الجمعة، 23 أكتوبر 2015

حدث في الحادي عشر من المحرم

في الحادي عشر من المحرم من عام 1335 الموافق 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1916 قتلت القوات البريطانية سلطان دارفور علي دينار، وقضت بذلك على سلطنة الفُور في غرب السودان التي حكمت أكثر من 400 سنة، ودار فور تعني بلاد الفُور، وإضافة إلى محافظة دارفور الواقعة غرب السودان اليوم، فقد كانت حدود نفوذها تمتد في الماضي إلى بعد تشاد غرباً وحتى أوغندا والكونغو جنوباً، وكانت عاصمتها مدينة الفاشر، ولغتها الرسمية اللغة العربية إلى جانب لغة الفور، وتتميز بقبائلها ذات الأصول والأسماء العربية.
ولد السلطان علي بن زكريا بن السلطان محمد فضل، الملقب بدينار، في حدود سنة 1273=1856في قرية تدعى الشاواية غربي مدينة نيالا في دارفور، وينتمي إلى الأسرة الكيراوية التي نشرت الإسلام في تلك البلاد وعمقت جذوره فيها، وكان عمه أبو الخيرات سلطان البلاد حتى وفاته سنة 1307=1890، وأصبح هو مكان عمه على إمرة دارفور التي كانت عاصمتها مدينة الفاشر.
وهنا نعود للوراء قليلاً لنتحدث عن بداية الوجود البريطاني في السودان والذي كان لأسرة محمد علي، الحاكمة في مصر، دور أساسي فيه، فنقول: كان السودان منذ عهد المماليك يعترف بسياد ة الدولة المصرية عليه اعترافاً تفاوتت متانته حسب موازين القوى وإقدام الحاكم المصري أو تريثه، وكانت آخر حملة مصرية عسكرية كبيرة تلك التي أعدها محمد علي باشا في سنة 1820وعهد بقيادتها لابنه إسماعيل، وهو في الخامسة والعشرين، فاستولى على البلاد واحدة تلو الأخرى دون أن يواجه مقاومة ذات معنى، وتوج انتصاراته في 13 يونيو 1821 حين وقع ملك الفونج بادي السادس على وثيقة تنازل فيها عن جميع سلطانه لخليفة المسلمين في القسطنطينية، وأفلت بذلك شمس هذه السلطنة المسلمة التي دامت أكثر من 300 سنة.
وأرسل محمد علي بعدها حملة أخرى قادها صهره محمد بك الدفتردار للاستيلاء على أملاك سلطنة الفور في شرقي السودان؛ كُردفان ودارفور، فهزمت في موقعة بارة القوات التي أرسلها جد علي دينار السلطان محمد الفضل، وكانت تلك أول مرة تظهر فيها الأسلحة النارية في شرق السودان، واستولى محمد بك الدفتردار على كردفان قبل أن يأمره محمد علي بترك دارفور وشأنها، وأساء الولاة الذين أرسلهم محمد علي السيرة في الولايات السودانية وأمعنوا في اضطهاد أهلها وإذلال كبرائها، ولم يترددوا في سفك الدماء، بل جعلوا ذلك وسيلتهم المثلى للسيطرة على الأهالي المساكين، الذين هاجر كثير منهم إلى الحبشة ودارفور والمناطق النائية البعيدة عن بطش الدفتردار ومن تلاه من الولاة.
وبقىت دارفور مستقلة يحكمها الكيراويون، ولكنها بقيت ضمن مخططات أسرة محمد علي للتوسع في السودان، ولذا فرض الخديوي ما يشبه الحصار عليها، ومنع الاتجار معها في الأسلحة النارية، وبقيت الحالة على هذا الاستقرار القلق حتى أيام الخديوي إسماعيل، الذي تولى الحكم سنة 1863، حين ظهر القائد السوداني الزبير رحمة والذي كان له الدور الأكبر في بسط السيادة المصرية على دارفور في سنة 1874.
كان الزبير رحمة رجلاً ذا علم شرعي، ومن كبار التجار بين أفريقيا وبين مصر، وأسس محطات تجارية محروسة للقوافل في منطقة بحر الغزال جنوبي دارفور، وانتهى ذلك به إلى أن أسس فيها حكومة قائمة على الشورى والتعاون أقرتها الحكومة المصرية ومنحته رتبة البكوية، وعارضته قبائل الرزيقات فقمعهم معتدياً على حمى سلطان دارفور الذي يدينون له بالولاء، والذي أبدى رفضه لما حدث، فقرر الزبير أن يخضعه كذلك، وطلب العون العسكري من الحكمدار المصري في الخرطوم، معلناً ولاءه للدولة العلية العثمانية التي تمثلها مصر وذلك بدافع من عقيدته الدينية القائمة على توحيد بلاد المسلمين، فأمده الحكمدار وعاضده حتى استولى على الفاشر عاصمة الفور في أواخر سنة 1874، ومنحه بسببها الخديوي إسماعيل رتبة فريق العسكرية وأنعم عليه بمرتبة الباشوية.
واختلف الزبير مع الحكمدار بسبب الضرائب التي فرضها على السكان، فقد كان الزبير يرى الاكتفاء بالزكاة الشرعية، أما الحكمدار فكان مثالاً لأسرة محمد علي في فرض الضرائب الباهظة، واعتقد الزبير أن له من الدالة على الخديوي ليقنعه بتغيير ذلك، فطلب الإذن بالسفر إلى القاهرة حيث رحب به الخديوي وأبقاه فيها ليخلو له حكم السودان.
وفي سنة 1874 عين الخديوي إسماعيل الجنرال البريطاني غوردون باشا حاكماً على مقاطعة خط الاستواء، ومنحه مئة ألف جنيه من الخزينة المصرية نفقة لحملته، كانت كما قال مصطفى كامل تمويلاً لاستيلاء بريطانيا على السودان، وفي سنة 1877 جعله حاكماً عاماً على السودان باسم: حكمدار عموم السودان.
وكانت نتائج فرض الضرائب الباهظة وسلوك الأساليب القاسية في تحصيلها أن عاد رجال الفُور فتجمعوا حول ابن عم علي دينار؛ السلطان هارون الرشيد ابن الأمير سيف الدين ابن السلطان محمد الفضل، وثاروا في أوائل سنة 1877 وحاصروا الفاشر حتى جاءها المدد من الخرطوم فانسحبوا وتحصنوا بمرتفعات جبل مرة، وعاودوا هجومهم بعد سنة وحققوا بعض الانتصارات قبل أن يهزموا ويقتل السلطان هارون الرشيد في أوائل سنة 1880 في معركة مع قوات سلاتين باشا، Rudolf Slatin الضابط النمساوي الذي عينه غوردون مديراً على دارفور، وهو لما يتجاوز الخامسة والعشرين، وهو مثال لعدد من الأوربيين الذين أتى بهم غوردون لإدارة السودان، تحفز كثيراً منهم الروح الصليبية، كما يفتقر كثير منهم إلى الخبرة أو الحنكة أو كليهما، وأطلق غوردون يد البعثات التنصيرية فكانت تخرج من الأُبيض إالى جبال النوبة لتنصير أهلها، وزاد كل ذلك في غضب السودانيين وحقدهم على حكومة الخديوي التي جاءتهم بهؤلاء الكفرة الفجرة.
وظهر في تلك الأثناء الزعيم السوداني محمد بن عبد الله المتلقب بالمهدي، والمولود سنة 1260=1844، وأعلن حركته في حوالي سنة 1297=1880 وهزم الحملات التي جردتها مصر وبريطانيا، واستولى على الخرطوم في 8 ربيع الآخر من سنة 1302=25 كانون الثاني/يناير 1885، وقتل غوردون باشا، ودانت له السودان بأكملها، بما فيها دارفور التي جاءه منها علي مادبو زعيم قبائل الرزيقات فبايعه ثم عاد إليها ليقاتل سلاتين باشا النمساوي، والذي بادر فأعلن إسلامه واستسلامه لما رأى أن لا قبل له بمواجهة أهل دارفور وخشي من تمرد جنوده وانضمامهم للمهدي، وتسمى بعبد القادر سلاتين، فأرسل له المهدي محمد خالد زقل حاكماً على دارفور، وكان من قبل مساعداً لسلاتين، وأمره أن يرسل سلاتين ليكون عند المهدي، وكان تحت إمرة زقل في دارفور جيش كبير قوامه 1000 فارس و 3000 آلاف جندي مسلحين بالبنادق و 30000 مجاهد من المشاة.
وتوفي المهدي في 9 رمضان سنة 1302=22 حزيران/يونيو 1885، وخلفه بعهد منه عبد الله التعايشي، نسبة إلى قبيلة التعايشة في دارفور، ومع التعايشي آخران يخلفانه، وحوَّل التعايشي الحكم بالتدريج من الشورى إلى الاستبداد فأقصى كبار أمراء المهدي وأبعد خليفتيه، وأعطى أخاه وابنه مناصب لم يكونا يستحقانها، فأصبحت الدولة المهدية خاوية من جوهرها النقي الذي جذب إليها القبائل قريبها وبعيدها.
ورغم بسط الدولة المهدية سلطتها على السودان إلا أن البلاد لم تهدأ مطلقاً، ولأسباب مختلفة كانت القبائل تتمرد على المهدي ثم خليفته التعايشي، وترفض أن تخضع لسلطانه، وكان عامل المهدية على دارفور هو الأمير يوسف بن إبراهيم الكيراوي، فانتهز انشغال الخليفة عبد الله التعايشي في سنة 1887 بقمع ثورات قبائل الرزيقات والكبابيش ورفاعة الهوى، وانساق وراء استعادة ملك آبائه وأجداده والاستقلال بدارفور عن الدولة المهدية، وشعر الخليفة بهذا التحرك فأرسل يطلبه إلى أم درمان ليجدد بيعته للخليفة، وماطل يوسف في الأمر ثم أعلن عصيانه فأرسل إليه الخليفة جيشاً هزمه وقتل يوسف وذلك في يناير 1888.
ولم يقض ذلك على النزعة الاستقلالية لدى الفُور، فاستمرت الدعوة سراً للأمير أبي الخيرات أخي الأمير القتيل يوسف، وظهرت في أثناء ذلك حركة دينية استقلالية تزعمها رجل مغمور أطلق عليه لقب أبو جميزة، لأنه كان يجلس تحت شجرة جميزة كبيرة، واجتمع حوله عدد كبير من قبائل الفور وفيهم أبو الخيرات وعلي دينار، فأرسل التعايشي الجيوش لقمعهم، ولكن أبو جميزة انتصر عليها مرتين، وتقدم نحو الفاشر ليستولي عليها، ولكنه مات بالجدري في طريقه إليها في يناير 1889، وخلفه أخوه إساغة في زعامة الحركة، ولكن جيش الدولة المهدية هزمه هزيمة ساحقة بعد قرابة شهر، في معركة رهيبة لم تقم بعدها للحركة قائمة.
وكانت حركات التمرد محاولات محلية كان إخفاقها محتماً، واستطاعت الدولة المهدية القضاء عليها واحدة تلو الأخرى، ولكنها كلفتها كثيراً من المال والرجال والاستقرار، في الوقت الذي كانت فيه جيوش الأوربيين الطامعين تنهش في السودان من جميع جهاته، فإلى جانب بريطانيا التي يعضدها حلفاؤها من أسرة محمد علي في مصر، كانت لدى كل من بلجيكا وإيطاليا وفرنسا خططها لبسط سلطانها على جزء من السودان، وزاد من ضعف الدولة المهدية المجاعة التي ضربت البلاد في سنة 1891 وقضت على عدد كبير من سكانها ونشرت بينهم الأمراض.
وتوفي أبو الخيرات في سنة 1307= 1890 فخلفه في الإمارة علي دينار لكونه الوريث الشرعي بين الكيراويين، وكانت الإمارة إسمية معنوية فقد كانت السلطة للتعايشي وأميره في دارفور؛ عبد القادر دليل، وتحسباً لأي تمرد محتمل من قبله طلب التعايشي من علي دينار أن يترك دارفور وينضم إليه في أم درمان، ففعل وبقي معه عدة سنوات.
وفي سنة 1896 قامت بريطانيا بالتعاون مع الخديوي في مصر بشن حملة عسكرية للقضاء على الدولة المهدية وإخضاع السودان، ولما كان حزب الأحرار يعارض الحملة، مهدت حكومة المحافظين لها بحملة دعائية في بريطانيا لجر الرأي العام إلى جانبها، ووصفت المهدي وخليفته بالقسوة والظلم والتخلف والهمجية، وكان سلاتين باشا النمساوي قد هرب من سجن المهدي سنة 1895 وألف كتاباً أسماه النار والسيف في السودان، ولم يترك فيه نقيصة إلا وألصقها بالمهدية، وكان له أثر كبير في إثارة المشاعر ضد الحركة المهدية.
وقاد الحملة الضابط البريطاني كتشِنر باشا، ومعه سلاتين باشا، وتألفت الحملة من 26.000 مقاتل ثلثهم من البريطانيين، والباقون من المصريين والسودانيين، وكانت مسلحة بالبنادق والمدافع والمدافع الرشاشة التي كانت قد برزت من جديد، ونجحت الحملة في الاستيلاء على دنقلا ثم على كل السودان، وبلغت أوجهها في هزيمة المهدية في معركة كرري في 15 ربيع الثاني 1316= 2 أيلول/سبتمبر 1898 التي حصدت فيها المدافع الرشاشة أكثر من 10.000 مجاهد سوداني، قال عنهم ضابط بريطاني شارك في الحملة: تقدموا موجة تلو الأخرى بقلوب لا تهاب الموت، ولم يتقهقروا حتى رأوا أنه يستحيل عليهم اختراق هذه النيران.
واستولى كتشنر على أم درمان عاصمة المهدي، بعد أن دكتها سفنه بقنابل مدافعها، وفي 18 سبتمبر 1898 نسف كتشنر ضريح المهدي ونبش قبره واستخرج جثته وقطع رأسها وأرسله إلى المتحف البريطاني بلندن وأمر ببعثرة ما تبقى من العظام، وانتهت الدولة المهدية بمقتل التعايشي في معركة قرية جديد في 24 نوفمبر 1899، وأطلق البريطانيون على السودان اسم السودان الإنجليزي المصري إيذانا بقيام حكم ثنائي فيه، ولكنه في حقيقنه حكم بريطاني لا يد لمصر فيه، وفيه يقول الشاعر حافظ إبراهيم:
رويدك حتى يخفق العلمان ... وننظر ما يجري به الفتيان
فما مصر كالسودان لقمة جائع ... ولكنها مرهونة لأوان
أرى مصر والسودان والهند واحداً ... بها اللورد والفيكونت يستبقان
وأكبر ظني أن يوم جلائهم ... ويوم نشور الخلق مقتربان
وكان علي دينار قد انتهز فرصة خروج القوات المهدية إلى معركة كرري بينها وبين البريطانيين، وما أعقب هزيمتها من فوضى، فانسل من أرض المعركة وعاد إلى أم درمان مع عدد قليل من رجاله وعاد منها إلى دارفور، وتلاحق به أتباعه فما دخل الفاشر إلا وقد صار معه ألفا مقاتل، واستولى عليها دون قتال وأعلن نفسه سلطاناً عليها.
وكان كتشنر قد أسر في إحدى المعارك أحد أفراد الأسرة المالكة في دارفور ويدعى إبراهيم علي، فأرسله بعد انهيار المهدية إلى الفاشر على أمل أن يصبح حاكم دارفور، ولكنه وجد أن موقع علي دينار لا يمكن زحزحته، واستنجد بكتشنر ليرسل له بعض القوات، ولكن علي دينار أرسل إلى كتشنر رسالة يعرض فيها أن يرفع العلمين البريطاني والمصري وأن يدفع للحكومة مبلغاً سنوياً مقابل أن يترك وشأنه سلطاناً على دارفور، وقبل كتشنر هذا الترتيب فقد كان في غنى عن مزيد من المعارك.
وواجهت علي دينار مشاكل عديدة وكبيرة في حكمه لدارفور، أولها أن الحكومة في الخرطوم كانت ساكتة على مضض عن منحه هذه الحرية في إدارة شؤون بلاده، وكانت تريد حاكماً تابعاً لها يطيع أوامرها، ولذا كانت لا توفر فرصة أو مناسبة لإنقاص سلطاته، وثانيها أن قبائل الرزيقات كانت قد أبت أن تنصاع لسلطانه، وثالثها أن الفرنسيين بدأوا في بسط سلطانهم على المناطق الغربية من سلطنته، ورابعها أن البريطانيين رفضوا إمداده بالسلاح الذي يحتاجه لمواجهة الرزيقات أو الفرنسيين، فقد طلب منهم البنادق فأرسلوا له بندقية واحدة هدية! وكان البريطانيون يخشون أن يورطهم في مواجهة غير مدروسة مع الفرنسيين، ينتج عنها احتلال الفرنسيين لغربي دارفور، ذلك إن اتفاقهم مع فرنسا لم يحدد بدقة حدود مناطق السيطرة المتفق عليها فيما بينها، وأخيراً لم يخف على البريطانيين طموحه على المدى البعيد لضم مديرية كُردفان حتى تستعيد إمارة الفور أراضيها التاريخية.
ولما نشبت الحرب العالمية الأولى في أواخر سنة 1332= منتصف سنة 1914 بين بريطانيا وحلفائها وبين ألمانيا وأنصارها، قامت الحكومة البريطانية بإعلان حمايتها لحكم أسرة محمد علي في مصر، ففصلت مصر، ومعها السودان، حتى من الناحية النظرية عن الدولة العثمانية التي كانت تمثل الخلافة الإسلامية الواحدة.
والحقيقة المرة أن حكومة الاتحاد والترقي التي كانت قائمة في استانبول لم تكن حكومة جديرة بتمثيل الخلافة الإسلامية، فقد كانت حكومة انقلاب عسكري قام به ضباط مغامرون مغرورون، ظاهرهم غير باطنهم، ولم يكونوا يعتبرون أنفسهم حكومة خلافة إلا بمقدار ما يخدم ذلك أغراضهم، وانحازت هذه الحكومة إلى جانب ألمانيا في الحرب، وزج أنور باشا وأخوه نوري باشا البلاد في أتون حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وأرسلت حكومة الاتحاد والترقي مبعوثين إلى أنحاء البلاد الإسلامية الواقعة تحت السيطرة البريطانية تستصرخ غيرة أمرائها وحكامها وتدعوهم للثورة على البريطانيين، وتعدهم بإمدادهم بالمال والسلاح إن هم فعلوا ذلك، وهي دعوة حق أريد بها باطل من حكومة بعيدة عن الإسلام وعن الشورى، وقد خلعت بالأمس السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين، وتعلم أنها لا تستطيع المحافظة على وعودها هذه، وأنْ ستذهب ضحيتها الأرواح والأموال، ولا غرابة، فقد كان الاستهتار سمة هذه العصبة الإنقلابية.
وكان السلطان علي دينار أحد ضحايا هذه الحكومة الإنقلابية الفاشلة التي ناشدت باسم الإسلام إيمانه وضميره لكي يتمرد على البريطانيين ويثور، وكتب إليه أنور باشا رسالة أعلمه فيها أن الخليفة قد أعلن الجهاد المقدس ضد المعتدين، ومن هنا أصبح الجهاد فرضا على كل المسلمين، وأنه سيرسل إلى أفريقيا مندوبا من تركيا، هو جعفر بك العسكري، وأنه سيقود حملة لإنقاذ مصر، وأن النصر سيكون حليفه وحليف أصدقائه الألمان.
وقد انخدع علي دينار بهذه الدعوة الزائفة لأنه كان صاحب إيمان وصدق وإخلاص لم يتوقع أن يخدعه مقام الخلافة الإسلامية، ويبدو ذلك في رسالة أرسلها للحكومة التركية قال فيها: وقد أحاطت أيدي النصارى الكفار بالمسلمين من يميننا وشمالنا وورائنا وأمامنا، وحازوا ديار المسلمين كلها، ممالك البعض سلطانها مقتول، والبعض سلطانها مأسور، والبعض سلطانها مقهور، يلعبون بأيديهم كالعصفور، ما عدا بلادنا دارفور قد حفظها الله من ظلمات الكفار. والداعي أنهم حالوا بيننا وبين الحرمين الشريفين اللذين حرسهما الله ومنحكم بخدمتهما، ولم نر حيلة نتوسل بها لأداء الفرض الذي فرضه الله علينا من حج بيته الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام.
وأغراه بالتحرك أن تركيا وألمانيا في بادئ الأمر كانتا تزودان بالسلاح والذخائر السيد أحمد السنوسي في ليبيا، وأن نوري باشا، أخو أنور، جاء إلى ليبيا لينسق مع السنوسية، وأرسلت تركيا جعفر العسكري إلى بنغازي على متن غواصة ألمانية ليقود الهجوم على الحدود الغربية لمصر ويشغل بريطانيا وقواتها، وأسرته بريطانيا جريحاً بعد شهور في مرسى مطروح، ولما كانت العلاقة بين الفور وبين الحركة السنوسية متصلة وثيقة، لم يلبث علي دينار أن تحرك وأعلن الجهاد وهاجم قوات الحكم الثنائي، ولكنه انتظر وانتظر ولم تصله المساعدات والإمدادات الموعودة سوى 250 بندقية مع شيء من الذخيرة وصلته من السنوسي.
ولم تكن نوايا علي دينار وتحركاته خافية عن الحكومة في الخرطوم التي كان لها عيونها في كل مكان، ولذا خشيت أن تكون هذه الشحنة مقدمة لشحنات أخرى، وقرر السير ونجيت الحاكم العام للسودان أن يبادر للقضاء عليه، فأرسل حملة يرأسها الضابط الإنجليزي كِلْي على رأس قوة من 2000 جندي مسلحين بالبنادق والمدافع العادية والرشاشة، ونصفها أو أكثر من المجندين السودانيين والمصريين والعرب، وحمل ذخائر الحملة ولوازمها 1200 جمل، وعضدتها 4 طائرات استطلاع، وكان التحدي الأكبر الذي يواجه الحملة هو الانتقال بالقطار مسافة 700 كيلو متراً من الخرطوم إلى الأُبيض، حيث انتهت السكة الحديدية التي مدها البريطانيون، ثم السير منها براً إلى الفاشر مسافة 650 كيلومتراً وهي مفازة محفوفة بالمخاطر وتقل وتتباعد فيها الآبار ومياه الشرب.
أما جيش السلطان فكان يتكون من 800 فارس و 3000 من المشاة المسلحين بالبنادق مع ذخيرة قليلة، وإلى جانبهم 2000 من المتطوعة المسلحين بالرماح، والتقى الجيشان في 22 مايو 1916 في معركة بِرنجية على بعد 20 كيلومتراً من الفاشر، والتي دامت قرابة ساعة والتي انجلت عن هزيمة عسكر السلطان ومقتل 400 من جنوده، كما قتل فيها قائد جيشه رمضان بُرّة ونائبه سليمان علي، وتقدمت على إثرها القوات البريطانية لتحتل الفاشر عاصمة السلطان علي دينار.
وانسحب السلطان إلى جبال مَرّة الشاهقة ليعيد تنظيم قواته، ولكن رجاله بدأوا يتخلون عنه ويتسللون من حوله، فأرسل إلى القائد البريطاني رسولاً يحمل وعده بالتخلي عن السلطنة والاستسلام مقابل منحه الأمان وتركه يعيش في بلاده وبين أهله، ولكن كلي رد عليه أنه سيمنحه الأمان ليعيش في منفى تختاره الحكومة البريطانية، ووافق علي دينار على ذلك واعداَ أن يقوم بذلك بعد انتهاء موسم الأمطار، ولما انتهى الموسم طلب مزيداً من الوقت متعللا أنه لم يستطع إقناع كل رجاله بالاستسلام. واتضح للقائد البريطاني أن علي دينار كان يناور كسباً للوقت، ولذا لا بد من القضاء عليه.
وفي 7 أكتوبر 1918 أرسل كِلي قوة من 250 جندي يقودها الرائد هدلستون لتتعقب السلطان وتأتي به حياً أو ميتاً، وعلم هدلستون بوجود زكريا ابن السلطان الأكبر مع مجموعة من مقاتليه فأغار عليهم في 13 أكتوبر وقتل زكريا وأغلب من كانوا معه،  وأخبره جواسيسه أن السلطان يختبأ في قرية تدعى كُلمة وأن من بقي معه في حالة سيئة جداً من الجوع والمرض، فسار إليها واحتلها في 3 نوفمبر دون أية مقاومة، واستسلم له عدد كبير من أتباع السلطان بما فيهم بعض أفراد أسرته، أما السلطان فهرب إلى جبل جوبا ولاحقه إليه هدلستون، وتمكن في السادس من أكتوبر من الاقتراب مخيم السلطان دون أن يُكتشف، ولما أطلق نيرانه هرب رجال السلطان، ولاحقهم جنوده ليجدوا السلطان علي دينار قتيلاً برصاصة في جبهته، ووصفه القائد البريطاني أنه كان رجلاً قوي البنية ذا وجه نبيل.
ولأن السودان كان نظرياً يتبع الحكومة المصرية القابعة تحت الحماية البريطانية، فقد قامت هذه الحكومة بتغطية نفقات هذه الحملة التي بلغت نصف مليون جنيه استرليني، وتحققت للمرة الثانية كلمات الزعيم المصري مصطفى كامل من أن مصر قدمت الرجال والمال لتحتل بريطانيا السودان، وكافأت الحكومة البريطانية رجالها؛ فرقَّت الجنرال وينجِت ليصبح المندوب السامي البريطاني في مصر، وعينت الضابط كِلي في منصب الحاكم العام لدارفور، التي ضمتها للسودان، بعد قرون من الاستقلال.
كان السلطان علي دينار من أعظم السلاطين الذين حكموا دارفور، وتمتع بالشجاعة والحكمة وبعد النظر والطموح، مع قدر كبير من التقوى والعلم، وكان يقرض الشعر وله ديوان أسماه: ديوان المديح في مدح النبي المليح، ولا شك أنه كان رجل دولة تفوق على ظروف زمانه ومكانه، وأراد تأسيس دولة إسلامية في وسط أفريقيا، كان من إحدى معالمها أنه أرسل كسوة للكعبة المشرفة لسنوات عديدة.
كان لعلي دينار زوجات وحظايا بلغ عدد أولاده الذكور منهم 125 ولداً، ولا تزال سلالته العديدة محافظة على نسبها وتميزها والتزامها الديني، وقد برزت منها ومن مصاهريها شخصيات كبيرة من أهل السياسة والعلم في السودان.
وقد بنى السلطان علي دينار قصراً سلطانياً في مدينة الفاشر، هو اليوم متحف يحمل اسمه، ولما دخلته القوات البريطانية وصفه أحد ضباطها أنه: قصر الحمراء على الطراز السوداني، تتوزع في أرجائه الحدائق الصغيرة الظليلة وبرك الاسماك والأقواس والعرائش. كما حوى القصر الهدايا والغنائم القيمة التي كانت ترد إلى السلطان، وأصبح القصر المقر الرسمي للكولونيل كلي عندما صار الحاكم العام بدارفور، ثم مقر محافظة دارفور حتى عام 1976، عندما أمر الرئيس الراحل جعفر النميري بتحويله إلى متحف أصبح ثاني متحف في السودان بعد المتحف القومي، ويضم مقتنيات السلطان علي دينار وآثاره.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer