الجمعة، 9 أكتوبر 2015

حدث في الخامس والعشرين من ذي الحجة

في الخامس والعشرين من ذي الحجة من سنة 1338 الموافق 9 أيلول/سبتمبر 1920 أصدر الوفد المصري إلى مفاوضات الجلاء في لندن بياناً إلى الشعب المصري بياناً، هذا نصه:
بلاغ من مندوبي الوفد المصري
في قواعد الاتفاق بين إنكلترة ومصر
في الطور الحاضر للمسألة المصرية قد يكون من مقتضيات التقاليد، ومن الأكثر مناسبة لمهمة أعضاء الوفد المنتدبين إلى مصر أن لا تنشر بنصوصها القواعد التي اعتبرت أساسات للاتفاق المرغوب فيه بين بريطانيا العظمى وبين مصر قبل أن تأخذ هذه القواعد نهائيًّا شكل معاهدة رسمية ممضاة من معتمدي الحكومتين على الطريقة العادية، ولكن الحالة النفسية للرأي العام المصري، من حيث تعطشه للوقوف على نصوص تلك القواعد، والرغبة في جعلها مهمة الأعضاء المندوبين من قبل الوفد أقل صعوبةً وأكثر إنتاجا، كل ذلك يجعل نشر تلك النصوص برمتها وعلى حالها أمرا ضروريا، كما يجعل تكرير البيان للمهمة المذكورة آنفا أمرا غير عديم الفائدة، حتى يقر في النفوس أن الغرض المقصود ليس هو أخذ رأي الأمة نهائيا في هذا الاتفاق؛ إذ محل ذلك هو أن يكون بعد إمضاء المعاهدة لا قبله، وأمام الجمعية الوطنية التي تنتخب خصيصا لهذا الغرض، بل المقصود هو أن يستنير الوفد برأي موكليه حتى يعلم إذا كان الرأي العام موافقا على أن هذه القواعد في مجموعها تصلح أساسًا للمعاهدة.
مذكرة بقواعد الاتفاق
1.    لأجل أن يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات ما بين بريطانيا العظمى وبين مصر تحديدا دقيقا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتياز في مصر من المزايا وأحوال الإعفاء، وجعلها أقل ضررا بمصالح البلاد.
2.    ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول من ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية، وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثاني بين الحكومة البريطانية، وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وجميع هذه المفاوضات يرمي إلى الوصول إلى اتفاقات معينة على القواعد الآتية:
أولاً: تعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى، تعترف بريطانيا العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصرُ بريطانيا العظمى الحقوق التي تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من تقديم الضمانات التي يجب أن تعطى للدول الأجنبية لتحقيق تخلي تلك الدول عن الحقوق المخولة لها بمقتضى الامتيازات.
ثانيًا: تبرم بموجب هذه المعاهدة محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد مصر أنها في حالة الحرب، حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها، أن تقدم داخل حدود بلادها كل المساعدة التي في وسعها إلى بريطانيا العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من المواني وميادين الطيران، ووسائل المواصلات للأغراض الحربية.
3.    وتشمل هذه المعاهدة أحكاما للأغراض الآتية:
أولاً: تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطةً لا تتفق مع المحالفة، أو تُوجِد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع دولة أجنبية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية.
ثانيًا: تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأرض المصرية لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتعين المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا يعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالاً عسكريًّا للبلاد كما أنه لا يمس حقوق حكومة مصر.
ثالثًا: تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارا ماليا يعهد إليه في الوقت اللازم بالاختصاصات المالية التي لأعضاء صندوق الدين، ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في استشارته فيها.
رابعًا: تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفا في وزارة العدل يتمتع بحق الاتصال بالوزير، ويجب إحاطته بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له مساس بالأجانب، ويكون أيضا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بتأييد القانون والنظام.
خامسًا: نظرا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية، تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع أن يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها أن لا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون مفعول القانون مجحفًا بالأجانب.
سادسًا: نظراً للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ومصر يمنح الممثل البريطاني مركزاً استثنائيّا في مصر، ويخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين.
سابعًا: الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء خدمتهم بناءً على رغبتهم أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدةُ المعاشَ أو التعويض الذي يمنح للموظفين الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادةً على ما هو مخول لهم بمقتضى القانون الحالي، وفي حالة عدم استعمال الحق المخول بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظف الحالية بغير مساس.
4.    تعرض هذه المعاهدة على الجمعية الوطنية للتصديق عليها، ولكن لا يعمل بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات مع الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية، وإنفاذ الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة.
5.    يعهد أيضا إلى الجمعية الوطنية بمهمة وضع قانون نظام جديد تسير حكومةُ مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، ويتضمن هذا النظام أحكاما تقضي بجعل الوزراء مسؤولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضا بحرية الأديان لجميع الأشخاص، والحماية الواجبة لحقوق الأجانب.
6.    تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تعقد بين بريطانيا العظمى والدول المختلفة ذوات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات بإبطال المحاكم القنصلية الأجنبية حتى يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة، وتوسيع اختصاصها في سريان التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية، ومنه التشريع الذي يفرض الضرائب على جميع الأجانب في مصر.
7.    تنص هذه الاتفاقات على أن تنتقل إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي كانت تستعملها الحكومات الأجنبية المختلفة بمقتضى نظام الامتيازات، وتشمل أيضًا أحكامًا تقتضي بما يأتي:
أولاً: لا يسوغ العمل على التمييز المجحف برعايا أية دولة وافقت على إبطال محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع بها الرعايا البريطانيون.
ثانيًا: يؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النسب؛ فيتمتع الأولاد الذين يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم، ولا يحق اعتبارهم رعايا مصريين.
ثالثًا: تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع به القناصل الأجانب في إنجلترا.
رابعًا: المعاهدات والاتفاقات الحالية التي اشتركت مصر في التعاقد عليها في مسائل التجارة والملاحة، ومنها اتفاقات البريد والتلغراف تبقى نافذة المفعول، أما في المسائل التي ينالها مساس من جراء إبطال المحاكم القنصلية فتعمل مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية صاحبة الشأن مثل معاهدات تسليم المجرمين، وتسليم البحارة الفارين، وكذلك المعاهدات التي لها صبغة سياسية سواء أكانت معقودةً بين أطراف عدة، أم بين طرفين، مثال ذلك: اتفاقات التحكيم، والاتفاقات المختلفة المتعلقة بسير الحروب، وذلك ريثما تعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفًا فيها.
خامسًا: تضمن حرية بقاء المدارس وتعلم لغة الدولة الأجنبية صاحبة الشأن؛ بشرط أن تخضع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على المدارس الأوروبية في مصر.
سادسًا: تضمن أيضا حرية إبقاء، أو إنشاء معاهد دينية وخيرية كالمستشفيات إلخ.
وتنص المعاهدات أيضا على التغييرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى إبعاد العنصر الدولي من مجلس الصحة في الإسكندرية.
8.    التشريع الذي تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا العظمى وبين الدول الأجنبية يعمل به بمقتضى أوامر عالية تصدرها الحكومة المصرية، وفي الوقت نفسه يصدر أمر عال يقضي باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والقضائية التي اتُّخِذَتْ بمقتضى الأحكام العرفية صحيحةً.
9.    تقضي الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة على تخويل هذه المحاكم كل الاختصاص الذي كان إلى الآن مخولاً للمحاكم القنصلية الأجنبية، ويترك اختصاص المحاكم الأهلية بغير مساس به.
10.                       بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تبلغ بريطانيا العظمى نصها إلى الدول الأجنبية، وتعضد الطلب الذي تقدمه مصر للدخول كعضو في جمعية الأمم.
مسألة السودان
أما مسألة السودان فلم تطرح تحت البحث، ولكن الوفد قد حصل على تأكيدات تضمن الطمأنينة على مياه النيل لري الأراضي المصرية المزروعة الآن، والقابلة للزراعة في المستقبل.
مهمة أعضاء الوفد المنتدبين
وأما مهمة أعضاء الوفد المنتدبين، فبيانها أنه لما وصلت المفاوضات بين الوفد وبين لجنة اللورد ملنر إلى أن قدمت اللجنة هذه القواعد على أنها نهائية في الأساسات التي بنيت عليها، رأى الوفد أخذا بالأحوط واستمساكا برأي الوكالة على إطلاقه أن لا يبت في الموضوع برفضه أو بقبوله، بل رأى أن الحكمة تدعو إلى عرض الأمر على البلاد؛ فإذا قبلت البلاد أن هذه القواعد صالحة أساسا للمعاهدة دخلت المسألة في دورها النهائي، ووضعت معاهدة على القواعد المذكورة، وعرضت على الجمعية الوطنية التي هي صاحبة الرأي الأعلى في الأمر، ولها دون غيرها الكلمة الأخيرة في الموضوع، فبعد أن تدرس تفاصيل المعاهدة وصيغتها تقرر بقبولها أو برفضها.
***
الخطة
أما الخطة التي سيتبعها الأعضاء، والمندوبون في الاستشارة برأي الأمة فهي الاجتماع بأعضاء الهيئات ذات الصفة النيابية، وبالرجال أولي الرأي، وشرح أساسات المشروع لهم، وسماع رأيهم فيها، كما أنهم مستعدون لإعطاء جميع المعلومات، ولقبول جميع الآراء بالكتابة أو بالمشافهة، نرجو أن يسدد الله آراء أولي الرأي لمصلحة البلاد.
تحريرا في 25 ذي الحجة سنة 1338، و9 سبتمبر سنة 1920.
محمد محمود، أحمد لطفي السيد، عبد اللطيف المكباتي، علي ماهر، ويصا واصف، حافظ عفيفي، مصطفى النحاس.
وهنا نعود الوراء حوالي 40 سنة، فنقول: احتلت بريطانيا مصر في 1 ذي القعدة من سنة 1299=14 سبتمبر 1882، على إثر الثورة العرابية بطلب من الخديوي توفيق وبموافقة السلطان العثماني، بحجة حماية الرعايا الأوربيين من هجمات الغوغاء وعلى أن تعمل على إعادة الاستقرار، وأعلنت منذ الساعة الأولى عزمها على الجلاء بمجرد استقرار الحالة في مصر، وكررت هذا الوعد 65 مرة، ورغم التباين الهائل بين أقوى دولة في العالم وبين بلد كان ينوء تحت وطأة التخلف قروناً طويلة، إلا أن الروح الوطنية في مصر لم تقبل هذا الاحتلال وقاومته ما استطاعت، وكان مصطفى كامل الزعيم الأول الذي رفع راية الجهاد، ولما توفى سنة 1326=1908 في الرابعة والثلاثين من عمره، حمل الراية بعده الزعيم الوطني محمد بك فريد، فنفته بريطانيا في سنة 1912 وبقي في المنفى حتى وفاته في برلين سنة 1919 بعيداً عن الوطن الذي أحب.
وفي 1914 قامت الحرب العالمية الأولى بين ألمانيا والنمسا وتركيا في جانب، وبين بريطانيا وفرنسا في الجانب الآخر، ونالت مصر نصيبها من شدائد الحروب ومحنها، فأعلنت بريطانيا فيها الأحكام العرفية والعسكرية، وعزلت الخديو عباس الثاني لميوله العدائية نحو بريطانيا، وأعلنت الحماية البريطانية على مصر، وسيق قرابة مليون مصري لدعم الجيوش البريطانية والقتال إلى جانيها، ومات منهم كثيرون، وأبيح للقوات البريطانية أن تباشر جميع سلطات الحرب في أرض مصر وموانيها، وعم الغلاء نظراً لقدوم الجند من مختلف بلاد الإمبراطورية البريطانية، واستولت السلطات البريطانية على الحبوب والأقوات من المزارعين بأثمان حددتها، ولم تترك لهم ما يكفيهم من أقوات، بل وجمعت الدواب لتشغلها في النقل، كما كان على مصر أن تقدم ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه دعماً للمجهود الحربي البريطاني.
وكان الرأي العام في مصر يريد أن تقف مصر على الحياد في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، ولكن رئيس الوزراء حسين رشدي باشا اضطر مكرهاً في 5 أغسطس 1914 أن يعلن دخول مصر الحرب إلى جانب بريطانيا، ومقابل ذلك أعلنت بريطانيا الحماية على مصر.
ومع اقتراب الحرب من نهايتها زادت الأمال في مصر بالاستقلال، كيف لا وقد أعلن الرئيس الأمريكي ودرو ولسن في أول سنة 1918 مبادئه الأربعة عشر لحل النزاعات في العالم، والتي يقول المبدأ الخامس منها: تتم تسوية المطالب الاستعمارية بطريقة منفتحة محايدة لا قسر فيها، ويجري حل مسائل السيادة على أساس الالتزام الشديد بمبدأ أن يكون لمصالح الشعوب المعنية وزن مماثل لمطالب الحكومة التي وضعت يدها على أراضيهم. ويقول المبدأ الثاني عشر: يجب أن تمنح الأجزاء التركية من الإمبراطورية العثمانية تأكيدات بضمان استقلالها، ولكن الجنسيات الأخرى الواقعة حالياً تحت الحكم التركي يجب أن تمنح ضمانات بسلامة أهاليها وأن تفتح أمامها دون أية عوائق فرص التنمية الذاتية.
وقد ترجمت الشعوب الواقعة تحت الاستعمار هذه المبادئ على أنها تعني حق تقرير المصير لها بعد انتهاء الحرب، واعتقد المصريون أنه عندما تضع الحرب أوزارها سيطبق عليهم هذا المبدأ، لأن مصر قد وقفت بجانب الحلفاء، وضحت معهم بالمال والأبناء في الحرب التي أعلن الحلفاء أنهم ما قاموا بها إلا نصرةً للحرية وللديمقراطية وحماية للشعوب الصغيرة من الشعوب الكبيرة.
وفي أواخر سنة 1918 بدأ كبار المصريين ومفكروهم يتشاورون في موقف مصر وفي مصيرها، وكان من السباقين إلى هذا الأمير الفاضل عمر طوسون، حفيد الخديو سعيد والمولود سنة 1289=1872 والمتوفى سنة 1363=1944، وسعد زغلول باشا، فما أن مضى يومان على إعلان الهدنة في 11 نوفمبر 1918 إلا وكان سعد زغلول ورفيقاه عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي يدقون أبواب دار الحماية البريطانية، ويقابلون المندوب السامي البريطاني سير ريجنالد وِنجت ويطلبون منه رفع الأحكام العرفية والرقابة على الصحف، وعزمهم على السعي لاعتراف حكومته وغيرها باستقلال البلاد المصرية، وحرية المصريين، وكان السير وِنجت متعاطفاً مع المطالب المصرية، فاستمع لمطاليهم وناقشهم فيها، وبالطبع لم يعدهم بأكثر من أن سينقل طلباتهم إلى حكومته.
وبادر سعد وصحبه فأسسوا فيما بينهم الوفد المصري ووضعوا له نظاماً داخلياً وجعلوا مهمته: السعي بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلاً في استقلال مصر استقلالاً تاماً، وأخذ الوفد وثائق كثيرة من الألوف من المصريين الذين يمثلون الرأي العام المصري باستنابته عنهم، كأعضاء الجمعية التشريعية ومجالس المديريات والبلديات، وسائر طبقات الأهالي، وطفق يخاطب بذلك الحكومة البريطانية والرئيس ولسون، وسائر الدول بواسطة وكلائها السياسيين.
ثم عقد الوفد اجتماعا عامّاً في دار وكيله حمد باشا الباسل خطب فيه الرئيس والوكيل وغيرهم في بيان حقيقة المسألة المصرية، وما تطلبه البلاد من الاعتراف لها بالاستقلال، وأراد الرئيس عقد اجتماع آخر في داره، فمنعته السلطة العسكرية البريطانية من ذلك، ثم اعتقلته مع وكيل الوفد حمد الباسل وعضوين آخرين من أعضاء الوفد، هما: محمد باشا محمود سليمان وإسماعيل صدقي باشا، ونفتهم إلى مالطة في ربيع سنة 1919، فقامت مظاهرات ضخمة في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدائن، وهاج الفلاحون وقبائل العربان، وقطعوا أسلاك البرق وقلعوا خطوط حديد السكك، ودمروا بعض محطاتها، وصارت البلاد على وشك أن تندلع فيها ثورة عارمة، وسقط في هذه المظاهرات قرابة 1000 قتيل برصاص البريطانيين، واستقالت وزارة حسين رشدي باشا احتجاجا على نفي أعضاء الوفد، وتعذر على السلطة المحتلة تأليف وزارة جديدة.
وكان حسين رشدي قد طلب قبل ذلك كله من الحكومة البريطانية الإذن له، ولعدلي باشا وزير المعارف بالسفر إلى لندن لمفاوضة أولي الأمر فيها بما سيكون عليه شكل الحكومة بعد الحرب التي قدمت فيها مصر ما أسلفنا من جهود، ولكن الحكومة البريطانية أرجأت طلب الوزيرين أولاً، ثم رغبت في أن يسافرا لعل ذلك يمتص النقمة الشعبية، فأبيا إلا أن تأذن للوفد المصري بالسفر أيضا، فصدر الأمر من لندن بالإذن لهما ولمن شاء من المصريين، ومنهم الأربعة المعتقلون في مالطة.
ولما صدر أمر الحكومة البريطانية بالإذن للزعماء الأربعة، ولمن شاء غيرهم بالسفر إلى حيث شاءوا من أوربا، سافر الأربعة إلى فرنسا بغرض إثارة قضية استقلال مصر في مؤتمر الصلح وأمام عصبة الأمم، فقد بعثت مبادئ الرئيس ويلسون في بعض الأمم المغلوبة شيئاً من الأمل، ولكن ذلك الأمل كان وهماً، وعبثاً كان احتجاج سعد زغلول باشا على نصوص معاهدة الصلح التي تقر الحماية البريطانية على مصر رغم إرادتها؛ وأقرت المعاهدة نظام الانتداب الذي وضعه الحلفاء لتقسيم البلاد العربية وحكمها رغم العهود الصريحة التي قطعت خلال الحرب بمعاهدات ووثائق رسمية، وأقرت عهد بلفور وما ترتب عليه من إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ولم تكن لجنة الانتدابات الدائمة بالعصبة إلا سيف المستعمر الشرعي مصلتاً على رقاب الأمم الواقعة تحت الانتداب، وإزاء هذه الأبواب الموصودة اتجه سعد زغلول وصحبه إلى الاتصال بالصحف والسياسيين وحققوا بعض النتائج المتواضعة.
وفي خطوة معاكسة لهم قررت الحكومة البريطانية أن ترسل إلى مصر وفدا يرأسه اللورد مِلْنَر للتشاور مع المصريين في وضع نظام لاستقلال إداري واسع مع بقاء الحماية البريطانية، ولكن أنصار الوفد بثوا الدعوة في طول البلاد وعرضها إلى رفض هذا الوفد ووجوب مقاطعته، وإعلامه بأن الأمة مجمعة على تفويض أمرها إلى الوفد الذي يرأسه سعد باشا زغلول، ورغم وجود عدد من السياسيين كانوا يرون أن البحث مع لجنة ملنر مفيد، وأن مقاطعتها ضارة، ولكنهم لم يستطيعوا مخالفة الأكثرية الساحقة، وفشلت مهمة اللجنة وكان قصارى ما استطاعه اللورد ملنر أن يلتقي مع بعض كبار القوم والحديث معهم بصفة غير رسمية، فزار شيخ الجامع الأزهر، ومفتي الديار المصرية، وغيرهم، وأجمعوا كلهم أن الشعب فد فوض الوفد المصري بطلب الاستقلال التام فلا بد من مراجعته في ذلك.
وعادت لجنة ملنر إلى بريطانيا واتصلت بسعد باشا للتباحث في أمر المسألة المصرية، فاشترط سعد باشا أن تجري المباحثات حول استقلال مصر استقلالاً تامًا ورفع الحماية عنها مع ضمان مصالح إنكلترة فيها، فاتفقا على ذلك، وجاء سعد ووفده إلى لندن وعقد الطرفان جلسات كثيرة سرية، تمخضت عن قواعد للاتفاق لم يقبلها الوفد المصري؛ لأنها لا تضمن الاستقلال التام المطلق الذي وكلته البلاد بطلبه، ولم يرفضها؛ لأن فيها استقلالاً تامًّا لكنه مقيد بمعاهدة تضمن لبريطانيا حقوقا عظيمةً تقيد مصر بقيود ثقيلة، وتسكت عن إلحاق السودان بمصر، فارتأى الوفد أن يرسل أربعة مندوبين لاستشارة الأمة والاستنارة برأيها في مشروع هذه المعاهدة، فإن قبل الرأي العام أن تكون هذه القواعد أساسا لوضع المعاهدة بين الحكومتين استأنف الوفد المذاكرة مع لجنة ملنر لوضعها؛ على أنه يشترط لقبولها نهائيا موافقة البرلمان البريطاني عليها، وموافقة مجلس منتخب من الأمة المصرية عليها من قبل مصر.
استقبلت الأمة المصرية مندوبي وفدها في الإسكندرية، و القاهرة بحفاوة عظيمة، وقد نشروا عليها ما جاؤوا به من قواعد الاتفاق، ووقفوا على الرأي العام فيها بالمذاكرات الشفوية مع الجماعات التي تمثل طبقات الأمة، ومع الأفراد الكثيرين من الأفراد المشهورين، وبما نشروا في الجرائد، وأصدروا البيان الذي بدأنا به، والذي يمتاز بصراحته وتفصيله.
ولكن هذه الوحدة الشعبية وراء الوفد وزعيمه سعد باشا زغلول، كانت تخفي وراءها بوادر تفرق وانقسام ظهرت في غضون مفاوضات لندن، فقد كان سعد زغلول رجلاً صلب المراس يرى أن أخذ بعض المغصوب قد يتضمن الاعتراف للغاصب بالبعض الآخر، فالواجب الانتظار لأخذ الحق كله ولو بعد حين، واستقر رأيه على أن العرض البريطاني حماية مقنعة، لا يجوز قبوله أساسا للمفاوضات إلا إذا ألغيت الحماية وقبلت التحفظات التي وضعها الوفد بعد مشاورة الأمة والاطلاع على رأيها.
وفي المقابل كان عدلى باشا يكن وعدد من أعضاء الوفد يرى أن كل ما يؤخذ من الغاصب فهو ربح، وأن المقترحات البريطانية جديرة بأن تكون أساساً لاتفاق بين بريطانيا ومصر، وأنه يمكن تعديل بعض ما يشتد سعد باشا في إنكاره منه، وكان سعد زغلول شديد الشكيمة حديد المزاج إذا غضب جرح فأدمى، وعدلي باشا رقيق الطبع من أبعد الناس عن الخصام، فتطور الخلاف بينهما وغادر الوفد خمسة من المشايعين لعدلي وعادوا إلى مصر ليستقبلهم أنصار الوفد أسوأ استقبال مشوبًا بالوعيد والنذر، ولكن لم يمنعهم ذلك من بث الدعوة لعدلي باشا والطعن في سعد باشا والتنفير والصد عنه، وكان منهم الغالي والمعتدل في ذلك، وللدلالة على حجم الانشقاق نذكر أن أكبر أعضاء الوفد انشقوا عن سعد ومنهم محمد محمود باشا الذي صار رئيس حزب الأحرار الدستوريين، وأحمد لطفي السيد، وعلي ماهر باشا، ومحمد حافظ عفيفي، وعبد العزيز فهمي، وأمين الرافعي، وإسماعيل صدقي، وأغلب من ذكرنا صار رئيس وزراء مصر فيما بعد.
وكان قد تم الاتفاق أثناء المفاوضات أن يشكل عدلي باشا بعد عودته إلى مصر وزارة تتولى المفاوضات الرسمية ثم توقيع اتفاقية بين بريطانيا العظمى ومصر على أساس تقرير لجنة ملنر بشرط إلغاء الحماية فقط، وفعلاً ألف عدلي باشا الوزارة، وذكر في بيانها الأول: ستجعل نصب عينيها ... الوصول إلى اتفاق لا يجعل محلاًّ للشك في استقلال مصر، وستجري في هذه المهمة متشبعة بما تتوق إليه البلاد ومسترشدة بما رسمته إدارة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض. وأعطت هذه الكلمات المبهمة انطباعاً أن الحكومة تؤيد الوفد وتعمل معه، فلقيت القبول الشعبي والتأييد العام، وبخاصة للأخلاق الرفيعة التي كان يتمتع بها عدلي باشا.
وطلب عدلي باشا من سعد زغلول الحضور من باريس إلى مصر للتعاون معها، فعاد وسط مظاهر الحفاوة والتكريم وإعلان الثقة به في المحافل العامة والمآدب الخاصة، ولكن هذا الإجماع كان يخفي وراءه ضغائن أعضاء الوفد الذين عادوا من أوربا مغاضبين، وبعض الحاسدين الذين زادهم ما رأوا حسدا، وما لبث الاستقطاب أن اتضح بين سعد زغلول من جهة وبين عدلي يكن باشا ووزارته والبريطانيين من جهة أخرى، فوقع بذلك الشقاق وتصدعت وحدة الشعب المصري فصار فريقين؛ الفريق الأكبر فريق سعد باشا يستمد قوته من الرأي العام الشعبي، وفريق عدلي باشا يستمد قوته من موقعه على رأس الحكومة ومن تأييد السلطة البريطانية، وكان محور التنازع: رئاسة الوفد الرسمي الذي يتولى عقد الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر.
وتحول النزاع إلى اتهامات مبتذلة تبادلها طرفاها، فاتهم العدليون سعدًا بأنه يحب الرئاسة، وردّّ سعد باشا أنه يجب أن يكون هو رئيس الوفد لأنه ممثل الأمة التي وعدت الحكومة باتباع إرادتها في قضيتها السياسية، واتهم وزارة عدلي يكن باشا أنها ليست إلا واجهة للسلطة البريطانية، وقال كلمته اللاذعة: جورج الخامس يفاوض جورج الخامسّ
والحق أن فرصة سعد كانت ضعيفة جداً في أن ينال ثقة السلطان فؤاد، الملك فؤاد فيما بعد، ليجعله رئيساً للوزراء ويسلمه قياد إدارة المفاوضات مع البريطانيين، فقد كانت علاقته بالسلطان ضعيفة جداً، بل إن سعد باشا لم يزر السلطان عقب عودته ولو للمجاملة كما كانت تقتضي الأصول، فقد اعتبر التفويض الشعبي أقوى من كل الاعتبارات.
واختلطت نوازع الخصومة الشخصية بمقتضيات المصلحة الوطنية، ووجه سعد باشا كل سطوته الشعبية إلى إحباط المفاوضات وإسقاط عدلي باشا، فأضعف موقفه إزاء المستعمر البريطاني، وكان يكفيه ألا يؤيده، ولا يشاركه في المفاوضات ويقف له بالمرصاد، فإن جاء الاستقلال التام الذي يرضاه هو والأمة لم يكن عليه أدنى غضاضة في قبول ذلك وتوجيه نفوذ زعامته إلى النهوض بأعباء هذا الاستقلال الذي يشهد الجميع بأنه حجر الزاوية له، وإن جاءت المفاوضات بحماية مقنعة أو استقلال صوري، رفض هذا الاتفاق بما له من نفوذ شعبي واسع.
وزاد الهوة بين الطرفين وما لقياه من تأييد من عامة الشعب، أن عدلي باشا كان على أخلاقه الرفيعة وخصاله التي حازت الإعجاب، لم يؤت طلاقة اللسان في الخطابة، أو بلاغة القول في الكتابة، ولم يكن بطبعه قائداً مؤثراً، بل كان من أسرة تلي أسرة محمد علي في الحكومة المصرية، وسيتولى رئاسة الوزارة مرتين أخريين في سنتي 1926 و1929 وتوفي سنة 1933.
أما سعد زغلول فكان من بيت وسط من مديرية الغربية، طلب في حداثته العلم في الأزهر، واتصل بالإمام محمد عبده، وشارك في الثورة العرابية، فهو قد نشأ وترعرع وشب في حِجر العلم والسياسة والتغيير الفكري والاجتماعي والسياسي، وكان عندما اشتغل بالمحاماة يقبل الوكالة في دعوى يرى أن صاحبها مبطل، ولما صار قاضيًا في أعلى مناصب القضاء الأهلي، اشتهر بدقته في التحقيق، واستقلاله في الرأي، وعدله في الأحكام، ثم صار وزيرا للمعارف ثم وزيرا للعدل، ثم وكيلاً منتخبا للجمعية التشريعية، ورغم تقلبه في هذه المناصب إلا أنه كان معروفاً بافتقاده للمرونة السياسية التي تتطلب سعة الصدر والحلم والمداراة والتمويه والخداع والكلام الغامض الذي يحتمل التأويلات الكثيرة، وهو لغلبة روح القاضي عليه لا يبالي بمن خالفه فيما يعتقد ولا يحفل بعداوته له مهما يكن عظيما، وزاد خصومه فقالوا إنه مستبد لا يخضع للشورى، وإن العمل معه صار متعذرا.
وبسبب هذه المعارضة العنيدة نفت سلطات الاحتلال البريطاني سعد زغلول إلى جزر سيشل سنة 1922، وتابع المنشقون عن سعد زغلول مفاوضاتهم مع بريطانيا التي تكللت في آذار/مارس 1922 بأن قامت بريطانيا برفع الحماية عن مصر والاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة، وأوقفت العمل بالأحكام العرفية تمهيداً لإجراء انتخابات نيابية، ورغم هذه الإنجازات الكبيرة بقي الرأي العام الشعبي في مجمله مع سعد زغلول وأنصاره، واعتبر كل ما جرى خداعا بريطانيا لأن من أنجزه هو من المعدودين في أصدقاء البريطانيين.
وما لبثت بريطانيا أن سمحت لسعد زغلول بالعودة إلى مصر وشارك في انتخابات 1924 وكان خصمه فيها الحزب الوطني والحزب الدستوري، ولكنه فاز بأغلب المقاعد فكلفه الملك فؤاد بتشكيل الوزارة في كانون الثاني/يناير 1924،  ورئاسة مجلس النواب سنة 1925 و 1926 وتوفي بالقاهرة سنة 1927.
صورة من شقاق بين قادة مصر في العصر الحديث، باض فيه الشيطان وفرخ، فتوالت الانقسامات والانشقاقات والاستقواء بالمستعمر، وخسرت مصر وحدة في الشعور الوطني لم يسبق لها مثيل في تاريخها، وبقي للمستعمر البريطاني فيها نفوذ وقوة، وما أشبه اليوم بالبارحة.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer