الجمعة، 7 نوفمبر 2014

حدث في الثالث عشر من المحرم

في الثالث عشر من المحرم من عام 1074 الموافق 17 آب/أغسطس 1663 بدأ الصدر الأعظم كوبريلي زاده أحمد باشا على رأس الجيش العثماني في حصار قوات الإمبراطورية الرومانية المقدسة المرابطة في قلعة نوهزل Neuhäusel، وهي اليوم نوفي زامكي في سلوفاكيا، ونجح في الاستيلاء عليها بعد 6 أسابيع حين سلمتها حاميتها بالأمان وانسحبت منها، وكان ذلك انتصاراً غير متوقع في بداية الحرب التركية النمساوية الرابعة، رفع معنويات العثمانيين وفتَّ في عضد النمساويين ولو إلى حين.
وعندما نتحدث عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فينبغي أن نشير أن اسم الإمبراطور والإمبراطورية أحياه الملك الألماني شارلمان مع مطلع القرن التاسع الميلادي بمباركة البابا ليون الثالث، واستخدمه ملوك الفرنجة ثم ألمانيا عشرة قرون حتى سنة 1806 حين ألغاه الملك فرانسيس الثاني ملك النمسا بعد أن حمله ثم عجز عن الدفاع عنه إزاء نابليون الذي أراد اقتناص هذا اللقب ذي الأبعاد التاريخية الكبيرة.
وقد تعاقب على الإمبراطورية ملوك تباينوا في القوة والضعف، وتغيرت حدودها مع تقلب الدهر، ولا يتسع المقام للحديث عن ذلك، فنتجزئ بالحديث عن الإمبراطور ليوبولد الأول الذي وقعت هذه الأحداث في عهده، والمولود في فيينا سنة 1050=1640 والمتوفى سنة 1117=1705 والذي ينتمي لأسرة هابسبرج.
تسنم ليوبولد الأول عرش النمسا وهنغاريا وبوهيميا بعد وفاة أخيه في سنة 1064=1654، ولما توفي والده فرديناند الثالث في سنة =1657، انتخبه ملوك الممالك التي تتكون منها الإمبراطورية في سنة 1068=1658، وتأخر انتخابه سنة بسبب معارضة فرنسا لذلك، فقد كان التنافس على زعامة أوروبا بينها وبين أسرة هابسبرج على أشده.
وتعود جذور هذه الحرب إلى إمارة ترانسلفانيا، وهي اليوم رومانيا الغربية، التي كانت منذ انتصار السلطان سليمان القانوني في معركة موهاكس في سنة 1526 تخضع للدولة العثمانية مع تمتعها باستقلالها الذاتي والديني، وذلك إن أميرها جورجي راكوكسي الثاني شارك السويد في غزو بولندا في سنة 1068=1657 مخالفاً توجهات وتحالفات الدولة العثمانية، وكان لا بد لها من معاقبته على هذا استهتاره بالأعراف الدولية السائدة وتجاوز لحدوده والهجوم على بلد حليف، فخلعته وأعلنت الحرب عليه.
وكان هناك سببان أساسيان وراء هذا الاستهتار بالدولة العثمانية، أولهما أن السلطنة العثمانية كانت مشغولة آنذاك بحربها مع جمهورية البندقية حول جزيرة كريت آخر قاعدة لها في شرق البحر المتوسط، وهي حرب دامت قرابة 25 سنة من سنة 1055=1645 إلى سنة 1080=1669، فشغلت الدولة ورجالها واستنفذت كثيراً من الأموال والتضحيات.
والسبب الثاني أن الاضطرابات الداخلية كانت لا تفارق البلاط السلطاني، وأصبح العرش العثماني ألعوبة في يد المستغلين والجشعين، ذلك إن الحاشية كانت قد خلعت السلطان إبراهيم في سنة 1058=1648 وقتلته، ووضعت على العرش أكبر أولاده تحت اسم محمد الرابع ولما يتجاوز عمره 7 سنوات، على أن تكون جدته السلطانة كوسم نائبة السلطنة، وأصبحت السلطنة في يد امرأة طموحة مراوغة وحاشيتها من الخصيان المسمين بالأغوات، ثم أرادت الجدة بعد 3 سنوات قتل حفيدها لتضع محله حفيداً آخر من أم أخرى، وانكشفت الخطة فقُتلت الجدة في سنة 1061=1651، وتحولت نيابة السلطنة إلى أم السلطان؛ السلطانة خديجة تارخان، التي كان عمرها 24 سنة.
وكانت السلطانة خديجة، وهي من أصل أوكراني، امرأة صالحة ذكية تضع الصالح العام فوق المصالح الشخصية الآنية، فاتجهت لمعالجة الأمراض التي تفشت في جسم الديوان السلطاني والدولة العثمانية، فوجهت اهتمامها للبحث عن صدر أعظم تتوفر فيه الكفاءة والنزاهة تعتمد عليه الدولة في الخروج من وهدتها، ولذلك تعاقب على هذا المنصب خلال 5 سنوات 11 رجلاً دون أن تجد فيهم ضالتها، حتى وصلت في سنة 1066=1656 إلى الوزير كوبرولو زاده محمد باشا، العجوز الألباني الأصل الذي قارب الثمانين ولم يكن من قبل ضمن الطبقة الأولى في الديوان السلطاني، ودُهِشت السلطانة لأنه بدلاً من أن يشكرها على اختياره للمنصب، كما فعل غيره من قبل، اشترط عليها منحه صلاحيات مطلقة ليقوم بإعادة الدولة العثمانية إلى مجدها وهيبتها.
ومنحته السلطانة ما يريد، فسلك مع الحاشية ورجال الديوان مسلك الشدة والترهيب، ولم يتردد في سفك الدماء والسجن والنفي، وكان في ذلك بعض الظلم والتجاوزات، ولكنه أنقذ الدولة من شفا هاوية، وتحرك على كبر سنه لبناء مؤسساتها من جديد، ونجح في ذلك نجاحاً لم ينجزه صدر أعظم في الدولة العثمانية من قبل، حتى صارت الفترة التي تسلمها وذريته من بعده تدعى بفترة كوبرولو.
ونعود إلى الأمير راكوكسي الذي ظن أن كوبرولو سييبقى فترة قصيرة في منصبه ثم يُقال منه أو يعدم، كما فُعل بأسلافه، ومن ثَم يتفاهم مع الصدر الأعظم الجديد من موقع القوة، ولكن خاب ظنه، فقد كان كوبرولو واسع التدبير بعيد الغور مبادراً لمعالجة الأزمات، وكان أول ما فعله أن أمر فرق الخيالة من تتار القرم الأشداء بالمبادرة إلى مساعدة بولندا في صد الهجوم الذي اندحر، ثم قام الصدر الأعظم كوبرولو زاده محمد باشا بشن حملة عسكرية احتلت ترانسلفانيا، وقتلت راكوكسي في إحدى المعارك، وعينت الدولة العثمانية حليفها الأمير الهنغاري ميشيل أبافي ملكاً على ترانسلفانيا.
وخلف راكوكسي في منصبه الأمير جانوس كيمني الذي سارع بطلب الدعم من الإمبراطور ليوبولد، وحيث كانت ترانسلفانيا تقف كمنطقة عازلة بين أراضي الإمبراطورية وبين الدولة العثمانية، فإن النمسا كان يهمها أن تبقى كذلك، ولذا قامت بمساعدة الأمير وأرسلت جيشاً صغيرا بقيادة القائد العسكري المحنك الإيطالي الأصل ريموندو مونتِكيوكُّولي Montecuculli والذي قضى حياته في خدمة أسرة هابسبرج، وكان أبرز قادة الحروب في عصره، وهو معدود في التاريخ العسكري من كبار المنظرين العسكريين، ولكن حنكة ومهارة منتِكيوكّولي لم تستطع التغلب على التفوق العددي العثماني فانسحب تاركاً كيمني أمام العثمانيين الذين هزموه وقتلوه في معركة ناجيزولوس في سنة 1072=1662، وخلا الطريق أمام حليف العثمانيين الأمير ميخائيل أبافي ليبقى دون منازع.
وفي سنة 1072=1661 توفي الصدر الأعظم محمد باشا، وقد تجاوز الثمانين، وبوصية منه أسند المنصب إلى كبير أبنائه فاضل أحمد باشا، وعمره 27 عاماً، فكان أصغر صدر أعظم في تاريخ العثمانيين، وكان والده الذي لم يدرس في صغره قد حرص على تدريس ابنه علوم اللغة والشريعة والأدب الفارسي، وكاد الولد أن يكون في سلك العلماء، ثم عدل إلى طريق والده في السياسة، وصار والي دمشق سنة 1071، فتميز بجمعه بين السياسة والقيادة والعلم، وهو واقف المكتبة المشهورة في إستانبول.
وسار فاضل أحمد على خطى والده في أن يكون على رأس الجيش، ولذا أعد جيشاً ليواجه البندقية في دالماتيا، وهي اليوم في كرواتيا على ساحل الأدرياتيكي، وكانت تحت حكم البندقية منذ أكثر من 240 سنة، ولكن الأزمة مع النمسا نشبت فأصدر السلطان محمد الرابع أوامره للجيش بالاتجاه لجبهة القتال مع النمسا، فسار إليها أحمد باشا بهمة ونشاط، على رأس جيش جرار، فيه خيالة القِرِم المخيفون، ووحدات الصاعقة التي لا ترحم، وجنحت النمسا للسلم، فعقدت سلسلة من المفاوضات ابتدأت في بلغراد وانتهت في بودابست، ولم تسفر عن نتيجة فقد رفضت النمسا طلبات العثمانيين وأهمها انسحاب الجيش النمساوي ودفع تعويضات قدرها مبلغ 200.000 فلورين ذهبي.
وقرر أحمد باشا أن يفتح قلعة ارسيكيوفار، واسمها الألماني نيوهزل، والتي تقع على بعد 110 كيلاً من فيينا، وكانت قلعة فائقة التحصين مبنية على شكل نجمة سداسية على قمة جبل مرتفع، وكانت من قبل قد استعصت مرات عديدة على الجيوش العثمانية، وأصبحت شهيرة بمناعتها في كافة أوروبا، وقرر قائد حامية القلعة استباق الأمور فشن هجوماً على الجيش التركي قبل أن يبدأ حصاره على القلعة، ولكن الهجوم انتهى بهزيمة منكرة وخسائر بالغة، ففت هذا من عزيمة المدافعين، وشد من عضد الجيش العثماني الذي ضرب حصاراً محكماً حول القلعة وهاجمها بإصرار مرة تلو الأخرى حتى استسلمت حاميتها وأخلتها بعد 6 أسابيع كما ذكرنا، وأصبح الإصرار التركي مضرب المثل في المنطقة بعد هذه المعركة، فيقال: كإصرار التركي في حصار نوفي زمكي.
ولم يتوقف كوبرولو بعد هذا الانتصار بل أطلق العنان لقوات الصاعقة التي انطلقت في سرعة عجيبة تستولي وتدمر وتحرق وتأسر، واستسلمت لها حوالي 30 قلعة، واحتلت أولومك، الواقعة في شرقي التشيك اليوم، وصارت بالقرب من فيينا، وفي نفس الوقت أُعلِنت منطقة القلعة ولاية عثمانية يقوم عليها والٍ في مرتبة نائب للسلطان.
ويبدو أن الدولة العثمانية كانت تبث أخبار هذه الانتصارات في الولايات العثمانية بمثل ما تفعله وزارات الإعلام اليوم، فالمحبي في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، يذكر هذا الانتصار أكثر من مرة، ويورد قصيدة فيه نظمها محمد بن عمر بن عبد الوهاب العرضي الحلبي، مفتى الحنفية بحلب، والمتوفى سنة 1071 عن قرابة 60 سنة، ومما جاء فيها:
فلما برز الأذن الإلهي بتبرج الفتوحات الإسلامية من خدور الغيوب، وجالت أفراس الأفراح تركض في ميادين القلوب... وقامت خطباء الأقلام تصدح بالبشائر، وهدرت شقاشقها من أنامل الكتاب على المنابر... وذلك بإقبال ظل الله في الأرض، الفائض من وجه البسيطة على الطول والعرض، واسطة عقد ملوك آل عثمان، لا زالت الأمور متسقة النظام ما قام له كل يوم ديوان، وإقدام حضرة الصدر الكبير القائم بأعباء الرأي والتدبير، من هو من فلك الوزارة بمنزلة النير الأعظم من بين الكواكب السياره...
قَبول يرود ويتلوه نُجح ... وأيد لتسآل قصد تُلِّحُ
فأهلا بنشر بشير أتي ... يضمخ من مسكه الروع جُنح
كأن الخزامى وشيح الربى ... متون وريح الصبا ذاك شرح
فلله بكر قد افتضها ... مهنده وسنان ورمح
وعهدي بها هامة للجبال ... فأضحت بتمهيدها وهي سفح
وكم طَرَفُ طَرْف كبا دونها ... له في بحار الميادين سبح
ولكن بإقبال سلطاننا ... تزول الرواسي وينهد صرح
وكان لهذا الفتح ثم القرار ومن بعده الفتوحات دوىٌّ صك الآذان في أوروبا، فقد كان ليوبولد يعتبر القلعة آخر حاجز يحول بين العثمانيين وبين فيينا، ولم تكن قواته من الناحية العددية تعادل الجيش العثماني الذي بلغ عدده 100.000 جندي، فقد كان لدى ليوبولد 12.000 جندي انضم إليهم 15.000 جندي من الهنغار والكروات، ولذا عقد ليوبولد المجلس الإمبراطوري ليطلب المدد من ملوك ألمانيا وأوروبا، فقدمت له الولايات الألمانية 30.000 مقاتل، ووسَّط البابا إسكندرَ السابع في ليطلب مساعدته من لويز الرابع عشر ملك فرنسا، فاستجاب لويز الرابع عشر وأرسل له جيشاً من 6.000 جندي على رأسهم الكونت دي كوليني.
ولما حل الشتاء توقفت المعارك، وقضى كوبرولو الشتاء في بلغراد، ثم تحرك في الربيع ليتابع فتوحاته، وحقق انتصارات في بداية الأمر، ومن أهمها  الاستيلاء على قلعة نوفي زرين، والتي أنشأها حاكم كرواتيا الأمير نيقولا زرنيسكي قبل سنتين لتتحكم بملتقى أنهر هام، وخالف بذلك المعاهدات المرعية، وكانت قد استعصت على الأتراك مرات من قبل، فحاصرها كوبرولو قرابة شهر وحفر نقابوه الأنفاق تحتها ثم نسفوا السور بالبارود، فهرب منها من استطاع من الكروات وفي نفوسهم المرارة إذ لم يصلهم من النمسا إلا معونة قليلة.
وأصيب في أحد المعارك القائد العام النمساوي الكونت فون ستروزي الإيطالي الأصل، فعين الإمبراطور ليوبولد مكانه الكونت ريموندو مونتِكيوكّولي، المولود سنة 1017=1609 والمتوفى سنة 1091=1680، الذي قسم الجيش إلى 3 فرق: فرقة في الجنوب تتكون من 17.000 مقاتل من القوات الهنغارية الكرواتية يقودها نيقولا زرنيسكي، وفرقة في الشمال مكونة من 8.500 جندي بقيادة الجنرال الفرنسي رادوي دو سوش، واحتفظ لنفسه بقيادة الفرقة الأكبر في الوسط التي بلغ عدد جنودها 28.500 جندي، واحتفظ مونتيكوكولي باحتياطي قدره 12.500 للدفاع عن الحصون.
وتمهيداً للمعركة أرسل مونتِكيوكولي الكونت زرنيسكي قبل الربيع على رأس قوة لتقوم بالتوغل في الأراضي التي يسيطر عليها الأتراك وتدمر جسراً على نهر الدرافا بحيث تعيق بذلك وصول الإمدادات للجيش العثماني وكذلك طريق انسحابه إن لزم، وتستولي كذلك على قلعة كنيجا، أهم معقل تركي في المنطقة، وسار زرنيسكي إلى هدفه الذي يبعد 240 كيلا، مستغلاً الشتاء وصعوبة الحركة على الأتراك، واستولى على عدد من الحصون في طريقه حتى وصل إلى الجسر وأحرقه، وحاول الاستيلاء على بلدة كنيجا، ولكنه اضطر للتخلي عن ذلك حين تحرك جيش كوبرولو في الربيع، ورفض مونتكيوكولي أن يمده بأي قوات لمواجهة الأتراك، فقد كان يريد الاحتفاظ بكل قواته للمعركة الحاسمة.
وجاءت المعركة الحاسمة في 8 محرم 1075= 1 آب/أغسطس 1664، فقد التقى الجيشان على الضفتين المتقابلتين من نهر راب أو راباRaba  Raab الذي يرفد نهر الدانوب، وذلك في أقصى الشمال الغربي من هنغاريا اليوم، وفي المكان دير باسم سان جودهارد وبه عرفت المعركة، وبدأ كوبرولو هجومه بعبور النهر إلى الضفة الأخرى، وما أن عبر قرابة 10.000 عثماني حتى أمر مونتِكيوكُّولي مدافع بقصف الجسر وتدميره، وما أن نسفت المدفعية الجسر حتى انقض جنود النمسا على الأتراك وأبادوهم عن بكرة أبيهم بعد معركة دامت 7 ساعات، جرت أمام أعين كوبرولو دون أن يكون في مقدوره إمدادهم إلا بما تحمله الزوارق في مثل هذه الظروف، فقد كان النهر عميقاً وشديد الجريان، وما كان كوبرولو يستطيع قصف النمساويين فقد كان التداخل شديداً بحيث ستصيب قنابله جنوده مثلما ستصيب أعداءه.
وحاول كوبرولو نصب جسر جديد على الزوارق، ولكن مدفعية العدو والمطر الغزير حالا دون ذلك، واحتل قائد القوة العثمانية إسماعيل باشا، والي البوسنة،  قرية قريبة واتخذ فيها مواقع دفاعية، ولكن خصمه ما لبث أن اجتاحها، ولم يستسلم الجنود العثمانيين وقائدهم مع علمهم بأنهم قد أحيط بهم، وأوقعوا خسائر بالغة بالجيش النمساوي عندما انقض عليهم، بلغت 4 أفواج و60 قتيلاً من كبار الضباط والنبلاء.
واحتفلت أوروبا ملوكاً وكنيسة وشعباً بهذا الانتصار، وأطلقوا لقب منقذ المسيحية على القائد مونتكيوكولي، ولكن  رغم الانتصار طلب الإمبراطور ليوبولد الصلح، فقد كان يدرك أن تكلفة الحفاظ على الانتصار ستكون باهظة جداً، وبعد تسعة أيام في 17 محرم 1075= 10 آب/أغسطس 1664 وقع الطرفان معاهدة فاسوفار التي لم تعكس الانتصار القريب للنمسا، فقد تضمنت الاعتراف بتبعية ترانسلفانيا للدولة العثمانية، وموافقة الإمبراطورية النمساوية على دفع تعويض قدره 200.000 فلورين، وكذلك هدم قلعة نوفي زرين التي بنيت خلاف الاتفاقات السابقة، فهدمها الأتراك ونقلوا أنقاضها فلم يبق منها اليوم سوى نصب تذكاري حديث.
وكان سبب موافقة أسرة هابسبورج على هذه المعاهدة بهذه السرعة والشروط، هو أن فرنسا كانت تتربص بالإمبراطورية لتنقض على أملاكها الأوروبية في هولندا وألمانيا وإيطاليا، وهي أهم بكثير من كرواتيا أو هنغاريا أو ترانسلفانيا، وكانت الدولة العثمانية تريد الصلح العاجل أيضاً، فقد كانت غارقة في حصار دام سنوات طويلة ومريرة لاستكمال انتزاع جزيرة كريت من البندقية التي ساندتها الدول الأوروبية.
وبعد المعاهدة تبادل الإمبراطور مع السلطان محمد الرابع السفارات والهدايا، وزار سفير السلطان محمد باشا فيينا، واستقبله الإمبراطور في احتفال كبير، واصطحب معه أوليا جلبي السائح صاحب الرحلة المشهورة، وفرقة الموسيقا العسكرية التركية، وكان فرجة للناس في فيينا بزيه وأدائه الصلوات.
واعتبر الكروات والهنغار الذي قاتلوا في صفوف النمسا هذه الاتفاقية خيانة لهم، فقد تنازلت النمسا لتركيا عن أراضيهم التي قاتلوا من أجلها، وقدموا آلافاً من خيرة جنودهم لتبقى مستقلة، وكان بعضها في أيديهم قبل بدء الحرب هذه، ولذا قامت مجموعة من الأمراء الهنغار بتدبير مؤامرة لتحرير هنغاريا من حكم أسرة هابسبرج،  وطلبوا سراً  المساعدة من فرنسا وتركيا.
واستغرق إخراج المؤامرة إلى الواقع من عالم الأفكار 6 سنوات، ثم جرى إحباطها بعد ما بدأت قوات المتآمرين في التحرك، فقد وشى بسرها مترجم كان يعمل مع الأتراك، فتحركت قوات النمسا على الفور واعتقلت الأمراء المتآمرين وأعدمت بعضهم وسجنت آخرين، ولكن المعاناة طالت الشعب الهنغاري بأكمله، فقد وجدتها النمسا فرصة للتخلص من قياداته، فسجنت بتهمة المؤامرة حوالي 2000 من النبلاء وصادرت أراضيهم، وأفتى مستشارو الإمبراطور أن المؤامرة جعلته في حل من تعهده للأمة الهنغارية بالحقوق والامتيازات الخاصة التي كان قد اتفق عليها معهم، وأن الهنغار أصبحوا رعية خاضعين لحكم الإمبراطور المطلق دون أية قيود.
وعلى الجانب التركي، ما أن وقع فاضل أحمد كوبرولو الاتفاقية حتى وجه جهوده لإنهاء حملة كريت التي طالت ودامت 24 عاما،  من 1645 إلى سنة 1669، والتي استعصت قلعتها الكبرى كاندية، وهي اليوم هِراقليون، على الفتح العثماني دون سائر الجزيرة، واستنزف حصارها الدولة العثمانية وجعلها في مواجهة دول أوروبا، فحط رحاله في كريت في سنة 1667، وبصحبته والدته وأخوه الأصغر، وأمضى سنتين وثلاثة أشهر محاصراً لكاندية، وبنى تحتها مدينة من الأنفاق لدك أسوارها بالألغام، حتى استسلم المدافعون عنها، واستقبل كوبرولو القائد الإيطالي موروسَّيني الذي دافع عن المدينة سنين طويلة وأكرمه هو وعدد من كبار الضباط من سويسرا وفرنسا، وبقي كوبرولو في الجزيرة 7 أشهر يشرف على إصلاحها وترميم أسوارها بما عرف عنه من همة عالية ومبادرة.
دام السلام بين الإمبراطورية الرومانية المقدسة وبين الدولة العثمانية قرابة 20 عاماً، إلى أيام سليمان القانوني وحملته للاستيلاء على فيينا في سنة 1094=1683، ولذلك الأمر حديث آخر.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer