الجمعة، 26 ديسمبر 2014

حدث في الخامس من ربيع الأول

في الخامس من ربيع الأول من عام 182 توفي في بغداد، عن 69 سنة، الإمام أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، العلامة المحدث المجتهد، أفقه أصحاب الإمام أبي حنيفة وناشر علمه من بعده، وأول من خوطب بلقب قاضي القضاة.
ويعود نسب أبي يوسف إلى الصحابي سعد بن بحير البجلي الأنصاري الكوفي، الذي عُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو صغير، مع رافع بن خديج وعبد الله بن عمر، قال أبو يوسف: أتي بجدي سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق فاستغفر له ومسح برأسه فتلك المسحة فينا الى الساعة. فهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خُنيس بن سعد بن بَحير بن معاوية الأنصاري الكوفي.
ولد أبو يوسف في الكوفة في سنة 113، وتوجه لطلب العلم وهو صغير، وتتضارب الرواية حول أهله، فمنها من يذكر أن أباه كان فقيراً له حانوت ضعيف، وهو بحاجة لأن يعمل ابنه ويأتي بدخل إضافي، وتروي عن أبي يوسف قوله: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة خبزه مشوي، وأنت تحتاج إلى المعاش! فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: استمتع بها، فنظرت فإذا فيها مئة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا فرغت هذه فأعلمني. فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إليّ مئة أخرى، ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلة قط ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه كان يُخبر بنفادها، حتى استغنيت وتمولت.
وهناك رواية أخرى تقول إن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلاً صغيراً، وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضور حلقة أبي حنيفة، وتروي عن أبي يوسف قوله: توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي فتأخذ بيدي فتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يُعنى بي، لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقاً يعود به على نفسه! فقال لها أبو حنيفة: مُرِّي يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق! فانصرفت عنه وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك. ثم لزمته فنفعني الله تعالى بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلى هارون فالوذجة، فقال لي: يا يعقوب كل منها فليس في كل يوم يعمل لنا مثلها، فقلت: وما هذه يا أمير المؤمنين فقال: هذه فالوذجة بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مم ضحكك؟ فقلت: خيراً، أبقى الله أمير المؤمنين، قال: لتخبرني، وألح علي، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم لينفع دنيا وديناً، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.
ولعل الرواية الأولى حول نشأته في ظل والده أرجح، فقد قال أبو يوسف: صحبت أبا حنيفة 17 سنة لا أفارقه في فطر ولا أضحى إلا من مرض. وهذا يعني أنه صحب أبا حنيفة إلى وفاته سنة 150، أي أنه بدأ الأخذ عليه وهو في العشرين، وليست هذه سن ولد صغير تحتاج أمه لعتاب أبي حنيفة، ثم هو من قبل أبي حنيفة قد أخذ العلم على الإمام ابن أبي ليلى، محمد بن عبد الرحمن، قاضي الكوفة المولود سنة 74 والمتوفى سنة 148، وفي هذا السياق قال أبو يوسف: ما كان في الدنيا مجلسٌ أجلسه أحب إلي من أبي حنيفة وابن أبي ليلى، فاني ما رأيت فقيها أفقه من أبي حنيفة، ولا قاضيا خيرا من ابن أبي ليلى. وكان أبو يوسف رحمه الله شديد الوفاء لأبي حنيفة دائم الذكر له والاعتراف بفضله، وكان يقول: ما صليت صلاة قط ولا غيرها إلا دعوت الله لأبي حنيفة واستغفرت له.
ولم يقتصر وفاء أبي يوسف لأبي حنيفة في الدعاء له، بل سار على سنته في تعهده لطلبة العلم وأهله بالرعاية والنفقة، وكان في عصره محدث كبير من خيار الناس، هو عفيف بن سالم الموصلى موطناً والبجلي ولاء، والمتوفى سنة 183، وكان عفيف رحالاً في طلب العلم، سمع مالك بن أنس في المدينة ورحل إلى اليمن فأملق حتى باع ما يستغني عنه من ملابسه، قال عفيف: كنت باليمن فنفذت نفقتي ولم يبق معي شيء إلا جبة فرو ليس تحتها ولا فوقها شيء، فكنت أدخل القرية فأسأل بقدر ما أحتاج إليه فآكل ثم أمسك، حتى قدمت بغداد. وفي بغداد دخل عفيف على أبي يوسف فأعطاه ألفي درهم.
وإلى جانب تفقهه على يد أبي حنيفة، طلب أبو يوسف الحديث فأخذ عن محدث الكوفة عطاء بن السائب المتوفى سنة 136، وعن يزيد بن أبي زياد الكوفي المتوفى سنة 137، وعن التابعي الكوفي أبي إسحاق الشيباني، سليمان بن فيروز، والمتوفى سنة 138، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، القاضي المولود بالمدينة والمتوفى بالعراق سنة 143، وكان من أكابر أهل الحديث، وعن حجاج بن أرطأة بن ثور النخعي، قاضي البصرة المتوفى سنة 145، وعن عبيد الله بن عمر المتوفى سنة 145، وعن التابعي هشام بن عروة بن الزبير بن العوام، المولود بالمدينة سنة 61 والمتوفى ببغداد سنة 146، وعن الإمام المحدث سليمان بن مهران الأعمش، المولود في حدود 61 والمتوفى سنة 149. قال أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة، فأجبته فيها فقال لي: من أين لك هذا؟ فقلت: من حديثك الذي حدثتنا أنت، ثم ذكرت له الحديث، فقال لي: يا يعقوب إني لأحفظ هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك، وما عرفت تأويله حتى الآن!
وقال هلال بن يحيى المعروف بهلال الرأي: كان أبو يوسف يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب، وكان أقل علومه الفقه، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف.
وروى الحديث عن أبي يوسف عدد من كبار المحدثين وأئمتهم مثل خلف بن أيوب الإمام المحدث عالم أهل بلخ، المولود سنة 136والمتوفى سنة 205، ومثل الفقيه المالكي أسد بن الفرات قاضي القيروان المجاهد الفاتح، المولود سنة 142 والمتوفى سنة 213، والذي سمع منه في رحلة للمشرق سنة 172، ومثل  علي بن الجعد، شيخ بغداد في عصره والمولود سنة 133 والمتوفى سنة 230، والإمام يحيى بن معين المولود سنة 158 والمتوفى سنة 233، ومثل الحافظ الثقة أحمد ين منيع البغوي، المولود سنة 160 والمتوفى سنة 244، والإمام أحمد بن حنبل المولود سنة 164 والمتوفى سنة 241، قال: أول ما طلبت اختلفت إلى أبي يوسف القاضي. روى إمام بغداد وفقيهها في وقته إبراهيم بن جابر، المتوفى سنة 310، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: كتب أبي عن أبي يوسف ومحمد ثلاثة قماطر. فقلت له: كان ينظر فيها؟ قال: كان ربما نظر فيها، وكان أكثر نظره في كتب الواقدي.
ولا توافينا المصادر المتوفرة بتحديد السنة التي أصبح فيها أبو يوسف إماماً مجمعاً على إمامته، والأرجح أن ذلك كان بعد وفاة أبي حنيفة الذي تفرس في أبي يوسف أن يكون خليفته، وتروي بعض الكتب قصة في ذلك أوردها وإن كان في النفس شيء من شطرها الثاني المتعلق بجلوس أبي يوسف للدرس في حياة أبي حنيفة، حدث الفضل بن غانم قال:
كان أبو يوسف مريضا شديد المرض، فعاده أبو حنيفة مرارا فصار إليه آخر مرة فرآه مقبلا فاسترجع ثم قال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير. ثم رُزِق العافية وخرج من العلة، فأُخبِرَ أبو يوسف بقول أبي حنيفة، فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إليه، فقعد لنفسه مجلسا في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة، فسأل عنه فأخبر أنه قد قعد لنفسه مجلسا، وأنه قد بلغه كلامك فيه، فدعا رجلا كان له عنده قدر فقال: صر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصَّار ثوبا ليقصُره بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب فقال له: القصار مالك عندي شيء! وأنكره، ثم إن رب الثوب رجع إليه، فدفع إليه القصار الثوب مقصورا؛ أله أجرة؟ فإن قال: له أجرة، فقل أخطأت! وإن قال: لا أجرة له، فقل: أخطأت! فصار إليه فسأله فقال أبو يوسف: له الأجرة، فقال: أخطأت، فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له، فقال: أخطأت! فقام أبو يوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة فقال: له ما جاء بك إلا مسألة القصار؟! قال: أجل، قال: سبحان الله من قعد يُفتي الناس، وعقد مجلسا يتكلم في دين الله وهذا قدره؛ لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات؟! فقال: يا أبا حنيفة علمني. فقال: إن كان قصره بعد ما غصبه، فلا أجرة له لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه، فله الأجرة لأنه قصره لصاحبه. ثم قال: من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبكِ على نفسه.
وكانت لمكانة أبي يوسف في علم الحديث أهمية كبيرة في استمرار واستقرار وقبول المذهب الحنفي، الذي بناه أبو حنيفة على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص وفقاً لقواعد ومقايسات عامة بسيطة ومركبة، وعلى المناظرات الفقهية المبنية على فرضيات واحتمالات، وهو أمر قد يبدو لنا اليوم بدهياً في فقه المذاهب الأربعة، ولكنه كان في ذلك الوقت بدعة جديدة تلقاها الناس ما بين مرحب ومستغرب ومستنكر، وكان على رأس المستغربين والمستنكرين رواة الحديث وحفاظه، فقد كانوا بمثابة الأمناء على هذه دين هذه الأمة، وها هم يرون مكانة الحديث ينافسها القياس والمنطق! فاعتبر ككثير منهم ذلك أمراً إدَّا، منهم من صرح ومنه من لمح.
وغفل كثير من أهل الحديث عن أن منهجهم في قيام المعاملات على الفتيا بعد الواقعة، كان صالحاً للمجتمع الصغير عندما كانت الحياة فيه بسيطة ساذجة والتعامل بين سكانه قائم على المعرفة والثقة والتذمم، فلما أصبح المشرِّع إزاء مجتمعات يعد سكانها بمئات الألوف، ويتنوع سكانها في لغاتهم ومعايشهم، ويتباينون في فهمهم وإدراكهم وتذممهم، كان لا بد له أن يضع القواعد المتسقة التي تضبط أصول التعامل ومنها أن يصدر الأحكام على ما قد يقع وإن لم يحدث، وأن تكون الأحكام منسوجة على منوال واحد لا يتبدل ولا يحابي، وكان من نتائج هذا أن انقسم العلماء إلى أهل الحديث وأهل الرأي أو القياس، وهو انقسام كانت له ذيوله المؤسفة إلى يومنا هذا.
قال أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، المتوفى سنة 277: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سألت أبي عن أسد بن عمرو فقال: كان صدوقاً، وأبو يوسف صدوق، لكن أصحاب أبي حنيفة ينبغي أن لا يروى عنهم شيء! وأسد بن عمرو المذكور هو أسد بن عمرو بن عامر القشيري البجلي، المتوفى سنة 188، ولي القضاء بواسط ثم ببغداد، وهو أول من كتب كُتُب أبي حنيفة.
وإذ تولى رئاسة المذهب الحنفي محدث كبير مثل أبي يوسف فإن من شأن ذلك أن يدحض قول من زعم ابتعاد المذهب عن الأصل الثاني من أصول الشريعة ألا وهو الحديث النبوي الشريف ،ومع ذلك يقول الإمام محمد بن جرير الطبري: وتحامى حديثه قوم من أهل الحديث من أجل غلبة الرأي عليه وتفريعه الفروع والأحكام، مع صحبة السلطان وتقلده القضاء.
ونورد هنا بعض الأخبار المبينة لمكانته في علم الحديث، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: أول ما كتبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف، كان أميل إلى المحدثين من أبي حنيفة ومحمد. وقال يحيى بن معين يقول: ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث، ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف؛ صاحب حديث، صاحب سنة.
وقال الحسن بن أبي مالك، المتوفى سنة 204، والعباس بن الوليد النرسي، المتوفى سنة 237، قالا: كنا نختلف إلى أبي معاوية الضرير، محمد بن خازم، المولود سنة 113 والمتوفى سنة 195، في حديث الفقه من حديث الحجاج بن ارطأة فقال لنا أبو معاوية: أليس أبو يوسف القاضي عندكم؟ قلنا: بلى، فقال: أتتركون أبا يوسف وتكتبون عني؟ كنا نختلف إلى الحجاج، فكان أبو يوسف يحفظ والحجاج يملي علينا، فإذا خرجنا كتبنا من حفظ أبي يوسف.
وروى الحسن بن زياد اللؤلؤي قال: حججنا مع أبي يوسف فاعتلَّ في الطريق فنزلنا بئر ميمون فأتاه سفيان بن عيينة يعوده فقال لنا: خذوا حديث أبي محمد. فروى لنا أربعين حديثا فلما قام سفيان قال لنا أبو يوسف: خذوا ما روى لكم. فرد علينا الأربعين حديثا حفظا على سنه وضعفه وعلته وشغله بسفره!
وإلى جانب الحديث، كان أبو يوسف شبيه أبي حنيفة في أن الله عز وجل وهبه سعة العقل والقدرة على تفريع المسائل، وقد أمد الله في عمره أكثر من 30 سنة بعد وفاة الإمام، فاستطاع أن يشيد البنيان على ما أسسه أبو حنيفة رحمه الله، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، قال عمار بن أبي مالك الجنبي: ما كان فيهم مثل أبي يوسف! لولا أبو يوسف ما ذُكِر أبو حنيفة ولا ابن أبي ليلى، ولكنه نشر علمهما وبث قولهما. وكان يقال: أفقه أهل الكوفة علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وأفقه أصحابهما علقمة، وأفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي، رحمهم الله تعالى.
وعين الخليفة المهدي أبا يوسف في منصب قاضي القضاة في سنة 166، وأقره عليه الهادي سنة 169 ثم هارون الرشيد حين تولى الخلافة سنة 170 فبقي فيه 17 سنة حتى وفاته سنة 183، وكان في قضائه مثال الإنصاف والحيدة، ويضيق المجال عن أن نورد ما له قصص في دعاوى رفعها العامة على الخلفاء تبين عدله وحسن تأتيه للأمور.
وكان قاضي القضاة هو الذي يعين القضاة في المدن والأقاليم، ومن عينهم قاضي القيروان عبد الله بن عمر بن غانم تلميذ الإمام مالك، المولود سنة 128 والمتوفى سنة 190، قيل إن أبا يوسف قال لأمير أفريقية روح بن حاتم المهلبي عند خروجه إلى القيروان: إن بمدينة القيروان فتى يقال له عبد الله بن غانم، فقد فقه، فوله قضاء أفريقية، فولاه في سنة 171 ولما بلغت مالكاً ولايته سُرَّ بها، وأعلم بذلك أصحابه. وكان ابن غانم يكتب إلى مالك وإلى أبي يوسف فيما ينزل به من نوازل الخصوم، فيأخذ عليها الأجوبة.
وقد زعم ابن حزم أن أبا يوسف كان لا يعين إلا من كان على مذهبه ولذلك انتشر، قال: مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب صاحب أبي حنيفة كانت القضاة من قِبَله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه، ومذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس، فإن يحيى بن يحيى كان مكيناً عند السلطان مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به، على أن يحيى بن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائداً في جلالته عندهم وداعياً إلى قبول رأيه لديهم.
وهذا الزعم يقتضي تمحيصاً إحصائياً لمعرفة صحته، فإن لابن حزم افتراضات مبنية على التصور والتقدير لا تثبت على النقد، وبفرض صحة قول ابن حزم، فإن للأمر تعليلاً آخر، فات ابن حزم في شنآنه للمذاهب، وهو أن الفتوى قد تختلف باختلاف المفتين، أما أحكام القضاء في المعاملات فينبغي أن تكون على نسق واحد لا تتغير في القضايا المتشابهة ولو عرضت على قضاة مختلفين، وإن لم تكن كذلك تعطلت مصالح الناس واضطربت ترتيباتهم في الزواج والطلاق والعقود والديون وغيرها من التعاملات الاجتماعية والمالية، ولعل ذلك أحد أسباب رغبة الخليفة المنصور في أن يحمل الناس على اتباع كتاب الموطأ الذي جمعه الإمام مالك رحمه الله.
بقي أن نشير لأمر يعلمه طلبة العلم بله العلماء، وهو أن الإمامين أبا يوسف ومحمد بن الحسن مجتمعين وعلى حدة قد خالفا الإمام أبي حنيفة في كثير من المسائل، وهذا أولاً من سعة الإسلام، وثانيا من مرونة المذهب الحنفي وتقبله للتعدد والتنوع، وهو أمر ليس حكراً على المذهب الحنفي اليوم، ولكنه أثرى مكتبته الفقهية في وقت مبكر قبل أن تصل المدارس الفقهية الأخرى لهذه المرحلة وتتساوى فيها.
ونورد بتصرف مثالاً لطيفاً على ذلك يتعلق بالحجر على مال السفيه، أورده الإمام علاء الدين البخاري، عبد العزيز بن أحمد، المتوفى في بخارى سنة 730، وذلك في شرحه لكتاب أصول الفقه لأبي الحسن علي بن محمد بن الحسين البَزْدَوي، وأسمى كتابه كشف الأسرار، قال علاء الدين البخاري رحمه الله:
وأجمعوا أن السفيه يمنع مالَه في أول ما يبلغ بالنص ... لقوله تعالى في سورة النساء ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا* وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾، أي لا تؤتوا المبذرين أموالكم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ... أضاف الأموال إلى الأولياء وهي في الحقيقة أموال غيرهم لأنها من جنس ما يقيم الناس به معايشهم ... لو ضيعتموها لضعتم، فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم.
ثم علق الإيتاء بإيناس الرشد ... أي عرفتم ورأيتم فيهم صلاحا في العقل وحفظا للمال ... فقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا بلغ السفيه خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يُدفع إلى السفيه ما لم يؤنس منه الرشد ... ألا ترى أنه عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع إليه المال بهذه الآية، فكذا إذا بلغ خمسا وعشرين سنة؛ لأن السَفَه يستحكم بطول المدة، ولأن السفه في حكم منع المال بمنزلة الجنون والعَتَه، وأنهما يمنعان دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبلها، فكذلك السفه.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بقوله تعالى ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ معناه مخافة أن يكبروا فيلزمكم دفع المال إليهم، وبقوله تعالى في أول سورة النساء ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، والمراد البالغون، وسموا يتامى لقرب عهدهم به، فهذا تنصيص على وجوب دفع مال اليتيم إليه بعد البلوغ، إلا أنه قام الدليل على منع المال منه عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد، فإنه تعالى قال ﴿ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾، وحرف الفاء للوصل والتعقيب، فيكون بيانا أن دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس الرشد ... فأما إذا بَعُدَ عن ذلك، فوجوب دفع المال إليه مطلق ... غير معلق بشرط، والمعنى فيه أن منع المال بعد البلوغ لبقاء أثر الصِبا... وأثره قد يبقى إلى أن يمضي عليه زمان، وينقطع بعدما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان، فيجب دفع المال، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال؛ لأن... منع المال على سبيل التأديب له ... ما لم ينقطع رجاء التأديب، فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده، فقد انقطع رجاء التأديب.
ومن آراء أبي يوسف الفقهية الجديرة بالذكر، والتي سارت عليها الدول الرأسمالية الكبرى، أنه عندما تناول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن مَعْمَرِ بن عبد الله: لا يحتكر إلا خاطئ. ومع أن موضوع الحديث ومناسبته احتكار الطعام، إلا أن أبا يوسف في فقهه الواسع قال: كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار، وإن كان ذهبا أو ثيابا.
ومن حكم أبي يوسف رحمه الله: صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة.
وكان يقول: رؤوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها، والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.
وكان أبو يوسف يقول: من طلب المال بالكيمياء؛ أفلس، ومن طلب الدين بالكلام؛ تزندق، ومن تتبع غريب الحديث؛ كذب. وتفسير هذا أن الكيمياء التي يتحدث عنها الإمام هي طريقة لتحويل المعادن الرخيصة كالرصاص إلى معدن نفيس كالذهب أو الفضة، ومصداق كلام أبي يوسف قصص كثيرة في التاريخ عن من جرى وراء هذا الوهم فكان عاقبة أمره خسرا.
ويشبه هذا قولَه الذي كان الإمام إبراهيم الحربي، المولود سنة 198 والمتوفى سنة 285، معجباً به وذكره أبو أيوب سليمان بن إسحاق الجلاب، المتوفى سنة 334، قال: قال لي إبراهيم الحربي: تدري إيش قال أبو يوسف، وكان من عقلاء الناس؟ قال: لا تطلب الحديث بكثرة الرواية فتُرمى بالكذب، ولا تطلب الدنيا بالكيميا فتفلس ولا تحصل بيدك شيء، ولا تطلب العلم بالكلام فإنك تحتاج تعتذر كل ساعة إلى واحد.
ومن أقواله التي كان والدي يكررها رحمها الله: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض كنت على غَرر.
كان آخر أعمال أبي يوسف قبل وفاته هو التفكر في مسائل الفقه، فقد زاره إبراهيم بن الجراح التميمي المازني الكوفي ثم القاضي نزيل مصر، المتوفى سنة 217، وكان قد تفقه على أبي يوسف وسمع منه الحديث، قال إبراهيم: أتيته أعوده فوجدته مغمى عليه فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم ما تقول في مسألة؟ قلت: في مثل هذه الحال؟! قال: ولا بأس بذلك؛ ندرس فينجو به ناج. ثم قال: أيما أفضل في رمي الجمار، أن ترميها راكبا أو ماشيا؟ فقلت: راجلا. فقال: أخطأت. فقلت: راكبا. فقال لي: أخطأت. ثم قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن ترميها راجلا لأنه أشد لتمكنك وأغزر لدعائك، وأما ما كان لا يوقف عنده، فالأفضل أن ترميها راكبا لأنه أسرع لتنحيك. ثم قمت من عنده فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه وإذا هو قد مات.
كان لأبي يوسف ابن اسمه يوسف كان فقيهاً محدثاً، ولي القضاء في الجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه، وأقره الرشيد على عمله بعد وفاة والده، وصلى بالناس الجمعة في مدينة المنصور بأمر هارون الرشيد، ولم يزل على القضاء إلى أن مات في سنة 192ببغداد.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer