الجمعة، 16 أكتوبر 2015

حدث في الرابع من المحرم

في الرابع من المحرم من سنة 554 ولد في بغداد يعقوب بن صابر الـمَنجنيقي الشاعر الأديب والخبير العسكري.
ولد أبو يوسف نجم الدين يعقوب بن صابر بن بركات في بغداد، وأصل أسرته من حرّان، وهي اليوم Harran جنوبي أورفا في جنوب تركيا، وعمل في صناعة المنجنيقات، والمنجنيق كلمة معربة أصلها اليوناني اللاتيني Mangonel، وهي آلة تقذف الحجارة على المعاقل من أجل أن تدكها، أو ترمي شعلة من نار حتى تشب النار في الموضع المحاصر، وكانت المنجنيق على مر العصور القديمة من أهم آلات الحصار ودكّ القلاع والحصون، ويتراوح ضخامة وتعقيداً، فمنه ما كان ينصب على المآذن، ومنه ما كان يحتاج إلى مئتي جمل لحمل أجزائه، ولما انتزع السلطان المملوكي الملك الأشرف خليل بن قلاوون الصالحي عكا من الإفرنج سنة 690، وعمره 24 عاماً، حاصرها 44 يوماً ونصب عليها 82 منجنيقاً.
عمل يعقوب المنجنيقي في صناعة المنجنيق، وتقدم فيها حتى صار مقدم المنجنيقيين في بغداد، ولم يلحقه أحد من أبناء زمانه في درايته وفهمه لذلك، وإلى خبرته العملية كان يعقوب المنجنيقي واسع الأفق موسوعي التفكير، فألف كتابا سماه عمدة السالك في سياسة الممالك، ورتبه أبواباً، كل باب منه يشتمل على فصول، ويتضمن الكتاب أحوال الحروب وتعبئة الجيوش، وفتح الثغور، وبناء المعاقل، وأساليب الفروسية وحيلها، والهندسة وحصار القلاع والرياضة الميدانية والحيل الحربية، وفنون العلاج بالسلاح، وعمل أداة الحرب والكفاح، وصنوف الخيل وصفتها. ولم يتم يعقوب تأليف هذا الكتاب فلعله ألفه في أواخر حياته المديدة رحمه الله تعالى.
وكان شيخاً هشاً مليحاً لطيفاً فكهاً طيب المحاورة، شريف النفس متواضعاً، فيه تودد وبشر وسكون، وعلى عادة اهل الفضل في ذلك الزمان، سمع المنجنيقي الحديث في صغره من أبي المظفر هبة الله بن عبد الله ابن السمرقندي المتوفى سنة 563، وروى هو وحدَّث.
وأدركته حرفة الأدب، واشتهر بالشعر، وكان شاعراً مكثراً مجيداً ذا معان مبتكرة، مليح الشعر لطيفه، ذا معان مطبوعة، وألفاظ سهلة، وجمع من شعره كتاباً مختصراً سماه مغاني المعاني، ومدح الخلفاء، وكانت له منزلة عند الخليفة العباسي الناصر لدين الله المتوفى سنة 622 والذي تولى الحكم سنة 575 فدامت خلافته 47 عاماً.
وكان يعقوب بن صابر المنجنيقي كثير الدخول على الوزير ناصر بن مهدي الحسني وزير الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وكان الوزير في بداية تعيينه يأمر حجابه بإدخاله عليه دون تأخير، ثم أمرهم بعد فترة أن يُـجلَس ظاهرَ الستر، فقال ابن صابر المنجنيقي:
قولوا لمولانا الوزير الذي ... أضاع ودي ونوى هجري
وصرتُ إن جئتُ إلى بابه ... أجلسني في ظاهر الستر
إن كان ذنبي إنني شاعرٌ ... فاصفح فقد تبت من الشعر
ثم انقطع عنه مدة، فلما دخل إليه أنكر عليه انقطاعه، فقال:
وقالوا قد صددت وملت عنا ... فقلت أبيت تكرار المحال
أنفت من الوداد إلى إناس ... رأوا حالي ولم يرثوا لحالي
ثم هجاه فقال:
ألا مبلغٌ عني الخليفة أحمداً ... توقَّ وُقيتَ السوءَ ما أنت صانعِ
وزيرُك هذا بين أمرين فيهما ... صنيعك يا خير البرية ضائع
لئن كان حقا من سلالة أحمد ... فهذا وزير في الخلافة طامع
وأن كان فيما يدعي غير صادق ... فأضْيَعُ ما كانت لديه الصنائع
وقد عزا بعضهم إلى هذه الأبيات قِصَرَ ولاية الوزير التي دامت أقل من سنتين.
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: وكانت أخباره في حياته متواصلة إلينا وأشعاره تنقلها الرواة عنه، ويحكون وقائعه وما جراياته وما ينظُم في ذلك من الأشعار الرائقة والمعاني البديعة، ولم تتفق لي رؤيته مع المجاورة وقرب الدار من الدار، لأنه كان ببغداد ونحن بمدينة إربل، وهما متجاورتان، لكن لكثرة اطلاعي على أخباره وما يتفق له من النظم المنقول عنه في وقته كأني كنت معاشره، وما زلت مشغوفاً بشعره مستعذباً أسلوبه فيه، واجتمعت بخلق كثير من أصحابه والناقلين عنه، منهم صاحبنا الشيخ عفيف الدين أبو الحسن علي بن عدلان المعروف بالمترجم الموصلي، فإنه أنشدني له شيئاً كثيراً
ثم أورد ابن خلكان قوله يندب حظه إذ لم يتذوق الناس شعره فهم وأسوار القلاع الصماء سواء:
كَلِفتُ بعلم المنجنيق ورميه ... لهدم الصياصي وافتتاح الـمَرابطِ
وعُدت إلى نظم القريض لشِقوتي ... فلم أخلُ في الحالين من قصد حائط
وأورد له أيضاً في ألا يغتر الإنسان بسكون عدوه:
لا تكن واثقاً بمن كظم الغيظَ اغتيالاً وخفْ غِرارَ الغَرور
فالظِبا المرهفات أقتلُ ما كانت إذا غاض ماؤها في الصدور
وأورد له أيضاً في جارية سوداء كان يهواها، وهي حبشية:
وجارية من بنات الحبوش ... وذات جفون صحاح مِراضِ
تعشقتها للتصابي فشِبتُ ... غراماً ولم أك بالشيب راض
وكنت أعيّرها بالسواد ... فصارت تعيرني بالبياض
ولابن صابر أبيات في ذم الشيب:
قالوا بياضُ الشيب نورٌ ساطع ... يكسو الوجوه مهابة وضياءَ
حتى سَرَت وخطاتُه في مفرقي ... فوددت أن لا أفقد الظلماء
وعدلت أستبقي الشباب تعللا ... بخضابها فصبغتها سوداء
لو أن لحية من يشيب صحيفةٌ ... لـمَعاده ما اختارها بيضاء
وأنشد في جماعة من الصوفية أضافهم فأكلوا جميع ما قدمه لهم فكتب إلى شيخهم يذكر حاله معهم:
مولاي يا شيخ الرباط الذي ... أبان عن فضل وعلياء
إليك أشكو جور صوفية ... باتوا ضيوفي وأودائي
أتيتهم بالزاد مستأثراً ... وبت تشكو الجوع أحشائي
مشوا على الخبز ومن عادة ... الزهاد أن يمشوا على الماء
وهم إلى الآن ضيوفي فجُدْ ... لهم بخبز وبحلواء
أو لا فخُذهُم واكفِنيهمُ فما ... يُحسن في مثلهم رائي
ولما كبر ابن صابر وضعفت حركته صار إذا مشى يتوكأ على عصا، فقال في ذلك:
ألقيت عن يدي العصا ... زمن الشبيبة للنزول
وحملتها لما دعا ... داعي المشيب إلى الرحيل
وكان ببغداد شخص يقال له ابن بشران، وكان كثير الأراجيف، فمُنِعَ من ذلك، فقعد على الطريق ينجم، فقال فيه ابن صابر:
إن ابن بشران ولست ألومه ... من خيفة السلطان صار منجماً
طُبِعَ المشومُ على الفضول فلم يُطق ... في الأرض إرجافاً فأرجف في السما
ومما كتب به ابن صابر إلى بعض الرؤساء ببغداد يشكره على معروف أسداه إليه:
ما جئت أسألك المواهب مادحاً ... إني لما أوليتني لشكورُ
لكن أتيتُ عن المعالي مخبراً ... لك أنَّ سعيك عندها مشكور
ومن أحسن شعره قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي:
هل لمن يرتجي البقاءَ خلودُ ... وسوى الله كل شئ يبيدُ
والذي كان من تراب وإن ... عاش طويلا إلى التراب يعود
فمصير الأنام طُرَّاً إلى ما ... صار فيه آباؤهم والجدود
أين حواء أين آدم إذ فاتهم الخلد والثوى والخلود؟
أين هابيل أين قابيل إذ هذا لهذا معاند وحسود؟
أين نوح ومن نجا معه بالفلك والعالَـمون طُرّاً فقيد
أسلمته الأيام كالطفل للموت ولم يغن عمره الممدود
أين عادٌ؟ بل أين جنة عاد ... أم تُرى أين صالح وثمود؟
أين إبراهيم الذي شاد بيت الله فهو المعظم المقصود
أين إسحاق أين يعقوب أم أين بنوه وعَدُّهم والعديد
حسدوا يوسفا أخاهم فكادوه ومات الحاسدون والمحسود
وسليمان في النبوة والملك ... قضى مثل ما قضى داود
فغدوا بعد ما أطاع لذا الخلق وهذا له ألين الحديد
وابن عمران بعد آياته التسع وشقِّ الـخِضَمِّ فهو صعيد
والمسيح ابن مريم وهو روح الله كادت تقضي عليه اليهود
وقضى سيد النبيين والهادي إلى الحق أحمدُ المحمود
وبنوه وآله الطاهرون الزهر صلى عليهم المعبود
ونجوم السماء منتثرات ... بعد حين وللهواء ركود
ولنار الدنيا التي توقد الصخر خمود وللماء جمود
وكذا للثرى غداة يؤم الناس منها تزلزل وهمود
هذه الأمهات نار وترب ... وهواء رطب وماء برود
سوف يفنى كما فنينا فلا ... يبقى من الخلق والد ووليد
لا الشقي الغوي من نُوَب الأيام ينجو ولا السعيد الرشيد
ومتى سلت المنايا سيوفا ... فالموالي حصيدها والعبيد
توفي ابن صابر  في بغداد في الثامن والعشرين من صفر لسنة 626 عن 82 عاماً، رحمه الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer