الجمعة، 28 نوفمبر 2014

حدث في السادس من صفر


في السادس من صفر من سنة 260 توفي في بغداد، عن 66 عاماً، الطبيب أبو زيد حُنين بن إسحاق العِبادي، علاَّمة وقته في الطب وأغزر وأمتن معرب من اللغة اليونانية. والعِبادي نسبة إلى العِباد، قال في لسان العرب: قوم من قبائل شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية نزلوا بالحِيرَة فأَِنِفُوا أن يتَسَمَّوْا بالعبِيد وقالوا نحن العِبادُ، ومنهم الشاعر الجاهلي عدي بن زيد العبادي.

ولد حنين بالحيرة سنة 194 وكان والده صيدلانياً يعمل في العقاقير، وكان ينتمي لطائفة النساطرة النصرانية، المعروفين اليوم بالآشوريين، والذي ينتمون لنسطور الراهب المولود في مرعش والمتوفى سنة 451 ميلادية في مصر، والذي كان يرى أن طبيعة المسيح البشرية ليست ذات وجود مستقل، بل هي تَـمَثُّـلٌ متفرع من طبيعته الإلهية، وهو مبدأ اعتبرته المجامع الكنسية آنذاك خروجاً على المسيحية.

ولما نشأ حنين أحب التعلم فرحل إلى بغداد ودخل في جملة تلاميذ يوحنا بن ماسويه، المتوفى سنة 243، كبير الأطباء في زمانه، وطبيب الرشيد والمأمون ومن بعدهما، وكان حنين يُكثر سؤال أستاذه مستفهماً عن كل ما يُشكل عليه، فصعب ذلك على يوحنا بن ماسويه، وبخاصة أن الطب كان يستند كثيراً إلى الكتب اليونانية المترجمة ترجمة سقيمة، فضاق به مرة وقال له: ما لأهل الحيرة والطب؟! عليك ببيع الفلوس في الطريق! وأمر به فأُخرج من داره.

وجاء قول ابن ماسويه لأن أهل الحيرة كانوا مشهورين بالعمل في الصرافة ونقد الفلوس لبيان صحيحها من زائفها، وهناك سبب آخر يذكره بعض المؤرخين وهو أن دراسة الطب وممارسته كانت وقفاً على أهل جنديسابور، يكرهون أن يدخل في مهنتهم غيرهم.

وخرج حنين حزيناً باكياً، ولكن هذا الطرد حفزه لمزيد من الدرس والاجتهاد، واتجه لتعلم اللغة اليونانية وإتقانها حتى أصبح متقدماً في ذلك على أهلها، وتختلف الأقوال في مكان دراسته بين الإسكندرية وبين  أراضي الدولة البيزنطية، وأُرجِّح الثاني لسبب سيرد بعد قليل في قصة له مع الخليفة العباسي المتوكل، وأياً كان مكان دراسته فلا شك أنه نجح في هدفه، وأنه كذلك اطلع في رحلته على أمهات الكتب اليونانية في الطب والمنطق والرياضيات والهندسة، ولما رجع إلى بغداد لم يظهر نفسه ويشهر ما أحرزه، وآثر أن يبقى مغموراً إلى حين، ولما التقى به صدفة أحد أصحابه من الأطباء وهو ينشد باليونانية إلياذة هوميروس، عرفه من نبرة صوته، وأخبره حنين ما يفعل قائلاً: ذكر يوحنا ابن الفاعلة أنه كان من المحال أن يتعلم الطب عبادي! وأنا برئ من دين النصرانية إن رضيت أن أتعلم الطب حتى أُحكم اللسان اليوناني! وطلب حنين من صديقه أن يكتم ذكره، فكتم ذلك قرابة 4 سنين.

ثم دخل ذلك الصديق يوماً على جبرائيل بن بختيشوع، وكان أكبر أطباء زمانه، مقرباً من السلاطين، وتوفي في سنة 213 في زمن المأمون، فوجد عنده حنيناً وقد ترجم له أقساماً قسمها بعض الروم فِي كتاب من كتب التشريح لجالينوس، وجبرائيل يخاطبه بالتبجيل، فأعظمه ما رأى وتبين لجبرائيل استغرابه، فقال له: لا تستكثر هذا مني في أمر هذا الفتى، فوالله لئن مُدًّ له في العمر ليفضحن سرجيس! وسرجيس الذي تذكره القصة هو مار سرجيس وهو من بلدة رأس العين، ومن أول من نقل علوم اليونانيين إلى السريانية والعربية في أيام الأمويين، فهو أستاذ المترجمين في صدر الإسلام.

وقال لحنين صاحبُه: أنا مسوِّدٌ وجه يوحنا بما سمعت من مدح أبي عيسى لك. فأخرج حنين من كمه نسخة ما كان دفعه إلى جبرائيل، وقال له: تمام سواد وجه يوحنا يكون بدفعك إليه هذه النسخة، ولا تقل له من نقلها، فإذا رأيته قد اشتد عجبه بها أعلمه أنه إخراجي. فلما قرأ يوحنا تلك الفصول، وهي كتاب حنين المسمى بالجوامع، كثر تعجبه وقال: تُرى أوحى الله تعالى في دهرنا إلى أحد؟! ما هذا إِلا إخراج مؤيد بروح القدس! فقال له: هذا إخراج حنين بن إسحاق الذي طردته من مجلسك، وأمرته أن يبيع الفلوس! وحدثه بما سمعه من جبرائيل فتحير وسأله التلطف في إصلاح ما بينهما، ففعل  ذلك الصديق وصار يوحنا يثني على حنين ويحسن إليه.

وانضم حنين إلى مجموعة من المترجمين كانت متصلة ببلاط الخليفة المأمون، وتعمل تحت إشراف بني موسى بن شاكر، ترجمت كثيراً من الكتب في الفلسفة والهندسة والرياضيات والطب والموسيقى، وفي هذا الصدد سافر حنين إلى أقصى بلاد الروم لطلب الكتب التي يراد ترجمتها، وتذكر بعض المراجع أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربي مِثلاً بمثل، ولكن مصادر أخرى تذكر أن بني موسى كانوا ينفقون 500 دينار في الشهر على المترجمين، وهو مبلغ كبير جداً بمقياس ذلك الزمان.

ولما انتشر ذكر حنين بين الأطباء اتصل خبره بالخليفة المتوكل فأمر بإحضاره، وأقطعه إقطاعاً سَنياً وقرر له راتباً  جزيلاً، وجعله رئيس الأطباء ببغداد، وتذكر المصادر أنه كان يلبس الزنار، أي زنار القساوسة المربوط به الصليب، وكان الخليفة في بداية الأمر يتوجس خيفة منه خشية أن يكون مدسوساً عليه من ملك الروم البيزنطيين، فكان لا يأخذ بقوله دواء يصفه حتى يشاور غيره، ثم امتحنه الخليفة ليتبين حقيقة أمره، فأمر بأن يخلع عليه وأخرج توقيعاً له فيه إقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم، ثم قال الخليفة لحنين بعد فترة: أريد أن تصف لي دواء يقتل عدواً أريد قتله بالسر ودون أن يتبين سبب موته، فقال حنين: ما تعلمت غير الأدوية النافعة، ولا علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها، فإن أحب أن أمضي وأتعلم؛ فعلت. فقال الخليفة: هذا شيء يطول، وأنا أحتاجه بالعجل، ورغبه وهدده وهو لا يزيد على ما قال إلى أن أمر بحبسه ووكل بِهِ من يرفع خبره إليه وقتاً بوقت، فحبس سنة وكان ينقل ويفسر ويصنف وهو غير مكترث بما هو فيه، ولما كان بعد سنة أمر الخليفة بإحضاره ورغبه بأموال أحضرها ثم هدده بالسيف، فقال حنين: قد قلت لأمير المؤمنين إنني ما أحسن غير الشيء النافع ولا تعلمت غيره، قال الخليفة: فإنني أقتلك، فقال حنين: إلى رب يأخذ بحقي غداً فِي الموقف الأعظم، فإن اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل! فتبسم الخليفة وقال له: يا حنين طب نفساً وثِقْ بنا، فهذا الفعل منا كان لامتحانك، لأننا حذرنا من كيد الملوك فأردنا الطمأنينة إِليك والثقة بك لننفع بعلمك.

وسأل الخليفة حنيناً: ما الذي منعك من الإجابة مع ما رأيته من صدق عزيمتنا في الحالتين؟ قال حنين: شيئان يا أمير المؤمنين، قال: وما هما؟ قال: الدين والصناعة، قال: وكيف؟ قال: الدين يأمرنا باستعمال الخير والجميل مع أعدائنا، فكيف ظنك بالأصدقاء؟! والصناعة تمنعنا من الإضرار بأبناء الجنس لأنها موضوعة لنفعهم ومقصورة على معالجتهم، ومع هذا فقد جُعل في رقاب الأطباء عهد مؤكد بأيمان مغلظة أن لا يعطوا دواء قتَّالاً، فلم أر أن أخالف هذين الأمرين الشريفين، ووطنت نفسي على القتل فإن الله تعالى ما كان يضيع لي بَذلَ نفسي فِي طاعته.  فأمر الخليفة بالخلع فأفيضت عليه وحمل المال معه، فخرج وهو أحسن الناس حالاً وجاهاً.

ترجم حنين 260 كتاباً من اللغة اليونانية إلى اللغتين السريانية والعربية، منها كتاب الفصول الأبُقراطية في الطب، ويعد أبُقراط، المولود في اليونان سنة 460 قبل المسيح والمتوفى سنة 377، أبو علم الطب، وإليه يعود أصل قَسَم الأطباء الذي يقسمونه عند تخرجهم، وترجم حنين عدداً من الكتب أهمها التوراة ويذكر المسعودي المتوفى سنة 346 أن ترجمة حنين من أصح ترجمات التوراة عند كثير من الناس، وإضافة لها ترجم حنين كتاب ما وراء الطبيعة لأفلاطون، وكتاب المعادن لأرسطوطاليس، وهو كتاب ظلَّ زماناً طويلاً مرجعاً من أهم المراجع في دراسة الكيمياء، وترجم حنين عدداّ من الكتب التي ألفها الطبيب اليوناني جالينوس، المولود في الأناضول سنة 129 للميلاد والمتوفى سنة 216، منها كتاب حيلة البرء، وكتاب التشريح الكبير، وكتاب قوى الأغذية عن جالينوس، وكتاب تدبير الأصحاء. وينبغي أن نذكر أن الطب العربي تأثر لقرون طويلة كثيراً بكتابات جالينوس التي ترجمها حنين وغيره، والتي بلغت 129 مؤلفاً، والتي اندثرت أصول بعضها وبقيت منها ترجماتها العربية أو السريانية.

وكانت ترجمة حنين أمينة في نقلها، وافية في أدائها، فصيحة سلسة لا تعتريها ركاكة أو ضعف أو غموض، وسبب ذلك أنه كان بارعاً في اللغة العربية وضليعاً في المواضيع التي يترجمها، ولذا كانت ترجمته أفضل الترجمات وأصحها، ولصلاح الدين الصفدي، خليل بن أيبك المولود سنة 696 والمتوفى سنة 764، كلمة حول أساليب الترجمة نوردها لأهميتها: وللتراجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وابن الناعمة الحمصي وغيرهما، وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات اليونانية، وما تدل عليه من المعاني، فيأتي بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى كذلك حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه، وهذه الطريقة رديئة بوجهين:

1.    أحدهما أنه لا يوجد في الكلمات العربية كلمات تقابل جميع الكلمات اليونانية، ولهذا وقع في خلال هذا التعريب كثير من الألفاظ اليونانية على حالها.

2.    الثاني أن خواص التركيب والنسب الإسنادية لا تطابق نظيرها من لغة أخرى دائماً، وأيضاً يقع الخلل من جهة استعمال المجازات وهي كثيرة في جميع اللغات.

الطريق الثاني في التعريب طريق حنين بن إسحق والجوهري وغيرهما، وهو أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويعبر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها، سواء ساوت ألفاظها أم خالفتها، وهذا الطريق أجود، ولهذا لم تحتج كتب حنين بن إسحق إلى تهذيب إلا في العلوم الرياضية لأنه لم يكن قيماً بها، بخلاف كتب الطب والمنطق والطبيعي والإلهي فإن الذي عربه منها لم يحتج إلى الإصلاح، فأما إقليدس فقد هذبه ثابت بن قرة الحراني وكذلك المجسطي والمتوسطات بينهما.

وإلى جانب ما ترجمه لحنين بن إسحاق من الكتب اليونانية كانت له مؤلفات قدر عددها بعض الباحثين بنحو 115 تأليفاً، ونورد أسماء بعضها لتدل على تنوع معرفته واتساعها: كتاب نوادر الفلاسفة والحكماء، كتاب أحكام الإعراب على مذهب اليونانيين مقالتان، كتاب المسائل، وهو المدخل إلى تعلم الطب لأنه قد جمع فيه جملاً وجوامع تجري مجرى المبادئ والأوائل لهذا العلم ليسير عليها المتعلمون وزاد فيها حبيش بن الحسن الأعسم الدمشقي تلميذه وابن أخته، كتاب الحمام مقالة، كتاب اللبن مقالة، كتاب الأغذية ثلاث مقالات، كتاب تقسيم علل العين، كتاب اختيار أدوية علل العين مقالة، كتاب مداواة أمراض العين بالحديد مقالة، كتاب آلات الغذاء ثلاث مقالات، كتاب القول في حفظ الأسنان واستصلاحها، كتاب الباه مقالة، كتاب معرفة أوجاع المعدة وعلاجها مقالتان، كتاب تدبير الناقهين مقالة، كتاب المد والجزر مقالة، كتاب السبب الذي صارت له مياه البحر مالحة، كتاب الألوان مقالة، كتاب المولودين لثمانية أشهر مقالة عمله لأم ولد المتوكل، كتاب فِي البول على طريق المسألة والجواب ثلاث مقالات، كتاب مرض الورد، كتاب الفرُّوج وتولده من مح البيضة مقالة، كتاب الآجال مقالة، كتاب تولد الحصاة مقالة، كتاب تولد النار بين حجرين مقالة، كتاب اختيار الأدوية المحرقة مقالة، كتاب في تدبير السوداويين، رسالة في دلالة القدر على التوحيد، كتاب في أسماء الأدوية المفردة، رتبه على حروف المعجم.

ونذكر هنا مقالات كتابه عن العين الذي كان المحتسب يمتحن به الكحالين قبل مزاولة مهنتهم:

المقالة الأولى يذكر فيها طبيعة العين وتركيبها

المقالة الثانية يذكر فيها طبيعة الدماغ ومنافعه.

المقالة الثالثة يذكر فيها العصب الباصر والروح الباصر وفي نفس الإبصار كيف يكون.

والمقالة الرابعة فيها جمل الأشياء التي لا بد منها في حفظ الصحة واختلافها.

والمقالة الخامسة يذكر فيها أسباب الأعراض الكائنة في العين.

المقالة السادسة في علامات الأمراض التي تحدث في العين.

المقالة السابعة يذكر فيها قوى جميع الأدوية عامة.

المقالة الثامنة يذكر فيها أجناس الأدوية للعين خاصة وأنواعها.

المقالة التاسعة يذكر فيها مداواة أمراض العين.

المقالة العاشرة في الأدوية المركبة الموافقة لعلل العين.

قال ابن أبي أصيبعة، أحمد بن القاسم المولود سنة 596 والمتوفى سنة 668، في ترجمته لحنين في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء: وجدت من هذه الكتب كتباً كثيرة، وكثيراً منها اقتنيته، وهي مكتوبة بخط الأزرق كاتب حنين، وهي حروف كبار بخط غليظ في أسطر متفرقة، وورقها كل ورقة منها بغلظ ما يكون من هذه الأوراق المصنوعة يومئذ ثلاث ورقات أو أربع، وكان قصد حنين بذلك تعظيم حجم الكتاب وتكثير وزنه، لأجل ما يقابل به من وزنه دراهم، وكان ذلك الورق يستعمله بالقصد، ولا جرم أن لغلظه بقي هذه السنين المتطاولة من الزمان... وقد رأيت أشياء كثيرة من كتب جالينوس وغيره بخطه، وبعضها عليه تنكيت بخط حنين بن إسحاق باليوناني، وعلى تلك الكتب علامة المأمون.

كان لحنين ولدان أحدهما اسمه داود والثاني اسمه إسحاق، فأما إسحاق فخدم من خدم أبوه من الخلفاء والرؤساء، وكان منقطعاً إلى الوزير القاسم ابن عبيد الله وخصيصاً به، وتابع عمل والده في الترجمة، ونقل من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية كتباً كثيرة، إلا أن عنايته كانت مصروفة إلى نقل الكتب الفلسفية، وتوفي بالفالج في سنة 298، أما داود فاتجه إلى الطب ولكنه لم ينبغ فيه مثل والده أو أخيه.

ومن بلغت هذه مكانته جذب إليه الحساد وتآلب عليه المنافسون، ولذا لا عجب أن نرى حنيناً وقد تعرض لعدد من المحن والشدائد حتى إنه ألف في ذلك رسالة ذكر فيها ما ناله، وأوردها بنصها ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ومما جاء فيها مع بعض التصرف:

إنه لحقني من أعدائي ومضطهديّ، الكافرين بنعمتي، الجاحدين لحقي، الظالمين لي، المتعدين عليّ، من المحن والمصائب والشرور ما منعني من النوم وأسهر عيني وأشغلني عن مهماتي، وكل ذلك من الحسد لي على علمي وما وهبه الله عزّ وجلّ لي من علو المرتبة على أهل زماني، وأكثر أولئك أهلي وأقربائي، فإنهم أول شروري، وابتداء محني، ثم من بعدهم الذين علَّمتهم وأقرأتهم وأحسنت إليهم وفضلتهم على جماعة أهل البلد من أهل الصناعة، وقرَّبت إليهم علوم الفاضل جالينوس، فكافؤوني عوض المحاسن مساوئ بحسب ما أوجبته طباعهم، وبلغوا بي إلى أقبح ما يكون من إذاعة أوحش الأخبار حتى ساءت بي الظنون، وامتدت إليَّ العيون... فأوقعوا بغضتي في نفوس سائر أهل الملل فضلاً عن أهل مذهبي.

ولما اتصل ذلك بي حمدت الله حمداً جديداً، وصبرت على ما قد دفعت إليه، فآلت القضية بي إلى أن بقيت بأسوأ ما يكون من الحال من الإضاقة والضر، محبوساً مضيقاً علي مدة من الزمان لا تصل يدي إلى شيء من ذهب ولا فضة ولا كتاب ولا ورقة أنظر فيها، ثم إن الله عزّ وجلّ نظر إليّ بعين رحمته، فجدد لي نعمه وردني إلى ما كنت عارفاً به من فضله، وكان سبب رد نعمتي إليَّ بعض من كان قد التزم عداوتي واختص بها، ومن ها هنا صح ما قاله جالينوس إن الأخيار من الناس قد ينتفعون بأعدائهم الأشرار. فلعمري لقد كان ذلك أفضل الأعداء!

وكيف لا أُبغَض ويكثر حاسديِّ، ويكثر ثلبي في مجالس ذوي المراتب؛ كل ذلك بغير جرم لي إلى واحد منهم ولا جناية، لكنهم لما رأوني فوقهم، وعالياً عليهم بالعلم والعمل، ونقلي إليهم العلوم الفاخرة من اللغات التي لا يحسنونها ولا يهتدون إليها ولا يعرفون شيئاً منها، في نهاية ما يكون من حسن العبارة والفصاحة، ولا نقص فيها ولا زلل، ولا ميل لأحد من الملل، ولا استغلاق ولا لحن، باعتبار أصحاب البلاغة من العرب الذين يقومون بمعرفة وجوه النحو والغريب، ولا يعثرون على سيئة، بأعذب ما يكون عن اللفظ، وأقربه إلى الفهم، يسمعه من ليس صناعته الطب، ولا يعرف شيئاً من طرقات الفلسفة، ولا من ينتحل ديانة النصرانية وكل الملل، فيستحسنه ويعرف قدره...

وأيضاً فأقول ولا أخطئ إن سائر أهل الأدب، وإن اختلفت مللهم، محبون لي، مائلون إلي، مكرمون لي، يأخذون ما أفيدهم بشكر، ويجازوني بكل ما يصلون إليه من الجميل، فأما هؤلاء الأطباء النصارى الذين أكثرهم تعلموا بين يدي، ونشأوا قُدَّامي هم الذين يرومون سفك دمي على أنهم لا بد لهم مني، فمرة يقولون من هو حنين؟ إنما حنين ناقل لهذه الكتب يأخذ على نقله الأجرة كما يأخذ الصناع الأجرة على صناعتهم، ولا فرق عندنا بينه وبينهم؛ لأن الفارس قد يعمل له الحداد بالسيف في المثل بدينار، ويأخذ هو من أجله في كل شهر مائة دينار، كما أن الحداد، وإن كان يحسن صنعة السيف،إلا أنه ليس يحسن يعمل به، فما للحداد وطلب الفروسية؟!

لكني كنت أضمر وأعلم أن حسدهم هو الذي يدعوهم إلى سائر الأشياء، وإن كان لا يخفى عليهم قبحها، فإن الحسد لم يزل بين الناس على قديم الأيام... وهذا أيضاً مع أن أكثرهم إذا دهمهم الأمر في مرض صعب فإليّ يصير، حتى يتحقق معرفته مني، ويأخذ عني له صفة دوائه وتدبيره، ويتبين الصلاح فيما أُمر به أن يعمل لا مرة ولا مراراً، وهذا الذي يجيئني ويقتدي برأيي هو أشد الناس علي غيظاَ، وأكثرهم لي ثلباً، وليس أزيدهم على أن أحكم رب الكل بيني وبينهم، وإنما سكوتي عنهم لأنهم ليس هم واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة، بل هم ستة وخمسون رجلاً جملتهم من أهل المذهب، محتاجون إلي وأنا غير محتاج إليهم، وأيضاً فإن إثرتهم مع كثرتهم قوية بخدمة الخلفاء وهم أصحاب المملكة وأنا فأضعف عنهم من وجهين أحدهما وحدتي، والثانية إن الذين يعنون بي من الناس محتاجون إلى الأصل الذي يعنى بأعدائي الذي هو أمير المؤمنين، ومع هذا كله لا أشكو إلى أحد ما أنا عليه وإن كان عظيماً، بل أبوح بشكرهم في المحافل وعند الرؤساء، فإن قيل لي إنهم يثلبونك وينتقصون بك في مجالسهم، أدفع ذلك وأرى أني غير مصدق شيء مما يقال لي، بل أقول إنا نحن شيء واحد تجمعنا الديانة والبلدة والصناعة، فما أصدق أن مثلهم يذكر أحداً من الناس فضلاً عني بسوء، فإذا سمعوا عني مثل هذا القول قالوا قد جزع وأعطى من نفسه الدعة، وكلما ثلبوني زدت في الشكر لهم، وأنا الآن ذاكر ها هنا آخر الآبار التي حفروها لي، سوى ما كان لي معهم قديماً...

وهذه قصة المحنة الأخيرة القريبة، وهي أن بختيشوع بن جبرائيل المتطبب عمل علىَّ حيلة تمت له علي، وأمكنته من إرادته في، وذلك أنه استعمل أيقونة عليها صورة السيدة مريم، وفي حِجرها سيدنا المسيح والملائكة قد احتاطوا بهما، وعملها في غاية ما يكون من الحسن وصحة الصورة بعد أن غرم عليها من المال شيئاً كثيراً، ثم حملها إلى أمير المؤمنين المتوكل، وكان هو المستقبل لها من يد الخادم الحامل لها، وهو الذي وضعها بين يدي المتوكل، فاستحسنها المتوكل جداً، وجعل بختيشوع يقبلها بين يديه مراراً كثيرة، فقال له المتوكل: لم تقبلها؟ فقال له: يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة العالمين فمن أقبل؟ فقال له المتوكل: وكل النصارى هكذا يفعلون؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وأفضلَ مني، لأني أنا قصرت حيث أنا بين يديك، ومع تفضيلنا معشر النصارى، فإني أعرف رجلاً في خدمتك وإفضالك وأرزاقك جارية عليه من النصارى يتهاون بها ويبصق عليها، وهو زنديق ملحد، لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة، يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل، فقال له المتوكل: من هذا الذي هذه صفته؟ فقال له: حنين المترجم، فقال المتوكل: أوجِّه أُحضره، فإن كان الأمر على ما وصفت، نكلت به وخلدته المطبق، مع ما أتقدم به في أمره من التضييق عليه، وتجديد العذاب، فقال: أنا أحب أن يؤخر مولاي أمير المؤمنين إلى أن أخرج وأقيم ساعة، ثم تأمر بإحضاره، فقال: إني أفعل ذلك. فخرج بختيشوع من الدار وجاءني، فقال: يا أبا زيد، أعزك الله، ينبغي أن تعلم أنه قد أُهدِي إلى أمير المؤمنين أيقونة قد عظم عجبه بها، وأحسبها من صور الشام، وقد استحسنها جداً، وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه تولع بنا بها في كل وقت، وقال: هذا ربكم وأمه مصورين، وقد قال لي أمير المؤمنين: انظر إلى هذه الصورة ما أحسنها، وأيش تقول فيها؟ فقلت له: صورة مثلها تكون في الحمامات، وفي البيع وفي المواضع المصورة، وهذا مما لا نبالي به ولا نلتفت إليه، فقال: وليس هي عندك شيء؟ قلت: لا، قال: فإن تكن صادقاً فابصق عليها! فبصقت، وخرجت من عنده وهو يضحك ويعطعط بي، وإنما فعلتُ ذلك ليرمي بها ولا يكثر الولع بنا بسببها، ويميزنا دائماً، ولا سيما إن حرد أحد من ذلك، فإن الولع يكون أزيد، والصواب إن دعا بك وسألك عن مثل ما سألني أن تفعل كما فعلت أنا، فإني قد عملت على لقاء سائر من يدخل إليه من أصحابنا، وأتقدم إليهم أن يفعلوا مثل ذلك، فقبلت ما وصاني به، وجازت عليَّ سخريته، وانصرف.

فما كان إلا ساعة حتى جاءني رسول أمير المؤمنين فأخذني إليه، فلما دخلت عليه إذ الأيقونة موضوعة بين يديه فقال لي: يا حنين تَرى ما أحسن هذه الصورة وأعجبها؟ فقلت: والله إنه لكما ذكر أمير المؤمنين، فقال: فأيش تقول فيها؟ أو ليست هي صورة ربكم وأمه؟ فقلت: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن لله تعالى صورة أو يصور؟ ولكن هذا مثال في سائر المواضع التي فيها الصور، فقال: فهذه لا تنفع ولا تضر؟! فقلتُ: هو كذلك يا أمير المؤمنين. فقال: فإن كان الأمر على ما ذكرت، فابصق عليها! فبصقت عليها فللوقت أمر بحبسي، ووجه إلى ثوذسيس الجاثليق فأحضره، فلما دخل عليه ورأى الأيقونة موضوعة بين يديه وقع عليها، قبل أن يدعو له، فاعتنقها ولم يزل يقبلها ويبكي طويلاً، فذهب الخدم ليمنعوه فأمر بتركه، فلما قبَّلها طويلاً على تيك الحالة أخذها بيده وقام قائماً، فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه، فرد عليه وأمره بالجلوس، فجلس وترك الأيقونة في حجره.

فقال له المتوكل: أي فِعل هذا؟ تأخذ شيئاً كان بين يدي وتتركه في حِجرك عن غير إذني؟ فقال له الجاثليق: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أحق بهذه التي بين يديك، وإن كان لأمير المؤمنين، أطال اللّه بقاءه، أفضل الحقوق، غير أن ديانتي لم تدعني أن أدع صورة ساداتي مرمية على الأرض، وفي موضع لا يعرف مقدارها... لأن هذه حقها أن تكون في موضع يعرف فيه حقها، ويسرج بين يديها أفضل الأدهان من حيث لا تطفأ قناديلها مع ما يبخر به بين يديها من أطاييب البخور في أكثر الأوقات، فقال أمير المؤمنين: فدعها في حجرك الآن، فقال الجاثليق: إني أسأل مولاي أمير المؤمنين أن يجود بها علي، ويعمل على أنه قد يقطعني ما مقدار قيمته مئة ألف دينار في كل سنة حتى أقضي من حقها ما يجب علي، ثم يسألني أمير المؤمنين ما أحب بعد ذلك فيما أرسل إلي بسببه، فقال له: قد وهبتها لك، وأنا أريد أن تعرِّفني ما جزاء من بصق عليها عندك؟ فقال له الجاثليق: إن كان مسلماً فلا شيء عليه لأنه لا يعرف مقدارها، لكن يعرّف ذلك ويلام ويوبخ على مقدار ما فعل حتى لا يعود إلى مثل ذلك مرة أخرى، وإن كان نصرانياً وكان جاهلاً لا يفهم ولا معرفة عنده فيلام ويزجر بين الناس ويتهدد بالجروم العظيمة ويعذل حتى يتوب؛ وبالجملة إن هذا فعل لا يقوم عليه إلا جاهل لا يعرف مقدار الديانة، فإن كان عاقلاً وقد بصق عليها فقد بصق على مريم أم سيدنا وعلى سيدنا المسيح! فقال له أمير المؤمنين: فما الذي يجب على من فعل ذلك عندك؟ فقال: ما عندي يا أمير المؤمنين، إذ كنت لا سلطان لي، أن أعاقبه بسوط أو بعصا، ولا لي حبس ضنك، بل أحرمه وأمنعه من الدخول إلى البيع ومن القربان؛ وأمنع النصارى من ملابسته وكلامه؛ وأضيق عليه، ولا يزال مرفوضاً عندنا إلى أن يتوب ويقلع عما كان عليه، وينتقل ويتصدق ببعض ماله على الفقراء والمساكين، مع لزوم الصوم والصلاة، فحينئذ نرجع إلى ما قال كتابنا وهو إن لم تعفوا للخاطئين لم يغفر لكم خطاياكم، فنحل حرم الجاني، ونرجع إلى ما كنا عليه.

ثم إن أمير المؤمنين أمر الجاثليق بأن يأخذ الأيقونة، وقال له: افعل بها ما تريد، وأمر له معها ببدرة دراهم، وقال له أنفق ما تأخذه على أيقونتك.

فلما خرج الجاثليق لبث قليلاً يتعجب منه ومن محبته لمعبوده وتعظيمه إياه، ثم قال إن هذا الأمر عجيب، ثم أمر بإحضاري فأحضرت إليه وأحضر السوط والحبال، وأمر بي فشُددت مجرداً بين يديه وضربت مئة سوط، وأمر باعتقالي والتضييق علي، ووجه فحمل جميع ما كان لي من رحل وأثاث وكتب وما شاكل ذلك، وأمر بنقض منازلي إلى الماء، وأقمت في داخل داره معتقلاً ستة أشهر في أسوأ ما يكون من الحال، حتى صرت رحمة لمن رآني، وكان أيضاً في كل يسيرٍ من الأيام يوجه يضربني ويجدد لي العذاب.

فلم أزل على ما شرحته إلى أن اعتل أمير المؤمنين، وذلك في اليوم الخامس من الشهر الرابع من يوم حبسي، وكانت علته صعبة جداً فأقعد ولم تمكنه الحركة وأُيس منه، وأيس هو أيضاً من نفسه، ومع ذلك، فإن أعدائي الأطباء عنده ليلاً ونهاراً ولا يزايلونه ساعة واحدة، وهم يعالجونه ويداوونه، ويسألونه في كل وقت في أمري ويقولون له لو أراحنا مولانا أمير المؤمنين من ذلك الزنديق الملحد لأراح منه الدنيا، وانكشف عن الدين منه محنة عظيمة، فلما طالت مسألتهم له في أمري وكثر ذكرهم لي بين يديه بكل سوء، قال لهم فما الذي يسركم أن أفعل به؟ قالوا: تريح العالم منه، وكان مع ذلك، كل من سأل في أمري وتشفع في من أصدقائي يقول بختيشوع يا أمير المؤمنين هذا بعض تلاميذه وهو يعتقد اعتقاده، فيقل المعين لي ويكثر المحرك علي، وأيست من الحياة، فقال لهم أمير المؤمنين، وقد لجوا عليه في السؤال: فإني أقتله في غد يومنا هذا وأريحكم منه، فسر بذلك الجماعة وانصرفوا على ما يحبون.

فجاءني بعض الخدم وقال لي إنه جرى في أمرك العيش كذا وكذا، فسألت اللّه عزّ وجلّ التفضل بما لم تزل أياديه إلي بأمثاله، مع ما أنا فيه من كثرة الاهتمام وشغل القلب مما أخاف نزوله بي في غد بغير جرم أستوجبه ولا جناية جنيتها، بل بحيلة من احتال علي وطاعتي من اغتالني، وقلت اللهم إنك عالم براءتي فأنت أولى بنصرتي، وطال بي الفكر إلى أن حملني النوم، فإذا بهاتف يحركني ويقول لي قم فاحمد اللّه وأثن عليه فقد خلصك من أيدي أعدائك، وجعل عافية أمير المؤمنين على يديك فطب نفساً. فانتبهت مرعوباً، ثم قلت كلما كثر ذكره في اليقظة لم تنكر رؤيته عند النوم، فلم أزل أحمد اللّه وأثني عليه إلى أن جاء وجه الصبح، فجاءني الخادم ففتح علي الباب ولم يكن وقته الذي يجيئني فيه فقلت: هذا وقت منكر، جاءني ما وُعِدتُ به البارحة، وقد جاء وقت رضاء أعدائي وشماتتهم بي! واستعنت بالله.

فما جلس الخادم إلا هنيهة، إذ جاء غلامه ومعه مزين فأخذ من شعري ثم مضى بي إلى الحمام فأمر بغسلي وتنظيفي والقيام علي بالطيب، كما أمره مولاي أمير المؤمنين، ثم خرجت من الحمام فطرح علي ثياباً فاخرة، وردني إلى مقصورته إلى أن حضر سائر الأطباء عند أمير المؤمنين، وأخذ كل واحد منهم موضعه، فدعاني أمير المؤمنين وقال هاتوا حنيناً، فلم تشك الجماعة أنه إنما دعاني لقتلي، فأدخلت إليه فنظر إلي ولم يزل يدنيني إلى أن أجلسني بين يديه وقال لي: قد غفرت لك ذنبك، وأجبت السائل فيك، فاحمد اللّه على حياتك، وأشر علي بما ترى، فقد طالت علتي! فأخذت مجسته وأشرت بأخذ خيار شنبر منقى من قصبه وترنجبين، لأنه شكا اعتقالاً مع ما كان يوجبه الصورة من استعمال هذا الدواء، فقال الأطباء الأعداء نعوذ باللّه يا أمير المؤمنين من استعمال هذا الدواء إذ كان له غائلة ردية، فقال لهم أمسكوا فقد أمرت أن آخذ ما يصفه لي، ثم إنه أمر بإصلاحه، فأصلح وأخذه لوقته، ثم قال لي يا حنين اجعلني من كل ما فعلته بك من حل فشفيعك إلي قوي، فقلت له: مولاي أمير المؤمنين في حل من دمي فكيف وقد مَنَّ علي بالحياة، ثم قال تسمع الجماعة ما أقوله فأنصتوا إليه، فقال: اعلموا أنكم انصرفتم البارحة مساء على أني أبكر أقتل حنيناً كما ضمنت لكم، فلم أزل أقلق إلى نصف الليل متوجعاً، فلما كان ذلك الوقت أغفيت فرأيت كأني جالس في موضع ضيق وأنتم معشر الأطباء بعيدون عني بعداً كثيراً مع سائر خدمي وحاشيتي، وأنا أقول لكم ويحكم ما تنظرون إلي في أي موضع أنا هذا يصلح لمثلي، وأنتم سكوت لا تجيبوني عما أخاطبكم به، فإذا أنا كذلك حتى أشرق علي في ذلك الموضع ضياء عظيم مهول حتى رعبت منه، وإذا أنا برجل قد وافى، جميل الوجه ومعه آخر خلفه عليه ثياب حسنة فقال: السلام عليك، فرددت عليه، فقال لي: تعرفني؟ فقلت: لا، فقال: أنا المسيح، فقلقت وتزعزعت وقلت: من هذا الذي معك؟ فقال: حنين بن إسحاق، فقلت: اعذرني فلست أقدر أن أقوم أصافحك، فقال: اعف عن حنين، واغفر ذنبه فقد غفر الله له، واقبل ما يشير به عليك، فإنك تبرأ من علتك. فانتبهت وأنا مغموم بما جرى على حنين مني ومفكر في قوة شفيعه إلي، وأن حقه الآن علي واجب، فانصرفوا ليلزمني كما أُمرت، وليحمل إلي كل واحد منكم عشرة آلاف درهم لتكون دية من سأل في قتله، وهذا المال يلزم من حضر المجلس البارحة وسأل في قتله، ومن لم يكن حاضراً فلا شيء عليه، ومن لم يحمل ما أمرت بحمله من هذا المال لأضربن عنقه، ثم قال لي: اجلس أنت والزم رتبتك.

وخرج الجماعة فحمل كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما اجتمع سائر ما حملوه أمر بأن يضاف إليه مثله من خزانته، فكان زائداً عن مئتي ألف درهم، وأن يسلم إلي، ففعل ذلك، فلما كان آخر النهار وقد أقامه الدواء ثلاثة مجالس أحس بصلاح، وخف ما كان يجد، فقال: يا حنين أبشر بكل ما تحب، فقد عظمت رتبتك عندي، وزادت طبقتك أضعاف ما كنت عليه عندي فسأعوضك أضعاف ما كان لك، وأحوج أعداءك إليك، وأرفعك على سائر أهل صناعتك... وأمر لي في كل شهر بخمسة عشر ألف درهم، وأطلق لي الفائت من رزقي في وقت حبسي، فكان شيئاً كثيراً، وحُمِلَ من جهة الخدم والحرم وسائر الحاشية والأهل ما لا يمكن أن يحصى من الأموال والخلع والإقطاع، وحصلت وظائفي التي كنت آخذها خارج الدار من سائر الناس، آخذها من داخل الدار، وصرت المقدم على سائر الأطباء من أعواني وغيرهم

وإني لأعلم مراراً كثيرة أن أول من كان يعدو إلى باب داري في حاجة تكون له إلى أمير المؤمنين، أو أن يسألني عن مرض قد حار فيه؛ أحدُ أعدائي الذين قد عرفتك ما لحقني منهم، وكنت وحق معبودي، العلة الأولى، أسارع في قضاء حوائجهم وأخلص لهم المودة، ولم أكافئهم على شيء مما صنعوه بي ولا واحداً منهم أخذته بذلك، فكان سائر الناس يتعجبون من حسن قضائي حوائجهم بعد ما كانوا يسمعونهم يقولون في عند الناس وخاصة عند مولاي أمير المؤمنين، وصرت أنقل لهم الكتب على الرسم بغير عوض ولا جزاء، وأسارع إلى جميع محابهم بعد أن كنت إذا نقلت لأحدهم كتاباً أخذت منه وزنه دراهم

وإنما ذكرت سائر ما تقدم ذكره ليعلم العاقل أن المحن قد تنزل بالعاقل والجاهل، والشديد والضعيف، والكبير والصغير، وأنها وإن كانت لا شك واقعة بهذه الطبقات التي ذكرنا، فما سبيل العاقل أن ييئس من تفضل اللّه عليه بالخلاص مما بلي به، بل يثق ويحسن ثقته بخالقه، ويزيد في تعظيمه وتمجيده، فالحمد لله الذي منَّ علي بتجديد الحياة، وأظهرني على أعدائي الظالمين لي، وجعلني أفضلهم رتبة، وأكثرهم حالاً، حمداً جديداً دائماً.

ويبدو أن حنيناً كان من النصارى الذين حرموا الأيقونات، وهي حركة حرَّمت تمثيل المسيح ووالدته أو وضع أيقونات في الكنائس، ولكنها انتهت رسمياً بقرار مجمع نيقية الثاني قبل قرابة 100 سنة من وفاة حنين، فقد تكررت معه ثانية قصة شبيهة بالأولى، ما كانت لتتكرر لو لم يكن الأمر عقيدة عنده، فقد ذكر المؤرخون أن كاتباً نصرانياً يدعى الطيفوري، وهي أسرة فيها عدد من الأطباء، كان يحسد حنيناً ويعاديه، واجتمعا يوماً في دار بعض النصارى ببغداد وهناك صورة المسيح والتلاميذ وقنديل يشتعل بين يدي الصورة. فقال حنين لصاحب البيت: لم تضيع الزيت فليس هذا المسيح ولا هؤلاء التلاميذ وإنما هي صور. فقال الطيفوري: إن لم يستحقوا الإكرام فأبصق عليهم. فبصق فأشهد عليه الطيفوري، ورفعه إلى المتوكل فسأله إباحة الحكم عليه لديانة النصرانية فبعث إلى الجاثليق والأساقفة وسئلوا عن ذلك فأوجبوا حرم حنين فحرم وقطع زناره وانصرف حنين إلى داره ومات من ليلته فجأة وقيل إنه سقى نفسه سماً.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العين لتُدِخل الرجلَ القبر ، وتُدخل الجمل القدر.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer