الجمعة، 2 يناير 2015

حدث في الثاني عشر من ربيع الأول

في الثاني عشر من ربيع الأول من عام 241 توفي في بغداد، عن 77 عاماً، الإمام العَلَم أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل، إمام المذهب الحنبلي والمحدث الكبير.
والإمام أحمد عربي صميم من بني شيبان، جاء جده حنبل إلى خراسان والياً على سَرْخَس، وهي بلدة في شمالي شرقي إيران على الحدود بينها وبين تركمنستان، ولشهرته نُسِبَ إليه الإمام، أما والده فكان من أجناد في مرو، في جنوبي شرقي تركمنستان، ومات والده في ريعان شبابه.
ولد الإمام أحمد في ربيع الأول من سنة 164، ونشأ نشأة فقيرة برعاية والدته رحمها الله التي كانت سيدة مدبرة، قال الإمام أحمد: ثقبت أمي أذني فصيرت فيهما لؤلؤتين، فلما ترعرعت، نزعتهما، فكانتا عندها، ثم دفعتهما إلي، فبعتهما بنحو من ثلاثين درهما.
طلب الإمام أحمد الحديث وهو في الخامسة عشرة من عمره، وذلك في سنة 179، وهي سنة وفاة الإمام مالك، ويضيق المجال عن ذكر من سمع منهم وأخذ عنهم، فعدد شيوخه الذين روى عنهم في المسند يزيد على 280 شيخاً، ولذا نجتزئ بذكر بعضهم حسب ترتيب الأخذِ عنهم أو وفقاً لسني وفياتهم.
ابتدأ الإمام أحمد بالأخذ عن تلميذ الإمام أبي حنيفة القاضي أبي يوسف، يعقوب بن إبراهيم، المولود سنة 113 والمتوفى سنة 182، قال الإِمام أحمد: أول ما طلبت الحديث اختلفتُ إلى أبي يوسف فكتبتُ عنه، ثم دُرت على المشايخ. وأخذ قليلا من الحافظ الكبير إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه المتوفى سنة 183، وأكثر الأخذ عن حافظ بغداد وشيخها أبي معاوية السلمي، هشيم بن بشير، المولود سنة 104 والمتوفى سنة 183، فقد لزمه أربع سنين حتى وفاته،  ثم خرج بعد وفاته إلى الكوفة، وفي سنة 187 خرج إلى الإمام الكبير حافظ العصر سفيان بن عيينة في مكة، المولود سنة 107 والمتوفى سنة 198، وقال عنه: ما رأيت أحدا كان أعلم بالسُنن من سفيان بن عيينة.
وأخذ الإمام أحمد كذلك عن المقرئ الفقيه المحدث المعمَّر أبي بكر، شعبة بن عياش، المولود سنة 97 والمتوفى سنة  193، وأخذ فأكثر عن محدث العراق وكيع بن الجراح المولود سنة 129 والمتوفى سنة 197، وقال عنه: ما رأيت أحداً أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع.
وأخذ الكثير عن أمير المؤمنين في الحديث يحيى بن سعيد القطان، المولود سنة 120 والمتوفى سنة 198، وعن سيد الحفاظ، الإمام الناقد المجود، عبد الرحمن بن مهدي، المولود سنة 135 والمتوفى سنة 198، وأخذ عن الإمام أبي عاصم النبيل، الضحاك بن مخلد، المولود سنة 122 والمتوفى سنة 212، وقد أثنى على الإمام أحمد من بين أصحاب الحديث في بغداد، فقد سأل عنهم مرة فلما عدَّدوهم له قال: قد رأيت جميع من ذكرت، وجاؤوا إليّ، ولم أر مثل ذاك الفتى. يعني أحمد بن حنبل.
وكان الإمام في حياته كلها متقشفاً متقللاً، ولكنه في أيام الرحلة والطلب عاني من الفقر الشديد وقلة المال، قال رحمه الله: خرجت إلى الكوفة، فكنت في بيت تحت رأسي لبنة.
وأخذ الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي المولود سنة 150 والمتوفى سنة 204، وهو معدود في جملة تلاميذه، ولا ينتقص هذا من مكانته، فالناس عالم ومتعلم، قال إبراهيم الحربي مرة: قال أستاذُ الأُستاذِين، قالوا: من هو؟ قال: الشافعي أليس هو أستاذ أحمد بن حنبل. وكان الإمام أحمد يفتخر بالشافعي، قال الإمام إسحاق بن راهويه: أخذ أحمد بن حنبل بيدي وقال: تعال حتى أذهب بك إلى من لم تر عيناك مثله! فذهب بي إلى الشافعي. وقال صالح بن أحمد بن حنبل: مشى أبي مع بغلة الشافعي فبعث إليه يحيى بن معين فقال له: يا أبا عبد الله، أما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته؟ فقال: يا أبا زكريا، لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك. وكان الشافعي أحد من يواظب الإمام احمد على الدعاء لهم، وكان يقول: ستة أدعو لهم سَحَراً أحدهم الشافعي، وأثار ذلك اهتمام عبد الله ابن الإمام أحمد الذي قال: قلت لأبي: يا أبة أي شيء كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، فقال لي: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض. أما الإمام الشافعي فكان يقول: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
وخرج الإمام أحمد بن حنبل إلى الحج سنة 198 وقد صار في مكانة من يفتي في الحج فتوى عامة، وتلك مرتبة عظيمة، وخرج من مكة في سنة 199 إلى اليمن للقاء محدثيها والتلقي عنهم وعلى رأسهم عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211، وهشام بن يوسف وتوفي سنة 197 فلم يدركوه،  وخرج معه الإمام يحيى بن معين ومحدث جليل هو أحمد بن منصور الرمادي المتوفى سنة 265 في صورة الخادم لهما، ومعما كذلك الحافظ أبو خيثمة زهير بن حرب المولود سنة 160 والمتوفى سنة 234، وروى كيف تبين في اليمن معرفة يحيى بن معين بالحديث الشريف ورواته، قال أبو خيثمة:
لما قدمنا صنعاء غلق الباب عبد الرزاق، ولم يفتحه إلا لأحمد بن حنبل، لديانته، فدخل، فحدثه بخمسة وعشرين حديثاً، ويحيى بن معين بين البابين جالس، فلما خرج قال يحيى لأحمد: أرني ما حدثك؟ فنظر فيها، فخطَّأ الشيخَ في ثمانية عشر حديثاً، فلما سمع أحمد بالخطأ رجع، فأراه موضع الخطأ، وأخرج عبد الرزاق الأصول، فوجده كما قال يحيى، ففتح الباب، فقال: ادخلوا، وأخذ مفتاح بيت، فسلمه إلى أحمد بن حنبل، وقال: هذا البيت ما دخلته يد غيري منذ ثمانين سنة، أسلمه إليكم بأمانة الله على أنكم لا تقولون ما لم أقل، ولا تُدخِلون علي حديثاً من حديث غيري. ثم أومأ لأحمد، فقال: أنت أمين الله على نفسك وعليهم. وفي القصة شيء من المبالغة أو التناقض في قوله منذ ثمانين سنة، فقد توفي الإمام عبد الرزاق عن 85 عاماً.
قال يحيى بن معين: كنت أنا وأحمد بن حنبل عند عبد الرزاق الصنعاني، وكنت أكتب الشعر والحديث، وكان أحمد يكتب الحديث وحده، فخرج إلينا يوماً عبد الرزاق، وهو يقول:
كن موسراً إن شئت أو معسراً ... لا بد في الدنيا من الهم
وكلما زادك من نعمة زا ... دك ما زادك من غم
فقال له أحمد: كيف قلت؟ كيف قلت؟ فأعادها عليه فكتبها.
وحدثت لابن معين وأحمد بن حنبل قصة طريفة مع أبي نُعيم الفضل بن دُكين، الحافظ الكبير، شيخ الإسلام المولود سنة 130 والمتوفى سنة 219، وروى القصة الحافظ أحمد بن منصور الرمادي خادمهما في هذه الرحلة قال: لما عدنا من اليمن إلى الكوفة، وفيها أبو نعيم، قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل: أريد أختبر أبا نعيم، فقال له أحمد: لا تزد، الرجل ثقة. فقال يحيى بن معين: لا بد لي.
فأخذ ورقة وكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، وجعل على رأس كل عشرة منها حديثاً ليس من حديثه، ثم جاءا إلى أبي نعيم فدقا عليه الباب، فخرج فجلس على دكان طين حذاء بابه، فأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان.
فأخرج يحيى بن معين الطبق، فقرأ عليه عشرة أحاديث، وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحديث الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث الثاني فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث، وقرأ الحديث الثالث فتغير أبو نعيم وانقلبت عيناه وأقبل على يحيى بن معين فقال له: أما هذا - وذراع أحمد في يده - فأورع من أن يعمل هذا، وأما هذا - يريدني - فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل، ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين فرمى به من الدكان، وقام فدخل داره، فقال أحمد ليحيى: ألم أمنعك من الرجل وأقل لك إنه ثبت؟ ! فقال: والله لرفسته لي أحب إلي من سفري.
وأخذ الإمام أحمد عن معاصريه كذلك من الأئمة من أمثال علي بن المديني، المولود سنة 161 والمتوفى سنة  234، قال أبو حاتم الرازي: كان ابن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل، وكان أحمد بن حنبل لا يسميه، إنما يكنيه تبجيلا له، ما سمعت أحمد سماه قط.
وكانت ذاكرة الإمام أحمد محيطاً واسعاً لا تكاد تدرك له حدود، قال عبد الله بن أحمد: قال لي أبو زرعة: أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. قال الإمام الذهبي: هذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك.
أما من حدَّث عن الإمام أحمد فهم أكثر بكثير ممن روى عنهم، فقد جمع الله له الرواية والدراية والصلاح والتقوى، والمتانة في الدين، فكثر الواردون على منهله والراوون عنه، وأورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أسماء بعضهم ثم قال: وأممٌ سواهم. ونذكر بعضاً منهم على سبيل المثال. 
فمنهم الإمام الحافظ الفقيه أبو يعقوب إسحاق بن منصور الكَوسَج المروَزِىُّ الفقيهُ نزيلُ نيسابور المتوفى سنة 251، أخذ الحديث عن الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة 241 رحمه الله، ثم بلغ الإمامَ أنه يروي بخراسان هذه المسائل التي سأله عنها، ويأخذُ عليها الدراهم، فغضب الإمام أحمد من ذلك واغتم، وقال: يسألوني عن المسائل، ثم يحدثون بها ويأخذون عليها؟ وأنكر إنكاراً شديداً، فقال له ابنه صالح: إن أبا نُعيم الفضل بن  دُكَيْن - المتوفى سنة 219 - كان يأخذُ على الحديث، فقال: لو علمتُ هذا ما رويتُ عنه شيئاً. ثم قال الإمام أحمد: بلغني أن الكوسج يروى عني مسائل بخراسان، اشهدوا أني قد رجعت عن ذلك كله.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: ثم إن إسحاق بن منصور الكوسج قَدِمَ بعد ذلك بغداد فصار إلى أبي فأعلمتُه أنه على الباب، فأذن له ولم يتكلم معه بشيء من ذلك.
وذكر بعض المشايخ أن إسحاق بن منصور الكوسج بلغه أن أحمد بن حنبل رجع عن بعض تلك المسائل التي عَلِقها، فجمع إسحاق تلك المسائل في جِراب وحملها على ظهره، وخرج راجلاً إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوطَ أحمدَ عليها في كل مسألة استفتاه فيها، فأقرَّ له بها ثانياً، وأُعجبَ بذلك أحمد من شأنه.
ومنهم الحافظ إسحاق بن بهلول التنوخي الأنباري، المتوفى سنة 252 عن 88 عاماً. فقيه حنفي، من رجال الحديث من بيت وجاهة في الأنبار، سمع أباه، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وخلقاً كثيراً، ورحل إلى البلاد في طلب الحديث، ثم استقر بالأنبار، وكان أحد أوعية العلم حدث عنه إبراهيم الحربي، وكان له إسناد حسن، وخرج أجزاء في الحديث فعرضها على الإمام أحمد بن حنبل وكانت مسائل جياداً، يعرض فيها الآراء ويجيبه الإمام أحمد وفق مذهبه، وسمى كتابه كتاب الاختلاف، فقال له الإمام أحمد رضي الله عنه: سمِّهِ كتاب السَّعة.
وكان الإمام أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث المولود سنة 202 والمتوفى سنة 275، مع إمامته في الحديث وفنونه، من نجباء أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دقاق المسائل في الفروع والأصول، ومن أمثلة ذلك ما ذكره في السنن عقب إيراده حديث موسى بن أبي عائشة قال: كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ قوله تعالى في سورة القيامة ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ قال: سبحانك، وبكى. فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: قال أحمد: يعجبني في الفريضة أن يدعو بما في القرآن.
وعرض أبو داود كتاب السنن على الإمام أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه، وقال الإمام إبراهيم الحربي: لما صنف أبو داود كتاب السنن: أُلينَ لأبي داود الحديث كما ألين لداود الحديد.
أما أبو حاتم الرازي، محمد بن إدريس، المولود سنة 195 والمتوفى سنة 277، وكان حافظاً ناقداً، فأعجب أيما إعجاب بورع الإمام أحمد وقال: أورعُ من رأيت أربعة: آدم بن أبي إياس، وأحمد بن حنبل، وثابت بن محمد الزاهد، وأبو زرعة الرازي.
ومنهم الإمام الفقيه المحدث إبراهيم الحربي، المولود سنة 198 والمتوفى سنة  285، وصاحب كتاب غريب الحديث والذي كان يحضر درسه ثلاثون ألف محبرة، بلغه أن قوما من الذين كانوا يجالسونه يفضلونه على أحمد بن حنبل، فوقفهم على ذلك، فأقروا به، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لا أشبهه، ولا ألحق به في حال من أحواله، كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين فأُقسِمُ بالله، لا أسمعكم شيئا من العلم أبدا، فلا تأتوني بعد يومكم.
وكانت للإمام أحمد علاقة وثيقة بالإمام المتصوف الزاهد السري بن المغلس السقطي، المولود في حدود سنة 160 والمتوفى سنة  253، وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول إذا ذكر السري: ذاك الشيخ الذي يُعرف بطيب الريح ونظافة الثوب وشدة الورع. وأهدى السري السقطي إلى الإمام أحمد ابن حنبل شيئاً فرده فقال له السري: يا أحمد، احذر آفة الردّ فإنها أشدّ من آفة الأخذ، فقال له أحمد: أَعِدْ عليّ ما قلت، فأعاده، فقال أحمد: ما رددت عليك إلاّ لأن عندي قوت شهر فاحبسه لي عندك، فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلىّ.
وفي سنة 218 بدأ الخليفة العباسي المأمون في محاولة إجبار العلماء على اعتناق المذهب المعتزلي الذي يقول إن القرآن مخلوق من مخلوقات الله وليس كلاماً صادراً عنه، وهو ما يسميه المؤرخون بمحنة خلق القرآن، وكانت عقوبة القتل تنتظر من لم يقل إن القرآن مخلوق بحجة أنه قد كفر بأن نسب إلى الله صفة بدنية من صفات المخلوقات وهي الكلام، وأظهر عدد كبير من العلماء موافقتهم على هذا الرأي خشية من القتل، واستعمل بعضهم التورية في ذلك، إلا الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض بإصرار فأمر المأمون بإحضاره إليه إلى طرسوس حيث كان في الجهاد، فما وصل الإمام في أغلاله حتى أدرك الموت المأمون وتولى الخلافة بعده المعتصم، وكان خليفة مجاهداً لا دراية له بأمور العلم بله العقيدة، فجادله أئمة المعتزلة بحضوره، ولما رفض أن يتزحزح عن رأيه، ولم يأخذ بالتقية التي أخذ بها بعض معاصريه، أمر المعتصم به فضُرب ضرباً مبرحاً بالسياط، ثم أمر به إلى السجن ومكث فيه قرابة 29 شهراً إلى أن أٌطلق سراحه. وينبغي الإشارة أن الإمام أحمد لما بلغه قمع المعتصم لتمرد بابك الخرمي وفتحه لعمورية سنة 222 جعله في حِلٍّ مما أنزل به من العذاب.
وعاد الإمام إلى حياته العادية يحضر الجمعة والجماعة، ويحدث ويفتي، حتى مات المعتصم سنة 227، وولي ابنه الواثق، فأظهر الميل إلى رأس المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد، وعادت الدولة إلى فكرة إجبار الناس على عقيدة بعينها، حتى كادت أن تأمر المعلمين بتعليمها للصبيان في المكاتب، وهمَّ بعض أصحاب أحمد بالتمرد فمنعهم من ذلك، ثم جاءه رسول من الواثق يقول له: إن أمير المؤمنين قد ذكرك، فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض الله. فاختفى الإمام أحمد بقية حياة الواثق، لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها، وتوقف عن التحديث طيلة هذه الفترة، حتى هلك الواثق سنة 232 وتولى بعده المتوكل.
ورفع المتوكل النفي القسري عن الإمام أحمد فعاد للتحديث والفتوى، ثم وشى به واش إلى المتوكل أنه يؤوي في منزله علوياً يريد أن يخرجه ويبايع عليه، فأرسل المتوكل صاحب الخبر فكبس الدار وسأل الإمام أحمد عن هذه التهمة فقال: ما أعرف من هذا شيئا، وإني لأرى للمتوكل السمع والطاعة في عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأَثَرة علي، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار، ثم فتش المنزل والسرب والغرف والسطوح، وفتشوا تابوت الكتب، وفتشت نسوةٌ كُنَّ معهن النساءَ والمنازل، فلم يروا شيئا، وكتب بذلك إلى المتوكل، فوقع منه موقعا حسنا، وعلم أن الخبر مكذوب.
وامتنع الإمام أحمد من التحديث من سنة 228، وصمم على ذلك، غير أنه كان يذاكر بالعلم والأثر، وأسماء الرجال والفقه.
وكان يحيى بن معين وعلي بن المديني ممن أظهر موافقته على أن القرآن مخلوق، وذلك خوفاً من السيف، وسئل الإمام أحمد  بن حنبل عن كتابة الحديث عن يحيى بن معين وأمثاله، فكان لا يرى الكتابة عن أبي نصر التّمّار، ولا عن يحيى بن معين، ولا أحدٍ ممّن امتحن فأجاب. وتبرير ذلك مع تمام الثقة بصحة نقلهم وبعدهم عن الكذب أن ذلك يضعهم في موقع الأستاذية، فيتأثر الناس بآرائهم. ولا تذكر لنا كتب التاريخ إن استمر الإمام أحمد على رأيه أم أنه عدل عنه فيما بعد!
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: والتقية إنما تجوز للمستضعفين الذين يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، فهؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة، أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى، ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة، لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية.
ورغم هذا الموقف المتشدد منه بقي يحيى بن معين يجِلُّ الإمام أحمد ويعتبر الحديث عن فضائله من باب مجالس الذكر، وهذا من دلائل علمه، وكان يحيى بن معين في مجلس فيه جماعة من كبار العلماء، فجعلوا يثنون على أحمد بن حنبل ويذكرون فضائله، فقال رجل: لا تكثروا، بعضَ هذا القول! فقال يحيى بن معين: وكثرة الثناء على أحمد بن حنبل تُستكثر، لو جلسنا مجلسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها، ذِكرُ أبي عبد الله من محاسن الذكر! وصاح يحيى بالرجل. ومن عادة الناس أن تقارن الصاحبين بعضهما ببعض، ويبدو أن ذلك وقع في المقارنة بين الإمام أحمد وبين يحيى بن معين، ولكن يحيى كان يقول: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد بن حنبل، لا والله لا نقدر على أحمد، ولا على طريق أحمد.
وللإمام أحمد مصنفات أهمها مسنده الذي حوى قرابة 30000 حديث مرتبة وفقاً لرواتها، لا لمواضيعها، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماما. وقال الإمام: هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبع مئة ألف وخمسين ألفا، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إليه. فإن وجدتموه فيه، وإلا فليس بحجة.
وعلق الإمام الذهبي على ذلك: في الصحيحين أحاديث قليلة، ليست في المسند، لكن قد يقال: لا ترد على قوله، فإن المسلمين ما اختلفوا فيها، ثم ما يلزم من هذا القول: أن ما وجد فيه أن يكون حجة، ففيه جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها، ولا يجب الاحتجاج بها، وفيه أحاديث معدودة شبه موضوعة، ولكنها قطرة في بحر، وفي غضون المسند زيادات جمة لعبد الله بن أحمد.
قال الأستاذ شعيب الأرناؤوط في تعليقة أضافها على ترجمة الإمام أحمد ضمن تحقيقه لكتاب سير أعلام النبلاء: ولم يتوخ الإمام أحمد الصحة في مسنده هذا، بل روى فيه الصحيح والحسن والضعيف، يُعلم ذلك من دراسة الأسانيد والتخريج، ثم نقل عن ابن الجوزي قوله في صيد الخاطر: ومن نظر في كتاب العلل الذي صنفه أبو بكر الخلال، رأى أحاديث كثيرة كلها في المسند، وقد طعن فيها أحمد. ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء، قال: إنما روى أحمد في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم، ويدل على ذلك أن عبد الله، قال: قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن خراش عن حذيفة؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد؟ قلت: نعم. قال: الأحاديث بخلافه. قلت: قد ذكرتَه في المسند. قال: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. قال القاضي: وقد أخبر عن نفسه كيف طريقه في المسند، فمن جعله أصلا للصحة، فقد خالفه، وترك مقصده.
وتجدر الإشارة أن الملك المعظم الأيوبي عيسى بن محمد بن أيوب المولود سنة 576 والمتوفى سنة 624، وهو ابن أخي صلاح الدين، وكان سلطان الشام في زمانه مدة 10 سنوات، قد أمر بأن يرتب مسند الإمام أحمد على الأبواب بدلاً من الرواة، وأن يجعل كل حديث في الباب أو الأبواب المناسبة لمعناها، فيكون فيه أبواب تضم أحاديث الطهارة، والصلاة وغيرها. وكان الملك المعظم يتبع المذهب الحنفي، ولم يكن في الأيوبيين حنفي قبله.
وللإمام أحمد كتب أخرى مثل الناسخ والمنسوخ، والتاريخ، وحديث شعبة، والمقدم والمؤخر في القرآن، وجوابات القرآن، والمناسك الكبير والصغير، ونفي التشبيه، والإمامة، والرد على الزنادقة، والزهد، والإيمان، والأشربة.
وكان الإمام أحمد يحب الوحدة والانزواء عن الناس، دون أن يمنعه ذلك من عيادة المريض، وكان يعتبر الشهرة من الابتلاء، قال رحمه الله: أشتهي ما لا يكون! قد بليت بالشهرة، أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أُعرَف، أشتهي مكانا لا يكون فيه أحد من الناس؛ رأيت الخلوة أروح لقلبي. قال الأستاذ العلامة المحقق شعيب الأرناؤوط: اللقاء الذي لم يرغب فيه الإمام أحمد هو الذي يراد منه ذيوع الصيت والتكلف، أما لقاء الناس لتعليمهم ما جهلوا من أمر دينهم، وإسداء النصح لهم، وصلة أرحامهم، وزيارتهم في المناسبات المشروعة، فهو مما يرتضيه ويرغب فيه، لان ذلك مما يحمده الشرع ويحث عليه.
وكان الإمام أحمد بن حنبل على قدر من الزهد عظيم لا يقدر عليه حتى المقربون منه وأهل بيته، وكان يرفض ما يعرض عليه من أموال حلال من المحبين هبة أو ديناً، وكان هذا ديدنه منذ أيام طلبه الحديث حتى توفاه الله تعالى، وأخباره في هذا كثيرة نورد نزراً قليلاً منها:
فقد ضاقت به الحال في الرحلة إلى اليمن ضيقاً شديداً حتى أكرى نفسه من الجمَّالين، ورهن نعله عند خباز باليمن،وعرض عليه عبد الرزاق دراهم صالحة، فلم يقبلها، وكان يقول: : الفقر مع الخير.
وكان يلزم أهله بهذا المنهج، حدث ولده صالح قال: ولد لي صالح مولود فأهداني أحد أصدقائي هدية بهذه المناسبة، ثم أتى على ذلك أشهر، وأراد الصديق الخروج إلى البصرة، فقال لي: تُكلِّم أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة، فكلمته فقال: لولا أنه أهدى إليك، كنت أكتب له.
وكان مع هذا التقشف بهي المنظر نظيف الثياب، قال تلميذه عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، المتوفى سنة 274، قال: ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدنا، ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا بشدة بياض، من أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
أما أخلاقه رحمه الله فقد قال أحد معاصريه: كان أحمد من أحيى الناس، وأكرمهم، وأحسنهم عشرة وأدبا، كثير الإطراق، لا يُسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقار وسكون، ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان، بش به، وأقبل عليه.
وقال عبد الله بن أحمد، قال: كان أبي إذا أتى البيت من المسجد، ضرب برجله حتى يسمعوا صوت نعله، وربما تنحنح ليعلموا به.
ولهذه الأخلاق والأدب كان يجتمع في مجلسه زهاء خمسة آلاف أو يزيدون نحو خمسمئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت، وقال أبو بكر بن المطوعي: اختلفت إلى أبي عبد الله، اثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ المسند على أولاده، فما كتبت عنه حديثا واحدا، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه.
مرض الإمام أحمد قبل وفاته بفترة فاجتمع الناس بالآلاف حول بيته حتى تدخلت الشرطة لضبطهم، ولما توفي صلى عليه ابنه في بيته، ثم خرجت جنازته إلى الصحراء للصلاة عليه، فقام الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، بالصلاة عليه، دون رضا من ابنه عبد الله، وأمر الخليفة المتوكل أن يقوم المساحون بحساب عدد من خرج في الجنازة فكان عددهم نحواً من ألف ألف، سوى من كان في السفن في الماء.
وتورد بعض الروايات أنه يوم مات الإمام أحمد أسلم عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس، وقد تصدى الإمام الذهبي في كتابيه التاريخ والسير لهذه الرواية التي يُذكر أن راويها هو جار الإمام أحمد محمد بن جعفر الوركاني، فقال: مات الوركاني في رمضان سنة 228، فظهر لك بهذا أنه مات قبل أحمد بدهر، وكيف يحكي يوم جنازة أحمد، رحمه الله؟
تزوج الإمام أحمد متأخراً في الأربعين من عمره من العباسة بنت الفضل، وهي من العرب من الربض، ولم يولد له منها غير ابنه صالح ثم توفيت، وقال عنها الإمام أحمد: أقامت أم صالح معي عشرين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة.
ثم تزوج الإمام من ريحانة بنت عمر بعد وفاة أم صالح، ولذلك قصة فقد قال الإمام أحمد لامرأة تكون عندهم: اذهبي إلى فلانة فاخطبيها لي من نفسها، فأتتها فأجابته، فلما رجعت إليه قالت: أختها كانت تسمع كلامك، قال: وكانت بعين واحدة؟ فقالت له: نعم، قال: فاذهبي فاخطبي تلك التي بفرد عين. فأتتها فأجابته، وهي أم عبد الله ابنه، فأقام معها سبع أيام ثم قالت له: كيف رأيت يا ابن عمي، أنكرتَ شيئا؟ قال: لا، إلا نعلك هذه تصر، ولم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فباعتها واشترت مقطوعا فكانت تلبسه.
وتوفيت أم عبد الله فاشترى الإمام جارية اسمها حُسن، ولدت منه ابنته زينب ثم ولدت الحسن والحسين توأماً وماتا بالقرب من ولادتهما، ثم ولدت أيضاً الحسن ومحمداً فعاشا حتى بلغا نحو الأربعين سنة ثم ولدت بعدهما سعيدا، وذلك قبل وفاة الإمام أحمد بنحو من خمسين يوماً.
وقالت أيضا لما ولدت حسنا أعطى مولاي كرامتَه امرأة تخدم حُسن درهما، وقال لها: اذهبي إلى ابن شجاع، جارٌ لنا قصاب، يشتري لك بهذا رأساً. قالت: فاشترى لنا رأساً وجاءت به فأكلنا فقال لي: يا حسن، ما أملك غير هذا الدرهم!
وأكبر أولاد الإمام هو صالح المولود سنة 203 والمتوفى سنة  265، ولد ببغداد، ونشأ بين يدي أبيه الإمام أحمد، وأخذ عنه، ثم ولي القضاء بأصبهان، وتوفي فيها.
ومن أولاده عبد الله المولود سنة 213 والمتوفى سنة 290، وكان محدثاً حافظاً، روى عن والده المسند، وله هو كتاب زوائد المسند، زاد به على مسند أبيه نحو عشرة آلاف حديث، وله كما رأينا محاورات ومذاكرات مع والده فيها كثير من الفائدة وتبين رجاحة فكره وفقهه، رحمهما الله تعالى.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer