الجمعة، 14 نوفمبر 2014

حدث في العشرين من المحرم

في العشرين من المحرم من سنة 941، الموافق 1 آب/أغسطس 1534، غادر استانبول خير الدين باشا بربروس، ناظر البحرية العثمانية وقائد أسطولها، في حملة بحرية عسكرية ضمت 104 سفينة و8000 جندي، لتوطيد الوجود العثماني في البحر المتوسط
وكان هدف بربروس، ومعناه اللحية الحمراء، هو انتزاع تونس من السلطان الحفصي الحسن بن محمد بن الحسن، والذي اعتلى العرش سنة 932= 1526 بعد وفاة أبيه المتوكل على الله، وكان تسلمه السلطة، وهو الابن الأصغر، بواسطة مؤامرة دبرها مع والدته قتل فيها أخويه الكبيرين، ونجا أخوه الأكبر رشيد والوريث الشرعي للحكم، وهرب لاجئاً إلى الجزائر التي كان بربروس والياً لها.
وأحسن بربروس وفادة الملك الشرعي ووعده خيراً ثم اصطحبه إلى استانبول لمقابلة السلطان سليمان القانوني، الذي وعده بالنصر، ووجد في ذلك مناسبة لاستكمال بسط سلطانه على تونس، فقد كانت المناطق الشرقية والجنوبية من تونس خاضعة للعثمانيين دون مدينة تونس وما حولها، وبخاصة أن الأسرة الحفصية كانت تحافظ على بقائها بالتوكؤ على الدعم الأسباني، وأن مولاي الحسن تحالف مع سليل أسرة هابسبرج الملك الأسباني شارل الخامس، المعروف باسم شارلكان، يستعين به للقضاء على مناوئيه ومنافسيه.
وكان السلطان سليمان يخوض الحرب على عدة جبهات، جبهة فارس والعجم مع الصفويين، وجبهة وسط أوروبا، والجبهة البحرية في غربي المتوسط، وكلاهما مع أسبانيا التي كان ملكها شارلكان آنذاك ملك الإمبراطورية الألمانية المقدسة، وكانت هناك جبهة شمال أفريقيا كذلك التي استولى الأسبان على كثير من مرافئها وثغورها، فقد كانت أسبانيا في أوج نزعتها الاستعمارية، وشجعها نجاحها في أمريكا الجنوبية أن تعتقد أن بإمكانها تحويل شمال أفريقيا إلى مستعمرة مسيحية أسبانية.
وكان العدو الأكبر الذي يحول بين بربروس وهدفه هو الأسطول الملكي الأسباني الذي كان يقوده الأدميرال الجنوي أندريا دوريا، القائد المخضرم والمنافس الأقوى للبحرية التركية، والذي كان لسنوات طويلة يجوب البحر المتوسط دون منازع، إلى أن أمر السلطان سليمان القانوني ببناء أسطول يتناسب مع مكانة الدولة العثمانية وتحت إشراف قائد البحرية بربروس، وإذا كان الأسبان لم يأبهوا لاستيلاء بربروس على مناطق أخرى من تونس فإنهم بالتأكيد لن يقبلوا خسارة مدينة تونس ورحيل عميلهم وحليفهم عنها، لأنها كانت أقرب نقطة إلى جزيرة صقلية من ساحل الشمال الأفريقي.
وتعمية لأبصار العدو عن هدفه الأساسي قام بربروس بغزوات في اليونان فاستعاد فيها عدة موانئ  من الأسبان، ثم اتجه إلى ميناء ريجّو كالابريا Reggio Calabria الواقع في أقصى جنوب إيطاليا عند مضيق مسينا الذي يفصل جزيرة صقلية عن شبه الجزيرة الإيطالية، فهاجم الميناء واستولى على 18 سفينة، ثم استمر في غاراته على الموانئ وعلى جزيرتي صقلية وساردينيا، ووصل في إحدى غاراته إلى مصب نهر التيبر القريب من روما، فقرعت أجراس الكنائس فيها تحذيراً من الخطر القريب.
واتجه بربروس بعدها إلى تونس ليحررها من مولاي الحسن، فوصلها في 12 من صفر 941=1534 واستولى على ميناء تونس المسمى حلق الواد دون قتال، ورحب أهل تونس بالخلاص من الظالم البطاش، وأرسلوا وفداً من الوجهاء إلى حلق الواد ليبايعوه ويعودوا به إلى القصر في تونس، أما السلطان الحسن فقد انسحب جنوباً إلى الصحراء واستعان بالأعراب ليقاتل بهم خير الدين، ولكنهم لم يكونوا كفؤاً لقتال جيش منظم مسلح بالمدافع، فاستسلموا وهرب الحسن إلى أسبانيا مستنجداً بسيده شارل الخامس.
ولم يكن بربروس غريباً عن تونس وحلق الواد، فقد كان الثغر وقلعته قاعدة له ولإخوته عندما بدأوا قبل 20 سنة الغزو في البحر المتوسط مقابل أن يقدموا للسلطان الحفصي خمس الغنائم، وكان أخوه الأكبر عروج قد فكر في تأسيس دولة في تونس، ولكنه رأى صعوبة ذلك بتمكن الأسرة الحفصية، فاتجه للجزائر التي كان حكامها في طور الانحلال والضعف، حتى طمعت فيها أسبانيا واحتلت كثيراً من ثغورها، وانتزع بجاية من الأسبان الذين استردوها، ولكنه هاجم مدينة الجزائر واستولى عليها سنة 923 ودعا في الخطبة للسلطان العثماني سليم الأول، وكانت تلك بداية النهاية للوجود الأسباني في شمال أفريقيا.
وما لبث بربروس أن أعلن بعد توثقت له الأمور أن البلاد قد أصبحت ولاية عثمانية وأنه هو واليها، وحاول بعض أنصار الحفصيين التمرد على هذا القرار، ولكن بربروس أخمد تمردهم بالقوة، فاستتبت له الأمور واستولى على القيروان دون قتال، وكان بربروس يدرك تمام الإدراك الأهمية الاستراتيجية لتونس بحكم موقعها الجغرافي، فسارع في ترميم قلاعها وتجهيز موانئها وأسس فيها قاعدة بحرية قوية ليستخدمها في السيطرة على حركة الملاحة من غربي المتوسط إلى شرقيه، وليهاجم منها أعداء الدولة العثمانية وبخاصة جزيرة مالطة.
وعاد بربروس ظافراً منتصراً إلى استانبول حيث استقبله السلطان سليمان القانوني وجعله ناظر البحرية العثمانية ونائب السلطان في شمال أفريقيا، وحاكم ولايات رودس وبعض جزر اليونان، أما رشيد الأمير الحفصي، وكان أميراً ذا حشمة زائدة وأديباً ذا علم وحصافة وسخاء، فقد عاش في استانبول وحج منها وبقي معززاً مكرماً حتى توفي فيها سنة 969.
وأدرك شارل الخامس أن هيمنته على البحر المتوسط قد أصبحت في مهب الرياح، وأن المغرب العربي قد أصبح في يد سلطة قوية ذات عزيمة صلبة، وكانت أسبانيا قد احتلت بجاية في الجزائر في سنة 910، وطرابلس الغرب في سنة 914، فبدأ على الفور ترتيباته لاقتلاع هذا التهديد الخطير، وكانت لديه الإمكانيات المادية التي توازي بل تفوق ما لدى الدولة العثمانية، فقد شملت مملكة شارل الخامس أسبانيا والنمسا وصقلية وجنوب إيطاليا، وهولندا، وأجزاء من ألمانيا التي كانت كلها تحت سلطانه بصفته الإمبراطور الروماني المقدس. 
وأعد شارلكان أسطولاً من 400 سفينة و33.000 جندي شاركت فيه أسبانيا والبرتغال وفرسان مالطة وقوات الدولة البابوية التي أرسلها البابا بول الثالث، وضم هذا الأسطول أقوى سفينة في العالم آنذاك، وهو السفينة المدعوة القديس يوحنا المعمدان، والتي كانت تحوي 366 مدفعاً.
ورفض ملك فرنسا فرانسوا الأول الانضمام لهذه الحملة، فقد كان شارل الخامس عدوه اللدود، وكانت فرنسا وأسبانيا تتنافسان على زعامة أوروبا، وتعلل بوجود هدنة بينه وبين خير الدين بربروس، ولكن في الواقع كانت السفارات متصلة بينه وبين السلطان سليمان القانوني للاتفاق على القيام بهجوم مشترك على شارل الخامس، وفي آخر سنة 940=1533 زار بربروس فرنسا موفداً من السلطان سليمان، ومحملاً بالهدايا الثمينة، وقابل الملك فرانسوا الأول ليؤكد الصداقة بين المملكة الفرنسية ومملكة الجزائر، ويوقع اتفاقاً تجارياً مدته 5 سنوات، وخشية من هذه الاتفاقات ضغط البابا على فرانسوا الأول حتى أخذ منه موثقاً ألا يتحارب المسيحيون فيما بينهم طيلة هذه الحملة الصليبية.
وكلفت هذه الحملة شارلكان مليون جنيه ذهبي وهو مقدار ما كلفته حربه مع سليمان القانوني في وسط أوروبا، وإزاء هذه المبالغ الكبيرة ينبغي أن نشير أن عظمة أسبانيا وثراءها في ذلك الوقت كانت نتيجة احتلالها بلدان أمريكا الجنوبية واستيلائها على ثرواتها الهائلة وبخاصة الذهب والفضة، وقد أنفق شارل الخامس مليون جنيه من أصل مليونين أتت بهما سفنه من أمريكا الجنوبية، وانتزعهم القائد الأسباني فرانشيسكو بيزارّو من ملك الإنكا في الأكوادور أتاهوالبا لقاء الإبقاء على حياته، ثم ما لبث أن قتله بعد أن صارت الأموال في يده.
وإزاء هذه القوة الكبيرة كان بربروس يدافع عن تونس بجيش قوامه 12.000 جندي يردفه نحو 6.000 متطوع بربري، وكان الهدف الأول المتوقع للأسبان هو قلعة حلق الواد وميناؤها، وكان سنان باشا مسؤولاً عن الدفاع عنها، بينما اختار بربروس أن يكون في مدينة تونس.
وألقى شارلكان مراسيه في قرطاج في رابع أيام عيد الأضحى لعام 941،  وأنزل قوات إلى البر بالتعاون مع مولاي الحسن الذي قدم له حمولة 8.000 جمل من الأرزاق و1.600 فارس، وبدأ شارلكان هجومه على حلق الواد بقصف مدفعي من البر والبحر، وكان أغلب أسطول بربروس في استانبول فقامت السفن المتوفرة بقصف أسطول العدو وأوقعت فيه خسائر فادحة وقتلت بعض كبار قادته، ثم خرجت من المعركة غير المتكافئة.
وبعد حصار دام قرابة 3 أسابيع سقطت قلعة حلق الواد، ووجدوا في أطلال قلعتها قنابل تحمل ختم الوردة الملكية الفرنسية، فقد كانت فرنسا تمد خير الدين بربروس بالسلاح والذخيرة، وكانت القلعة تضم 300 مدفع وتستطيع إيواء 6.000 جندي.
وانسحب سنان باشا من حلق الواد بما بقي من جنوده، وانضم إلى خير الدين في مدينة تونس، وتضعضت معنويات بعض المتطوعين من البربر لما رأوا هذا الأسطول الضخم والجيش اللجب، إذ كانوا أغراراً لم يسبق لهم خوض حروب كبيرة مثل هذه، فأغراهم مولاي الحسن ومناهم إن هم تحولوا إلى صفه، وكان في تونس قرابة 10.000 أسير مسيحي، فقام البربر بإطلاق سراحهم بطلب من مولاي الحسن، وهكذا أصبح بربروس يواجه داخل تونس خونة البربر والأسرى، فقام بالانسحاب من تونس بعد 6 أيام من سقوط حلق الواد.
وأعاد بربروس تجميع قواته مع المجاهدين من قبائل العرب والتقى الجيشان في سهل أريانة شمالي مدينة تونس، ولم يستطع بربروس الصمود أمام التفوق العددي، وانهزم جيشه وأصبحت مدينة تونس في يد الأسبان الذين استباحوا المدينة ثلاثة أيام، فنهبوا القصور والبيوت والأموال، وأتلفوا التحف الفنية النفيسة، وهدموا المساجد والمدارس، وحرقوا عشرات الآلاف من المخطوطات، وكان الحفصيون في تونس مغرمين بجمع الكتب وإنشاء المكتبات، وقتلوا أهل تونس دون رحمة أو شفقة أو مراعاة لكبير أو صغير، حتى قيل إن القتلى بلغوا ستين ألفا، وهم ثلث سكان تونس في ذلك العهد، وكانت رائحة الجثث من السوء بمكان حتى إن شارل الخامس ما لبث أن تحول عنها إلى رادس جنوبي شرقي تونس، وبمناسبة الانتصار أمر شارلكان بعمل وسام عسكري أسماه وسام صليب تونس قلد به أعناق من أبلى بلاء حسناً من جنوده، وبهذا الانتصار استعادت أسبانيا السيطرة على غربي البحر المتوسط.
أما بربروس فانسحب إلى عُنابة فالجزائر حيث كان أسطوله موجوداً، وكأي قائد عسكري حكيم أراد أن يظهر لعدوه أنه لم يخضد شوكته ولم يفل عزيمته، فأبحر بأسطوله وهاجم ميناء ماهون في جزيرة مينورقا الأسبانية واحتله وأخذ 6.000 أسير، ثم قرر العودة إلى استانبول، فاحتل في طريقه ثغر بنزرت في تونس.
وكانت الدولة العثمانية منذ تأسيسها غير حريصة على التعاون مع الدول الأجنبية، ولم تكن ترغب في أن تكون بينها وبين هذه الدول سفارات دائمة، بل كانت الرسل تجيء وتروح بينها وبينهم، ويذهب بعض المؤرخين أن هذه الهزيمة قد حفزت الدولة العثمانية على تغيير نهجها والدخول في تحالف رسمي مع فرنسا ضد آل هابسبرج والإمبراطورية الرومانية، وأرسل الملك فرانسوا الأول سفيره جان لا فوريه ليكون أول سفير دائم لدى السلطان العثماني.
وكان الهاجس الأكبر لدى الملك الفرنسي هو استرجاع مقاطعاته في شمال إيطاليا ومدينة نيس التي تنازل عنها دوق سافويا للإمبراطور شارلكان، وبعد بضعة شهور من سقوط تونس أرسل السلطان سليمان القانوني وفداً رسميا إلى فرنسا، واتفق العثمانيون مع الملك لويس الأول على  القيام بحملة لاحتلال إيطاليا، فيهجم بربروس على ممتلكات شارلكان في جنوب إيطاليا مثل صقلية ونابولي، ويهجم الملك فرانسوا الأول على إقليم بيمونتي في شمال غربي إيطاليا، ويلتقيا في الوسط، وشن بربروس حملته في سنة 943 ولكنه لم يتابعها لأن الهجوم الفرنسي المتفق عليه لم يتواصل، فقد هاجم فرانسوا الأول سافويا واحتل تورينو، ثم توقف بعد أن حصل أهم أهدافه، وذلك بحجة خشيته من أن يعود عليه تحالفه مع الكفار بعواقب وخيمة من شعبه ومن الدول الأوربية الأخرى، وقام شارلكان رداً على ذلك بالهجوم على مقاطعة بروفانس الفرنسية، ولكن هجومه ما لبث أن تباطأ، ثم توسط البابا بين الطرفين الأسباني والفرنسي فاتفقا في آخر سنة 944= 1538 على هدنة مدتها 10 سنوات.
وبقي شارلكان قرابة شهر في تونس أشرف فيه على ترميم قلعة حلق الواد، وجعل فيها قوة من 1.200 جندي بقيادة الدوق دي مندوزا، أحد كبار نبلاء أسبانيا، ثم عاد شارلكان إلى بالِرمو عاصمة صقلية ومنها إلى نابولي ثم إلى روما، ومعه 20.000 من النصارى الذين كان المسلمين قد استرقوهم، ولقي في طريقه احتفالات ضخمة تليق بالإمبراطور المنتصر، وفي روما استقبله البابا وباركه لانتصاره على أعداء الدين.
ووقع مولاي الحسن معاهدة مع شارلكان تقضي بإخلاء سبيل الأرقاء المسيحيين، والإباحة لجميع المسيحيين الاستيطان في إقليم تونس، وإقامة شعائر دينهم دون معارضة، وباع فيها حلق الواد والأراضي المحيطة بها لشارلكان بصفته ملك قشتالة، وتعهد بدفع مبلغ سنوي قدره 12.000 جنيه ذهبي، وأن يقدم هدية للملك في كل سنة 12 فرساً عربية و6 صقور للصيد، كما تعهد الحسن في المعاهدة ألا يدخل في أي تحالف أو اتفاق مع مسلم أو مسيحي إن كان ذلك يضر بالإمبراطور أو ملك أسبانيا.
ولم تكن هذه نهاية المواجهات بين شارلكان من جهة وبين خير الدين بربروس من الجهة الأخرى، ذلك إن بربروس تابع انتصاراته البحرية في شرقي البحر المتوسط وجنوبي إيطاليا، وانتزع من أسبانيا وحليفتها جنوة كثيراً من الموانئ ، وهزم أندريا دوريا وأسطول البندقية في معركة بريفزا في سنة 945، فاضطرت أكبر دولة تجارية آنذاك لتوقيع معاهدة سلام مع السلطان سليمان القانوني في سنة 947=1540 اعترفت بسيادة السلطنة على هذه الموانئ، وتضمنت أن تدفع لها مبلغ 300.000 جنيه ذهبي.
وفي سنة 947 أرسل شارل الخامس رسالة إلى خير الدين حملها الدكتور الجزائري اليهودي روميو، مضمونها أنه يعرض على خير الدين بربروس أن يخون السلطان العثماني وينتقل إلى المعسكر الأسباني، ووعده أن يجعله رئيس الأسطول الأسباني وحاكم المناطق الأسبانية في شمال أفريقيا، ورفض بربروس العرض فقد كان رجلاً متواضعاً مخلصاً لدينه منصرفاً إلى الجهاد في سبيله، وقدم الوسيط ذات العرض لابن بربروس حسن بك الذي كان ينوب عن والده في الجزائر فرفضه كذلك، وأخبر بربروس الديوان السلطاني بهذه المحاولات، وسيق الوسيط إلى استانبول للتحقيق معه.
ومن العَجَب أن يظن شارلكان أن بمقدوره إغراء بربروس بعرض من الحياة الدنيا، وهو الذي يعلم تمام العلم أن بربروس هو الذي بادر فأعلن الجهاد على الأسبان مع أخيه عروج، الذي استشهد وهو يقاتلهم سنة 924=1518، وكانت ثمرة جهادهما أن جلت أسبانيا عن سواحل شمال أفريقيا، ويعلم أن بربروس هو الذي أعلن ولاءه للسلطان مرة تلو المرة، ولم يرغب في الاستقلال بالجزائر بل أعلنها ولاية عثمانية، وهو الذي ساعد المسلمين المضطهدين في الأندلس على الرحيل إلى الجزائر والمغرب العربي وسهل لهم استيطانها، ولكنه العُجب الذي يعمي البصيرة والجهل الذي يطمس على القلوب.
ولما رفض بربروس عرضه قرر شارلكان أن يهاجم الجزائر في سنة 948 على أمل أن يوقف هجمات الغزاة البحريين المسلمين على المواقع الأسبانية والسفن المسيحية في البحر المتوسط، فخرج بأسطول ضخم في تشرين الأول/أكتوبر 1541 وألقى مراسيه محاصراً ميناء الجزائر، ولم يكن الوقت مناسباً لمثل هذا الحصار، فقد كان في موسم العواصف، وأراد شارلكان انتهاز فرصة غياب بربروس في استانبول، ولم يصغ شارلكان لنصائح رئيس الأسطول أندريا دوريا الجنوي وللقائد البحري الأسباني المخضرم هيرمان كورتيز، صاحب التجربة في أمريكا الجنوبية، وأصر على أن يستمر في حملته، وجرت بعض المعارك الصغيرة التي صمد فيها حسن بك ابن بربروس الأسبان ثم دحرهم رغم قلة قواته، قبل أن يتخلى الإمبراطور العنيد عن فكرته وينسحب بقواته المحطمة.
وكان الابن سر أبيه، فلم يتردد حسن بك في استغلال الفرصة وتلقين العدو درساً لن ينساه، ولذا قرر مهاجمته أثناء الانسحاب وبخاصة عندما علم بقرب هبوب عاصفة شديدة، ستزيد من اضطراب المنسحبين الذي كان عدد كبير من سفنهم قد غرزت في رمال الشاطئ، فهاجمهم وأوقع بين صفوفهم عدداً كبيراً من القتلى، وأسر عدداً كبيراً من قادتهم، وكاد الإمبراطور شارلكان أن يقع في الأسر لولا أن دافع عنه فرسان القديس يوحنا المالطيون دفاعاً مستميتاً دفعوا ثمنه عدداً كبيراً من القتلى.
وفي سنة 949= 1543 أبحر بربروس من استانبول متجهاً إلى مارسيليا ليساعد فرنسا حليفة السلطان سليمان القانوني، وتضمن أسطوله 210 سفينة، و16.000 بحار و14.000 جندي، وأثناء عبوره مضيق مسينا أغار على ريجو كالابريا واحتلها ثم أغار على السواحل المجاورة حتى وصل إلى مصب التيبر، ثم أبحر إلى ميناء نيس فحاصره واستولى عليه ليعطيه للملك فرانسوا الأول، وأمضى الشتاء في طولون مثابراً على إرسال سفنه بين حين وآخر للإغارة على الموانئ الأسبانية، ويقال إن الملك أمر في هذه الفترة بإخلاء طولون من سكانها المسيحيين وتحويل كاتدرائيتها إلى جامع.
وفي سنة 951=1544 حاصر بربروس جنوة، حليفة شارلكان اللصيقة، وهدد بمهاجمتها إن لم تطلق سراح القائد البحري طرغوت الذي كان قد أسر قبل 4 سنوات، وعمل في الأسر جدّافاً مثل آلاف الأسرى من الطرفين، ودعا الأدميرال أندريا دوريا خيرَ الدين بربروس إلى قصره لمناقشة الموضوع، واتفقا على افتداء طرغود بمبلغ 3.500 جنيه ذهبي، وتابع بربروس حملاته البحرية على الموانئ والسفن الأسبانية قبل أن يعود إلى استانبول ويتقاعد ويخلفه ابنه حسن باشا على ولاية الجزائر، وتوفي هذا القائد العظيم وقد ناهز السبعين في سنة 953=1546.
وإذا زرت المتحف البحري في بشكتاش بإستانبول ورأيت ضريح بربروس الذي بناه المعمار سنان باشا في حديقتها، فسترى قربها تمثال بربروس وقد نحتت خلف قاعدته أبيات الشاعر التركي يحيى كمال بيات:
من أي أرجاء البحر يأتي هذا الرعد القاصف؟
من تونس؟ من الجزائر؟ من جزر بحر إيجة؟
مئتا سفينة تمتطي عنان الأمواج
آتية من البلاد التي أنارها الهلال السامق
إيهٍ أيتها السفن المباركة، من أي البحار أتيت؟
ونعود إلى تونس، ففي سنة 949 انتفض أهل القيروان يقودهم العلماء على السلطان مولاي الحسن، فخرج في البحر إلى نابولي في إيطاليا يريد استئجار بعض الجنود المرتزقة، فانتهز ابنه أحمد فرصة غياب والده فخلعه وأعلن نفساً ملكاً على تونس في سنة 950، لما عاد الحسن قاتل ابنه بتأييد من الأسبان، ولكن الابن انتصر وقبض على أبيه، وخيره بين الموت أو أن يسمل عينيه، فاختار العمى، واستقر في القيروان.
وكان الحاكم الأسباني في حلق الواد يفضل تعيين ابن صغير للحسن يدعى عبد الملك، وعده بمزيد من الأموال والهدايا، فدخل عبد الملك مدينة تونس متنكراً مع عدد من أتباعه، واستولى عليها وخلع أخاه واعترف به الحاكم الأسباني ملكاً، ولكن عبد الملك ما لبث أن مات بعد 36 يوماً، مسموماً على الأرجح بتدبير من أخيه أحمد.
وكان الأسبان يحتفظون بأولاد مولاي الحسن الكبار رهائن فطلب أهل مدينة تونس من الأسبان أن يفرجوا عن ابنه أحمد ليصير ملكاً عليهم، ولكن الأسبان فضلوا تعيين ابن لعبد الملك عمره 12 سنة، فرفض ذلك أهل تونس، وهرب أحمد إلى الداخل التونسي وأيدته القبائل فشكل جيشاً استولى به على مدينة تونس وهرب السلطان الصغير إلى الأسبان في حلق الواد، وقبلت أسبانيا بالسلطان الجديد الذي سار على نهج والده، فعقد عدة معاهدات صداقة وحماية مع الأسبان، مقابل جزية يؤديها لهم مقابل ذلك.
وفي سنة 955 قام القائد العثماني طرغوت باحتلال ميناء المهدية في تونس، وكان الأب مولاي الحسن، على عماه، لم ييأس من استعاده عرشه، فانتهزها فرصة وعبر البحر إلى إيطاليا سنة 956 وقابل البابا بول الثالث ثم سافر عبر إيطاليا إلى النمسا، وفي فندق النسر الذهبي في إنزبروك لوحتان من الرخام على بابه تحملان أسماء من نزل به، وبها اسم مولاي الحسن، وفي بافاريا التقى الملك بالإمبراطور شارلكان وطلب منه المساعدة لاسترداد المهدية وعودته إلى العرش، فوعده ذلك وعاد ليموت أثناء الحصار الأسباني للمهدية، وانتزع الأسبان المهدية وجعلوا عليها حاكماً ابناً للسلطان أحمد.
ولكن القبائل التونسية في الداخل لم تلبث أن ثارت على السيطرة الأسبانية، وصارت تهدد مدن الساحل، وصارت تهاجم حلق الواد، وبقي السلطان أحمد مراعياً لاتفاقياته مع الأسبان، خشية أن يخلعوه، واستقرت له الأمور على ذلك قرابة قرن من الزمن.
ولم ينسى العثمانيون الوجود الأسباني في تونس، فاستمرت محاولاتهم لتوهينه وفتحها من جديد، وفي سنة 958 استطاع طرغوت استرجاع طرابلس الغرب من أيدي فرسان مالكة، وفي سنة 965 قام القائد العثماني الشهير بيالي باشا باحتلال جزر الباليار الأسبانية، وقام مع طرغوت بمهاجمة الموانئ الأسبانية في البحر المتوسط، وفي سنة 966 حشد الأسبان أسطولاً قاده الأدميرال جيوفاني أندريا دوريا بهدف الاستيلاء على جزيرة جربة في جنوبي الساحل التونسي، فتصدى له الأسطول العثماني بقيادة بيالي باشا وهزموه في ساعات معدودة وأوقعوا به خسائر فادحة كادت أن تكون قاصمة.
وبانتصارهم في جربة لم يعد هناك من يقف بين العثمانيين وبين مالطة التي كانت قاعدة فرسان القديس يوحنا، فحشدوا قواتهم للاستيلاء عليها وحاصروها حصاراً طويلاً صار مضرب الأمثال، ولكنهم لم يوفقوا لاحتلالها، فتوجهوا لغزو تونس وإنهاء الوجود الأسباني فيها، فشكل عروج، أو كيليج علي باشا، في سنة 977 أسطولا من 250 سفينة مع جيش كبير يقوده الوزيرسنان باشا، وبدأ في مهاجمة الثغور التونسية الواقعة تحت السيطرة الأسبانية، وطلب أحمد المساعدة من الأسبان، ولكنهم لم يكونوا في وضع يمكنهم من المساعدة، إذ كانوا هم أنفسهم بحاجة لكل جندي للدفاع عن موانئهم وحصونهم، فواجه أحمد العثمانيين منفرداً في معركتين انهزم في كليهما ثم انتهى به الأمر أن عزله الأسبان في سنة 980، ونصبوا محله أخاه محمد، ثم نفوه إلى صقلية فمات فيها سنة 983، ونقل جثمانه إلى تونس فدفن فيها.
ورغم أن العثمانيين كانوا قد هزموا هزيمة منكرة في معركة ليبانتو البحرية سنة 979، إلا  أن ذلك لم يفت في عضدهم فما لبث سنان باشا في عهد السلطان سليم الثاني في سنة 982 أن حاصر حلق الواد 43 يوماً حتى فتحها ودخل تونس، وأعلنها ولاية عثمانية وقبض على السلطان محمد، وعاد به إلى العاصمة العثمانية، فأمر السلطان سليم باعتقاله، واستمر في سجنه إلى أن هلك، وبموته انقرضت دولة بني أبي حفص وقد دامت نيفا و 370 سنة، وكافأ السلطان مراد سنانَ باشا على إنجازاته بأن ولاه الوزارة العظمى في سنة 988، ثم ولاه نيابة الشام وهو صاحب الجامع والسوق المعروفين في دمشق.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer