الجمعة، 4 سبتمبر 2015

حدث في الثامن عشر من ذي القعدة

في الثامن عشر من ذي القعدة من سنة 735 توفي، عن قرابة 85 سنة، قرب سَلَمية من بادية حمص الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع الفضلي الطائي أمير بادية الشام وصاحب تدمر، والملقب سلطان العرب، وكانت إمارة آل الفضل من حمص إلى قلعة جعبر شمالاً على الفرات وشرقاً إلى الرحبة بما فيها الفرات وأطراف العراق.
وآل فضل من طيئ، ازداد عددهم بانضمام أحياء من زبيد وكلب وهذيل ومذحج إليهم، يتنقلون بين الشام والجزيرة ونجد، طلبا للمراعى، واتصلوا بالحكومات في بدء عهد الدولة الأيوبية، فصارت هي التي تعين أمراءهم بصفة ولاة على أحياء العرب وهم المسؤلون عن حفظ السابلة بين الشام والعراق، وتعود إمرتهم لأيام الأتابك زنكي المتوفى سنة 541، ووالد نور الدين محمود، وكان الجد مانع ممن وقفوا مع الملك الأشرف الأيوبي موسى ونصروه أمام السلاجقة الذين أرادوا ضم حلب إلى مملكتهم في قونية.
وكان والد الأمير حسام الدين:شرف الدين عيسى أميراً على آل فضل والبادية، وكانت الإمارة عند ابن عمه أبي بكر ابن علي بن حديثة، ثم انتقلت إلى الأب، ولذلك قصة يحسن إيرادها، وهي أن الظاهر بيبرس قبل السلطنة جاء بيوت آل فضل هارباً من السلطان الملك الناصر بن محمد آخر ملوك بني أيوب، ولم يكن قد بقي معه سوى فرس واحد يعول عليه، فسأل أبا بكر فرسا يركبه فلم يعطه شيئا، وجرى ذلك بحضور عيسى بن مهنّا، فأخذه عيسى وضمّه إليه وآواه وأكرمه، وخيّره في خيله، فاختار منها فرسا، فأعطاه ذلك الفرس، وزوده وبالغ في الإحسان إليه، فعرفها له الظاهر، فلما تسلطن تزع الإمارة من أبي بكر وجعلها لعيسى بن مهنّا، وانتزع سلمية من أعمال حماة وجعلها لآل فضل.
وكان الأب في أيام الظاهر بيبرس يأتمر بأمره فيشن الغارات على الفرنج في الساحل الشامي وعلى المغول في العراق، وعلى الأرمن في شمال سوريا، وأصابته جراحات في ذلك.
ولما تولى السلطة الملك المنصور قلاوون سنة 678، تمرد عليه في دمشق الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، ودعا لنفسه بالملك، وانضم إليه عدد من أمراء المماليك كما انضم إليه الأمير عيسى، وانتهى التمرد عندما انفض أغلب الأمراء من حول سنقر الأشقر، ووافق الملك المنصور قلاوون على أن يجعله أميراً في الساحل الشامي لقتال الفرنج فيه، أما الأمير شرف الدين ابن مهنا فعزم على الهرب واللحاق بالمغول في العراق، ثم ما لبث أن راجع نفسه، وبادر فجاء من العراق إلى السلطان مبدياً الطاعة، وسأل الصفح عن ما فرط من ذنبه، من إعانة سنقر الأشقر، وما كان عزم عليه من الانضمام الى المغول، فركب السلطان إليه، وتلقاه وأكرمه، وبالغ في إكرامه وأحسن إليه.
وكان تقدير السلطان للأب في محله، ففي منتصف سنة 680 شن المغول حملة ذات شعبتين انطلقت من العراق لاسترجاع الشام بعد هزيمتهم في عين جالوت قبل 20 سنة، استهدف جيشُ الأولى شمال سورية بقيادة أبغا بن هولاكو واحتلت حلب، واستهدف جيش الثانية وسط سورية بقيادة منكو تيمور ابن هولاكو، ويسميه المؤرخون العرب منكوتمر، وضم الجيش عدداً كبيراً من الجورجيين والأرمن، وواجه السلطان قلاوون الحملة في قرب حمص، وكان على رأس ميمنة جيشه الأمير شرف الدين عيسى ابن مهنا وآل فضل وآل مري، وعربان الشام، ومن انضم إليهم، وكان النصر حليف المسلمين بفضل ثبات الميمنة لهجمة المغول ثم انقضاضها على ميسرتهم وكسرها كسرة تامة، في حين أن الميسرة الإسلامية تضعضعت وتشتت، وتوفي الأمير عيسى سنة 683، وكان رحمه الله رجلاً ديناً خيراً، انتفع الإسلام به في مواطن كثيرة. وصلحت العربان في أيامه، وقل فسادهم، بل كاد يعدم، مع لينه وحسن سياسته.
وعين السلطان المنصور قلاوون مهنا أميراً بعد وفاة أبيه، وزاد في إقطاعه، وتوفي قلاوون سنة 689 وخلفه ابنه الملك الأشرف خليل، المولود سنة 666، فجاء مهنا إلى القاهرة للقاء السلطان الجديد الذي أقره على الإمارة وأعاده معززاً مكرماً، وفي سنة 691 خرج الأشرف على رأس جيش اتجه شمالا لفتح قلعة الروم، وهي اليوم شمال نصيبNizip  في تركيا، وذلك نكاية في الأرمن المتحالفين مع المغول، فقد كانت مقام بطرك الأرمن، ويدعى الكاثوليكوس ويسميه العرب الجاثليق، ومر الجيش بقرية سرمين وكانت من إقطاع مهنّا، فآذى أهلها وأكلت دوابه زروعها، فشكى أهلها إلى مهنّا أذية العساكر، فشكا إلى الأشرف، فعزّت هذه الشكوى على الملك الشاب، ولعله لو كان كهلاً أو كبيراً تحملها، وقال: كم مبلغ ما آذوا حتى تواجهني بالشكوى، أو ما كان يغتفر هذا الفعل لهذا الجيش العظيم الخارج لأجل إذلال العدوّ وقصّ جناح الكفر!
ولم ينس الملك الشاب الحادثة وتصرف تصرفاً عكر النفوس أكثر، فقد كان في مركب في الفرات مع خواصّه ومضحكيه وجاءه مهنا ليهنئه بانتصاره، فأمر بمدّ الإسقالة ليدخل فلما دخل عليها غمز عليه فحركت الإسقالة فوقع مهنا في الماء وتلوث بالطين، وضحك الأشرف ومن حوله، وطوى مهنّا جوانحه على ألمها، ثم إنه استأذن في الانصراف إلى بيوته فأذن له الأشرف وقال إلى لعنة الله، فأسرّها مهنّا في نفسه ولم يبدها، وركب من وقته، وتوجّه إلى أهله، وأقام عندهم على حذر.
ولما عاد الملك الأشرف إلى مصر نزل بحماة فبعث إليه مهنّا بخيل وجمال فقبلها وخلع على رسوله وبعث له خلعة سنيّة ليطمئنه ثم يكبسه، فلما جاءت لبسها إظهارا للطاعة، وارتحل لوقته ضاربا في وجه البرّ فلم يتمّ للأشرف ما أراده منه، وعاد إلى مصر وفي نفسه من إمساك مهنّا وإخوته وبنيه، وظنّ مهنّا أن لا حقد عنده، وبخاصة أن السلطان لم يبد له إلاكرام، فقد زوَّج مهنا ابنته في سنة 692 فأمر السلطان بإخراج حرير من خزائنه لجهاز البنت وأمر كذلك بمثله لأم مهنا.
ولم يلبث الأشرف أن خرج في سنة 692 إلى دمشق، وخرج منها على أنه يصيد كباش الجبل، ثم إن مهنّا عمل له ضيافة عظيمة في سلمية فحضرها الأشرف وأكل منها، وأمر وهو على الطعام بالقبض عليه وعلى أخويه محمد وفضل وابنه موسى، وأرسلهم على الفور إلى مصر، وجعل السلطان إمرة العرب لابن عمه الأمير محمد بن أبي بكر علي بن حذيفة.
وحبس مهنا وصحبه في برج في القلعة وضيق عليهم إلا في الراتب لهم، وكان مهنّا في الحبس لا يأكل إلا بعد مدّة، وإذا أكل ما يقيم رمقه ويصلي الصبح، ويدير وجهه إلى الحائط ويصمت ولا يكلم أحدا حتى تطلع الشمس، ثم يقوم بعجلة وسرعة ويأخذ كفا من حصى وتراب كان هناك ثم يزمجر ويرمي به إلى الحائط كالأسد الصائل.
ومالبث الفرج أن جاءهم فقد تآمر بعض الأمراء وقتلوا الملك الأشرف في أول سنة 693، وتسلطن الأمير كتبغا المنصوري وتلقب بالملك العادل فأفرج عن مهنا وأعاده إلى إمارته، ولخروج مهنا وصحبه قصة طريفة، يرويها مظفر الدين موسى ولد مهنّا، قال: لما كنا بالاعتقال كان عمي محمد بن عيسى مغرى بدخول المرتفق والتطويل فيه، وكان المرتفق، أي المرحاض، مقاربا لدور حريم السّلطان ولبعض الأمراء، فقلت له في ذلك، فقال: يا ولد مهنّا لعلي أسمع خبرا من النسوان فإنهنّ يتحدثن بما لا يتحدث به الرجال. فبينا نحن ذات يوم، وإذا بمحمد قد خرج، وقال: بشراكم قد سمعت صائحة النساء تقول: وا سلطاناه! فقلنا له: دعنا مما تقول، فقال: ما أقول لكم حقّ. وكان لنا صاحب من العرب تنكر وأقام بمصر، وكان يقف قبالة مرمى البرج الذي نحن فيه، ويومئ إلينا ونومئ إليه غير أنّه لا يسمعنا ولا نسمعه، فلما كان في تلك الساعة ومحمد يحدثنا، وإذا بصاحبنا قد جاء وأومأ ثم مدّ يده الى التراب وصنع فيه هيئة قبر ونصب عليه عودا عليه خرقة صفراء كأنّها سنجق السلطان ثم نكسها، وقعد كأنه يبكي، ثم وقف قائما ورقص فتأكد الخبر عندنا بموت الأشرف، فلما فتح علينا من الغد سألنا الفتاح والسجّانين فأنكرونا ثم اعترف لنا بعضهم، وكان ذلك أعظم سرور دخل على قلوبنا.
وأعيد الجماعة الى أهلهم إلا مهنّا فإنه أخّر مدة ثم جهّز فلما خرج من دمشق لحقه البريد إلى ثنيّة العقاب بأن يعود فامتنع وقد توجّه إلى أهله وكانوا قد ندموا على إطلاقه، ولم تدم مدة كتبغا في الحكم سوى سنتين، فقد خالفه وهو في الشام الأمير لاجين بمصر، واستولى على كرسي السلطنة، وأرسل إليه يأمره بخلع نفسه، فأذعن كتبغا وأشهد على نفسه بالخلع وهو في دمشق سنة 696.
وتولى السلطنة اللك المنصور لاجين فزاد في إكرام مهنا لعلاقتهما السابقة، وفي سنة 697 قدم الأمير مهنا بن عيسى إلى القاهرة واستأذن السلطان في الحج فأذن له، وأكرمه السلطان وألبسه خلعة فوق ما هو معتاد في السابق لأمثاله، ولما أنكر الأمراء ذلك، فاعتذر لهم لاجين بتقدم صحبته له وأياديه عنده، وأنه أراد أن يكافئه على ذلك.
وقُتل لاجين في سنة 698 وعاد محمد بن قلاوون إلى السلطنة، ولكنه في حكم المحجور عليه والأعمال في يد الأستادار  الأمير بيبرس الجاشنكير ونائب السلطنة الأمير سلار، ودام على هذه الحال إلى سنة 709 حين امتلك قياد الدولة، فأدارها وبنى في مصر كثيراً من المنشآت العمرانية النافعة، وتوفي سنة 741.
وكان مهنا بن عيسى يحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية حبا زائدا، هو وذريته وعربه، وله عندهم منزلة وحرمة وإكرام، يسمعون قوله ويمتثلون، وهو الذى نهاهم أن يغِيْر بعضهم على بعض، وعرفهم أن ذلك حرام، ولما سُجِن ابن تيمية في مصر بسبب فتواه في الطلاق وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، سافر مهنا إلى القاهرة في ربيع الأول  من سنة 707 ، فأكرمه السلطان وخلع عليه، فسأله الإفراج عن ابن تيمية فأجابه إلى ذلك، فخرج بنفسه إلى الجب بالقلعة وأخرجه منه، وعقد للشيخ مجالس حضرها أكابر الفقهاء.
وكان لمهنا دالة كبيرة على الملك الناصر ومما يدل على ذلك أنه في أوائل سنة 710 جاء إلى القاهرة فأكرمه السلطان وخلع عليه، فسأل في أشياء منها: ولاية حماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل علي الأيوبي، فأجابه السلطان إلى ذلك، ومنها الشفاعة في الأمير عز الدين أيدمر الشيخي، فعفا عنه السلطان وأخرجه إلى قوص، ومنها الشفاعة في الأمير برلغي الأشرفي وكان في الأصل قد كسبه مهنا من المغول وأهداه للملك المنصور قلاوون، فعدد السلطان ذنوبه، وما زال به مهنا حتى خفف عن برلغي، وأذن للناس في الدخول عليه، ووعده بالإفراج عنه بعد شهر، فرضي منه بذلك، وعاد إلى بلاده وهو كثير الشكر والثناء. ولكن الملك الناصر ضيّق على الأمير برلغي بعد سفر الأمير مهنا، وأخرج حريمه من عنده، ومنع من الوصول إليه، ومن أن يُدخَل إليه بأكل أو شرب فلما أشفي برلغي على الموت قتل، بعدما يبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدة الجوع، فعزّ على مهنا عدم قبول شفاعته مع سابق إخلاصه الوطيد.
وفي سنة 710 أجرى الملك الناصر سلسلة مناقلات بين الأمراء واعتقل بعضهم، وعلم نائب السلطان في الشام الأمير قرا سُنقر أن السلطان محمد بن قلاوون يريد القبض عليه وعلى بعض الأمراء، ممن شاركوا في قتل أخيه الملك الأشرف، وكذلك لتصبح يده مطلقة في حكم الشام، فقد كان قرا سنقر ملك الشام غير المتوج لكونه فيها منذ فترة طويلة جداً، وكان قرا سنقر المتخوف قد طلب من السلطان إذناً بأداء الحج فأذن له، ولكنه خشي أن يعتقل في الطريق، فثنى عنانه وعرج على مضارب مهنا بن عيسى، وترك أولاده في حلب، وكان مهنا في القنص، فأجارته ومن معه أم الفضل زوج مهنا وبنت عمه، فقال: إنما أطلب أولادي ومالي، فقالت له: لك ما تحب، فانزل في جوارنا.
وعاد مهنا من القنص، فأحسن نُزله وحكّمه في ماله،. فقال: إنما أحب أهلي ومالي الذي تركته بحلب. فسار مهنا بفرسانه مع قرا سنقر إلى حلب، ودخلت مماليك قرا سنقر البلد وأخرجت ما كان له بها من ذخائر، وحاول واليها منعهم ولكن قواته كانت أضعف من فرسان مهنا، فتركهم وشأنهم، ولكن قرا سنقر لم يستطع أن يضم إليه أولاده فقد كان السلطان قد أمر بهم فسيروا على البريد إلى مصر.
وجرت مفاوضات بين الملك الناصر محمد بن قلاوون وبين الأمراء الهاربين، وكانوا ثلاثة من أكبر أمرائه، وكان مهنا يسترضي السلطان لهم، وعرض عليهم السلطان أن يعودوا بالأمان ويعطيهم ولايات لم ترضهم، وامتدت المفاوضات دون طائل، فتحول ما قدروه نزولاً عابراً إلى إقامة دائمة، وأصبحوا من سكان البوادي، ولكنهم بعد فترة ضاقت بهم عيشة البادية وخشونتها مما لم يعتادوا عليه، وبدأ ممالكيهم يهربون منهم بسببها، فتحدث قراسنقر مع مُهنا في هذا، فقال له: أنا كنت أريد أحدثك في هذا، ولكن خشيت أن تظن أني استثقلت بكم، لا والله! ولكن أنتم ما يضمكم إلا الحاضرة والمدن، والملك الناصر قد تخبث لكم، وأنتم قد تخبثتم له، وما بقي إلا ملك الشرق؛ السلطان خربندا، وهو كما أسمع ملك كريم محسن إلى من يجيه ويقصده، فدعوني أكتب إليه بسببكم. فوافقوه على هذا، فكتب لهم، فعاد جواب خربندا بأن يجهزهم إليه، ويعدهم بالخير والإحسان.
وتوجه المنشقون إلى خربندا وفي صحبتهم سليمان بن مهنا، وأرسل مهنا له هدايا وخيولا عربية، ووجد الأمراء منه إكراماً كثيراً وأعطى قراسنقر ولاية مراغة، وأدخله في مشورته، وخربندا هذا الذي تذكره الرواية، ويقال له كذلك أولجايتو، هو غياث الدين محمد بن أرغون بن أبغا ابن هولاكو بن تولي بن جنكزخان المغلي، ولقبه الحقيقي خُدا بندا ومعناه عبد الله، فغيره الناس تهكماً فقالوا خربندا أي صاحب الحمار، وكان صاحب العراق وأذربيجان وخراسان، ودامت دولته 13 سنة من سنة 703 إلى وفاته سنة 716، وكان راجح العقل، يروى أنه جعل قرا سنقر في أهل مشورته، لأنه يوم وصول الأمراء قال لكل واحد منهم: أيش تريد؟ فقال كل منهم شيئاً، أما قراسنقر فقال: ما أريد إلا امرأة كبيرة القدر أتزوج بها، فقال: هذا كلام من يعرِّفنا أنه ما جاء إلا مستوطناً عندنا، وأنه ما بقي له عودة إلى بلاده. فعظُم عنده بهذا، وزوجه بنت نائبه الأمير قطلوشاه.
وكانت هذه الخطوة من الأمراء ومن مهنا خطيرة جداً وذات وقع كبير لدى السلطان، فقد كان المغول، رغم هزيمتهم في شقحب سنة 702، لا يزالون يطمعون في مد دولتهم من العراق وأذربيجان وخراسان إلى الشام بل ومصر، ولم تتحسن العلاقات معهم وتستقر إلا في أيام القان أبو سعيد بركة بن خربندا، ولذا فإن انضمام ثلاثة من كبار الأمراء إلى خدا بندا أمر له ما وراءه، ونصر معنوي كبير للمعسكر المغولي، وبخاصة أن خدا بندا أرسل إلى مهنا أموالا وخلعا، كما أصدر برالغ له ولأهله في البصرة والحلة والكوفة وسائر البلاد الفراتية. والبرالغ مفرد برلغ وهو خطاب سلطاني بمثابة تأشيرة الزيارة والتجول في عصرنا هذا.
وبالفعل لم يتأخر خدا بندا في إظهار قوته، فقام في رمضان سنة 712، ومعه قراسنقر وسليمان بن مهنا، بشن هجوم على الرحبة على الحدود بين دولته والدولة المملوكية، ولكنه أخذها بالأمان وعفا عن أهلها، ولم يسفك فيها دماً، ثم رحل عنها وترك فيها جيشُه كثيراً من المعدات والسلاح الذي انتفع أهلها ببيعه.
وإزاء هذا التصرف أمر الملك الناصر في سنة 712 بعزل مهنا من الإمارة وتولية أخيه فضل مكانه، وجاء في كتاب تعيينه ما يدل على توجس الدولة وتخوفها من المغول: وليكن لأخبار العدو مطالعاً، ولنجوى حركاتهم وسكناتهم على البعد سامعاً، ولديارهم كل وقت مصبِّحا، حتى يظنوه من كل ثنيةٍ عليهم طالعاً، وليدم التأهب حتى لا تفوته من العدو غارةٌ ولا غرة، ويلزم أصحابه بالتيقظ لإدامة الجهاد الذي جرب الأعداء منه مواقع سيوفهم غير مرة.
وبقي مهنا في البادية موالياً لخدا بندا الذي أعطاه إقطاعاً بالعراق هو مدينة الحلة، وهو في الوقت نفسه لم يشق عصا الطاعة علناً على الملك الناصر، الذي يبدو أنه رضي منه بذلك وتجاوز عن انحيازه للمغول ولم ينزع منه إقطاعه، فصار له إقطاع من كلتي الدولتين المتنافستين، وحاول الملك الناصر استمالة مهنا ليأتيه تائباً ويعلن ولاءه الخالص له، ولكنه كان يمانع ويراوغ، لأن تصرفات السلطان مع الأمراء كانت لا توحي له بالأمان، واكتفى بأن استمر ابنه موسى بن مهنا في صداقة السلطان والتردد إلى الخدمة، وكان كذلك يرسل إليه إخوته وأولاده، والناصر يغدق عليهم إنعامه، والمراسلات بينه وبين الناصر لا تنقطع، وإذا ظهرت للمسلمين مصلحة نبّه مهنا عليها وأشار إليها، وكان السلطان يقبل نُصحه.
وحيث كان آل فضل يقومون بحماية الحجيج وتأمين طريقهم، توجه مهنا إلى خدا بنده سنة 716 فقرر معه أمر ركب الحج العراقى وعاد إلى تدمر، وأعطاه عصاه خفارة لركب الحاج.
وتوفي خدا بنده في رمضان من سنة 716، وخلفه ابنه أبو سعيد الذي كان يريد إنهاء النزاع بين الدولتين المسلمتين وبدأ في اتخاذ الإجراءات المؤدية لذلك، ولعل هذا السبب في عودة مهنا إلى ظل الدولة المملوكية، فرجع من العراق إلى بادية الشام، وبعث ابنيه محمداً وموسى وأخاه محمد بن عيسى إلى الملك الناصر، فأكرمهم وأحسن إليهم، ورد مهنا إلى إمارته وإقطاعه في سنة 717، وكتب له العهد بالإمارة الشيخ شهاب الدين محمد بن سلمان الحلبي، المولود سنة 644 والمتوفى سنة 725، وهذا نص الكتاب:
الحمد لله الذي أرهف حسام الدين في طاعتنا بيد من يمضي مضاربه بيديه، وأعاد أمر القبائل وإمرتهم إلى من لا يصلح أمر العرب إلا عليه، وحفظ رتبة آل عيسى باستقرارها لمن لا يزال الوفاء والشجاعة والطاعة في سائر الأحوال منسوباتٍ إليه، وجعل حسن العقبى بعنايتنا لمن لم يتطرق العدو إلى أطراف البلاد المحروسة إلا ورده الله تعالى بنصرنا وشجاعته على عقبيه.
نحمده على نعمه التي ما زالت مستحقةً لمن لم يزل المقدم في ضميرنا، المعول عليه في أمور الإسلام وأمورنا، المعين فيما تنطوي عليه أثناء سرائرنا ومطاوي صدورنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً توجب على قائلها حسن التمسك بأسبابها، وتقتضي للمخلص فيها بذل النفوس والنفائس في المحافظة على مصالح أربابها، وتكون للمحافظ عليها ذخيرةً يوم تتقدم النفوس بطاعتها وإيمانها وأنسابها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث من أشرف ذوائب العرب أصلاً وفرغاً، المفروضة طاعته على سائر الأمم ديناً وشرعاً، المخصوص بالأئمة الذين بثوا دعوته في الآفاق على سعتها ولم يضيقوا لجهاد أعداء الله وأعدائه ذرعاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بصحبته الرتب الفاخرة، وحصلوا بطاعة الله وطاعته على سعادة الدنيا والآخرة، وعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف فلم يزحزحهم عن ظلها الركون إلى الدنيا الساحرة، صلاةً تقطع الفلوات ركائبها، وتسري بسالكي طرق النجاة نجائبها، وتنتصر بإقامتها كتائب الإسلام ومواكبها، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن أولى من تلقته رتبته، التي توهم إعراضها بأيمن وجه الرضا، واستقبلته مكانته، التي تخيل صدودها بأحسن مواقع القبول التي تضمنت الاعتداد من الحسنات بكل ما سلف، والإغضاء من الهفوات عما مضى، وآلت إليه إمرته التي خافت العُطل منه وهي به حالية، وعادت منزلته إلى ما ألفته لدينا من مكانة مكينة، وعرفته عندنا من رتبة عالية، من أمنت شمس سعادته في أيامنا من الغروب والزوال، ووثقت أسباب نعمه بأن لا يروع مريرها في دولتنا بالانتقاص ولا ظلالها بالانتقال، وأغنته سوابق طاعته المحفوظة لدينا عن توسط الوسائل، واحتجت له مواقع خدمه التي لا تجحد مواقفها في نكاية الأعداء ولا تنكر شهرتها في القبائل، وكفل له حسن رأينا فيه بما حقق مطالبه، وأحمد عواقبه، وحفظ له وعليه مكانته ومراتبه؛ فما توهم الأعداء أنَّ برقه خبا حتى لمع، ولا ظنوا أن ودقه أقلع حتى همى وهمع، ولا تخيلوا أن حسامه نبا حتى أرهفته عنايتنا فحيثما حل من أوصالهم قطع؛ وكيف يضاع مثله؟ وهو من أركان الإسلام التي لا تنزل الأهواء ولا ترتقي الأطماع متونها، ولا تستقر الأعداء عند جهادها واجتهادها في مصالح الإسلام حسبها ودينها.
ولما كان المجلس العالي مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضبة بن فضل ابن ربيعة، هو الذي لا يحول اعتقادنا في ولائه، ولا يزول اعتمادنا على نفاذه في مصالحنا ومضائه، ولا يتغير وثوقنا به عما في خواطرنا من كمال دينه وصحة يقينه، وأنه ما رفعت بين يدينا راية جهادٍ إلا تلقاها عرابة عزمه بيمينه؛ فهو الولي الذي حسنت عليه آثار نعمنا، والصفي الذي نشأ في خدمة أسلافنا ونشأ بنوه في خدمتنا، والتقي الذي يأبى دينه إلا حفظ جانب الله في الجهاد بين يدي عزيمتنا وأمام هممنا - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نصرح له من الإحسان بما هو في مكنون سرائرنا، ومضمون ضمائرنا، ونعلن بأن رتبته عندنا بمكانٍ لا تتطاول إليه يد الحوادث، ونبين أن أعظم أسباب التقدم ما كان عليه من عنايتنا وامتناننا أكرم بواعث.
فلذلك رسم أن يعاد إلى الإمرة على أمراء آل فضل، ومشايخهم ومقدميهم، وسائر عربانهم، ومن هو مضافٌ لهم ومنسوبٌ إليهم، على عادته وقاعدته.
فليجر في ذلك على عادته التي لا مزيد على كمالها، ولا محيد عن مبدئها في مصالح الإسلام ومآلها، آخذاً للجهاد أهبته من جمع الكلمة واتحادها، واتخاذ القوة وإعدادها، وتضافر الهمم التي ما زال الظفر من موادها والنصر من أمدادها، وإلزام أمراء العربان بتكميل أصحابهم، وحفظ مراكزهم التي لا تسد أبوابها إلا بهم، والتيقظ لمكايد عدوهم، والتنبه لكشف أحوالهم في رواحهم وغدوهم، وحفظ الأطراف التي هم سورُها من أن تسورها مكايد العدا، وتخطف من يتطرق إلى الثغور من قبل أن يرفع إلى أفقها طرفاً، أو يمد على البعد إلى جهتها المصونة يدا، وليبث في الأعداء من مكايد مهابته ما يمنعهم القرار، ويحسن لهم الفرار، ويحول بينهم وبين الكرى لاشتراك اسم النوم وحد سيفه في مسمى الغرار.
وأما ما يتعلق بهذه الرتبة من وصايا قد أُلفت من خلاله، وعرفت من كماله، فهو ابن بجدتها، وفارس نجدتها، وجهينة أخبارها، وحلبة غايتها ومضمارها، فيفعل في ذلك كله ما شكر من سيرته، وحمد من إعلانه وسريرته؛ وقد جعلنا في ذلك وغيره من مصالح إمرته أمره من أمرنا: فيعتمد فيه ما يرضي الله تعالى ورسوله، ويبلغ به من جهاد الأعداء أمله وسوله؛ والله الموفق بمنه وكرمه.
ولنشرح قوة هذا الأمير وعصبته نذكر أنه حج في سنة 717 هو وولده سليمان فكانا في ستة آلاف، وكان أخوه محمد بن عيسى في أربعة آلاف.
وفي أوائل سنة 718 سار الأمير المعزول فضل أخو مهنا إلى الملك المغولي أبو سعيد ابن خُدا بندا وكبير أمرائه جوبان واجتمع بهما في بغداد، وأحضر لهما هدية من الخيول العربية وقعت موقعاً حسناً من الأمير جوبان فأقطعه بادية البصرة، واستمرت له إقطاعاته التي كانت له بالشام بيده مع البصرة، وأقام فضل عندهما مدة، واجتمع بقرا سنقر هناك، ثم عاد إلى مضارب عشيرته في البادية.
وأثارت هذه الخطوات وأمثالها حفيظة السلطان فأمر في أول سنة 720 بطرد آل فضل من البلاد، ونزع إقطاعاتهم، فرحلوا عن أراضي سلمية وساروا إلى جهات عانة والحديثة على شاطئ الفرات، وجعل السلطان محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثة بن عقبة أميراً مكان ابن عمه مهنا بن عيسى الذي عاد فالتحق بالدولة المغولية في العراق.
وفي سنة 734 قرر مهنا بن عيسى أن يعود إلى رحاب الدولة المملوكية، فذهب إلى دمشق في معية الملك الأفضل صاحب حماة، فاستقبله تنكز نائب السلطان بها وأكرمه، ثم سافر إلى القاهرة فتلقاهما أعيان الأمراء، وصفح الملك الناصر عنه، وخلع عليه وعلى أصحاب مئة وستين خلعة، ورسم له بمال كثير من الذهب والفضة والقماش، وأقطعه عدة قرى، وعاد إلى أهله مكرماً، فعاد وأخلص الولاء لاصحاب مصر حتى توفي وقد أناف على الثمانين.
كان مهنا بن عيسى مثال البدوي الشهم الصالح، فقد كان كريم الأخلاق، حسن الجوار، مكفوف الشرّ يرجع إلى خير وعقل ورئاسة، وله معروف، من ذلك مارستان جيد بناه بسرمين، ومن أخلاقه ما رواه الشيخ شهاب الدين محمد بن سلمان الحلبي، الذي كان شيخ كتاب الديوان السلطاني في عصره، قال: حضرت الأمير طرنطاي المنصوريّ وهو مخيم بالخربة، وعن يمينه مهنا بن عيسى وعن يساره ابن عمه أحمد بن حجيّ أمير آل مرا، فادّعي أحمد بألف بعير أخذتها آل فضل لعربه، وألحّ في المطالبة، واحتدّ وارتفع صوته، ومهنّا ساكت لا يتكلم، فلما طال الأمر تمادى في الضجيج وتمادى مهنّا في السكوت، أقبل طرنطاي على مهنّا، وقال: ما تقول يا ملك العرب؟ فقال: وما أقول؟ نعطيهم ما طلبوا؛ هم أولاد عمّنا، وإن كانت لهم عندنا هذه البعران فقد أعطيناهم حقّهم، وإن كان ما لهم شيء، فما هو كثير إذا أعطينا بني عمّنا من مالنا. فلما سمع أحمد هذا الكلام لم يعجبه، وأطال القول في الاحتجاج والخصومة، ومهنّا ساكت، فلما زاد رفع مهنّا رأسه إليه، وقال له: يا أحمد إن كان كلامك عليك هينا فكلامي عليّ ما هو هين، وهذه الأباعر أقلّ من أن يحصل فيها كلام، وأنا معطيك إياها! ثم قام، فقال طرنطاي: هكذا والله يكون الأمير.
وبعد وفاة مهنا ولّى الملك الناصر محمد بن قلاوون ابنه موسى الملقب مظفر الدين، والذي كان من أقرب الناس للدولة المملوكية، لأنه لم يخرج عن الطاعة، ولم يأخذ من المغول إقطاعاً، وكان لذلك كبير الدالة على الناصر، كثير الجرأة عليه، والناصر يكثر من الإحسان إليه، وقدم على الناصر سنة 38 فأنعم عليه وأعطاه ضيعتين زيادة، واستمرأميراً إلى أن توفي بتدمر سنة 742، وقال عنه ابن تغري بردي: كان من أجل ملوك العرب.
وتولى الإمارة بعد موسى أخوه سليمان، وكان كذلك بطلاً شجاعاً وأميراً جواداً، وقد ذكرنا من قبل أن أباه أصحبه قرا سنقر والأمراء المنشقين، فبقي مع المغول 17 سنة، وجاء في سنة 730 ولذلك قصة لطيفة وهي أن أبوه وإخوته كانوا يرفدونه بالمال ويحذرونه من الملك الناصر محمد بن قلاوون، ولكنه قرر أن يسير للسلطان دون علمهم فلم يسمع أهله إلا وهو في مصر، وأكرمه الملك الناصر وأعطاه إقطاعاً مناسباً ثم جعله أميراً سنة 642 إلى وفاته سنة 744.
وبقيت الإمارة في بادية الشام الوسطى في آل مهنا إلى أن انتهت في سنة 808 بسبب البغي والفساد، على يد حفيده محمد بن حيار بن مهنا بن عيسى بن مهنا، المعروف بنُعير، والذي ولي الإمرة بعد أبيه سنة 777، وكان شجاعا جوادا مهيبا، إلا أنه كثير الغدر والفساد، فجرت بينه وبين أمير حلب الأمير جكم وقعة كُسِرَ فيها نعير، وجئ به إلى حلب فقتل فيها، وقد نيف على السبعين، وبموته انكسرت شوكة آل مهنا.
صورة ثرة حية من تاريخنا لعرب البادية تتبدى فيها قيم الأصالة والشهامة والوفاء والكرم والعطاء والمروءة والإباء، لم يخب نورها لدى أهل البادية تنتظر من يخرج فيها هذه المعادن الأصيلة والمعاني السامية في ساعة العطاء والنماء.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer