للقاضي علم الدين صالح البلقيني، فأمر السلطان بعض الخاصكية أن يتكلم مع كاتبه أي ابن حجر كاتب السطور -  في بذل شيء، فامتنع، فلما كان في يوم الخميس خامسه صُرف كاتبه عن القضاء.

وابن حجر حين ينقل بعض المناظرات التي جرت بينه وبين بعض العلماء والتي كان الصواب فيها إلى جانبه، فإنه لا يتبجح ولا يحط على الطرف المقابل، ونورد على ذلك مثالاً ما ذكره في أحداث سنة 827: وفي جمادى الآخرة عقد مجلس بسبب أخذ الزكاة من التجار، وكان ابن حجى أو الهروي حسَّن للسلطان ذلك، فأمر بحضور القضاة بالصالحية وأن يحضر معهم الهروي وابن حجى، فانفصل الأمر على أن كاتبه قال لهم: أما التجار فإنهم يؤدون إلى السلطنة من المكوس أضعاف مقدار الزكاة، وهم مأمونون على ما تحت أيديهم من الزكاة، وأما زكاة المواشي فليس في الديار المصرية غالباً سائمة، وأما زكاة النبات فغالب من يزرع من فلاحي السلطان أو الأمراء، فقال القاضي الحنفي وهو زين الدين التفهني: مرجع جميع الأموال في إخراج الزكاة إلى أربابها إلا زكاة التجارة، فللإمام أن ينصب رجلاً يقيم على الجادة يأخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، ولا يؤخذ من المسلم في السنة أكثر من مرة، وقال المالكي والحنبلي نحو ما قال كاتبه، وانفصل المجلس على ذلك وانفرجت عن التجار وغيرهم.

ويقول ابن حجر في أحداث سنة 832: وفي شوال وعك كاتبه ثم عوفي في ذي القعدة، فاستعرض أهلَ السجون فصولح من له دين من مال كاتبه، وحصل لجمع كثير من الناس فرح كبير، أما صاحب الدين فليأسه من حصول شيء من المسجون، وأما المسجون فلما كان يقاسيه من شدة الحر وغيره من الضيق، ولله الحمد.

ومنها قوله في ترجمة محمد بن سلامة التوروزي المغربي المتوفى سنة 800: وكان داعية إلى مقالة ابن العربي الصوفي يناضل عنها ويناظر عليها، ووقع له مع شيخنا البلقيني الشيخ سراج الدين مقامات، اجتمعت به وسمعت كلامه وكنت أبغضه في الله تعالى. وقوله في ترجمة إسماعيل بن إ[راهيم الجبرتي المتوفى سنة 806: وكان خيِّراً عابداً حسن السمت والملبوس، مغرى بالسماع، محبّاً في مقالة ابن العربي، وكنت أظن أنه لا يفهم الاتحاد حتى اجتمعت به فرأيته يفهمه ويقرره ويدعو إليه.

ويقول في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن خليفة الحسباني الدمشقي، المولود سنة 749 والمتوفى سنة 815: وقد اجتمعت به بدمشق فأكرمني وأعارني كتبه، وأجزاءه التي كان يضن بها عن غيري، ثم قدم القاهرة بعد الكائنة فأعطيته جملة من الأجزاء وشهد لي بالحفظ في عنوان تعليق التعليق، وسمعت منه بدمشق قليلا.

ومنها قوله في أحداث ذي الحجة من سنة 825:  صُرف القاضي ولي الدين العراقي عن قضاء الشافعية، واستقر عوضه علم الدين صالح بن شيخنا؛ شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وكنت لما مات أخوه جلال الدين نظمت:

مات جلال الدين قالوا: ابنه ... يخلفه أو فالأخ الكاشح

فقلت: تاج الدين لا لائق ... بمنصب الحكم، ولا صالح

فكان كما قلتُ، فإنه تولى فظهر منه التهور والإقدام على ما لا يليق، وتناول المال من أي جهة كانت حلالاً أو حراماً، ما لا كان يُظن به ولا ألِفَ الناس نظيره من أحد ممن ولي القضاء للشافعية بالقاهرة.

ويقول في ترجمة بلقيس البلقيني: بنت بدر الدين محمد بن شيخنا سراج الدين البلقيني... وكانت لها شهرة تغني عن ذكرها، وهي لسان أهل بيتها، وسلكت أكثر من عشرين سنة طريق التصوف، ولبست الخرقة من جماعة وتسمت بالشيخة ووقع في ذلك أضحوكات، وبالله المستعان!

ومنها قوله في ترجمة الخطاط عبد الرحمن بن علي الشيخ زين الدين ابن الصائغ، المتوفى سنة 845: تعلم الخط المنسوب من الشيخ نور الدين الوسمي، فأتقن قلم النسخ حتى فاق فيه على شيخه، وأحب طريقة ابن العفيف فسلكها، واستفاد فيها من شيخنا الزفتاوي وصارت له طريقة منتزعة من طريقة ابن العفيف وغازي، وكان الوسمي كتب على غازي بن قطلوبغا التركي، وغازي كتب أولاً على ابن أبي رقيبة شيخ شيخنا الزفتاوي وهو تلميذ ابن العفيف، ثم تحول غازي عن طريقة ابن العفيف إلى طريقة ولَّدها بينها وبين طريقة الزكي العجمي.

ويدلنا على شخصية ابن حجر المتسامحة اللينة في التعامل دون أن تتخلى عن منهج المحدثين الصلب في تقييم الأشخاص، ما أورده في ترجمة الفقيه نفيس الدين سليمان بن إبراهيم بن عمر التعزي المتوفى سنة 825: وسمع مني وسمعت منه، وكان محباً في السماع، والرواية محثاً على ذلك مع عدم مهارة فيه، فذكر لي أنه مر على صحيح البخاري مائة وخمسين مرة ما بين قراءة وسماع وإسماع ومقابلة، وحصل من شروحه كثيراً، وحدث بالكثير وكان محدث أهل بلده، وقرأ للكثير على شيخنا مجد الدين الشيرازي ونِعمَ الرجل كان! لقيته بزبيد وبتعز في الرحلتين وحصل لي به أنس، وحدثني بجزء من حديثه يخرجه لنفسه زعم أنه مسلسل باليمنيين وليس بالأمر في غالبه كذلك.

وينبغي أن نشير أن كتاب إنباء الغمر يتباين مع كتاب ابن حجر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، الذي هو تراجم لأعلام هذا القرن، وأغلبهم ممن لم يلتق بهم ابن حجر، فهو ناقل عن مشايخه ومن سبقه من المؤرخين، والاستثناء من هذا ما أورده في ترجمة الشيخ بدر الدين الزركشي، محمد بن بهادر بن عبد الله التركي الأصل المصري، المولود سنة 745 والمتوفى سنة 794، فقد قال فيها: ولازم الزركشي الشيخ سراج الدين البلقيني، ولما ولي قضاء الشام استعار منه نسخته من الروضة مجلدا بعد مجلد فعلقها على الهوامش من الفوائد، فهو أول من جمع حواشي الروضة للبلقيني، وذلك في سنة 769، وملكتُها بخطه ثم جمعها القاضي ولي الدين ابن شيخنا العراقي قبل أن يقف على الزركشية، فلما أعرتها له انتفع بها فيما كان قد خفي من أطراف الهوامش في نسخة الشيخ، وجعل لكل ما زاد على نسخة الزركشي زايا، وعني الزركشي بالفقه والأصول والحديث ... وكان منقطعا في منزله لا يتردد إلى أحد إلا إلى سوق الكتب، وإذا حضره لا يشتري شيئا وإنما يطالع في حانوت الكتبي طول نهاره، ومعه ظهور أوراق يعلق فيها ما يعجبه، ثم يرجع فينقله إلى تصانيفه.

تزوج ابن حجر أُنس ابنة القاضي كريم الدين عبد الكريم بن أحمد بن عبد العزيز اللخمي، والذي كان يعمل في ديوان الجيش، والمولود سنة 736 والمتوفى سنة 807، وكان رجلاً فاضلاً  محباً للخير مقتصداً في معيشته، وولدت زوجة ابن حجر في حدود سنة 780 وكانت من المحدثات وأسمعها ابن حجر من الحافظ العراقي وغيره من المحدثين، وحدثت في حياته، وكانت رئيسة دينة كريمة راغبة في الخير مجابة الدعاء وتوفيت سنة 867.

ولابن حجر من هذا الزواج ابن وحيد وعدة بنات، أما الابن فهو بدر الدين محمد، وولد قبل سنة 819، وصار قاضياً، وتوفي سنة 879، وبموته انقطع نسل ابن حجر من الذكور.

أما الإناث فأولهم ابنته وبكر أولاده زين خاتون المولودة سنة 802، والتي أسمعها والدها الحديث من  الحافظ العراقي والشيخ نور الدين الهيثمي، وأجاز لها كثير من المسندين من أهل دمشق؛ وتزوجها الأمير شاهين الكَركي، وفي سنة 833 اجتاح البلاد وباء الطاعون وراح ضحيته الألوف، وتوفيت في هذا الطاعون وهي حامل، فجُمعت لها شهادتان، ولها ولد اسمه جمال الدين يوسف، كان محدثاً فاضلاً ناب عن جده في بعض دروسه الحديثية، وتوفي سنة 899 عن 71 سنة.

وبسبب هذا الطاعون كتب ابن حجر كتابه بذل الماعون في فضل الطاعون، وجَمَعَ فيه ما ذُكر في الطاعون من أقوال وأحاديث نبوية وشرحها، ثمَّ رتّب كتابه على خمسة أبواب: في بدء الطاعون، وفي التعريف به، وفي بيان أن الطاعون شهادة للمسلمين، وفي حكم البلد الذي يقع فيه الطاعون، وفي معرفة ما يشرع فعله في الطاعون بعد وقوعه.

وكان لابن حجر ابنتان صغيرتان هما غالية المولودة سنة 807 وفاطمة المولودة سنة 817، توفيتا بطاعون سنة 819، وله ابنة تسمى فرحة ولدت في  سنة 804 وتزوجها المحدث الفاضل محب الدين ابن الأشقر، محمد بن عثمان المولود سنة 780 والمتوفى سنة 863، وتوفيت في سنة 828 فتزوج بعدها أختها رابعة المولودة في سنة 811، وكانت من قبله زوجة القاضي الفقيه شهاب الدين ابن مكنون، أحمد بن محمد بن مكنون، المولود سنة 779 والمتوفى سنة 829، وتوفيت رابعة سنة 832 عند ابن الأشقر، فمازحه عديله الأمير شاهين الكركي فقال: أتريد أن تزوج الثالثة لتقبرها!

وتزوج ابن حجر سيدة من حلب في رحلته إليها في سنة 836 هي ليلى ابنة محمود بن طوغان، وكانت ثيباً ذات ولدين بالغين، وقدمت عليه القاهرة ثم رجعت إلى بلدها، ثم عادت فأقامت في عصمته حتى مات عنها؛ وتزوجت عدة أزواج بعده ثم ماتت في سنة 881، وقد قاربت الثمانين، وقال يحن إليها بعد أن خلَّفها في حلب:

رحلت وخلفت الحبيب بداره ... برغمي ولم أجنح إلى غيره ميلا

أشاغل نفسي بالحديث تعللا ... نهاري، وفي ليلي أحن إلى ليلى

قرض ابن حجر الشعر، وقد ذكر بعض من ترجموا له أنه كان شاعرا طبعا، محدِّثا صناعة، فقيها تكلفا، وأنه اتجه في أول أمره للأدب والشعر، وبرع فيهما، ولكن ما رأيته من شعره لا يطابق القول بشاعريته، فهو من بابة شعر الفقهاء الجيد، ومن شعره :

ثلاثٌ من الدنيا إذا هي حُصلت ... لشخص فلن يخشى من الضر والضير

غِنىً عن بنيها، والسلامة منهم، ... وصحة جسم، ثم خاتمة الخير

أصيب ابن حجر بإسهال ورمي دم، توفي بعده بشهر، وكانت جنازته حافلة جداً، ومشى فيها الخليفة المستكفي بالله والملك الظاهر جقمق فمن دونهما، وقدَّم السلطان الخليفة للصلاةعليه؛ وتزاحم الأمراء والأكابر على حمل نعشه، ودفن بتربة آل الخروبي بالقرافة، وأمطرت السماء في جنازته ولم يكن زمان مطر، فقال في ذلك الشهاب المنصوري:

قد بكت السحب على ... قاضي القضاة بالمطر

وانهدم الركن الذي ... كان مشيداً من حجر

كان الإمام ابن حجر ذا لحية بيضاء ووجه صبيح، للقصر أقرب، وفي الهامة نحيف، له شيبة نيرة ووقار وأبهة ومهابة، مع العقل والحكمة والسكون والسياسة والدربة بالأحكام ومداراة الناس، قلَّ أن يخاطب الشخص بما يكره، بل كان يحسن لمن يسيء إِليه، ويتجاوز عمن قدر عليه، ونختم ببيتين من نظم هذا الإمام الكبير

خليليَّ ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحات ولكِنَّا

فحتى متى نبني بيوتاً مشيدة ... وأعمارنا منا تُهد وما تبنى؟!

 

 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer