الأحد، 20 سبتمبر 2015

حدث في الرابع من ذي الحجة

في الرابع من ذي الحجة من سنة 855 توفي في القاهرة، عن 93 سنة، العلامة المحدث بدر الدين العيني، محمود بن أحمد بن موسى العيني، نسبة إلى عينتاب، أحد كبار علماء القرن التاسع ومن المصنفين المكثرين، وصاحب عمدة القاري في شرح البخاري.

ولد العيني في عينتاب في السابع والعشرين من رمضان من سنة 762، وكان والده من أهل حلب ولكنه تولى قضاء عينتاب التي كانت من أعمال حلب، وهي اليوم غازي عينتاب جنوبي تركيا، فولد له فيها بدر الدين، وكان والده المولود في حدود سنة 720 فقيهاً يستحضر فروع الفقه ويعرف أمور السجلات والمكاتيب، وعمل في القضاء نحواً من 30 سنة، وتوفي في عينتاب سنة 784.

ونشأ بدر الدين في عينتاب وحفظ القرآن الكريم وتفقه على والده وعلى غيره من كبار علماء بلده، فدرس النحو والصرف والعربية والمنطق والفقه والفرائض والفقه المقارن، وبرع فيها حتى ناب عن والده في مجلس القضاء، ورحل في سنة 883 إلى حلب ودرس الفقه الحنفي على العلامة جمال الدين يوسف بن موسى المَلَطيّ الحنفي، ثم رحل في طلب العلم إلى بليدات في وسط الأناضول وجنوبه مثل بهسنا وكختا ومَلَطية، ثم عاد إلى عينتاب. 

وبعد وفاة والده رحل بدر الدين لزيارة بيت المقدس فالتقى هناك بالعلامة علاء الدين أحمد بن محمد الحنفي السيرامي، نسبة إلى سيرام من بلاد وراء النهر، والذي كان في القدس في طريقه من حلب إلى القاهرة حيث استدعاه الملك الظاهر برقوق ليجعله في مدرسته التي بناها بين القصرين، فأخذه السيرامي معه إلى القاهرة في سنة 788.

واستقر السيرامي في سنة 789 شيخاً للصوفية في المدرسة ومدرساً للحنفية، فأنزل بدر الدين في المدرسة ثم جعله خادماً بها، ودرس العيني على السيرامي الفقه وأصوله والتفسير والبيان، وقال بدر الدين عن شيخه: كنت في صحبته يوم تولى المدرسة إلى أن توفي، ليلاً ونهاراً، فلم أر منه شيئاً يخالف الكتاب والسنة أو العادة الحسنة، ولا سمعته قط تلفظ بكلام قبيح أو كلام فاحش، ولا اغتاب أحداً قط، ولا عبس في وجه أحد قط، ولا طلب من أحد شيئاً حتى السلطان، وكان دائماً يبكي ويتأسف على تناوله من الأوقاف ومن أموال الدولة، وكان يحلف ويقول بأنه ما خرج إلى هذه الديار إِلا لأن يجاور في القدس أو في المدينة النبوية فينقطع إلى الله تعالى ويشتغل بعبادته، ولكن المقدور أظهر خلاف ما أضمر.

وفي تلك الفترة قرأ بدر الدين العيني الحديث على المحدث الكبير الحافظ العراقي، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين، المولود سنة 725 والمتوفى سنة 806، قرأ عليه صحيح مسلم والإلمام لابن دقيق العيد.

وتوفي السيرامي سنة 790  فخلا المجال لبعض الفقهاء من حسدة العيني فأوغروا عليه صدر أحد كبار أمراء الدولة، وهو الأمير جركس الخليلي، فأخرجه من المدرسة ورام إبعاده عن القاهرة، ولكن حال دون ذلك تدخل الإمام سراج الدين البُلقيني، عمر بن رسلان المولود سنة 724 والمتوفى سنة 805.

وبعد فترة يسيرة غادر بدر الدين العيني القاهرة إلى حلب وعينتاب، وبقي فيها مدة ثم عاد إلى القاهرة، عًطلاً من أي وظيفة في مساجدها ومدارسها العديدة، ولكن صار يتردد على بعض كبار  الأمراء، واصطحبه للحج الأمبر تمربغا المشطوب في سنة 799، وفي سنة 801 توفي الظاهر برقوق بعد أن حكم فعلاً واسماً قرابة 21 سنة، وتولى الحكم ابنه فرج وكان في العاشرة من عمره، وتسمى بالملك الناصر، فترقى كثير من هؤلاء الأمراء، ومنهم الأمير سيف الدين جكم الظاهري فسعى له في تولى وظيفة محتسب القاهرة في آخر سنة 801، فصرف السلطان عنها الشيخَ تقي الدين المقريزي، المؤرخ الكبير، وأعطاها للعيني ولكنه لم يدم فيها غير شهر. 

ولم تكن تلك المرة الأخيرة للعيني في حسبة القاهرة فقد تولاها عدة مرات لفترات كلها ليست بالطويلة، آخرها في سنة 846، وجاء بعضها في إبان شح في القمح والخبز، واشتُهر العيني بطريقته في تعزير المخالفين وهي أن يأمر بمصادرة بضاعتهم وإطعامها للفقراء والمحابيس، ولم تذكر عليه أية ملاحظات في إدارته أو نزاهته، بخلاف غيره ممن تولوا هذا المنصب، وتلك شهادة ضمنية لهذا الإمام الكبير، وإن كان في غنى عنها، وقد حدث أن أحد خواص السلطان ويدعى فيروز الساقي نسب بدر الدين العيني إلى أمور مشينة في قضائه مثل تناول الرشوة والحكم بالغَرَض، فأحضر السلطان القاضي وأراد من فيروز أن يواجهه ويحاققه، فخارت قواه فاعتذر واستغفر، فاشتد غضب السلطان وأمر بأن بنفي بعد أن ضرب بحضرته ضرباً شديداً.

وتولى بدر الدين العيني نظر الأوقاف في مصر عدة مرات، وهو منصب يحتاج إلى القوي الأمين الذين يحسن إدارة  الأوقاف واستغلالها، والوفاء بشروط واقفيها، والذب عنها إزاء الطامعين في وظائفها وعقارها، وكانت أول مرة له في هذا المنصب في سنة 804 وآخرها في منتصف سنة 852 حين عزل عن النظر في الأوقاف بسبب كبر سنه.

وفي  سنة 814 قتل الأمراء الملك الناصر فرج بن برقوق، وجعلوا في السلطنة الخليفة العباسي المستعين بالله العباس بن محمد فجمع بين الخلافة والسلطنة، ولكن الأمير شيخ المحمودي ما لبث أن خلعه في سنة 815 وتولى السلطنة وتلقب بالملك المؤيد وبقي في الحكم حتى وفاته سنة 824 عن قرابة 54 عاماً.

وشهدت هذه السنة 3 ملوك، فقد عهد الملكَ المؤيد لابنه الملك المظفر أحمد، وتولى الأمير ططر إدارة المملكة وتزوج أم المظفر، ثم بعد فترة وجيزة خلع المظفر وطلق أمه، ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك الظاهر، ولم يلبث أن مات،

وفي أثناء فترته الوجيزة أرسل السلطان الملك الظاهر ططر الشيخ بدر الدين العيني في مهمة إلى دويلات الأناضول التركمانية المعروفة ببلاد مان، وذلك إن أحد ملوكها قره يوسف هدد بالحرب، فأرسل السلطان مبعوثاً إلى جيرانه يخبرهم بعزمه على المسير لحربه، ويطلب منهم التجهز للمسير معه، أما مهمة العيني فكانت تحليف نواب قلاع وبلاد البلدان القرمانية على الولاء والطاعة للسلطان، ودامت المهمة قرابة 3 أشهر.

وبويع محمد ابن الملك الظاهر ططر وتلقب بالملك الصالح، وكان في الثالثة عشر، وتولى الأمير برسباي تدبير الملك أسابيع، ثم خلع الصالح ونادى بنفسه سلطانا، وتلقب بالملك الأشرف، فأطاعه الأمراء وهدأت البلاد في أيامه.

وكان بدر الدين العيني نديم الملك الأشرف، ويبيت عنده في بعض الأحيان، وكان يعجب الأشرفَ قراءتُه في التاريخ، لكونه يقرأه باللغة العربية ثم يفسر ما قرأه باللغة التركية لفصاحته في اللغتين، وكان للعيني تأثير جيد على الملك الأشرف، وعن ذلك قال المقريزي في تاريخه عن هذا الأمر: كان الزيني عبد الباسط ... يحسن له القبائح في وجوه تحصيل المال، ويهون عليه فعلها، حتى يفعلها الأشرف وينقاد إليه بكليته، وحسَّن له أموراً لو فعلها الأشرف لكان فيها زوال ملكه، ومال الأشرف إلى شيء منها لولا معارضة قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني له فيها عندما كان يسامره بقراءة التاريخ، فإنه كان كثيراً ما يقرأ عنده تواريخ الملوك السالفة وأفعالهم الجميلة، ويذكر ما وقع لهم من الحروب والخطوب والأسفار والمحن، ثم يفسر له ذلك باللغة التركية، وينمقها بلفظه الفصيح، ثم يأخذ في تحبيبه لفعل الخير والنظر في مصالح المسلمين، ويرجعه عن كثير من المظالم، حتى لقد تكرر من الأشرف قوله في الملأ: لولا القاضي العيني ما حسن إسلامنا، ولا عرفنا كيف نسير في المملكة. وكان الأشرف اغتنى بقراءة العيني له في التاريخ عن مشورة الأمراء في المهمات، لما تدرب بسماعه للوقائع السالفة للملوك.

وعقب ابن تغري بردي على ذلك في النجوم الزاهرة فقال: وما قاله الأشرف في حق العيني هو الصحيح، فإن الملك الأشرف كان لما تسلطن أمياً صغير السن بالنسبة لملوك الترك الذين مسهم الرق، فإنه تسلطن وسنه يوم ذاك نيف على أربعين سنة، وهو غر لم يمارس التجارب، ففقهه العيني بقراءة التاريخ، وعرفه بأمور كان يعجز عن تدبيرها قبل ذلك، منها: لما كسرت مراكب الغزاة في غزوة قبرس، فإن الأشرف كان عزم على تبطيلها في تلك السنة ويسيرها في القابل، حتى كلمه العيني في ذلك، وحكى له عدة وقائع صعب أولها وسهل آخرها، فلذلك كان العيني هو أعظم ندمائه وأقرب الناس إليه، على أنه كان لا يداخله في أمور المملكة البتة، بل كان مجلسه لا ينقضي معه إلا في قراءة التاريخ، وأيام الناس وما أشبه ذلك.

ويذكر ابن تغري بردي في ترجمته للأمير المملوكي سيف الدين جارقطلو الذي كان مقرباً من الملك الأشرف برسباي، ولكنه كان معروفاً بمعاقرة الخمرة، حادثة لطيفة: وكان إذا جلس قاضي القضاة بدر الدين العيني عند السلطان في ليالي الخدم، وأخذ في قراءة شيء من التواريخ، يشير إليه السلطان بحيث لا يعلم جارقطلو، فينتقل مما هو فيه إلى شيء من الوعظيات، ويأخذ في التشديد على شَرَبة الخمر وما أشبه ذلك، ويبالغ في حقهم، والأشرف أيضاً يهول الأمر ويستغفر، فإذا زاد عن الحد يقول جارقطلو: يا قاضي، ما تذكر إلا شَرَبة الخمر وتبالغ في حقهم بأنواع العذاب، ليش ما تذكر القضاة وأخذهم الرشوة والبراطيل وأموال الأيتام! يقول ذلك بحدة وانحراف حلو، فلما يسمع الملك الأشرف كلامه يضحك وينبسط هو وجميع أمرائه.

وفي أوائل سنة 829 طلب الملك الأشرف برسباي الشيخ بدر الدين العيني وأبلغه بتعيينه في منصب قاضي قضاة الحنفية في مصر، وخلع عليه، فباشر وظيفة القضاء بحرمة وافرة، وعظمة زائدة، لكونه ولي القضاء من غير سعى، ولقربه من الملك الأشرف واختصاصه به. 

واستمر البدر العيني في القضاء 4 سنوات حتى صرف في أوائل سنة 833 مع بقائه نديماً للسلطان يقرأ له على العادة، ثم أعيد في منتصف سنة 835، وجمع في تلك المرة القضاء والحسبة ونظر الأوقاف وهو أمر لم يسبق له مثيل.

وفي سنة 836 جرَّد السلطان حملة إلى آمد، وهي ديار بكر اليوم شمالي حلب، لتأديب القرمانيين الذين أفسدوا في المنطقة، فاصطحب معه القضاة ومنهم البدر العيني وابن حجرالعسقلاني بصفته قاضي الشافعية، فلما وصلوا حلب استأذن العيني في الذهاب إلى عينتاب فسمح له السلطان فسار إليها مع ابن حجرثم عادا فانضما للسلطان.

وهنا ينبغي أن نشير أن العلاقة لم تكن على ما يرام بين البدر العيني وبين ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، ويتجلى ذلك في كتاب ابن حجر إنباء الغمر بأبناء العمر، إذ لا يترك مناسبة يرد فيها ذكره إلا ويذكره دون توقير أو تبجيل، وينتقد كثيراً من تصرفاته وأحكامه وبخاصة ما ناقضه هو فيه، وهو أمر معروف لا يستغرب في الأقران والمعاصرين، وتابع هذا النهج ولكن بحال أخف تلميذ ابن حجر؛ الإمام السيوطي في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع.

وتوفي الملك الأشرف برسباي في آخر سنة 841 ، وتسلطن ابنه الملك العزيز يوسف، وصار الأتابك جقمق العلائي مدير مملكته، فعزله جقمق البدر العيني عن القضاء في أول سنة 842، فلزم العيني داره مكبا على على الإشغال والتصنيف.

وخلع الأمير جقمق الملك العزيز يوسف وتسلطن متسميا بالملك الظاهر، فولى العيني حسبة القاهرة مرتين، لم تطل مدته فيهما، وما لبث أن عزله عن الأوقاف في سنة 853، وتسبب ذلك في معاناة العيني وانقطاع دخله، فلم يكن ثرياً بل كان يتعيش من راتبه، فلما انقطع عنه صار يبيع من أملاكه وكتبه إلى أن توفي، وصلى عليه الإمام المناوي من الغد بالجامع الأزهر، ودفن بمدرسته التي أنشأها بجوار داره بالقرب من الجامع الأزهر، رحمه الله.

كان العيني رحمه الله من العلماء الوافري الثروة لو حُسبت مؤلفاتهم، وقد اشتُهِر بمؤلفه العظيم: عمدة القاري في شرح الجامع الصحيح للبخاري، وقد ذكروا أن شرح البخاري كان دينا على الأمة فأداه ابن حجر والعيني، وقد شرع في تأليفه سنة 820  فأنجز جزئين خلال سنة ثم انقطع عنه مدة 16 سنة ثم عاد إليه وفرغ من الجزء الثالث في سنة 833 وانتهى من الجزء الحادي والعشرين والأخير في سنة 847، ويمتاز باللغويات والأدبيات وكثرة الشواهد النحوية، وكان يوم انتهائه منه يوماً مشهوداً، وأشار العيني في تقدمته للعمدة أنه باشر من قبل  في شرح سنن أبي داود، ولكن لم يكمله، والسبب: فعاقني من عوائق الدهر ما شغلني عن التتميم واسْتولى عليّ من الهموم ما يخرج عن الحصْر والتقسيم.

وينتقد العيني في كتابه عمدة القاري كثيراً من آراء ابن حجر في شرحه للبخاري المعروف باسم فتح الباري، وهو لا يذكره بالاسم بل يقول: وقال بعضهم. وقد رد الحافظ ابن حجر على هذه الاعتراضات في مجلد كما ذكر ذلك السيوطي في كتابه نظم العقيان في أعيان الأعيان.

ومن الكتب الحديثية الهامة شرح معاني الآثار الذي صنفه الإمام الطحاوي، أحمد بن محمد االمولود سنة 239 والمتوفى سنة 321، وقد قام الإمام بدر الدين العيني فشرحه وتناول الرواة المذكورين في الكتاب في كتاب أسماه: مغاني الأخيار في شرح معاني الآثار.

ولبدر الدين العيني ثروة أخرى في كتب الفقه، ومن أهمها شرحه لكتاب الهداية لبرهان الدين المرغيناني، والذي أسماه البناية في شرح الهداية، والمرغيناني هو الفقيه الكبير علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني، نسبته إلى مرغينان من نواحي فرغانة، والمولود سنة 530 والمتوفى سنة 593، وقد تتابع على كتاب الهداية شراح كثيرون، وقد أشار لذلك العيني في مقدمته حين قال: إن كتاب الهداية قد تباهجت به علماء السلف حتى صار عمدة المدرسين، فلذلك قد تصدى جماعة من الفضلاء لشرحه، ومع هذا لم يعطه أحد منهم حقه، وقد ندبنى جماعة من الإخوان إلى أن أغوص في هذا البحر، فاعتذرت فلم يقبل اعتذاري، فشرحت هذا الشرح. ولعله آخر كتب العيني فقد انتهى منه في سنة أول سنة 850.

وشَرَح العيني في فروع الفقه الحنفي المختصرَ المسمى كتاب تحفة الملوك لزين الدين الرازي، محمد بن حسن الرازي، وأسمى شرحه: منحة السلوك شرح تحفة الملوك ، وهو شرح لطيف صنفه العيني للأمير سيف الدين شيخ بن عبد الله الصفوي المعروف بشيخ الخاصكي، وكان من أعيان دولة الملك الظاهر برقوق، وتوفي سنة 801.

وانتخب بدر الدين العيني  منتخباً من كتاب الفتاوى الظهيرية، الذي ألفه القاضي ظهير الدين محمد بن أحمد البخاري المتوفى سنة 619، وذلك بحذف ما كثر الاطلاع عليه واختيار  ما يكثر الاحتياج إليه،  وسماه المسائل البدرية المنتخبة من الفتاوى الظهيرية، وقال: وهو كتاب مشتمل على مسائل من كتب المتقدمين لا يستغني عنها علماء المتأخرين.

وللعيني شرح مختصر على كتاب كنز الدقائق الذي ألفه في فروع الفقه الحنفي الإمام النسفي، عبد الله بن احمد المتوفى سنة 710، وأسمى العيني شرحه: رمز الحقائق في شرح كنز الدقائق، وذكر في مقدمته أنه امتحن بحاسد ثم زال، فشرح الكتاب شكرا لله تعالى، وفرغ من تأليفه سنة 818.

ومن الكتب الهامة في الفقه الحنفي كتاب مجمع البحرين وملتقى النهرين الذي ألفه الإمام مظفر الدين ابن الساعاتي البغدادي، أحمد بن علي بن ثعلب، المتوفى سنة 694، وذلك لحسن ترتيبه واختصاره وتناوله آراء الإمام أبي حنيفة والصاحبين، ولكن الكتاب لاختصاره وبساطة أسلوبه قد يعسر على طالب العلم، ولذا قام العيني، وهو في سن الخامسة والعشرين، بشرحه شرحاً حافلاً في كتاب أسماه المستجمع في شرح المجمع، وأشار فيه إلى أقوال الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وعقب بأن أبدى رأيه في الأصح من أقوالهم. 

ولم يقتصر العيني على الحديث والفقه، بل كانت له مصنفات في النحو والعربية والعروض، من أهمها كتابه: المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، ويعرف بالشواهد الكبرى، وهو شرح على ألفية ابن مالك، وشكى بعض طلبة العلم من تفصيل الكتاب وطوله فاختصره في كتاب أسماه فرائد القلائد في مختصر شرح الشواهد، ويعروف بالشواهد الصغرى. وجاء الأديب العَروضي زين الدين الأشعافي الحلبي، زين الدين بن أحمد، المتوفى سنة 1042 فألف رسالة تعقب فيها العلامة العيني في عَروض أبيات من شواهد النحو سها فيها في المختصر، سماها التنبيهات الزينية على الغفلات العينية، قال في مقدمتها: وكنت أولا أنسب ذلك إلى تحريف النساخ، إلى أن وقفت على نسخة قرئت عليه وكتب خطه في مواضع منها وفي آخرها إجازة بخطه، فتصفحتُها فإذا هي مشتملة على ما في النسَخ، مما هو خلاف الصواب.

ومن كتب التصريف في اللغة العربية كتاب الشافية في التصريف لأبي عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب النحوي المالكي، االمتوفى سنة 646، ولها شروح كثيرة وحواش عليها وعلى شروحها، وقد عمل بدر الدين العيني حاشية على أحد شروحها.

وله في العَروض شرح لقصيدة ابن الحاجب، أبي عمرو عثمان بن عمر المالكي، المتوفى سنة 646، والمسماة المقصد الجليل في علم الخليل، وله كتاب ميزان النصوص في علم العروض، وله كذلك كتاب الحاوي شرح قصيدة الساوي في العَروض.

والعيني كذلك مؤرخ كبير من مؤرخي فترته وما قبلها، ولها مؤلفات تاريخية عديدة، منها كتاب كشف اللثام في شرح سيرة ابن هشام، ولكنه لم يكتمل، شرح سيرة مغلطاي، سيرة الأنبياء عليهم السلام، تاريخ الأكاسرة، كتبه بالتركية، وله كذلك سيرة الملك الأشرف، وكتاب البدر الزاهر في أخبار الملك الظاهر برقوق، وهو إلى الثناء والإنشاء أقرب منه إلى التأريخ، السيف المهند في سيرة الملك المؤيد، وقد ألفه كأرجوزة، وكان بين العيني وبين الشيخ شهاب الدين ابن حجر منافسة، فجاء ابن حجر لسيرة الملك المؤيد وجرّد منها الأبيات الركيكة بلا وزن  فبلغت نحو أربعمئة بيت، فجمعها في كتاب سماه : قذى العين من نظم غراب البين.

ولكن أهم كتبه في التاريخ هو كتابه الكبير: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، في 40  مجلدا، ابتدأ فيه من بداية الدنيا وانتهى فيه إلى سنة 850، وقد أخذ كثيراً منه عن المؤرخ ابن دقماق، إبراهيم بن محمد، المتوفى سنة 809، ثم جاء تلميذه ابن تغري بردي فأخذ منه ونقل عنه في تاريخه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وهو كثيراً ما ينقل عن أستاذه ثم يعلق على ما ذكره، مع اعترافه له بالفضل وبخاصة في سرده التراجم فقد قال: وأعظم من رأيناه في هذا الشأن الشيخ تقي الدين المقريزي وقاضي القضاة بدر الدين العيني. ولكن ابن تغري بردي يفضل المقريزي على العيني حيث يقول في مقدمة كتابه حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور: 

أما بعد فلما كان شيخنا الإمام، الأستاذ العالم العلامة المفنن، رأس المحدثين، وعمدة المؤرخين، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي الشافعي أيقن من حرر تاريخ الزمان، وأضبط من ألف في هذا الشأن، وأجل تحفة استفرعها وعمدة ابتدعها كتابه المسمى بالسلوك في معرفة دول الملوك، قد انتهى فيه إلى أواخر سنة 844، وهي السنة التي توفي فيها، ولم يكن من بعده من يعول عليه في هذا الفن ولا من يرجع إليه، إلا الشيخ الإمام العالم العلامة قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي، فأردت أن أعلم حقيقة أمره في هذا المعنى، ونظرت فيما يعلِّقه في تلك الأيام، فإذا به كثير الغلطات والأوهام، وذلك لكبر سنه واختلاط عقله وذهنه، بحيث أن الشخص لا تمكنه الفائدة من ذلك إلا بعد تعب كثير لاختلاف الضبط وعدم التحرير.

وممن نقل عن تاريخ العيني كثيراً شمس الدين السخاوي، محمد بن عبد الرحمن، المولود سنة 831 والمتوفى سنة 902، وذلك في كتابه الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع، ونقل عن العيني كذلك معاصرُه ابن حَجَر العَسْقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، وذلك في كتابه إنباء الغَمر بأبناء العمر، وهو يقول في المقدمة منتقداً لبدر الدين العيني: وذكر أن الحافظ عماد الدين ابن كثير عمدته في تاريخه، وهو كما قال، لكن منذ انقطع ابن كثير صارت عمدته على تاريخ ابن دقماق، حتى كان يكتب منه الورقة الكاملة متوالية، وربما قلده فيما يهِمُ فيه حتى في اللحن الظاهر، مثل اخلع على فلان، وأعجب منه أن ابن دقماق يذكر في بعض الحادثات ما يدل على أنه شاهدها، فيكتب البدر كلامه بعينه بما تضمنه، وتكون تلك الحادثة وقعت بمصر، وهو بعد في عينتاب، ولم أتشاغل بتتبع عثراته، بل كتبت منه ما ليس عندي، مما أظن أنه اطلع عليه من الأمور التي كنا نغيب عنها ويحضرها.

والعيني هو أحد الفقهاء المذهبيين الذين دافعوا عن ابن تيمية عندما اتهمه بعض العلماء بالضلال والكفر، وله في ذلك كتاب العلم الهيِّب في شرح الكلم الطيب لابن تيمية، وقال عنه العيني في كتاب آخر: وهو الذابّ عن الدين طعن الزنادقة والملحدين ... فمن قال: إنه كافر فهو كافر حقيق، ومن نسبه إلى الزندقة فهو زنديق ... ولكن بحثه فيما صدر عنه في مسألتي الزيارة والطلاق عن اجتهاد سائغ بالاتفاق، والمجتهد في الحالين مأجور ومثاب، وليس فيه شيء مما يذم أو يعاب.

درس على العيني عدد كبير من طلبة العلم في زمانه، وصار عدد منهم من كبار العلماء، ويضيق المقام عن استيفاء من درسوا عليه أو أخذوا عنه، ونجتزأ بأن نشير هنا أن كمال الدين ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد، المولود نحو سنة 790 والمتوفى سنة 861، قرأ عليه المعلقات السبع وجمهرة أشعار العرب، وممن أخذوا عنه المؤرخ الكبير ابن تغري بردي، يوسف بن تغري بردي، المولود نحو 811 والمتوفى سنة 874، والذي درس عليه الفقه، وشهد له العيني بالتفوق في التاريخ.

كان بدر الدين العيني شيخا أسمر اللون، قصير، مسترسل اللحية، لطيف العشرة متواضعاً، حافظاً للتاريخ وللغة، كثير الاستعمال لها، مشاركاً في الفنون، لا يمل من المطالعة والكتابة، لكلامه في التاريخ وغيره طلاوة، وكان سيال الفكر حسن الديباجة؛ مسوداته مبيضات، جيد الخط، سريع الكتابة، قيل أنه كتب كتاب القُدوري في الفقه في ليلة واحدة في مبادئ أمره، وله نظم ونثر ليسا بقدر علمه، فصيحا باللغة التركية، وقد مدحه أحد شعراء تلك الحقبة؛ شمس الدين النواجي، محمد بن حسن، المولود سنة 788 والمتوفى سنة 859، فقال:

لقد حزت يا قاضي القضاة مناقباً ... يقصر عنها منطقي وبياني

وأثنى عليك الناس شرقاً ومغرباً ... فلا زلت محموداً بكل لسان

ويبدو أن أخا بدر الدين المدعو أحمد قد لحق به إلى مصر، فقد ذكرت كتب التراجم ابنه قاسم بن أحمد بن أحمد العينتابي المولود سنة 796 والمتوفى سنة 814، وتصفه بالذكاء المفرط وأنه كان أحد الفضلاء في الحساب والهندسة والنجوم والطلسمات وعلم الحرف والطب.

كان لبدر الدين العيني ابن هو القاضي زين الدين عبد الرحيم، المتوفى بالطاعون سنة 864 وهو في حدود الأربعين، وتولى منصب ناظر الأوقاف، وله مؤلفات مفيدة في الفقه والنحو، وقد تزوج عبد الرحيم بنت زوجة الأمير خشقدم، وفي حدود سنة 850 جاءه منها ولد أسماه شهاب الدين أحمد، ولوفاة والده رباه الأمير خشقدم زوج جدته، ولما صار الأمير سلطاناً وتسمى بالملك الظاهر في سنة 865، جعل ربيبه عبدَ الرحيم أحد أمرائه وصار له جاه عريض .

وتزوج ابنة بدر الدين العيني ابن أبي الوفا المقدسي، محمد بن أبي بكر بن محمد، المولود بالقدس سنة 841 والمتوفى بالرملة  سنة 891، وكان شيخاً ينتمي لأسرة علم وفضل، مشاركاً في العلوم مع كياسة ونظم وتصوف.

وتذكر كتب الفهارس أن أحد أفاضل الأتراك قد ألف كتاباَ في سيرة بدر الدين العيني أسماه تذهيب التاج اللجيني في ترجمة البدر العيني، وللأستاذ زاهد الكوثري كتاب حوله كذلك، ولم أطلع على الكتابين.

ونختم بطرفة ذُكر أنها جرت بين الإمام ابن حجر وبين بدر الدين العيني، وذلك أنه في سنة 821 تضعضت مئذنة مسجد السلطان المؤيد المبنية حديثاً، وذلك بسبب كون أساساتها قد بنيت على حجر صغير، وكان لا بد من هدمها وبنائها من جديد، وأغلق بسبب ذلك باب زويلة ثلاثين يوماً، فانتهزها فرصة الحافظ شهاب الدين ابن حجر، وكان بينه وبين بدر الدين العيني جفاء، وقال:

لجامع مولانا المؤيد رونق... منارته تزهو من الحسن والزين

تقول وقد مالت عن الموضع امهلوا... فليس على حسني أضر من العين

وهو هنا يقصد  بالتورية بدر الدين العيني، فرد العيني على هذين البيتين:

منارة كعروس الحسن إذ جليت... وهدمها بقضاء الله والقدر

قالوا: أصيبت بعين! قلت: ذا خطأ... ما أوجب الهدم إلا خسة الحجر

 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer