الجمعة، 11 سبتمبر 2015

حدث في الخامس والعشرين من ذي القعدة

في الخامس والعشرين من ذي القعدة من عام 1287 الموافق 16 شباط/فبراير 1871، توفي في المدينة المنورة، عن 75 سنة، الإمام شامل الداغستاني، المجاهد القوقازي الكبير، وفيما يلي سيرة حياته وحركته استقيت كثيراً منها من مقالات كتبها الأستاذ برهان الدين الداغستاني في مجلة الرسالة، ونظراً لارتباط الداغستان بالشيشان فقد ألحقت بالحديث  استعراضاً موجزاً لتاريخ الشيشان بعد ذلك حتى يومنا هذا.
تشغل بلاد الداغستان معظم القسم الشرقي من بلاد القوقاز، وتمتد على الساحل الغربي لبحر قزوين، وتحدها من الغرب قمم جبال القوقاز العالية وجمهوريتا الشيشان وجورجيا، وجمهورية أذربيجان جنوبا، ومعنى الداغستان: بلاد الجبال، وليست هذه المنطقة كلها جبالا كما يتبادر لأول وهلة، ولكن طبيعة الجبال هي الغالبة فيها، وتشكل سلسلة جبال القوقاز الممتدة من بحر قزوين إلى البحر الأسود الحدود الطبيعية الجنوبية لروسيا.
دخل الإسلام بلاد أذربيجان مع الفتح الإسلامي الذي قاده في سنة 18 الصحابي سراقة بن عمرو بن لبنة رضي الله عنه، ودخل الإسلام داغستان سنة 22، وفي سنة 32 فتح المسلمون مدينة دَرَبَند على الشاطئ الغربي لبحر قزوين، ومعناه بالفارسية الباب المغلق، ويقال لها باب الأبواب أو الباب لأن المسافة بين البحر وجبال القوقاز لا تتعدى 3000 متر، واستتب لهم الأمر فيها  سنة 38، وصارت إحدى ثغور الدولة الإسلامية الشمالية الشرقية، وفي أيام الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك فأكمل فتحها في سنة 115 وتفشى الإسلام في أهلها وأصبحت إقليماً يدين بالإسلام، وأصبحت اللغة العربية هي لغة التدريس والتأليف والتعلم.
ولد شامل في سنة 1212=1797 وكان والده جمال الدين من الوجهاء ومُلاَّك الأراضي فأرسل ابنه للمدرسة الدينية حيث تعلم اللغة العربية وقواعدها والبلاغة والمنطق، وسلك في الطريقة الصوفية النقشبندية، وأصبح من علماء ومشايخ المنطقة، وشهد شامل في يفاعته في سنة 1228=1813 انتقال داغستان من يد إيران إلى روسيا القيصرية على يد الشاه فتح علي شاه في معاهدة جُلستان، ذلك إن هذا الشاه، الذي تولى عرش إيران من سنة 1797 إلى وفاته سنة 1834، خاض حرباً مع روسيا في سنة 1804بسبب جورجيا التي أعلن حاكمها ولاءه لروسيا بدلاً من إيران، ولم ينته الشاه من تورطه بهذه الحرب إلا بمعاهدة جُلستان التي أبرمها في سنة 1228=1813 مع الإمبراطور الروسي الكساندر الأول وتخلى فيها عن مطالبه في جورجيا، وتنازل فيها كذلك لروسيا عن باكو وداغستان، وكان لروسيا مطامع قديمة في داغستان وسبق وأن احتلها بطرس الأكبر في سنة 1722 ثم أعادها مكرهاً لفارس بعد 12 سنة.
واتبعت روسيا في الداغستان سياسة ظاهرها الليونة والترغيب وباطنها تحويل الشعب الداغستاني عن الإسلام واللغة العربية إلى الثقافة واللغة الروسية، واستجاب لهم عدد من رؤساء قبائل الداغستان، وأرسلوا  شبابهم للعمل في دواوين الحكومة الروسية وانخرط بعضهم في صفوف الجيش الروسي وحاربوا معه جيوش الدولة العثمانية، وبدا للروس أن مخططاتهم قد نجحت في تحقيق مراميهم البعيدة، وفي سنة 1240=1825 توفي القيصر الكساندر الأول وتولى الحكم أخوه نيقولاس الأول الذي استمر في نفس السياسات السابقة.
وحقق الروس هذا النجاح لقلة العلماء العاملين المخلصين الذي يحسنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستميلون الناس إلى دعوتهم، ولكن لم يستمر هذا النجاح طويلاً، فلم تمض سنة ونيف على المعاهدة حتى أعلنت بعض قبائل داغستان والشركس في أبخازيا الجهاد على المحتل الأجنبي الكافر، وهو جهاد سيستمر قرابة 50 عاماً وامتزجت فيه مشاعر العزة والاستعلاء القوقازية بالغيرة الإسلامية، وكانت نقطة التحول في هذا الجهاد أن ظهر في سنة 1242=1826 العالم المجدد والمصلح الصوفي النقشبندي الشيخ محمد الكمراوي، نسبة إلى قريته كمرا، ويلقب بقاضي مُلا، الذي بدأ حركة إصلاح وتهذيب للعودة بالناس إلى تعاليم دينهم وآداب شريعتهم، وكان شامل من أول من بايعه وعمل معه، ولازمه حتى صار من أكبر مريديه وأهم أعوانه.
وفي سنة 1245 قرر الشيخ محمد الكمراوي أن ينتقل إلى مرحلة دعوية أخرى من خلال تأسيس كيان تكون له قوة تمكنه من تنفيذ مشروعه الإصلاحي، فاتخذ لقب الغازي وبدأ يجند في شرق داغستان بعض الذين استجابوا لدعوته ويخوف بهم المخالفين له والباغين عليه، وكان شامل أحد قواد الفرق التي كان يبثها الغازي محمد، ويبعثها إلى الجهات للإغارة والتأديب، فعارضه وقاومه كثير من الزعماء الذين هدد مصالحهم وزعاماتهم، كما قاومه عديد من عوام داغستان لأنه وقف في وجه كثير من الأعراف الداغستانية البعيدة عن الشريعة الإسلامية، واعتبرته الدولة الروسية خارجاً عن القانون ينبغي القضاء عليه.
وشن الروس الحملة تلو الحملة حتى استطاعو في سنة 1248=1832 حصار الغازي محمد الكمراوي ومعه شامل وزملائه المجاهدون في قرية كمرا، وقدم الغازي حياته فداء لإخوانه المحاصرين فقد هاجم المحاصِرين الروس وشغلهم حتى قتل، واستطاع إخوانه الإفلات من الحصار ومنهم شامل الذي أصيب بجراح شديدة بقي من جرائها أسير الفراش مدة 3 أشهر.
وآلت إمرة المجاهدين إلى حمزة بك حتى قتله غيلة بعض المنشقين عليه من الداغستان في سنة 1250= 1834 فآلت الإمرة إلى الإمام شامل الذي ما كان ليقبلها لو لا إجماع العلماء والأعيان وإلحاحهم على ضرورة أن يتولى الإمامة كما كانوا يسمونها، وكان من يتقلدها يتسمى بأمير المؤمنين.
وبوجود شامل على رأس المجاهدين انتقل الجهاد إلى مرحلة أخرى تبدت فيها خصاله القيادية، قتحولت الثورة من الاقتصار على مقاومة المحتل الروسي إلى حركة شاملة منظمة هدفها تأسيس دولة إسلامية مستقلة في داغستان، وأدرك شامل أن الدولة المنشودة لا تقوم على أكتاف المتطوعين إلا بالتنظيم والتدريب والتجهيز، وأن المال عصب ذلك كله، فكان بيت المال أول مؤسسة أنشأها بعد توليه الإمارة، وعيَّن لهذا البيت الجباة والأمناء والعاملين، فكوَّن بذلك أساس النظام الاقتصادي، وأمَّن الناحية المادية في الثورة، كما أحيا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه في قسمة الغنائم بين بيت المال وبين المجاهدين، فسدَّ حاجاتهم وحاجات أسرهم وأهليهم.
وأعاد شامل تنظيم القوات الداغستانية وزاد في أعدادها، وبدأ في تدرييها تدريباً منهجياً على الأسلحة والتكتيكات المختلفة، وعمل على تسليحها وتوفير الذخائر لها، وأنشأ غرفة عمليات لإدارة المعارك، وفوجئ الروس بهجماته المخططة جيداً والتي كانت واسعة النطاق في استهدافها عدة مواقع متباعدة في آن واحد، والتي حققت نجاحاً كبيراً وبخاصة لتمتع قوات شامل بعنصر المفاجأة، وأسر شامل عدداً من الروس الذين وضعهم في معتقلات أنشأها خصيصاً لإيواء الأسرى.
وكان الإمام شامل شامل النظرة واسع الأفق فاتجه لتوطيد الحياة المدنية والعمرانية في مناطق سلطانه، وكان له في كل منطقة نائب يدير الحكومة المدنية ويشرف على جميع شؤونها، فيما يشبه مهمة المحافظين اليوم، وكان نوابه مسؤولين عن جباية أموال بيت المال، وتنظيم حركة المتطوعين، والمحافظة على السلام والأمن العام، ورعاية حقوق الناس وصون أموالهم ونفوسهم، وتنفيذ أحكام القضاة الذين كان شامل بعينهم للفصل في المنازعات والحكم بالعقوبات.
وحاول القيصر عدة مرات إغراء الشيخ شامل فأرسل له الوسطاء الذين طلبوا منه أن يتخلى عن جهاده ويعلن ولاءه للقيصر مقابل أن يعينه أميراً على الداغستان، وبالطبع رفض شامل ذلك فما كان يتطلع إلى أن يتلقى الإمارة من يد الروس وهو الذي انتخبه مؤتمر أهل الحل والعقد في الداغستان، ولما يئس القيصر من استمالة الشيخ شامل أرسل الحملات تترى للقضاء على هذا المتمرد، وكانت أكبرها حملة سنة 1838 التي استطاعت احتلال كثير من حصونه ومدنه حتى وصلت إلى مقره الرئيس في قمة أهولجو، وحاصرته فيه 80 يوماً، ثم اقتحمته وأوقعت في صفوف الداغستان خسائر كبيرة من القتلى والمصابين، وبينهم عدد كبير من النساء والأطفال منهم أخت شامل وإحدى زوجاته، إلا أن شامل استطاع الهرب من الحصار في الليلة التي سبقت الاقتحام، وهرب من مكان إلى مكان إلى أن عبر إلى الشيشان في 7 من أنصاره.
وابتهج الروس بذلك وعدّوه انتصاراً ساحقاً لهم، ولكن خروج شامل فريدا طريدا لم يفت من عضده، ولم يتخل عن هدفه، وكان لا بد له من فترة يستجمع فيها قواه وقواته، وبدأ شامل في بث روح الإحياء الديني في قبائل الشيشان ملتقياً بوجهائها ومشايخها ليحدثهم عن منهجه ودعوته ويدعوهم إلى بيعته ومناصرته، ولكن الروس انتهزوا هذه الفرصة وزادوا من سيطرتهم على داغستان، وبثوا قواتهم على كل المسالك والجسور التي تصل بين داغستان والشيشان، وفي سنة 1846 دخل الإمام شامل أثناء عودته إلى داغستان في معركة من أقسى المعارك خسر فيها كثيراً من جنوده ومعداته، حيث وقع في مصيدة روسية أعدت بعناية، وكاد أن يصاب بهزيمة منكرة لولا حزمه وقوة احتماله، ولولا مهارة الحاج يحيى قائد مدفعيته الذي استخدم ما معه من المدافع أحسن استخدام في الوقت المناسب.
وكان الإمام شامل قد حقق إنجازاً تقنياً كبيراً في سنة 1259=1843 حين استطاع صناعة المدافع فصارت لديه القوة لدك الحصون الروسية وقصف أعدائه عن بعد، وتحقق ذلك على يد الحاج جبرائيل الصانع الماهر الذي عرض مشروعه الصناعي على الإمام شامل فوافق عليه بعد تردد، ورغم فشل أول مدفع صنع من بقايا حديد المدافع الروسية، إلا أن جبرائيل كرر المحاولة حتى نجحت، وكان لها دوي معنوي قوّى صفوف المجاهدين وأوقع الخوف في قلوب أعدائهم من الروس وأعوانهم، ونجح شامل نجاحاً كبيراً بعد وجود هذا السلاح الجديد، واستطاع في سنتين الاستيلاء على جميع الحصون الجبلية الروسية وغنم منها السلاح والعتاد والأسرى.
وشكلت معركة 1846 نقطة تحول لصالح الروس في الصراع بينهم وبين الداغستان، فرغم نجاة شامل من الحصار الذي أُعد له، إلا أنه كان قاب قوسين من الهزيمة، فشحذ هذا من عزيمة الروس وبدأت القوات الروسية تتجرأ وتترك معاقلها لتهاجم مواقع الإمام شامل، وحشد القيصر الأدباء والشعراء لتأليب الرأي العام على شامل وتهيئته لتكاليف الحرب الطويلة القادمة.
أما شامل فرغم ما لحق به من خسارة إلا أنه عاد يعمل متكلاً على الله في صمت وهدوء، وصار صموده وعزيمته مصدر عزة وفخر للمسلمين في أنحاء العالم، وصارت انتصاراته محل الإعجاب ومضرب المثل في أوروبا التي استهزأت بالجيش القيصري الذي دوخه هذا المجاهد وقواته القليلة العدد والعدة، وتابع شامل إنجازاته التقنية، ولما شدد الروس الحصار على المنطقة أمر صُنَّاعه فتوصلوا إلى طريقة صنع البارود، فتضاعفت قوته بما يصنعه من مدافع ومن ذخيرة لها.
وفي سنة 1270=1853 قام الإمام شامل بحملة دلت على ما يتمتع به من خصال القيادة العسكرية الجريئة والمبادرة، فقد حشد عدداً كبيراً من جنوده ومدفعيته واجتاز بها حدود جورجيا وهاجم قلعة زنطة وحاصرها حتى اضطرت حاميتها للتسليم، وكان في أثناء حصارها يرسل السرايا لتغير على المواقع الروسية الأخرى، وتعود بالأسرى والغنائم، ثم رجع شامل إلى مقر قيادته في داخل حدود داغستان بعد أن قتل 2.000 جندي روسي وأسر نحو 900 أسير، وغنم مقداراً كبيراً من الأموال والأسلحة، وبقي الأسرى وفيهم عائلات القادة الروس عند الإمام شامل نحو تسعة أشهر، وهو يجرى المفاوضات مع القيادة الروسية لمبادلتهم بالأسرى المسلمين الذين كانوا لديها، وفي أواخر سنة 1270=1854 تبادل الطرفان الأسرى، وكان من أسرى المسلمين والد الشيخ شامل؛ جمال الدين، الذي كان رهينة في أيدي الروس من نحو ستة عشر عاماً.
ويعد تبادل الأسرى هذا نقطة تحول أخرى في الجهاد الداغستاني، فقد كان أشبه بهدنة غير رسمية بين الفريقين بعد مرور أكثر من 25 سنة على نشوب هذه الثورة التي تولى الشيخ شامل قيادها لأكثر من 20 سنة، ولما هدأت المعارك ورجع المجاهدون إلى قراهم وضياعهم بعد طول الغياب عنها سنوات قضوها في معاقلهم الجبلية الحصينة، رأوا ما عم قراهم من الخراب والدمار، وما حل بأهليهم من الفاقة والفقر وسوء الزراعات ونقص الحاصلات وانتشار الفقر والضيق، كل هذا من غير أن تمتد اليهم يد بالعون والمساعدة من خارج القوقاز، فوهنت عزائمهم وبدأ الناس يتسللون من حول شامل شيئاً فشيئاً.
وكانت حرب القِرِم قد بدأت بين الروس وبين الأتراك وحلقائهم الإنكليز والفرنسيين، واستمرت إلى النصف الثاني من سنة 1272هـ، ولكن الشيخ شامل لم يستطع انتهاز هذه الفرصة لما قدمنا من الأسباب، ولم يستطع الحلفاء مد يد المساعدة للشيخ شامل لأن الطريق بينه وبينهم كانت مقفلة تماماً.
وفي سنة 1272=1856 انتهت حرب القرم بين روسيا وبين الدولة العثمانية وحلفائها بهزيمة الروس هزيمة منكرة، ولكن انتهاءها وفر لهم القوات والعتاد ومكنهم من التفرغ لقتال الإمام شامل، فأعدوا في سنة 1857 جيشاً كبيراً من 60.000 جندي لإخضاع المنطقة وأمدوه بكل ما يحتاجه لهذه الحملة المريرة الطويلة، وعهدوا بقيادته لاثنين من أكفئ قادتهم وهما الجنرال يفدوكيموف والجنرال بارياتينسكي، ونشط جواسيس الروس وعملاؤهم لاستمالة بعض القبائل والأعيان بما كانوا يمنحونه من أموال ومناصب، فما حل آخر سنة 1274=1858 إلا وكثير من أهل الجهات النائية قد خرج على الإمام شامل، وأخذ يتعاون مع الجيش الروسي.
وتلافت الحملة العسكرية الأخطاء الروسية السابقة، وقامت بمحاصرة المنطقة حصاراً محكماً من عدة حلقات، ثم شنت هجوماً من كل الاتجاهات فحققت نجاحاً عسكرياً ملموساً ساعد على تحقيقه حالة الإنهاك التي وصل إليها مناصرو الإمام شامل، وألقت السلاح قرى وقبائل عديدة، وفي رمضان من عام 1275=1859 نجح الروس في اقتحام معقل شامل في يكي درغيا فانسحب مع حوالي 300 من مجاهديه إلى جبل غونيب، وتابع الروس تضييق الخناق عليه، وكأي قائد عسكري محنك كان شامل يقيّم الوضع العسكري على نحو دائم، وبعد قرابة 5 أشهر من القتال أدرك أن هذه الحملة ليست كسابقاتها وأن لا جدوى من الاستمرار في قتال هذه الجيوش التي تفوقه مرات في العدد والعدة، فقرر في أول سنة 1276=1859 أن يلقي السلاح ويستسلم للروس، وطويت بذلك صفحة شامخة من تاريخ القوقاز في مقاومة السيطرة الروسية، وهي صفحة أشارت السنن الكونية إلى تعثر استمرارها، فما كان للداغستان الضئيلة على بسالة مجاهديها أن تقاوم روسيا الكبيرة إلا إلى حين.
واقتاد الروس الإمام شامل إلى العاصمة القيصرية سانت بطرسبرج حيث قابله القيصر الروسي ألكساندر الثاني، ورحب به وأكرم وفادته، وأمَّنه وجميع من كانوا معه على نفوسهم، وكذلك رحبت النخبة القيصرية بشامل ترحيب إعجاب وتقدير، إلا إن القيصر لم يف بالوعد الذي أعطى ولم يسمح لشامل بالسفر إلى خارج روسيا، وألزمه بالإقامة معززا مكرماً في مدينة كالوجا جنوبي غربي موسكو، ثم في كييف، وبعدها بحوالي 10 سنوات استأذن الإمام شامل في أداء فريضة الحج فأذن له القيصر، فحج في سنة 1286=1869 ماراً باستانبول حيث لقي من السلطان عبد العزيز التكريم والتقدير، وبقي في أرض الحرمين حيث وافته منيته بعد 10 شهور من أدائه الحج، ودفن في البقيع.
وينبغي أن نشير أن الثقافة والأدب الروسي نظرت نظرة إعجاب إلى حرب القوقاز الأولى ودولة الإمامة فيها، وتحتل قصص القوقاز مساحة واسعة في الأدب والشعر الروسي، ونذكر على سبيل المثال القصاص الروسي والكاتب الإنساني الشهير ليو تولستوي، والذي عاش في القوقاز في شبابه، وأبرز بإعجاب خصال شعوب القوقاز مخلداً هذه الأحداث في الأدب الروسي في عدد من قصصه مثل الحاج مراد، وقصته: القوزاق، ونذكر أن الحكومة القيصرية أنشأت في تبليسي، واسمها العربي تفليس، وهي اليوم عاصمة جورجيا، مُتحفاً عاماً لآثار القوقاز والقوقازيين أودعته كل ما لديها من آثار الشيخ شامل، كالأسلحة التي كان يحارب بها والأعلام التي كان يحملها جنوده وقواده، وبعض الوثائق والمستندات التي تبودلت بينه وبين القيادة الروسية في القوقاز.
وبعد استسلام شامل غيرت الحكومة الروسية سياساتها الفاشلة، بعدما عانت من تعلق سكان داغستان ببلادهم وحريتهم، وطاعتهم لشيوخهم وأمرائهم، فرأت أن تتقرب من هذه الطبقة صاحبة السلطان الحقيقي، فردت إليهم أملاكهم التي صادرتها أيام الحرب، وأرجعت من كانت أبعدتهم عن مراكزهم أو وظائفهم إلى ما كانوا عليه وصارت تعاملهم بالحسنى، ثم إنها تساهلت مع الشعب فتركت له سلاحه، وأعفته من الخدمة العسكرية، وأقامت له محاكم شرعية، ثم حطت عنه بعض الضرائب وخصصت مبلغاً معلوماً ينفق سنويا على حاجيات البلاد من الخزينة المركزية مراعية في كل ذلك عواطف الشعب وعاداته القديمة، واقتصاديات البلاد المحدودة، فتمكنت بذلك من إرضاء أكثر السكان، وإخماد روح الثورة إلى حد كبير، وشيئاً فشيئاً طغت الثقافة الروسية على داغستان وأصبحت اللغة الروسية لغة الثقافة والتعلم، ومن جانب آخر أرست هذه الحرب وما تلاها مكانة لداغستان والقوقاز في الثقافة والأدب الروسي تتقلب بين الخصم المهاب والصديق الموموق.
ومع ذلك بقيت المناوشات بين الروس وبين المسلمين في الداغستان مستمرة، وكان نهر التِرِِك حداً يهاب الروس عبوره، ولم تنته المقاومة الداغستانية إلا في سنة 1864، ولكن بعد أن خلت الداغستان من أهلها الذين قدر عددهم بحوالي 400.000 نسمة، فقد آثر أغليهم المنفى على أن يعيشوا تحت الاستعباد القيصري، فهاجر أغلبهم إلى أقاليم الدولة العثمانية، تاركين القوقاز الغربي بائساً خالياً  من سكانه، ثم كانت هجرتهم الثانية بعد حرب روسيا مع الدولة العثمانية في سنة 1878، والتي انتهزها بعض القادة للثورة على الروس من جديد، ولكن سرعان ما تفرغت الحكومة الروسية لإخماد هذه الثورة بعد هزيمتها للعثمانيين، فاستطاعت أن تقضي عليها بسرعة، وعرضت على سكان الجبل الطاعة التامة مع الإخلاص، أو الجلاء عن البلاد والخروج منها إلى حيث يريدون، ففضل كثير منهم الهجرة منها إلى تركيا فأنزلتهم حكومتها في بعض جهات الأناضول، كما هاجر بعضهم إلى سورية وشرق الأردن والعراق حيث دخل منهم في سلك الجيش والأمن عدد لا بأس به لما يتحلون به من خصال الإقدام والتصميم.
وبعد الانقلاب الشيوعي سنة 1917أعلنت داغستان والشيشان وأنجوشيا استقلالها عن روسيا في دولة أسمتها جمهورية جبال القوقاز الشمالي، ولكن الشيوعين هاجموها في سنة 1921 واحتلوها، وأنشأوا في القوقاز أربع جمهوريات إحداها جمهورية داغستان ضمن اتحاد الجمهوريات السوفياتية، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي بقيت تدور في الفلك الروسي وتدار من موسكو، ويبلغ عدد سكانها اليوم قرابة مليوني نسمة نسبة المسلمين فيهم أكثر من 80%.
وينبغي أن نشير أن حكومة داغستان في أوائل العهد السوفياتي أنشأت متحفاً خاصاً بالشيخ شامل في العاصمة محج قلعة، جمعت فيه كل آثار هذا المجاهد العظيم، كالرايات التي تحمل كتابات عربية واضحة مثل: لا إله إلا الله. محمد رسول الله، أو: نصر من الله وفتح قريب. والكتب والرسائل التي تبادلها مع الروس مكتوبة بالخط العربي واللغة العربية الفصحى، وإلى جانب ذلك كله قطع الأسلحة ونماذجها المختلفة مما كان يستعمل إبان الثورة الداغستانية التي حمل رايتها الشيخ شامل أكثر من ربع قرن
ولارتباط داغستان مع الشيشان جارتها في شمالها الغربي، كان لزاماً أن نعرج على الشيشان والتي كان لها نضال دام مرير مع روسيا في العقدين الماضيين، ونبدأ من الثورة البلشفية حيث قام السوفييت في سنة 1339=1920 بإنشاء محافظة الشيشان ذات الحكم الذاتي، ثم دمجوا معها في سنة 1934 محافظة أنجوشيا ذات الحكم الذاتي، وفي سنة 1936 جعلها السوفيت جمهورية ضمن الاتحاد السوفيتي، وحيث كان الإلحاد هو مذهب الدولة الرسمي فقد قاموا بحملة شديدة الوطأة في كل القوقاز للقضاء على الدين الإسلامي وشعائره ومظاهره ومؤسساته، وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية قام الدكتاتور السوفياتي ستالين بحل الجمهورية متهماً أهلها بالتعاون مع الألمان، ونفي عدداً كبيراً منهم إلى وسط آسيا، وفي سنة 1957 أعادها الرئيس خروتشوف جمهورية من جديد وسمح لأهلها بالعودة من منافيهم، وتبوأ كثير من القوقازيين مناصب هامة في الدولتين السوفياتية والروسية، ونذكر منهم الاقتصادي الشيشاني رسلان عمرانوفيتش حسبلاتوف الذي تولى رئاسة مجلس السوفيات الأعلى بعد بوريس يلتسين، ولعب دوراً كبيراً  أثناء الأزمة الدستورية التي عصفت بالاتحاد الروسي في سنة 1993، والداغستاني رمضان غازي مرادوفيتش عبد اللطيفوف الذي كان نائب رئيس المجلس الاتحادي الروسي في سنوات 1994-1996، والرئيس الحالي لجمهورية داغستان.
ومع أفول شمس الاتحاد السوفيتي وتفكك جمهورياته في سنة 1991، تطلعت شعوب الشيشان وأنجوشيا للاستقلال، وقام جوهر دوداييف، بانقلاب على الحكومة الشيوعية في الشيشان، وبعدها بشهرين جرى انتخابه رئيساً للجمهورية، وبعدها بشهر أعلن من طرف واحد استقلال الشيشان وانسحابها من الاتحاد الروسي الذي خلف الاتحاد السوفيتي، وفي سنة 1992 قسم دوداييف الجمهورية إلى جمهوريتين: شيشانية وأخرى أنجوشية.
ودوداييف ضابط سابق يحمل رتبة جنرال في سلاح الجو الروسي، وكان آخر منصب له قائد سلاح القاذفات الاستراتيجية، ولكن شعبيته لم تدم كثيراً، ذلك إنه كان زعيماً وطنياً طموحاً مخلصاً، ولكنه لم يكن يكترث بالشورى، ربما لكونه عسكريا، فتفرد بالسلطة وحلّ البرلمان بعد قرابة سنتين من توليه الرئاسة، فانفض من حوله عدد ممن ناصروه، وهرع إليه الانتهازيون، وفاحت روائح الفساد في دوائر الدولة، فازداد الناقمون عليه في بيئة شديدة الاعتزاز وصعبة المراس.
وفشل دوداييف كذلك في في النهوض باقتصاد البلاد، حيث اتبع سياسات مغالية في نزعتها الوطنية لم تأخذ في الاعتبار ارتباط اقتصاد الشيشان ارتباطاً عضوياً بالاقتصاد الروسي، وكون الشيشان جزيرة صغيرة تبلغ مساحتها 19.000 كيلومتر مربع في خضم محيط الدولة الروسية ومساحتها البالغة 17.000.000 كيلومتر مربع، فلا حدود لها إلا مع روسبا ما عدا قطعة صغيرة لا تتجاوز 50 كم على الحدود مع جورجيا في منطقة جبلية وعرة جداً، وعدد سكانها البالغ 1.300.000 نسمة هو 1% من عدد سكان روسيا البالغ 144 مليون نسمة، وهنا ينبغي أن نصحح معلومة خاطئة شائعة حول النفط في الشيشان ونشير أن ما تنتجه من النفط لا يصل إلى 1% من إنتاج روسيا.
وكان دوداييف يعلق آماله على أن ضعف الدولة الروسية سيجعلها تقبل بالاستقلال كأمر واقع، ولكن الروس دعموا معارضيه وأمدوهم بالسلاح، ثم ما لبث الجيش الروسي أن هاجم الشيشان في منتصف سنة 1415=كانون الأول/ديسمبر 1994، ولكنه لم يستطع احتلال العاصمة جروزني فانسحب منها بعد تدمير أجزاء كبيرة منها، وأعاد الروس الكرة بقوات بلغ عددها حوالي 40.000 جندي استطاعت احتلال جروزني في آخر سنة 1415=آذار/مارس  1995 مسببة خسائر بشرية كبيرة، وفي سنة 1996 قتل الروس الرئيس الشيشاني جوهر دوداييف، وحل محله نائبه سليم خان يندر باييف، وهو أديب وعضو في اتحاد الكتاب السوفيات، فأجرى في سنة 1997انتخابات رئاسية نجح فيها وزير دفاع الشيشان أصلان مسعدوف، وهو ضابط كبيرسابقاً في سلاح الصواريخ والمدفعية السوفياتي، وبدأ مسعدوف مفاوضات سلام مع الرئيس الروسي بوريس يلتسين تكللت بمعاهدة سلام في ذات السنة وانسحبت على إثرها القوات الروسية من الشيشان.
واعتبر مسعدوف أن هذه المعاهدة قد أرست أسس دولة الشيشان المستقلة، وأنهت 400 سنة من المعارك بين الشيشان وبين الروس، ولكنه كان مخطئاً، فلم تعترف أية دولة في شرق أو غرب بالدولة الوليدة التي كان من الواضح أن روسيا لن ترضى بوجودها، وهو الأمر الذي تحقق في سنة 1999 حين عادت روسيا فاحتلت الشيشان بعد قتال شرس دام تخلت فيه القوات الروسية عن محاولة استمالة المدنيين إليها، فاتبعت سياسة الأرض المحروقة التي نشرت الدمار في أرجاء الشيشان، وخلفت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى والأيتام والأرامل، وتدفق مئات آلاف من اللاجئين الشيشان إلى الأقاليم والمدن المجاورة، وجرى ذلك كله أمام سمع الهيئات الدولية وبصرها التي اعتبر أكثرها المقاومة الشيشانية حركة إرهابية تهدد الأمن الأوربي، واعتبرتها بعض الدول حركة انفصالية وشأناً روسياً داخليا، وقاد الرئيس مسعدوف حرب عصابات ضد الجيش الروسي حتى استشهد في سنة 2005.
وعين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المفتي السابق للشيشان أحمد قادروف رئيساً للجمهورية الشيشانية في سنة 2003 بعد ان تحول إلى الجانب الروسي، ثم ما لبث قادروف أن قتل في عملية قام بها مجاهدو الشيشان في سنة 2004، فأجرت الحكومة الروسية انتخابات حملت فيها إلى سدة الرئاسة حليفها علي ألخانوف، ضابط الشرطة السابق، ثم ما لبث الرئيس بوتين أن نحاه عن منصبه في سنة 2007 وجاء برمضان قادروف ابن الرئيس السابق رئيساً للجمهورية الشيشانية، وهو ابن الثلاثين، حيث لا يزال في منصب الرئيس إلى هذا اليوم.
وتدور الأيام وتتغير معها المصالح، فنرى روسيا في سنة 2008 تحفز مقاطعتين قوقازيتين ذاتي أغلبية مسلمة هما أوسيتيا وأبخازيا للانفصال عن جورجيا، ثم تضعهما تحت حمايتها العسكرية، وتلك سُنَّة كونية أخرى في تدافع الدول وتنافسها، فأين نحن من ذلك كله؟

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer