الجمعة، 25 سبتمبر 2015

حدث في الحادي عشر من ذي الحجة


في الحادي عشر من ذي الحجة لعام 207 توفي في بغداد، عن 77 سنة، أبو عبد الله الواقدي، محمد بن عمر بن واقد السهمي الواقدي المدني ثم البغدادي، العالم المؤرخ والراوية الكبير.

ولد الواقدي في المدينة المنورة في سنة 130 وطلب العلم وهو صغير، فسمع من صغار التابعين فمن بعدهم، وكان معروفاً بطلب العلم، قال الواقدي : كانت ألواحي تضيع، فأوتى بها من شهرتها بالمدينة، يقال: هذه ألواح ابن واقد .

وكان الواقدي في طلبه للعلم فريداً في منهجه العلمي في معايشة الأحداث التاريخية التي يؤرخ لها أو يروي تفاصيلها، قال: ما أدركت رجلاً من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألته: هل سمعت أحداً من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، ولقد مضيت إلى المريسيع فنظرت إليها، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع حتى أعاينه. قال أحد أصحابه: رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة، فقلت: أين تريد؟ فقال: أريد أن أمضي إلى حُنين حتى أرى الموضع والوقعة.

حدث الواقدي عن خلق كثير من كبار االعلماء إلى عامة الناس، ومن أبرز من روى عنهم الإمام محمد بن عجلان القرشي المدني المتوفى سنة 148، وكان فقيها مفتيا، عابدا صدوقا، كبير الشأن، له حلقة كبيرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ عن ابن جريج، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، الإمام العلامة، شيخ الحرم المكي، وصاحب التصانيف، وأول من دون العلم بمكة، المولود سنة 80 والمتوفى سنة 150، وعن ابن أبي ذئب، محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، الإمام المدني الفقيه، الورع القوال بالحق، المولود سنة 80 والمتوفى سنة 158، قال الواقدي عن شيخه: كان يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غدا، ما كان فيه مزيد من الاجتهاد، وكان من رجال الناس صرامة وقولا بالحق، دخل مرة على والي المدينة؛ عبد الصمد بن علي عم المنصور، فكلمه في شئ، فقال له عبد الصمد بن علي: إني لأراك مرائيا! فأخذ عودا وقال: من أرائي؟ فوالله للناس عندي أهون من هذا.

كان الواقدي على جلالته في العلم يعمل في تجارة القمح في المدينة المنورة، ولما حج هارون الرشيد وزار المدينة المنورة، قال لوزيره يحيى بن خالد البرمكي: ابغ لي رجلا عارفا بالمدينة والمشاهد، وكيف كان نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أي وجه كان يأتيه، وقبور الشهداء. فسأل يحيى الناس فكلهم دلوه على الواقدي، قال الواقدي: فبعث إلي فأتيته، فواعدني إلى عشاء الآخرة، فلما صليت عشاء الآخرة إذ أنا بالشموع قد خرجت وإذا أنا برجلين على حمارين، فقال يحيى: أين الرجل؟ فقلت: ها أنذا. فأتيت به إلى دور المسجد فقلت: هذا الموضع الذي كان جبريل يأتيه. فنزلا عن حماريهما فصليا ركعتين ودعوا الله ساعة ثم ركبا وأنا بين أيديهما، فلم أدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلا مررت بهما عليه، فجعلا يصليان ويجتهدان في الدعاء، فلم نزل كذلك حتى وافينا المسجد وقد طلع الفجر وأذن المؤذن. فلما صارا إلى القصر قال لي يحيى بن خالد: أيها الشيخ لا تبرح. فصليت الغداة في المسجد، وهو على الرحلة إلى مكة، فأذن لي يحيى بن خالد عليه بعد أن أصبحت، فأدنى مجلسي وقال لي: إن أمير المؤمنين أعزه الله لم يزل باكيا، وقد أعجبه ما دللته عليه، وقد أمر لك بعشرة آلاف درهم. فإذا بدرة مبدرة قد دفعت إلي، وقال لي: يا شيخ خذها مبارك لك فيها، ونحن على الرحلة اليوم، ولا عليك أن تلقانا حيث كنا واستقرت بنا الدار إن شاء الله. ورحل أمير المؤمنين وأتيت منزلي ومعي ذلك المال، فقضينا منه دينا كان علينا، وزوجت بعض الولد، واتسعنا.

ثم قدم الواقدي من المدينة إلى العراق في سنة 180 بسبب دين ركبه، يقصد الوزير يحيى بن خالد البرمكي بدالّة أنه كان دليله في زيارة مشاهد المدينة، قال الواقدي: كنت حنّاطاً بالمدينة في يدي مئة ألف درهم للناس أضارب بها، فتلفت الدراهم، وأعضنا الدهر، فقالت لي أم عبد الله: ما قعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن تصير إليه حيث استقرت به الدار؟ فرحلت من المدينة وأنا أظن القوم بالعراق، فأتيت العراق فسألت عن خبر أمير المؤمنين فقالوا لي: هو بالرقة. فأردت العودة إلى المدينة، ثم نظرت فإذا أنا بالمدينة مختل الحال، فحملت نفسي على أن أصير إلى الرقة، فصرت إلى موضع الكِرى فإذا أنا بعدة فتيان من الجند يريدون الرقة، فلما رأوني قالوا: أيها الشيخ أين تريد؟ فخبرتهم بخبري وأني أريد الرقة، فنظرنا في كرى الجمالين فإذا هي تضعف علينا، فقالوا: أيها الشيخ هل لك أن تصير إلى السفن فهو أرفق بنا وأيسر علينا من كرى الجمال؟ فقلت لهم: ما أعرف من هذا شيئا والأمر إليكم. فصرنا إلى السفن فاكترينا، فما رأيت أحدا كان أبر بي منهم ولا أشفق ولا أحوط، يتكلفون من خدمتي وطعامي ما يتكلفه الولد من والده، حتى صرنا إلى موضع الجواز بالرقة، وكان الجواز صعبا جدا، فكتبوا إلى قائدهم بعِدادهم وأدخلوني في عدادهم، فمكثنا أياما ثم جاءنا الإذن بأسمائنا فجزت مع القوم فصرت إلى موضع لهم في خان نزول، فأقمت معهم أياما وطلبت الإذن على يحيى بن خالد فصعب علي، فأتيت أبا البختري ، وهب بن وهب، وهو بي عارف، فلقيته فقال لي: يا أبا عبد الله أخطأت على نفسك وغررت ولكن لست أدع أن أذكرك له. وكنت أغدو إلى بابه وأروح، فقلت نفقتي واستحييت من رفقائي وتخرقت ثيابي وأيست من ناحية أبي البختري.

فلم أخبر رفقائي بشيء، وعدت منصرفا إلى المدينة، فمرة أنا في سفينة، ومرة أمشي، حتى وردت وردت السَّيلحين على ثلاثة فراسخ من بغداد،. فبينا أنا مستريح في سوقها إذا أنا بقافلة من بغداد، فسألت من هم فأخبروني أنهم من أهل مدينة الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأن صاحبهم بكار الزبيري أخرجه أمير المؤمنين ليوليه قضاء المدينة، والزبيري أصدق الناس لي. فقلت أدعه حتى ينزل ويستقر ثم آتيه. فأتيته بعد أن استراح وفرغ من غدائه، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت عليه فقال لي: يا أبا عبد الله ماذا صنعتَ في غيبتك؟ فأخبرته بخبري وبخبر أبي البختري، فقال لي: أما علمت أن أبا البختري لا يحب أن يذكرك لأحد ولا ينبه باسمك، فما الرأي؟ فقلت: الرأي أن أصير إلى المدينة. فقال: هذا رأي خطأ. خرجتَ من المدينة على ما قد علمت، ولكن الرأي أن تصير معي فأنا الذاكر ليحيى أمرك. فركبت مع القوم حتى صرت إلى الرقة، فلما عبرنا الجواز قال لي: تصير معي. فقلت: لا، أصير إلى أصحابي وأنا مبكر عليك غدا لنصير جميعا إلى باب يحيى بن خالد إن شاء الله.

فدخلت على أصحابي فكأني وقعت عليهم من السماء، ثم قالوا لي: يا أبا عبد الله ما كان خبرك فقد كنا في غم من أمرك؟ فخبرتهم بخبري، فأشار عليّ القوم بلزوم الزبيري وقالوا: هذا طعامك وشرابك لا تهتم له. فغدوت بالغداة إلى باب الزبيري فخبرت بأنه قد ركب إلى باب يحيى بن خالد، فأتيت باب يحيى بن خالد فقعدت مليا، فإذا صاحبي قد خرج فقال لي: يا أبا عبد الله أُنسيتُ أن أذاكره أمرك، ولكن قف بالباب حتى أعود إليه. فدخل ثم خرج إلي الحاجب فقال لي: ادخل. فدخلت عليه في حالة خسيسة، وذلك في شهر رمضان وقد بقي من الشهر ثلاثة أيام أو أربعة. فلما رآني يحيى بن خالد في تلك الحال رأيت أثر الغم في وجهه، وسلّم علي وقرّب مجلسي، وعنده قوم يحادثونه. فجعل يذاكرني الحديث بعد الحديث فانقطعت عن إجابته وجعلت أجيء بالشيء ليس بالموافق لما يسأل، وجعل القوم يجيبون بأحسن الجواب وأنا ساكت، فلما انقضى المجلس وخرج القوم خرجت، فإذا خادم ليحيى بن خالد قد خرج فلقيني عند الستر فقال لي: إن الوزير يأمرك أن تفطر عنده العشية. فلما صرت إلى أصحابي خبرتهم بالقضية وقلت: أخاف أن يكون غلط بي. فقال لي بعضهم: هذه رغيفان وقطعة جبن، وهذه دابتي تركب والغلام خلفك، فإن أذِن لك الحاجب بالدخول دخلت ودفعت ما معك إلى الغلام، وإن تكن الأخرى صرتَ إلى بعض المساجد فأكلت ما معك، وشربت من ماء المسجد. فانصرفت فوصلت إلى باب يحيى بن خالد وقد صلى الناس المغرب، فلما رآني الحاجب قال: يا شيخ أبطأت! وقد خرج الرسول في طلبك غير مرة. فدفعت ما كان معي إلى الغلام وأمرته بالمقام. فدخلت فإذا القوم قد توافوا، فسلمت وقعدت، وقدم الوضوء فتوضأنا وأنا أقرب القوم إليه، فأفطرنا وقربت عشاء الآخرة فصلى بنا ثم أخذنا مجالسنا، فجعل يحيى يسألني وأنا منقطع والقوم يجيبون بأشياء هي عندي على خلاف ما يجيبون، فلما ذهب الليل خرج القوم وخرجت خلف بعضهم فإذا غلام قد لحقني فقال: إن الوزير يأمرك أن تصير إليه قابلة قبل الوقت الذي جئت فيه يومك هذا. وناولني كيسا ما أدري ما فيه إلا أنه ملأني سرورا.

فخرجت إلى الغلام فركبت ومعي الحاجب حتى صيرني إلى أصحابي، فدخلت عليهم فقلت: اطلبوا لي سراجا، ففضضت الكيس فإذا دنانير، فقالوا لي: ما كان رده عليك؟ فقلت: إن الغلام أمرني أن أوافيه قبل الوقت الذي كان من ليلتي هذه. وعددت الدنانير فإذا خمسمئة دينار. فقال لي بعضهم: عليَّ شراء دابتك، وقال آخر: عليَ السرج واللجام وما يصلحه، وقال آخر: عليَ حمامك وخضاب لحيتك وطيبك، وقال آخر: عليَ شراء كسوتك فانظر في أي الزي القوم. فعددت مئة دينار فدفعتها إلى صاحب نفقتهم فحلف القوم بأجمعهم أنهم لا يرزؤوني دينارا ولا درهما، وغدوا بالغداة كل واحد على ما انتدب لي فيه، فما صليت الظهر إلا وأنا من أنبل الناس.

وحملت باقي الكيس إلى الزبيري فلما رآني بتلك الحال سر سرورا شديدا، ثم أخبرته الخبر فقال لي: إني شاخص إلى المدينة. فقلت: نعم إني قد خلفت العيال على ما قد علمت. فدفعت إليه مئتي دينار يوصلها إلى العيال، ثم خرجت من عنده فأتيت أصحابي بجميع ما كان معي من الكيس، ثم صليت العصر فتهيأت بأحسن هيئة، ثم حضرت إلى باب يحيى بن خالد. فلما رآني الحاجب قام فأذن لي فدخلت على يحيى فلما رآني في تلك الحال نظرت إلى السرور في وجهه، فجلست في مجلسي ثم ابتدأت في الحديث الذي كان يذاكرني به والجواب فيه، وكان الجواب على غير ما كان يجيب به القوم. فنظرت إلى القوم وتقطيبهم لي، وأقبل يحيى يسائلني عن حديث كذا وحديث كذا فأجيب فيما يسألني، والقوم سكوت ما يتكلم أحد منهم بشيء. فلما حضرت المغرب تقدم يحيى فصلى، ثم أحضر الطعام فتعشينا، ثم صلى بنا يحيى عشاء الآخرة وأخذنا مجالسنا، فلم نزل في مذاكرة، وجعل يحيى يسأل بعض القوم فينقطع. فلما كان وقت الانصراف انصرف القوم وانصرفت معهم فإذا الرسول قد لحقني فقال: إن الوزير يأمرك أن تصير إليه في كل يوم في الوقت الذي جئت فيه يومك هذا. وناولني كيسا.

فانصرفت ومعي رسول الحاجب حتى صرت إلى أصحابي وأصبت سراجا عندهم فدفعت الكيس إلى القوم فكانوا به أشد سرورا مني، فلما كان الغد قلت لهم: أعدوا لي منزلا بالقرب منكم واشتروا لي جارية وغلاما خبازا وأثاثا ومتاعا. فلم أصل الظهر إلا وقد أعدوا لي ذلك، وسألتهم أن يكون إفطارهم عندي فأجابوا إلى ذلك بعد صعوبة شديدة.

فلم أزل آتي يحيى بن خالد في كل ليلة في الوقت كلما رآني ازداد سرورا، فلم يزل يدفع إلي في كل ليلة خمسمئة دينار حتى كان ليلة العيد فقال لي: يا أبا عبد الله تزين غدا لأمير المؤمنين بأحسن زي من زي القضاة، واعترض له فإنه سيسألني عن خبرك فأخبره. فلما كان صبيحة يوم العيد خرجت في أحسن زي، وخرج الناس، وخرج أمير المؤمنين إلى المصلى، فجعل أمير المؤمنين يلحظني، فلم أزل في الموكب. فلما كان بعد انصرافه صرت إلى باب يحيى بن خالد ولحقنا يحيى بعد دخول أمير المؤمنين منزله فقال لي: يا أبا عبد الله ادخل بنا. فدخلت ودخل القوم فقال لي: يا أبا عبد الله ما زال أمير المؤمنين يسألني عنك فأخبرته بخبر حجنا وأنك الرجل الذي سايرته تلك الليلة، وأمر لك بثلاثين ألف درهم، وأنا متنجزها لك غدا إن شاء الله. ثم انصرفت يومي ذلك فدخلت من الغد على يحيى بن خالد فقلت: أصلح الله الوزير، حاجة عرضت وقد قضيت على الوزير أعزه الله بقضائها. فقال لي: وما ذلك؟ فقلت: الإذن إلى منزلي، فقد اشتد الشوق إلى العيال والصبيان. فقال لي: لا تفعل. فلم أزل أنازله حتى أذن لي واستخرج لي الثلاثين الألف درهم، وهيئت لي حراقة بجميع ما فيها، وأمر أن يشتري لي من طرائف الشام لأحمله معي إلى المدينة، وأمر وكيله بالعراق أن يكتري لي إلى المدينة لا أكلف نفقة دينار ولا درهم. فصرت إلى أصحابي فأخبرتهم بالخبر وحلفت عليهم أن يأخذوا مني ما أصلهم به، فحلف القوم أنهم لا يرزؤوني دينارا ولا درهما. فوالله ما رأيت مثل أخلاقهم، فكيف ألام على حبي ليحيى بن خالد؟

وعاد الواقدي إلى بغداد من المدينة بعد أن قضى ديونه فلم يزل مقيماً بها، وتوفي الوزير النبيل يحيى بن خالد البرمكي سنة 190 مسجوناً بأمر هارون الرشيد، وتولى الواقدي القضاء لهارون الرشيد.

كان الواقدي كريماً سخياً، قال: صار إلي من السلطان ستمئة ألف درهم، ما وجبت علي فيها زكاة! وله في الكرم قصص، منها حكاية مشهورة تعددت رواياتها واختلفت ونذكر إحداها هنا، قال الواقدي: أضقت مرة، وأنا مع يحيى بن خالد، وحضر العيد، فجاءتني الجارية، فقالت: ليس عندنا من آلة العيد بشئ، فمضيت إلى تاجر صديق لي ليقرضني، فأخرج إلي كيسا مختوما فيه ألف دينار، ومئتا درهم، فأخذته، فما استقررت في منزلي حتى جاءني صديق لي هاشمي، فشكا إلي تأخر غلته وحاجته إلى القرض، فدخلت إلى زوجتي، فأخبرتها، فقالت: على أي شئ عزمت؟ قلت: على أن أقاسمه الكيس، قالت: ما صنعتَ شيئا، أتيت رجلا سُوقة، فأعطاك ألفا ومئتي درهم، وجاءك رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعطيه نصف ما أعطاك السوقة؟ فأخرجتُ الكيس كله إليه، فمضى، فذهب صديقي التاجر إلى الهاشمي، وكان صاحبه، فسأله القرض، فأخرج الهاشمي إليه الكيس بعينه، فعرفه التاجر، وانصرف إلي، فحدثني بالأمر.

وجاءني رسول يحيى يقول: إنما تأخر رسولنا عنك لشغلي، فركبت إليه، فأخبرته أمر الكيس، فقال: يا غلام، هات تلك الدنانير، فجاءه بعشرة آلاف دينار، فقال: خذ ألفي دينار لك، وألفي دينار للتاجر، وألفين للهاشمي، وأربعة آلاف لزوجتك، فإنها أكرمكم. وكان الواقدي يقول بعد هذه الحكايات: أفألام على حب يحيى؟

وفي أول سنة 204 قدم الخليفة المأمون من خراسان إلى بغداد فقضى على تمرد إبراهيم بن المهدي، ثم وجه إلى الحسن بن سهل أن يُشخِص إليه محمد بن عمر الواقدي، فأشخصه، فاستقضاه على الجانب الشرقي من بغداد المعروف اليوم بالرصافة وسابقاً بمحلة عسكر المهدي، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته، وكانت تلك فرصة لنعرف سعة مكتبته العامرة، إذ لما انتقل من الجانب الغربي من بغداد حمل كتبه على 120 وقر جمل، وكان له 600 قمطر كتباً، وكان له غلامان يكتبان له بالليل والنهار، ومع ذلك قال: ما من أحد إلا كتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي.

وكان المأمون يكرم الواقدي ويبالغ في رعايته، فكتب إليه مرة يشكو ضائقة لحقته ودين ركبه بسبها، وعيّن مقداره في قصة، فوقع المأمون فيها بخطه: فيك خلتان: سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرت لك بضعف ما سألت، فإن كنا قصرّنا عن بلوغ حاجتك، فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك، فزد في بسط يدك، فإن خزائن الله مفتوحة، ويده بالخير مبسوطة، وأنت حدثتني حين كنتَ على قضاء الرشيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير: إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله سبحانه للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل عنه. قال الواقدي: وكنت نسيت الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته.

وبقي الواقدي على منهجه في الكرم، قال مصعب الزبيري: كلمت الواقدي في رجل من أهل المدينة يوكله ببعض هذه الوكلات مما يكون فيه رزق، فأرسل إليه بصرة فيها مئة أو مئتا درهم، فقلت: ليتني والله ما كلمته فيه! ثم لقيته فقلت: الرجل الذي كلمتك فيه، لم أكلمك أن تصله، وإنما كلمتك أن توكله. فقال: فأي شيء ينفق إلى أن أوكله؟

صنف الواقدي مؤلفات عديدة واسعة في التاريخ والفقه والرقائق، وعني عناية خاصة بتاريخ الإسلام، وتدور مصنفاته حول المعالم التاريخية للقرن الأول الهجري، ومن كتبه المشهورة: كتاب التاريخ واالمغازي والمبعث، كتاب أخبار مكة، كتاب ذكر الأذان، كتاب الطبقات، كتاب فتوح العراق، كتاب الـجَمَل، كتاب مقتل الحسين، كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب حروب الأوس والخزرج،كتاب  أمراء الحبشة والفيل، كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب المناكح، كتاب السقيفة وبيعة أبي بكر، كتاب الردة ذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وما جرى بينهم وبين المسلمين، كتاب سيرة أبي بكر ووفاته، كتاب الترغيب في علم المغازي، كتاب غلط الرجال، كتاب مداعي قريش والأنصار؛ في القطائع ووضْعِ عمر الدواوين، كتاب مولد الحسن والحسين ومقتله، كتاب ضرب الدنانير، كتاب تاريخ الفقهاء، كتاب التاريخ الكبير، كتاب اختلاف أهل المدينة والكوفة في أبواب فقه المعاملات، وكتاب الصوائف، وهي الغزوات التي كان خلفاء بني أمية يشنونها في الصيف على الحدود مع الدولة البيزنطية، وينسب إليه كتاب فتوح الشام وأكثره مما لا تصح نسبته إليه.

واهتمام الواقدي بتأريخ هذه الحقبة وجمع أخبارها هو مكرمة وإلهام له من الله، وتدين من شخصه، فقد روى الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه قال: سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن.

وللواقدي كذلك روايات في قراءات القرآن الكريم، ولكنه مع سعة علمه وكثرة حفظه كان لا يحفظ القرآن الكريم، قال المأمون للواقدي: أريد أن تصلي الجمعة غدا بالناس. فامتنع، قال: لا بد، فقال: والله ما أحفظ سورة الجمعة، قال: فأنا أحفّظك. فجعل المأمون يلقنه سورة الجمعة حتى بلغ النصف منها، فإذا حفظه، ابتدأ بالنصف الثاني، فإذا حفظه، نسي الأول، فأتعب المأمون، ونعس، فقال لعلي بن صالح: حفظه أنت، قال علي: ففعلت، فبقي كلما حفظته شيئا، نسي شيئا، فاستيقظ المأمون، فقال لي: ما فعلت؟ فأخبرته، فقال: هذا رجل يحفظ التأويل، ولا يحفظ التنزيل! اذهب فصل بهم، واقرأ أي سورة شئت.

ومات وهو على القضاء، ولم يترك ثمن كفن له فبعث أمير المؤمنين المأمون بأكفانه، وأوصى إلى المأمون فقبل وصيته وقضى دينه، وصلى على الواقدي القاضي أبو عبد الله ابن سماعة، محمد بن سماعة التميمي الحنفي، المولود سنة 130 والمتوفى سنة 233.

والواقدي شخصية فريدة ومشكِلة في التاريخ الإسلامي وعند علماء الحديث ورواته، ذلك إن كتبه ومروياته تشغل جزءاً كبيراً وهاماً من كتب السيرة والتاريخ الإسلامي، ولكن المحدثين في نهاية المطاف يضعفون الواقدي، ولست بأهل للخوض بتفصيل في هذا الأمر، فضلا عن ضيق المجال لمثله، فأكتفي بمثالين على تناقض الأقوال في الواقدي بين رافع وخافض!    

ويدور تضعيف الواقدي على إيراده لحديث انفرد به راو ولكن بإسناد عن غير هذا الراوي، وقد تناول هذا الأمر الحافظ ابن سيد الناس في مقدمة كتابه عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، فأورد كل أقوال العلماء في الواقدي، ثم عقب عليها فقال: قلت: سعة العلم مظنةٌ لكثرة الإغراب، وكثرة الإغراب مظنة للتهمة، والواقدى غير مدفوع عن سعة العلم، فكثرت بذلك غرائبه، وقد روينا عن على بن المديني أنه قال: للواقدي عشرون ألف حديث لم نسمع بها. وعن يحيى بن معين: أغرب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرين ألف حديث. وقد رُوينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع وسؤاله من أبناء الصحابة والشهداء ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضى انفرادا بروايات وأخبار لا تدخل تحت الحصر، وكثيرا ما يُطعن في الراوي بسبب رواية له من أنكر تلك الرواية عليه واستغربها منه، ثم يظهر له أو لغيره بمتابعة متابع أو سبب من الاسباب براءته من مقتضى الطعن. ثم أورد ابن سيد الناس عن المحدث الحافظ أحمد بن منصور الرمادي بيان أن الحديث الذي هو أصل تضعيف الواقدي له طريق آخر غير تلك التي اعتبرها المحدثون واحدة لا ثانية معها، وينقل عن الرمادي قوله: هذا مما ظُلِم فيه الواقدي.

ولكن الإمام الذهبي قال في سير أعلام النبلاء: وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض، فلا ينبغي أن يذكر، فهذه الكتب الستة، ومسند أحمد، وعامة من جمع في الأحكام، نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء، بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئا، مع أن وزنه عندي أنه مع ضعفه يُكتب حديثه ويروى، لاني لا أتهمه بالوضع، وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه، كيزيد وأبي عبيد والصاغاني وإبراهيم الحربي، ومعن، وتمام عشرة محدثين، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة، وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله.

وهذا التوهين لا يقلل من مكانة الواقدي فله تحليله الصائب لكثير من أحداث وظواهر التاريخ الإسلامي، ومن ذلك ما نقله عنه تلميذه محمد بن سعد في كتاب الطبقات، قال: قال محمد بن عمر الأسلمي: إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدوها، فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم، مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء من الأحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم، وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي، وهند وأسماء ابني جارية الأسلميين وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلازمانه، فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم، ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخذت عن الواقدي جمهرة كبيرة من علماء ومحدثي عصره، من  أبرزهم كاتبه الحافظ العلامة محمد بن سعد بن منيع البصري، المولود سنة  168 والمتوفى سنة 230، والمعروف بكاتب الواقدي، ومصنف كتاب الطبقات الكبير المعروف بطبقات ابن سعد، والذي لا تخلو صفحة منه من الرواية عن الواقدي، وكان ابن سعد رحمه الله كثير العلم كثير الكتب، كَتَب الحديثَ والفقه والغريب، وقد عده علماء الحديث من الثقات الصادقين. قال إبراهيم الحربى: كان أحمد بن حنبل يوجه في كل جمعة بحنبل إلى ابن سعد يأخذ منه جزئين من حديث الواقدي ينظر فيهما إلى الجمعة الأخرى ثم يردهما ويأخذ غيرهما. ثم قال إبراهيم: ولو ذهب سمعهما  كان خيرا له.

وممن أخذ عن الواقدي كذلك المحدث الكبير أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد، المولود سنة 159 والمتوفى سنة 235، وصاحب المصنف في الأحاديث والآثار . وقد وردت روايات أن الإمام مالك رضي الله عنه قد سأل الواقدي عن تفاصيل وردت في بعض الأحاديث وقبل قوله وأشار إليه، وحضر الواقدي مناظرة الإمام أبي يوسف مع صاحب الإمام مالك بن أنس المغيرةِ بن عبد الرحمن المخزومي بعد أن أبى الإمام مالك أن يناظر أبا يوسف، وجرت المناظرة أثناء زيارة هارون الرشيد للمدينة المنورة في حجه.

رحم الله الواقدي وجزاه عن اجتهاده في خدمة الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer