الجمعة، 5 ديسمبر 2014

حدث في الثالث عشر من صفر

في الثالث عشر من صفر من عام 1366 الموافق 7 كانون الثاني/يناير 1947 توفي في بغداد، عن 83 سنة، الأب أنستاس ماريُّ الكرملي، العالم اللغوي المؤرخ.
ولد بطرس بن جبرائيل يوسف عواد الماروني، وهذا اسمه عند الولادة، في بغداد سنة 1283=1866 لأبوين من أصل لبناني، حيث انتقل والده الذي كان يعمل مترجماً من بِكفَيّا بلبنان إلى بغداد، وتزوج سيدة كلدانية بغدادية، فولدت له خمسة بنين وأربع بنات.
ودرس  بطرس في مدرسة القديس يوسف التابعة للآباء الكرمليين، وكان في دراسته مقبلاً على اللغة العربية وآدابها حتى مهر بها، فجعله مدير المدرسة مدرساً لها وهو في السادسة عشرة من عمره، وفي تلك السن كتب أول مقالاته اللغوية والأدبية وأرسلها للجرائد لتنشرها باسمه الصريح أو بأسماء مستعارة.
وانتقل الكرملي وهو في سن العشرين إلى بيروت فدرس في مدرسة الآباء اليسوعيين اللاهوتية، المعروفين كذلك بالجزويت، ثم دخل في سلك الرهبنة في مدينة شيفرمون البلجيكية ودرس اللاهوت والفقه المسيحي في مدينة مونبليه الفرنسية، وسيم كاهناً في سنة 1312=1894 وتسمى باسم الأب أنستاس ماريّ الألياوي الكرملي. وماري بالتشديد نسبة إلى السيدة مريم رضي الله عنها، والألياوي نسبة للقديس إلياس.
والرهبنة الكرملية التي انتمى إليها الكرملي، وبقي طوال حياته محافظاً على لباسها وشعارها، ملتزماً لتعاليمها، واسمها الرسمي رهبنة إخوة سيدة الكرمِل، وهي رهبنة تتبع البابا والكنيسة الكاثوليكية، تأسست في سنة 605=1209 أثناء الاحتلال الصليبي لفلسطين، وأخذت اسمها من جبل الكرمل المطل على حيفا، ورعاها ملك فرنسا القديس لويس التاسع ثم الدولة الفرنسية من بعده، ولما خرج الصليبيون من فلسطين خرج رهبانها معهم وانتشروا في ربوع أوربا، ثم عادوا إلى العراق بلاد الشام بعد قرابة 3 قرون ليؤسسوا وجودهم بواسطة الأديرة والمدارس، وتصنف على أنها من رهبنات التقشف والتعبد حيث يتخلى أعضاؤها عن أية ممتلكات فردية ويقضون أغلب حياتهم داخل الدير في الصلاة والتأمل، ولعلاقتها التاريخية مع الدولة الفرنسية فإن مدارسها تهتم اهتماماً خاصاً بنشر اللغة والثقافة الفرنسية.
كان الكرملي يتقن التركية والفارسية، وتضلع في اللغة الفرنسية، ودرس في دراساته اللاهوتية اللغتين اللاتينية واليونانية، ثم درس فيما بعد شيئاً من اللغات الآرامية والعبرية والحبشية وذلك لاحتياجه لها في أبحاثه اللغوية والتاريخية وبخاصة علاقتها باللغة العربية.
وبعد انتهاء دراسته عاد الكرملي إلى بغداد في سنة 1894، ولكن بعد أن جال في الأندلس سائحاً في الربوع التي قامت فيها دولة بني أمية، وتولى في بغداد إدارة المدرسة الكرملية وتعليم العربية والفرنسية فيها، إلى جانب قيامه بالوعظ في الكنيسة، ثم ما لبث الكرملي أن ترك إدارة المدرسة في سنة 1897 ليتفرغ للوعظ والكتابة والتأليف، وكانت ثمرة ذلك عديد من المقالات والأبحاث التي نشرها في المجلات العربية والفرنسية باسمه الصريح أو بأسماء مستعارة عديدة، وتناول في كثير منها مواضيع لم يسبق لأحد التطرق لها في العصر الحديث بأسلوب علمي محقق، وكثير منها يتعلق بالعراق، فكتب مثلاً عن اليزيدية والصابئة، ولما أراد الكتابة عن الصابئة ذهب إلى حيث يسكنون من العراق في شطرة المنتفق بالناصرية، ليتعرف على زعمائهم، ويطلع على عقائدهم وأحوالهم الاجتماعية والدينية.
وفي سنة 1329=1911 أصدر في بغداد مجلة شهرية أسماها لغة العرب تناولت أمور الأدب والعلم والتاريخ، وكان صاحب امتيازها ونائبه فيها الأستاذ كاظم أفندي الدجيلي، المولود سنة 1301 والمتوفى سنة 1390=1970، وجاء في افتتاحية العدد الأول:
بسم الله الفتاح المعين
بعد حمده تعالى والشكر على آلائه، والاتكال على مدده، قد عقدنا على إصدار هذه المجلة الشهرية خدمة للوطن والعلم والأدب، من إنشائها نعرِّف العراق وأهله ومشاهيره، بمن جاورنا من الديار الشرقية وبمن نأى عنا من العلماء والباحثين والمستشرقين الغربية، وننقل إلى وطنيينا العراقيين، ما يكتبه عنهم الإفرنج من الكتاب المشهورين، عن بلادهم وأقوامهم من خالين وحاليين وخالدين.
أما الأبواب التي نطرقها، فظاهرة من اسم المجلة نفسها، وما الغاية التي توخيناها من وضعها، وزيادة على ذلك نعقد في كل جزء من أجزائها تاريخ الشهر في العراق، وندون فيه ما صَرَح ومَحضَ من الأخبار والوقائع التي جرت في العراق ونواحيه من ديار جزيرة العرب، لتصلح هذه الصحف أن تكون ألواحاً تنقش فيها الحقائق الراهنة لا الشقاشق الواهنة ومرجعاً يرجع إليه عند الحاجة.
ولما نشبت الحرب العالمية الأولى في سنة 1332=1914 أعلنت حكومة الاتحاد والترقي التركية الأحكام العرفية، وأوقفت إصدار الصحف والمجلات ومنها مجلة لغة العرب، فتوقفت بعد 3 سنوات من صدورها، ونفت الحكومة إلى تركيا كثيراً من رجالات البلاد العربية ممن لم تطمئن لهم وبخاصة ممن اعترض منهم على سياسات التتريك ودعا لمنح البلاد العربية استقلالاً جزئيا تحت حكومة لا مركزية، وكان نصيب الكرملي، صاحب مجلة لغة العرب، النفي من بغداد إلى بلدة قيصري في قلب الأناضول، وصادرت حكومة الاتحاد والترقي جزءاً من مكتبة الكرملي الكبيرة.
ودخلت الحكومة التركية الحرب إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا، وذلك بعد قرابة 5 أشهر من بدء الحرب، فقامت بريطانيا بغزو العراق في سنة 1334=1916، ودخلت القوات البريطانية بغداد في منتصف سنة 1335=1917، ووقعت بريطانيا اتفاقية هدنة مع الحكومة التركية في سنة 1337=1918.
وكان الكرملي قد نال إذناً بالعودة إلى العراق في سنة 1916 بعد قضائه قرابة سنتين في المنفى،  تعلم أثناءها اللغة الأرمنية، فعاد ليواجه أكبر كارثة في حياته في سنة 1335=1917 حين انسحبت من بغداد القوات التركية إلى الموصل من وجه الهجوم البريطاني، فقام الرعاع بنهب الأديرة وكان مما نهبوه خزانة كتبه التي حوت زهاء 11.000 كتاب عربي مطبوع وأكثر من 8.000 كتاب إفرنجي مطبوع و783 كتاباً من نوادر المخطوطات كان ضمنها ديوان امرئ القيس وديوان السموأل ونسخة كاملة في 32 جزءاً من كتاب مرآة الزمن لابن سبط الجوزي، ونسخة كاملة من الخصائص لابن جني، ونسخة من كتاب العين للخليل بن أحمد، ونسخة تامة من ديوان الأدب للفارابي، فتفرقت أيدي سبأ وبقيت حسرة في نفسه إلى يوم مماته، وعاد الكرملي فجدد مكتبته فجمع منها زهاء أحد عشر ألف كتاب مطبوع وسبعمئة كتاب مخطوط تغلب عليها الأبحاث التاريخية واللغوية، وآلت مكتبته بعد وفاته إلى المجمع العلمي العراقي.
وعينت الحكومة العراقية، التي تشكلت بعد الاحتلال، الكرملي عضوا في مجلس المعارف سنة 1917، وعهدت إليه برئاسة تحرير جريدة العرب عند إنشائها في سنة 1917، وتولى إنشاء مجلة دار السلام ما يزيد على الثلاث سنوات، وكان في لجنة  الترجمة والتعريب عندما أسستها الحكومة سنة 1921.
ونظراً لأبحاثه وشهرته العلمية صار  الكرملي عضواً في كثير من الجمعيات العلمية، ففي سنة 1911 انتخب عضواً في مجمع المشرقيات الألماني، ثم لما تأسس المجمع العلمي العربي بدمشق اختاره سنة 1920 ليكون عضو شرف فيه، وبعد تأسيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 1932 كان من بين أعضائه البارزين، وكذلك اختاره المجمع العلمي السويسري في جنيف لعضويته، وكان من مؤسسي المجمع العلمي العراقي، وأهدته الحكومة الفرنسية وسام العلم في سنة 1920 تقديراً لمباحثه العلمية.
وفي سنة 1345=1927 أعاد الكرملي إصدار مجلته لسان العرب وجاء في افتتاحية ذلك العدد:
ولما جاءت الحرب العظمى بأهوالها... نفينا ظلماً إلى قيصرية فانقطعنا عن إخراجها للقوم إلى أن كان الصلح، فأصدرنا  مجلة دار السلام مدة تزيد على ثلاث سنوات، ثم سافرنا إلى أوربة لمشترى آلات طباعة فتم الأمر في منتصف سنة 1921، ثم عاندتنا الأحداث بأنواعها، إلى أن ذللناها في هذه الأيام، وعلماء البلاد العربية اللسان يلحون علينا بإصدارها لما قامت به من خدمة للعراق وتعريف أبنائه ودياره وتسويق تاريخه في سابق العهد وحديثه، حتى كادت النفس تمل من كثرة ما سمعت... وها نحن أولاء نزفها إلى محبي العراق والمتشوقين إلى الوقوف على أحواله... أما خطتنا فتبقى كما كانت في السابق أي أنها تتحرى ما يتعلق بالعراق وما جاوره من البلاد على اختلاف المباحث التي تمسها، وتتجنب كل ما يشتت الآراء ويلقي الفتن بين أبناء العراق أو بين محبي العرب.
واستمرت المجلة في الصدور قرابة 6 سنوات ثم توقفت، وقال الكرملي عن ذلك: وقد عزمنا عزما أكيدا لا يحتمل الرد ولا الاستئناف على إغلاق المجلة من الآن، لأننا مع مقاساتنا أتعابا جمة ومشاق هائلة ناهكة كنا نكابد خسائر باهظة طول سني صدور المجلة.
وكان للكرملي مجلس في ضحى كل يوم جمعة في الدير الكرملي في بغداد يجمع المثقفين والباحثين يتبادلون فيه الأحاديث الأدبية واللغوية والنحوية على شرط ألا يتحدثوا في أمور الدين أو السياسة، ومن لباقة الكرملي في هذا الصدد أنه كتب للدكتور المحقق مصطفى جواد رسالة في سنة 1936، ومما قال له فيها: إني ترجمت من الفرنسية كتابين صغيرين دينيين تم طبعهما، ولم أبعث إليك بنسخة إشفاقاً من أن تظن أني أدعوك إلى النصرانية. وكان الكرملي يستأنس بسماع القرآن الكريم، فإذا زاره مقرئ العراق الشهير الأستاذ الحافظ مهدي ألح عليه أن يتلو آيات من الذكر الحكيم.
وأرادت الحكومة العراقية في سنة 1347=1928 تكريم الكرملي بمناسبة مرور 50 عاماً على اشتغاله بالتدريس، فألفت لجنة من الأدباء والسياسيين ترأسها الشاعر جميل صدقي الزهاوي وأقامت حفلاً خطابياً حافلاً دعت إليه الداني والقاصي من أهل الأدب واللغة والمستشرقين، شارك فيه الشاعر المصري أحمد محرم بقصيدة أرسلها في برقية للحفل، منها:
يا برق هل لك في الجميل وهل تعين على الذمام؟
أنت البقية من أيادي العبقريين الكرام!
لك نجدة الحر الوفي، ونهضة البطل الهمام!
ما أن عييت بمطلب ... وعر المسالك أو مرام
تدني الممالك والأنام من الممالك والأنام
ما الدهر فيك سوى ثوان من نهار أو ظلام!
يا برق بالذمم الجسام وبالمواثيق العظام
أد الرسالة من ربى ... مصر إلى دار السلام
دار الرشيد وما رميت صحابتي فيها بذام
أولى المصاقع بالمنابر، والسواجع بالبشام
جمعوا المواسم كلها ... في موسم الأدب المقام!
هتفوا بذكر الكرملي ... فقلت بورك من إمام!
عزت به أم اللغات أبا يناضل كل رام!
يحمي جوانب ملكها ... ويهيب بالهمم النيام
ويقيم ما هدم الغزاة من الحوائط والدعام
ناب الكتاب عن الكتائب، واليراع عن الحسام!
نظم المشارق علمه ... والعلم أشبه بالنظام
ما للممالك إن هوى ... ركن المعارف من قيام
وغني عن القول ألا يرضى عن هذا التكريم عدد من مشايخ المسلمين في العراق كانوا يناصبون الكرملي العداء بدافع من ديانة أو تنافس، فكتبوا تحت أسماء صريحة ومستعارة يهاجمون الفكرة ويذمون الكرملي، ومما جاء في إحدى مقالاتهم: يكرمون الكرملي؟ والكرملي أداة خُلُقها التنطع، وسهم فوَّقه التبشير، وسيف صدئ جرّده الاستشراق على رؤوس العرب الشرقيين، والاستشراق سبيل من سبل المستعمرين وعين من عيون الطامعين! ونتيجة لهذه الهجمة عدلت الحكومة عن إقامة حفل عام إلى حفل في دار رئيس الوزراء محسن السعدون، والذي ينبغي ذكره أن مجلة لغة العرب نشرت مقالات المنتقدين كاملة ثم ردت عليها.
للكرملي مؤلفات في اللغة والتاريخ منها المعجم المساعد، في اللغة، وكتاب شعراء بغداد وكتابها، وكتاب نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها، وكتاب أغلاط اللغويين الأقدمين، وكتاب النقود العربية وعلم النُمِيَّات، وكتاب الفوز بالمراد في تاريخ بغداد، وكتاب خلاصة تاريخ العراق، وكتاب أديان العرب، وكتاب تاريخ الكرد، وكتاب جمهرة اللغات، وكتاب اللمع التاريخية والعلمية، جزآن كبيران، وكتاب مزارات بغداد وتراجم بعض العلماء، وكتاب العرب قبل الإسلام، وكتاب أمثال العوام في بغداد والموصل والبصرة. وله إلى جانب ذلك مؤلفات في الديانة النصرانية علمية ووعظية مثل كتاب خواطر الأخت ماري ليسوع المصلوب، ومرشد الرهبان، وكما ذكرنا كان الكرملي يلبس ثوب الرهبنة حتى وفاته.
وإلى جانب مؤلفاته نشر الكرملي عدداً من الكتب التي حققها، ومنها كتاب الإكليل في تاريخ اليمن للهمداني، وكتاب بلوغ المرام في شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام، للقاضي حسين بن أحمد العرشي، المتوفى بعد سنة 1330، وكتاب نخب الذخائر في أحوال الجواهر لابن الأكفاني السنجاري، المتوفى سنة 749. أما مجلة لسان العرب، فهو مصدر تاريخي ثمين وممتع وبخاصة في الأبحاث المتعلقة بتاريخ العراق وأحواله في الماضي والحاضر، وتنبيك عن بوادر نهضة علمية كانت ستضع العراق في مقدمة الدول لو لم يطح باستقراره استبداد الساسة ومن ورائه الانقلابات والثورات.
كان أسلوب الكرملي في كتاباته أشبه بكتابة النحاة فيه جفاف في العرض، ولكنه كان في كتاباته منصفاً متحرياً للحقيقة لا يحابي نصرانياً أو أعجمياً، بل هو لمحاباة العربية أميل، وكان يقسو أحياناً في نقده ورده قسوة غريبة، مثل أن يتمنى أن يكون وزير المعارف في مصر ليغرم أحد المحققين جنيهاً ويسجنه يوماً عن كل خطأ في تحقيقه، وكان له معارك أدبية زاد من استعارها هذه القسوة المتطرفة، وكانت جل معاركه الأدبية مع الكتاب والمحققين من النصارى، فقد كان أغلبهم ذا بضاعة خفيفة في اللغة والأدب فكان يترصدهم ويكشف أخطاءهم.
وفي أيامه زعم الأب لويس شيخو اليسوعي  أن كثيراً من الشعراء والأدباء العرب ينتمون إلى النصرانية، ومن ذلك على سبيل المثال دعواه أن الشاعر الجاهلي أعشى قيس أو الفيلسوف الكندي، يعقوب بن إسحاق المتوفى سنة 260، كانا من النصارى، فتصدى له الكرملي وأظهر تحريفه وميله في هذين الموضعين وغيرهما، وقال في هذا المعرض: على أن الأب لويس شيخو لم ينصِّر هذا الرجل وحده بل نصًّر جماعة من شعراء الجاهلية لكن وا أسفاه بعد موتهم وانتقالهم إلى دار البقاء! حقق الله أمنيته وأثابه على نيته إن لم يثبه على عمله المبرور!
ولما أصدر أنيس زكريا النصولى في سنة 1926 كتابه أسباب النهضة العربية في القرن التاسع عشر الذي نال عليه جائزة من جامعة بيروت الأميركية، كتب عنه الكرملي في مجلة لغة العرب مقالة تبين عن إدراكه لأسس النهضة وتمييزه بين الواقع وبين الأمل، قال فيها: إننا نرى عنوان الرسالة أوسع من الموضوع الذي عالجه، وإن شئت تشبيها فقل إن الثوب على هذا الجسم فضفاض، ولو عنونها بأوائل النهضة العربية في سورية ومصر، لوافق الاسم المسمى، أما أنه وسمها بأسباب النهضة العربية، وهو قد أغفل ذكر ما يتعلق بها في العراق وجزيرة العرب وغيرهما من الديار الضادية اللسان فليس في ذلك تدقيق ولا تحقيق.
ثم إننا لا نرى نهضة حقيقية في البلاد التي تكلم عنها، إنما فيها أوائل نهضة فلو كان فيها نهضة حقيقية؛ لكان فيها ما كان، فأين علومنا المختلفة، وصنائعنا المتعددة، ومعاملنا المتنوعة ومصانعنا التي تهيئ لنا الوسائل ليكون أبناء ديارنا غير محتاجين إلى الأجانب إلا في القليل، فهذه كلها وغيرها تشير إلى إن ليس لنا نهضة حقيقية بل أوائل نهضة لا غير.
ثم يقول الكرملي: ونحن لا نوافق الكاتب على تصويب رأي من يدعي قصور التعبير في العربية، فهذا عذر يبديه الأجانب في بلادنا، ليحببوا لنا لغتهم، ويزينوها في عيوننا، ويحقروا في نظرنا لغتنا وآدابها وقوميتها، ولو أنصف المنتقدون لرأوا أن ليس من قوم في العالم يكتفي بلغته ويستغني عن غيرها مثل أبناء لغة الضاد، فإن عصر العباسيين شاهد عدل في ما نقول، والمصنفات الموضوعة في كل فن وبحث ومطلب وموضوع تفند ما يزعمون، نعم إن تعلُّمَ اللغات الدخيلة واجبٌ في عصرنا هذا للاطلاع على ما يجري في العالم، لكن تعلم اللغات الأجنبية شيء والقول بقصور العربية شيء آخر.
و في تعليق له آخر على كتاب اسمه صناعة تسفير الكتب وحل الذهب للفقيه أبي العباس أحمد بن محمد السفياني، نشره المسيو ريكار متفقد الفنون الأهلية ومدير متحف الآثار بفاس، قال الكرملي:
الكتب العربية التي تبحث عن تلقي بعض الصنائع والمهن قليلة جداً... وهذه المؤلفات تعد من أنفس الأشياء لأنها تبحث عن وسائل إنجاح الصناعة وبثها بين الناس، فضلاً عن أن فيها مصطلحات كثيرة توقفنا على ما كان يعرف منها في عهد المؤلف أو الصانع، على أن هذه المصنفات لا تفيد إلا إذا تولى نشرها أناس واقفون على أوضاع أهل الفن، وإلا جاءت تلك الكلم في منتهى الفساد والتصحيف والتحريف، وقد رأينا كثيراً منها عني بنشرها أهل مصر في هذه الآونة وهي مشحونة أغلاطا وأوهاما تخجل الجاهل، فضلاً عن العالم، فكيف بهذه الكتب إذا تولى بثها بين الناس أدباء أجانب عن اللغة لا عهد لهم بأسرارها.
بين المستشرقين طائفة واقفة على لساننا أتم الوقوف، وبينهم جهلة يدعون أكثر مما يدرون وبين هؤلاء نعرف جماعة من الفرنسيين تلقوا العربية في فرنسة أو في ديار المغرب لكنهم لم يجيدوها، لكنك تراهم ذوي صلف عجيب... ولو أردنا أن نتبعه في جميع أغلاطه لعددنا منها عشرين في كل صفحة وليس في النص العربي سوى 26 سطراً لا غير، فهذا منتهى علم هؤلاء المتبجحين عرباً كانوا أو أجانب.
كان الكرملي شديد الغيرة على اللغة العربية وحريصاً أشد الحرص على تعريب المصطلحات الأجنبية الدخيلة، وكانت له مساهمة في مشروع تعريب المصطلحات العسكرية في الجيش العراقي، ومن بعده في لجنة التعريب في مجمع اللغة العربية في القاهرة، ومن الكلمات التي اقترحها الكرملي وكتب لها القبول والانتشار كلمة البرقية وكلمة المعلمة مقابل الموسوعة، وكان قد شرع في تأليف معجم أسماه المساعد، وذكر في مقالة له منهجه فيه فقال: ثم اننا رأينا من الحسن أن نجمع ما تيسر لنا من ألفاظ الفصحاء الأقدمين وكلم المولدين ومفردات العوام، وننبه على كل حرف من هذه الحروف لكي لا يختلط الشيء بالشيء، فيبقى الدر درا والبعر بعرا، على حد ما فعل صاحب القاموس والتاج وغيرهما من الذين ذكروا المولد بجانب الفصيح كلما سنحت لهم الفرصة، إذ كانت الغاية الأولى من جميع تلك الكتب اللغوية تفهم القرآن والحديث لا غير، أما اليوم فإن حاجتنا اتسعت بتبحر العمران والحضارة واحتكاكنا بالأجانب، ومحاولة هؤلاء قتل لغتنا فقتل قوميتنا فقتل كل ما يتعلق بهذه الربوع الشرقية العزيزة، مهبط الوحي ومصدر العرفان ومنبع التمدن الصادق.
ولما أصدر المرحوم مصطفى صادق الرافعي كتابه وحي القلم في سنة 1355=1937 أهدى نسخة منه إلى صديقه الأب أنستاس ماري الكرملي، فبعث إليه برسالة يشكره فيها ويشير عليه ببعض التصويبات اللغوية، ومما جاء في الرسالة:
إلى حضرة فخر بلغاء المصريين الأستاذ الجليل مصطفى صادق الرافعي، رفعه الله إلى أعلى مقام
أبدأ كلمتي هذه بتأدية عبارات الشكر الصادق للهدية التي أطرفتني بها، وأنت نابغة بلغاء مصر على ما أعتقده في صميم القلب، وأحسن دليل لذلك أني اقتنيت جميع مؤلفاتك وزينت بها خزانتي، فأرجع إلى مطالعتها الفينة بعد الفينة كلما أردت أن أنزه نفسي وأطربها وأريحها من متاعب الحياة.
إذن حل عندي وحي القلم محلاً رفيعاً لما حوى من مختلف الموضوعات التي جاءت بأفصح عبارة وأبلغها، بل تتحدى كل كاتب أن يأتي بضرعها؛ ولا سيما لأن أغلبها لم تمر على خاطر من سبقنا في الكلام؛ ولهذا اعتبرت دائماً الأستاذ الرافعي جاحظ العصر، أو ابن مقفعه، أو بديع زمانه، وقد نصحت لكثيرين من أبناء العراق أن يطالعوا ما كتبه أو يكتبه إذا أرادوا الجري فالسبق في ميدان الفصاحة والبلاغة ورفيع الإنشاء، فأخذوا بكلامي.
بقي الآن أن أسألك عن أشياء لم أستطع أن أهتدي إليها، فالرجاء منك أن تعينني على تفهمها:
في ص8 ورد ذكر (المصنع) والعرب لم تنطق به. على أن القياس لا يمنعه، وقد ورد في الصحف والكتب العصرية ولا يزال يرد بهذه الصورة، ولكن ألا يتخذ الكاتب البليغ الكلمة التي جرت على أسلات السلف وهي (الطِراز)؟ فقد قال في القاموس: الطراز. . . الموضع الذي تنسج فيه الثياب الجديدة.
وفي ص10 ذكر (الديناميت) فلو قيل البارود الناسف أو أن نكتفي بقولنا (الناسف) أو (النسَّاف) كما يقول العراقيون، عامتهم وخاصتهم، أما يكون أحسن؟
. . . هذه بعض أسئلة - وليس فيها شيء من النقد، معاذ الله، وقد خطرت ببالي وأنا أتلذذ بتصفح هذا السفر الفذ، وأتوقع الجواب عنها. فعسى ألا أحرم أنوارك المبددة للظلمات، وأختم كلمتي هذه بالشكر ثانية لأياديك البيض كما بدأتها به.
وقد توفي الكرملي ولم يكمل معجمه الذي طبع منه جزءان ثم اندثر، فقد أدركت مؤلفَه العللُ والأمراض وأصيب بشلل نصفي خفيف، وذهب إلى القدس مستشفياً قبل موته ببضعة أشهر فسأله مذيع في إذاعتها: كم مضى على ابتدائك في تأليف قاموس المساعد؟ فأجابه الكرملي: أكثر من خمسين سنة، فقال المذيع: أكثر من خمسين سنة وما أنهيتَه بعد؟ فقال الكرملي الذي عصفت به الأمراض: أو تنتهي العربية؟! أنا انتهيت!
وهكذا كان، عاد الكرملي إلى بغداد طوداً محطماً بعد أن كان قوي البنية، جبلي القوام، فولاذي القبضة، ذا صوت كأنه الزئير، ولم تمض على عودته 3 شهور حتى وافته المنية، ورثاه الشاعر مهدي مقلد في قصيدة منها هذان البيتان:
فالقلب من دين ابن مريم وحيه ... والفكر من لغة النبي محمد
إن ابن مريم والنبي محمدا ... نوران؛ نور هدى ونور توحد
ولكونه راهباً كاثوليكاً لم يتزوج الكرملي، ولكنه خلف مؤلفاته، وعدداً من المحققين والمؤرخين كانوا بمثابة أولاده، وعلى رأسهم ابنه الروحي المؤرخ الأستاذ كوركيس حنّا عواد المولود سنة 1326=1908 والمتوفى سنة 1413=1992، علمه الكرملي قراءة المخطوطات وفن التحقيق، ومنهم الصحافي الأديب روفائيل بطي المولود سنة 1319=1901 والمتوفى سنة 1375=1956، وهو من طائفة السريان الأرثوذكس، والمؤرخ الأديب يوسف المسكوني المولود سنة 1321=1903 والمتوفى سنة 1391=1971.
إن تاريخ المسلمين هو نتاج تفاعل حضاري بشري شاركت فيه مع المسلمين كل الأديان والأعراق التي وجدت على أرض الإسلام، ولا عجب في ذلك، فالحضارة يصنعها أبناؤها، وكان من المسلمين ومن غيرهم  بناء وعطاء، وكان من المسلمين ومن غيرهم هدم ودماء، وهذه صفحة من صفحات البناء والعطاء كتبها راهب متنسك، فانضم بذلك إلى أعلام هذه الحضارة، ورقي الحضارات يكون باستيعابها كل الأعراق والأديان، فلكل مجتهد فيها نصيب.
 
 
 
 
 
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer