الجمعة، 30 يناير 2015

حدث في العاشر من ربيع الآخر

في العاشر من ربيع الآخر من سنة 1294 الموافق 24 نيسان/أبريل 1877 أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، وقوفاً منها إلى جانب بلغاريا والبوسنة والهرسك اللتين تمردتا على الدولة العثمانية، وهي الحرب التي ستكون آخر في سلسلة حروب نشبت بين الجارتين روسيا وتركيا على مدى قرنين من الزمن، وانتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية وتنازلها عن سيادتها على الولايات المتمردة، وحددت الحرب بشكل عام حدود تركيا كما نعرفها اليوم.
وتعود بداية الحرب إلى تمرد النصارى من سكان البوسنة والهرسك في منتصف سنة 1292=1875 على ملاك الأراضي المسلمين، وكان للتمرد أسباب متعددة، أهمها تشجيع الإمبراطورية النمساوية- المجرية لهم، إذ كانت تطمع في وضع هذه البلاد المجاورة لها تحت سيطرتها، وتلى ذلك بعد قرابة سنة تمرد البلغار، بتمويل وإمداد روسي بدأ من سنوات، وبلغت الأمور غايتها عندما حل القحط بالبلاد في سنة 1873 ثم تلته فيضانات عام 1874، ونتج عن ذلك شح في المحاصيل وصل إلى حد المجاعة بين الفلاحين في بعض المناطق، وكانت الدولة العثمانية في سنة 1869 قد أعادت تنظيم طريقة تشكيل جيوشها تحت ضغط من الدول الأوربية، فألغت النظام الذي أعفى أهل الذمة من الخدمة العسكرية، وأجبرت مواطنيها من غير المسلمين على أداء الخدمة العسكرية في جيشها أسوة بنظرائهم من المسلمين، ولكن نتيجة تلك المساواة كانت زيادة النقمة على الدولة بين النصارى، إذ كان عليهم الآن أن يقدموا فلذات أكبادهم طعمة لساحات القتال في حروب لم تكن تعنيهم في كثير. 
وكان جواب الدولة العثمانية على التمرد ذا شقين: سياسي وعسكري. فعلى الصعيد السياسي أصدر السلطان عبد العزيز فرماناً في نهاية عام 1875 جعل فيه قضاة البلاد من أهاليها معينين بالانتخاب، ووحد الضرائب وساوى فيها بين المسيحيين والمسلمين، وعلى الصعيد العسكري أرسل قوة عسكرية ترأسها الغازي مختار باشا أحد أقدر قواده وأكثرهم حكمة وخبرة في قمع  التمرد والتعامل مع الأقليات، ونجحت الإجراءات التركية نجاحاً ملحوظاً في قمع التمرد البلغاري.
وتدخلت الدول الأوربية بحجة حماية الأقليات، واجتمع في برلين وزيرا خارجية روسيا والنمسا مع المستشار الألماني بسمارك، وأصدروا في مايو 1876 لائحة برلين التي صدقت عليها كذلك إيطاليا وفرنسا، والتي تضمنت التأكيد على الباب العالي تنفيذ ما جاء في فرمان 1875، وتعيين مجلس دولي لمراقبة تنفيذه، وإجراء كل ما فيه إصلاح حال المسيحيين في هذه الولايات، وأن تبرم الدولة مع الثائرين هدنة قدرها شهران أو ستة اسابيع على الأقل للوصول إلى اتفاق مرض لهم، وأنه إن لم تتفق مع الثائرين في خلال هذه الهدنة تكون الدول الموقعة عليها مضطرة لاستعمال القوة لإجبار الباب العالي على تنفيذ هذه اللائحة!
ومع أن السلطنة كانت تمر بمرحلة اضطراب جرى فيها عزل السلطان عبد العزيز ومبايعة السلطان مراد الخامس، وذلك في 7 جمادى الأولى سنة 1293= 31 أيار/مايو 1876، وجرَّأ ذلك الدول الأوربية على الاشتطاط في طلباتها، فإن الحكومة العثمانية لم تقبل هذه الطلبات المجحفة بحقوقها على رعاياها، ولم تأخذ هذا التهديد على محمل الجد لعلمها بصعوبة اتفاق هذا الدول على ترجمة القول إلى عمل لاختلاف اطماعها، ومن ناحية أخرى لعدم موافقة انكلترا على هذه اللائحة.
وشجع موقف الدول الأوربية الثوارَ البلغار على المجاهرة بالثورة وقاموا بإشعال النيران في مناطق المسلمين وقتلهم وتهجيرهم، واحتلال بعض المدن التي توجد بها حاميات ضعيفة، فقام الوالي بطلب المدد من استانبول ووزع الأسلحة على المسلمين ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، ولما جاء المدد من الجيش النظامي أمكن قمع الثورة بسهولة، وهنا لجأ الثوار ومناصروهم من الدول والجمعيات لإثارة الرأي العام الأوربي، فأشاعوا أن العساكر العثمانية ارتكبت أعمالاً بربرية يندى لها جبين الإنسانية، وتجاهلوا تماماً ما اقترفه البلغاريون من قتل المسلمين في بادئ الأمر، وكانت بريطانيا أهم ساحة لهذه المعركة الإعلامية، فقد كانت حكومة حزب المحافظين التي ترأسها دزرائيلي تعارض المطامح الروسية، وتقف إلى جانب الدولة العثمانية، ولكن الرأي العام البريطاني يحركه حزب الأحرار اتخذ موقفاً معادياً للدولة العثمانية في بداية التمرد في البلقان، وكان السياسي العجوز جلادستون يلقي الخطبة تلو الأخرى حول الأعمال التركية الوحشية المشينة، ويبدو أنه لم يسمع بما فعلته القوات البريطانية مع الكاثوليك في  إيرلندا أو روسيا مع اليهود أو فرنسا في الجزائر.
وأوعزت روسيا إلى إمارة صربيا والجبل الأسود بإعلان الحرب على الدولة العثمانية، فأخذت الإمارتان في شراء الأسلحة والذخائر وجمع الجيوش وتدريبها، وأرسلت روسيا إلى بلاد الصرب الجنرال تشرنايف الذي استولى من قبل على مدينة طشقند، فذهب إليها مع كثير من الضباط الروس، وكانوا يقالون مؤقتا من خدمة الجيش الروسي العامل للالتحاق بالجيش الصربي، ولم يخف ذلك على الدولة العثمانية فأعدت جيشا قوامه 40.000 جندي لصد الصربيين لو تعدوا الحدود، وفي منتصف 1293=1876 اجتازت القوات الصربية الحدود تحت قيادة الجنرال تشرنايف، وكانت تتكون من 4 فرق هاجمت إحداها بقيادته الطريق المؤدية إلى صوفيا متوقعاً المعونة من البلغار، ولكنهم بعد أن جربوا النقمة العثمانية تقاعسوا عن مساعدته، واستطاعت الجيوش العثمانية بقيادة السردار عبد الكريم باشا والمشير عثمان باشا هزيمة الجيوش الصربية في فترة 10 أيام، وقرر السردار أن يحتل بلغراد عاصمة الصرب، وصار على أبوابها في أول سبتمبر 1876، قبل أن تصله أوامر من استانبول بالتوقف، وذلك بسبب تدخل الدول الغربية للحيلولة دون هزيمة الصرب وعودة السيطرة العثمانية إلى صربيا.
وصادف ذلك عزل السلطان مراد بسبب اختلاله عقلياً وتعيين أخيه عبد الحميد سلطاناً على البلاد في 10 شعبان سنة 1293= 31 آب/أغسطس 1876، مما جعل الحكومة العثمانية تميل إلى التريث أملاً في تفادي الحرب الوشيكة، وقد أشار لذلك السلطان عبد الحميد في خطاب العرش الذي وجهه للباب العالي الذي ورد فيه:  وحيث إن الحوادث التي ظهرت في العام الماضي في أطراف البوسنة والهرسك بإغراء أرباب الأغراض قد انضم لها أيضا مسألة عصيان الصرب، وهذا الدم المهرق من الطرفين إنما هو دم أولاد وطن واحد، فإن استمرار هذه الحال التي يرثى لها مبعث لكدرنا وتأثرنا الشديد، وينبغي الحرص على القيام بالإجراءات الفعالة التي تؤدي لانتهائها.
واشترطت الدولة العثمانية عدة شروط على الصرب لإيقاف تقدم جيوشها نحو بلغراد، رفضتها الدول الأوربية الست الموقعة على معاهدة باريس سنة 1856 بعد حرب القِرِم، وهي بريطانيا وروسيا وفرنسا والنمسا وألمانيا وإيطاليا، والتي ضمنت فيها هذه الدول استقلال وسلامة الأراضي التركية، بل وزادت هذه الدول على المعاهدة مقترحات تتعلق بحكم البوسنة والهرسك وبلغاريا، وبفرض رقابة تلك الدول على تنفيذ مقترحاتها، وقدم السفير البريطاني الرسالة للحكومة العثمانية في 25 أيلول/سبتمبر 1876، فأجاب الباب العالي عليها بأنه لا يرى وجها لإعطاء هذه الولايات امتيازات إدارية حيث أن مجلس المبعوثان سيشكل قريبا، وسيكون فيه مندوبون منتخبون من جميع الولايات بدون استثناء، وأن الدولة لا ترى ضرورة لإبرام اتفاق جديد مع الدول بهذا الخصوص.
ولما لم يجد الموقف التركي القبول من الدول الأوربية أوعزت الحكومة التركية إلى جيشها بالتقدم نحو بلغراد، فبدأ زحفه نحوها في أواخر أكتوبر 1876 هازماً الصرب في كل معركة خاضها معهم، فطلبت روسيا من تركيا إيقاف القتال فورا، وإعلان هدنة في صربيا والجبل الأسود مدتها 6- 8 أاسابيع، وإلا فستسحب سفارتها من الاستانة، وذلك يعني عملياً إعلان الحرب، فقبلت الدولة هذا الطلب رغبة في السلم، وأعلنت هدنة مدة شهرين مددتها فيما بعد إلى شهر آذار/ مارس سنة 1877.
ودعت بريطانيا في أكتوبر 1876 الدول الأوربية الست إلى اجتماع في استانبول لإيجاد تسوية دائمة لأوضاع مسيحيي الدولة العثمانية درءاً لوقوع الحرب بينها وبين روسيا، ولم تلق الدعوة استجابة في أول الأمر، ولكن تسارع الخطوات الروسية على طريق الحرب التي صارت قاب قوسين أو أدنى جعل الدول توافق على ذلك، واجتمع مندوبوها في استانبول في شهر  ديسمبر وتداولوا الأمور دون دعوة مندوبين عن تركيا، وقرروا تقسيم بلغاريا إلى ولايتين يكون ولاتها من المسيحيين، وانسحاب القوات العثمانية منها باستثناء بعض المواقع، وتشكيل شرطة من المسيحيين يكون ضباطها من المسيحيين والمسلمين الذين تعينهم الدولة العثمانية، وتشكيل لجنة دولية لمدة سنة لمراقبة تنفيذ الإصلاحات، ومنح ذات الامتيازات إلى البوسنة والهرسك، وأن تتنازل تركيا عن بعض الأراضي في إطار الصلح الذي سيعقد مع الصرب والجبل الأسود، وهددت هذه الدول تركيا إذا هي لم تقبل هذه الاقتراحات فإن جميع الدول ستقطع علاقاتها السياسية معها وتشرع في اتخاذ ما تراه مناسباً لفرض هذه الحلول.
وفي يوم 23 ديسمبر سنة 1876 اجتمع المؤتمر بصفة رسمية برئاسة صفوت باشا وزير الخارجية التركي، وأتته الرئاسة لانعقاد المؤتمر في الاستانة، وعضوية كل من أدهم باشا سفير الدولة ببرلين، والكونت فرنسوا دي بورجوان والكونت دي شودوردي عن فرنسا، والبارون كارل فون وِرزر عن ألمانيا، والسفير الإيطالي الكونت لويجي كورتي، وعن النمسا سفيرها الكونت فِرنِك زيكي المجري والسفير البارون هنريش فون كاليس، والسفير الجنرال نيقولاي إغناتييف عن روسيا، واللورد سالسبوري وزير شؤون الهند والسفير السير هنري إليوت عن بريطانيا.
وفي يوم انعقاد المؤتمر أصدر السلطان عبد الحميد فرماناً أعلن فيه القانون الأساسي للدولة العثمانية، وتضمن أن دين الدولة الإسلام، ولغتها الرسمية اللغة التركية، وأن الدولة جسم واحد لا يمكن تفريقه أو تجزئته، وأن جميع الرعايا يطلق عليهم اسم عثماني، وبيَّن اختصاصات مجلسي المبعوثان والأعيان وكيفية الانتخاب، ووجوب ضع ميزانية سنوية تعرض على هيئة المبعوثان ثم الأعيان، وإذا أقرها كلاهما تكون ملزمة للحكومة، وبيَّن كيفية نظام الولايات وصلاحيات الولاة، ومَنعَ عزل القضاة إلا بسبب شرعي، وضمن لجميع رعايا الدولة الحرية والمساواة أمام القانون، وأباح حرية التعليم مع جعله إجباريا على جميع العثمانيين، كما التزم بحرية المطبوعات.
وعقدت الحكومة العثمانية في 18 يناير سنة 1877 اجتماعاً ضم 200 من ذوات الدولة وأعيانها ورؤساء الديانات فيها، وعرضت عليهم اقتراحات المؤتمر، فأجمعوا  على رفضها، وهكذا كان، فقد قال صفوت باشا لمجلس الدول: إن الدولة مستعدة لقبول تشكيل مجالس انتخابية في البوسنة والهرسك وبلغاريا يكون انتخابها لمدة سنة فقط، ويكون أعضائها مناصفة من المسلمين ومن المسيحيين، وأنها مصرة على رفض الرقابة الأوربية كل الرفض لأن ذلك يدل على عدم ثقة الدول بوعود جلالة السلطان، ومصرة ايضا على عدم إعطاء الصرب والجبل الأسود شيئا من أراضيها. وتكلم بعده بعض المندوبين مهددا بالعواقب، وانفض المؤتمر وسافر المندوبون والسفراء دون مقابلة السلطان إيذاناً بقطع العلاقات الدبلوماسية.
وتحركت الدبلوماسية التركية واستطاعت التوصل في أوائل 1877 إلى الصلح مع صربيا، ودخلت في مفاوضات مع الجبل الأسود كان يتعذر نجاحها لطلبه أن تتنازل له عن بعض الأراضي ليصبح له ميناء على البحر الأدرياتيكي، وتحركت روسيا على الفور وأعدت لائحة مطالب ظاهرها تحسين أحوال النصارى من سكان الممالك العثمانية، وأنذرت الدولة بوجوب تنفيذها، ومررتها على الدول الأوربية لتوقيعها ومن ثم تقديمها للحكومة العثمانية، ودعيت بلائحة لندن، وكان من الطبيعي أن ترفضها تركيا التي أعلنت أن معاهدة باريس 1856 لا تخول هذه الدول أن تتدخل في شؤون تركيا الداخلية.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن المجر، أو الهنغار، كانوا الشعب المسيحي الوحيد الذي عبر عن إخلاص وولاء للأمة العثمانية في هذا الوقت الحرج الذي كانت فيه جميع الدول المسيحية متألبة عليها، وذلك لأن الدولة العثمانية حمت من التجأ اليها من رؤساء الثورة المجرية على النمسا سنة 1848، وامتنعت عن تسليمهم إلى النمسا رغما عن تهديدها، ولو فعلت لأعدمتهم النمسا كلهم، أما روسيا فإنها ساعدت النمسا على قمع الثورة وإذلال الأمة المجرية بعد أن كادت تفوز بالنجاح وتتمتع بالحرية وتنفصل عن النمسا تمام الانفصال كما كانت أمنيتها.
وقبل إعلانها الحرب بأسبوع عقدت روسيا اتفاقاً سرياً مع إمارة رومانيا وضعت فيه رومانيا جميع مخازنها ومؤنها وذخائرها تحت تصرف روسيا التي تعتبر نفسها حامية البلقان والعرق السلافي، ثم أعلنت الحرب على الدولة العثمانية في 10 ربيع الآخر 1294، ولم تظهر الدول الأوربية الأخرى أي عتب أو تأنيب لروسيا على مخالفتها لمعاهدة باريس التي زعمت هذه الدول أنها تمنحها الحق في التدخل في الشؤون الداخلية التركية، والتي تقول المادة الثامنة منها: إذا حدث بين الباب العالي وإحدى الدول المتعاهدة خلاف خيف منه على اختلال ألفتهم وقطع سلطتهم، فمِن قَبلِ أن يعتمد الباب العالي وتلك الدولة المنازعة له على أعمال القوة والجبر يقيمان الدول الاخرى الداخلة في المعاهدة وسيطا بينهما منعا لما ينشأ عن ذلك الخلاف من الضرر.
وتوجست بريطانيا خيفة من أن تتعرض مصر، التابعة إسمياً للدولة العثمانية، لهجوم روسي، فأظهرت معارضتها للأعمال الحربية، ولكنها كفت عن المعارضة والتزمت الحياد كباقي الدول بمجرد ما أجابها وزير خارجية روسيا أن روسيا لا تعتزم حصار خليج السويس ولن تتعرض لمنع سير السفن فيه، لأنها تعتبره مصلحة عمومية تشترك فيها تجارة جميع الأمم فيجب أن يبقى دائما سالما من التعرض، أما مصر فهي جزء من الممالك العثمانية ويقاتل جيشها إلى جانب الجيوش التركية، ومن ثَم يحق لروسيا أن تعتبرها محاربة لها، ومع ذلك فإن روسيا لن تقوم بأعمال حربية فيها مراعاة للمصالح البريطانية على وجه الخصوص.
وفي بداية الحرب حققت القوات الروسية بعض النجاح غير المتوقع، وكان ذلك بفضل الإصلاحات التي قام بها وزير الدفاع الروسي الكونت ديمتري ميلوتين، والتي تضمنت إدخال الخدمة العسكرية الإلزامية مع تخفيف سنوات الخدمة، وبناء جيش احتياطي منظم، وقبل هذا وذاك تعليم وتدريب الضباط والجنود بطريقة منهجية مستمرة.
واستطاعت القوات الروسية عبور نهر الدانوب على الجبهة البلغاربة بعد حوالي شهر من بدء الحرب، وتقدمت بسرعة في جبال البلقان، واستولت على مضيق شبكا بعد معركة دامية تكبدت فيها خسائر فادحة أمام القوة التركية المدافعة التي كان عددها 4.000 جندي، ولكن الهجوم الروسي توقف تماماً بعد ذلك في مدينة بلفنا، في بلغاريا اليوم، حين صدته وأوقفت تقدمه القوات العثمانية التي كان يقودها عثمان نوري باشا الجندي المخضرم الشجاع.
ذلك إن عثمان باشا خمن تخميناً صحيحاً أن روسيا ستتجاوز البلقان وستتقدم لاحتلال استانبول، وأن الوسيلة الوحيدة لإيقاف الهجوم الروسي هي وجود جيش عدو قوي وراءه يمنعه من التقدم، فاتجه إلى بلفنا على رأس 15000 جندي واستفاد من موقعها الاستراتيجي وطبيعتها الملأى بالتلال والوديان، وبنى فيها سلسلة من  الاستحكامات وعدة خطوط من الخنادق، واستفاد كذلك من التفوق التقني لمدفعيته الألمانية الصنع وبنادق جنوده الأمريكية، واستطاع بسهولة أن يصد القوات الروسية في أول هجوم لها عليه رغم تفوقها العددي.
وسميت هذه المعركة معركة بلفنا الأولى، وحاولت القوات الروسية أن تزحزح قوات عثمان باشا فقامت بهجوم آخر بعد عشرة أيام، سمي بالمعركةالثانية، ومنيت القوات الروسية في كلي الهجومين بالفشل الذريع وتكبدت خسائر فادحة أصبحت بسببها عاجزة عن القيام بهجوم جديد فعال، وطلب الغراندوق نيقولا قائد القوات الروسية العون من رومانيا، فأرسلت له 40.000 جندي يقودهم الأمير كارول ومزودين بمدافع ألمانية تماثل ما لدى عثمان باشا.
وكانت الحكومة التركية قد أرسلت مدداً لعثمان باشا فوصل عدد قواته إلى 40.000 جندي مقابل 80.000 جندي في الطرف الروسي الذي شن هجوماً آخر بعد 6 أسابيع من بدء القتال، سمي بالمعركة الثالثة، استطاع احتلال بعض التحصينات التي ما لبث الجيش التركي أن استعادها مكبداً الروس والرومانيين خسائر فادحة.
وإزاء هذا الفشل لم يكن لدى روسيا غير محاولة حصار الجيش التركي، فاستشارت القيادة الروسية الكولونيل الكونت فون تودليبِن الضابط المهندس الذي قاد الدفاع عن سيباستبول أيام حرب القِرِم قبل حوالي 30 سنة، فأشار بجدوى حصار بلفنا، واستمر الحصار قرابة 5 أشهر في أشهر الخريف والشتاء، ودافعت عنها حاميتها دفاع المستميت رغم قلة المؤن والذخائر، وتناقص عدد القادرين على القتال، وأثار صمودها إعجاب واحترام الروس أنفسهم.
وقام عثمان باشا بمحاولة لكسر الحصار والخروج بما تبقى من جنوده، ولكنه جرح في أثناء المحاولة فدب في جنوده الاضطراب واضطر للاستسلام في ديسمبر 1877، فقدم له اسكندر الثاني سيفه قائلاً له: لا يحزنك أيها الباشا أنك اضطررت للتسليم فإنك لم تسلم جبنا ولا تقصيرا، بل دافعت عن وطنك أشد الدفاع، وانتهيت في الشجاعة والثبات إلى الغاية التي لا وراءها، وإنني لا أنظر إليك كما أنظر إلى الأسير، وإنما أنظر إلى بسالتك بعين الاحترام والتوقير، وأراني ذا حظ بالتقائي بشجاع مثلك في حومة الوغى، وها أنا ذا أعيد إليك سيفك، وأبيح لك أن تتقلده في بلادي إقرارًا بشجاعتك واعترافًا بجدارتك.
ونقف قليلاً لنتحدث عن عثمان باشا، البطل القومي التركي، المولود في توقاد سنة 1248=1832، والذي دخل الجيش العثماني في الحادية والعشرين وشارك في حرب القرم وحملات لبنان وكريت واليمن، وكان قائد الفرقة الأولى التي شاركت في قمع التمرد في بلاد الصرب فنجح في ذلك نجاحاً ألجأهم إلى طلب الصلح، فأنعم عليه السلطان سنة 1876 برتبة مشير، وبعد صموده في حصار بلفنا أنعم عليه السلطان عبد الحميد برتبة الغازي وجعله مستشاره العسكري، وزوج اثنتين من بناته لابني عثمان باشا؛ نور الدين وكمال الدين، وتولى عثمان باشا وزارة الحربية 4 مرات قبل أن يدركه الأجل في سنة 1317=1900، ويدفن وفقاً لوصيته في ضريح بالقرب من السلطان محمد الفاتح، وقد خلدت موسيقى الجيش العثماني هذه الموقعة بمارش شهير يحمل اسم بلفنا مارش، وأطلق اسم هذا المجاهد الباسل، غازي عثمان باشا، على حي كبير من أحياء استانبول.
خلّد أمير الشعراء أحمد شوقى هذه البطل عند وفاته بمرثية أشار فيها لهذه المواقع وتناول الأحداث والأزمات التي تلتها:
هالةٌ للهلال فيها اعتصامُ ... كيف حامت حيالها الأيامُ؟
فبرغم المشير أن يتولى ... والخطوب المروِّعات جِسام
ويدُ الملك تستجيرُ يديه ... والسرايا تدعوه والأعلام
وبنوه يرجونه، وهم الجُندُ ... وهم قادة الجنود العظام
مثَّلتهم صفاته للبرايا ... رُبِّ فرد سادت به أقوام
بطلَ الشرقِ، قد بَكتْك المعالي ... ورثـاك الوَلِيُّ والأَخصام
خذل المُلكَ زَندّه يوم أوديت ... وأهوى من راحيته الحسام
علّمُ العصر والممالك ولّى ... وقليل أمثاله الأعلام
سل بلفنا أكنت تُدرك فيها ... ولو أنّ المحاصِريـن الأنــام
كما جــرّدَ المحاصـرُ سـيـفـاً ... قطع السيفَ رأْيُكَ الصّمصام
وإذا كانــت الـعــقــولُ كِبــاراً ... سلِمت في المضايق الأجسام
 
تَخرقـون الجيـوشَ جيشاً فجيشـاً ... مِثلَمــا يَخــرقُ الخَـواءَ الغَمام
والمنايا مُحيطة ٌ، وحصونُ الرُّوسِ ... تـحمــي الطـريـقَ والألغام
جُرِحَ الليثُ يــومَ ذاكَ، فخان ... الجيـشَ قلـبٌ، وزُلزِلَتْ أَقدام
ما دفَعْتَ الحُسـامَ عجــزاً، ولـكن ... عَجّــَزتَ ضَيْغَمَ الحـروبِ الكِلام
فأعادوه خيـرَ شيءٍ أعـادوا ...  وكذا يعرفُ الكرامَ الكرام
سل كريداً وأين منا كريدٌ ... سلبتنا كليكما الأيام
ما لها عودة ولا لك رد ... نمت عنها ومن تركت نيام
إنما المُلكُ صارم ويراع ... فإذا فارقاه ساد الطَّغام
ونظام الأمور عقل وعدل ... فإذا ولَّيا تولى النظام
وعجيبٌ خُلقت للحرب ليثا ... وسجاياك كلهن سلام
فهي في رأيك القويم حلالٌ ... وهي في قلبك الرحيم حرام
لك سيف إلى اليتامى بغيض ... وحنان يحبه الأيتام
مستبدٌ على قوي، حليمٌ ... عن ضعيف، وهكذا الإسلام
 
وحيث ذكرنا عثمان باشا فلا بأس أن نذكر بطلاً عثمانيا آخر من أبطال هذه الحرب هو المارشال محمد علي باشا، المولود سنة 1827 في ألمانيا تحت اسم لُدوفيغ ديترويت، والذي هاجر إلى تركيا وهو في السادسة عشر واعتنق الإسلام، فأرسله عالي باشا للكلية العسكرية حيث تخرج ضابطاً  سنة 1853، وقاتل روسيا في حرب القرم، ولما جرت هذه الحرب كان قائد الجيش التركي في بلغاريا، واستطاع في البداية تحقيق عدة انتصارات قبل أن يضطر للتراجع أمام القوات التي تفوقه في العدد والعدة، ثم اختاره السلطان ليكون ضمن الوفد التركي إلى مباحثات برلين التي أعقبت الحرب، ولقي مصرعه في كوسوفو على يد الوطنيين الألبان سنة 1295=1878.
ولم تكن الحرب فقط في البلقان بل نشبت المعارك في شرقي شمال تركيا في المناطق الواقعة اليوم في أرمينيا وجورجيا، وقاد الغازي أحمد مختار باشا الجيوش التركية وحقق انتصارات مبدئية على الروس، منحه بسببها السلطان لقب الغازي، قبل أن يتقهقر بسبب ضعف الإمدادات وقلة الذخائر، فاستولت قوات الجنرال مليكوف على مدينتي باطومي وقارص في تلك المناطق وحاصرت أرضروم.
وبعد سقوط بلفنا أعلنت صربيا الحرب على الدولة العثمانية وانضمت إلى روسيا التي حاولت المضي في مخططها للاستيلاء على كل الأراضي التركية الواقعة في أوربا، ورغم الشتاء والثلوج احتلت قوات الجنرال الروسي القدير يوسيف جوركو صوفيا ثم أدرنة وصارت على أبواب استانبول، فاضطرت الدولة العثمانية بعد 3 أشهر من سقوط بلفنا إلى عقد معاهدة تنهي الحرب وتحافظ على بقاء الدولة.
وجرت مفاوضات بين المنتصر والمهزوم في ضاحية سان ستيفانو غربي استانبول، وتدعى اليوم يشيل كوي ويقع عليها المطار الدولي، ومثَّل الدولة العثمانية فيها وزير الخارجية صفوت باشا و سعد الله بك سفيرها لدى ألمانيا، وقادها من الجانب الروسي الكونت نيقولاي إغناتييف سفير روسيا السابق لدى استانبول، والذي كان شديد التعصب للرابطة السلافية، يعمل على تحرير السلافيين المسيحيين من الحكم االعثماني المسلم، وكان له من قبل الدور الأكبر في تحريض الصرب والبلغار على التمرد والعصيان على الدولة العثمانية، وكان في ذات الوقت يظهر للسلطان عبد العزيز أنه أخلص أصدقائه وأصدق ناصحيه، ويرشي من حوله من رجال البلاط بالمال والهدايا.
وانجلت المفاوضات عن إذعان الأتراك وتوقيعهم معاهدة سان ستيفانو في 28 صفر 1295= 3 مارس 1878، والتي قضت فقراتها بتقسيم المقاطعات العثمانية في أوروبا، وإنشاء مملكة بلغاريا الكبرى تضم أغلب مقدونيا وتنتهي حدودها عند نهر الدانوب وتمتد من بحر إيجة إلى البحر الأسود، واعترفت الدولة العثمانية في المعاهدة باستقلال الدول الثلاث: صربيا والجبل الأسود ورومانيا، وجعلت البوسنة والهرسك ولاية ذات حكم ذاتي، وجرى تعديل حدود صربيا والجبل الأسود لتبقى متصلة، وأجبرت رومانيا على التنازل لروسيا عن جنوب بيسارابيا وأعطتها عوضا عنها دُبرودجا التي اقتطعت من تركيا، وتنازلت تركيا في المعاهدة عن قارص وباطوم في جنوبي القوقاز، وضمن السلطان أمن وسلامة رعاياه من المسيحيين، كما تعهد بدفع تعويضات.
ورغم وجود تجمع ضم ألمانيا والنمسا وروسيا تحت اسم رابطة القياصرة الثلاث، قام في سنة 1290=1873 بمساعي الدبلوماسي الألماني المخضرم بسمارك ليسود السلام في أوروبا، إلا أن التجمع انهار بسبب الحرب التي شنتها روسيا وبوادر تفتت الدولة العثمانية من جرائها، ذلك إن الدول الأوربية توجست خيفة من هذه المعاهدة التي ستمكن روسيا من تحقيق طموحها في أن تصبح دولة أوربية عظمى ذات نفوذ وقوة لا تخضد شوكتها.
فقد كانت المعاهدة ستضعف إمبراطورية النمسا والمجر لما ستؤدي إليه من تشجيع النزعة الوطنية لدى العرق السلافي في مناطق نفوذها في البلقان، حيث ستملأ روسيا الفراغ الذي ستخلفه الدولة العثمانية في البلقان، وسيمتد نفوذها لليونان ورومانيا بحكم اتباعهما للمذهب الأرثوذكسي.
أما بريطانيا فكانت تخشي أن ينفتح الطريق أمام روسيا للنفوذ من البحر الأسود إلى البحر المتوسط وتهديد طريق الهند البحري، وبخاصة لكون روسيا قد أعلنت أنها لا تعترف بمعاهدة باريس لسنة 1856 التي كانت تحظر عليها أن تنشأ أسطولاً حربياً في البحر الأسود، وكانت بريطانيا تعتقد أن الدولة البلغارية الوليدة ستكون دولة تابعة لروسيا تهدد منها استانبول وتجعلها تلين لطلباتها.
وكان بسمارك في ألمانيا يخشى أنه في حالة انهيار إمبراطورية النمسا والمجر الذي ظهرت مؤشراته، فإن روسيا ستتمكن من التوسع في وسط أوروبا، وستحدث كارثة أخرى حين يهرب ملايين من الكاثوليك الألمان والنمساويين من بلادهم لاجئين إلى ألمانيا، وحتى صربيا حليفة روسيا ساورها القلق لقيام دولة بلغاريا العظمى التي شملت كثيراً من الأراضي ذات الأغلبية السلافية.
وكان الرأي العام البريطاني يعادي الدولة العثمانية في بداية التمرد في البلقان، ولكنه ما لبث أن تحول عندما أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، فقد كان العداء لروسيا والخوف منها أقوى من كل اعتبار، وظن بعض الساسة البريطانيين أن روسيا لن تغير موقفها إلا بالحرب، ولكن دزرائيلي رئيس الوزراء البريطاني من حزب المحافظين، قدَّر مصيباً أن التلويح بالقوة سيكون كافياً، فأرسلت بريطانيا أسطولها إلى مضائق الدردنيل، واستدعت جنودها الاحتياطيين وحركت جزءاً من جيش الهند إلى البحر المتوسط.
ودعا وزير خارجية النمسا الكونت أندراسي لعقد مؤتمر في برلين، وانعقد المؤتمر في سنة 1295=1878 برئاسة المستشار الألماني بسمارك، ودام قرابة شهر، وشارك فيه دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا، ووزير خارجية النمسا والمجر، والكساندر جورتشاكوف وزير خارجية روسيا، وألكساندر قرا ثيودري باشا وزير الأشغال العامة التركية، وكان بسمارك قد وضع نصب عينيه تجنب استمرار الحروب في أوربا، فلعب دور الوسيط الشريف، وهكذا تمخض المؤتمر في منتصف سنة 1295=1878 عن معاهدة برلين التي خسرت فيها روسيا كثيراً مما كسبته في معاهدة سان ستيفانو، ولم يكن ذلك حباً في الدولة العثمانية بقدر ما كان حفاظاً على مصالح الدول، فقد تضمنت المعاهدة إنقاص الأراضي التي مُنحت لبلغاريا، وإنشاء إمارة مستقلة في جنوبها تحت مسمى روم إيلي الشرقية يحكمها وال مسيحي، وحقق هذا مصالح بريطانيا في حرمان بلغاريا من شواطئ على بحر إيجة والبحر الأبيض، أما الإمبراطورية النمساوية فقد حققت مصالحها في زيادة نفوذها في البلقان حين تضمنت المعاهدة إعادة احتلالها للبوسنة والهرسك، وهكذا تقلصت رقعة الدولة العثمانية في أوروبا لتقتصر على مقدونيا وألبانيا وتراقيا.
ومكافأة لجهود الحكومة البريطانية في مواجهة الروس والتخفيف من الخسارة التي منيت بها الدولة العثمانية، أبرمت تركيا وبريطانيا في سنة 1296=1878 اتفاقاً منفصلاً يقضي أن تدفع بريطانيا عن تركيا أي اعتداء روسي مقابل جعل جزيرة قبرص في البحر المتوسط تحت الإدارة البريطانية، مع بقائها تابعة للدولة العثمانية، وأداء مبلغ يماثل الجزية التي كانت تحملها للخزينة العثمانية، فأصبح لبريطانيا قاعدة بحرية قوية قريبة تحمي بها طريق الهند المار بالمتوسط ثم قناة السويس، التي كانت بريطانيا من قريب قد اشترت الأسهم التي تملكها مصر في القناة من الخديوي إسماعيل.
واعتبر الرأي العام الروسي معاهدة برلين ومهندسها الأكبر بسمارك مصدر إذلال كبير لروسيا التي بذلت في هذه الحرب تضحيات ليس لها مثيل في تاريخها، كما تجاهلت المعاهدة تطلعات الصرب للاستقلال والوحدة السلافية، واعتبر الصرب أن تضحياتهم ذهبت هباء منثورا، وأن حلفاءهم الروس لم يراعوا مصالحهم في المفاوضات، وبسببٍ مما سبق فإن المعاهدة كانت تؤسس لمزيد من الأزمات الأوربية التي ستكون منطقة البلقان محورها، والتي ستبلغ ذروتها في حروب البلقان سنتي 1912-1913، ثم في اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
وشارك في هذه الحرب الروسية التركية الأمير ألكساندر ولي عهد روسيا، والذي سيصبح القيصر بعد اغتيال والده في سنة 1881 وسيدوم حكمه حتى وفاته سنة 1894، وكان يتطلع لروسيا ذات عرق واحد ولغة واحدة وديانة واحد تديرها حكومة مركزية قوية واحدة، ولذا اتسم حكمه بمحاولة أن يصهر في بوتقة روسيا كل الأعراق والأديان واللغات في المناطق التي يحكمها القيصر، فلقي الألمان والبولنديون والسويديون واليهود والمسلمون في عهده الاضطهاد وأغلقت معاهدهم ومؤسساتهم.
وينبغي أن نشير أن داغستان المسلمة التي كانت ثورتها على روسيا قد انتهت باستسلام الإمام شامل في سنة 1276= 1859، انتهزت فرصة الحرب الروسية التركية، فانتفضت من جديد، ولكن سرعان ما تفرغت الحكومة الروسية لإخماد الانتفاضة بعد انتهاء حربها مع العثمانيين، فاستطاعت أن تقضي عليها بسرعة، وعرضت على أهل داغستان الطاعة التامة مع الإخلاص، أو الجلاء عن البلاد والخروج منها إلى حيث يريدون، ففضل كثير منهم الهجرة إلى تركيا وهاجر بعضهم إلى سورية والأردن والعراق.
كانت هذه الحرب أول تحدي يواجهه السلطان عبد الحميد بعد 6 أشهر من توليه السلطنة في 10 شعبان سنة 1293= 31 آب/أغسطس 1876، وكان قد أصدر الدستور العثماني في آخر سنة 1293=1876 وعين البرلمان في صورة مجلس المبعوثان الذي اجتمع قبل الحرب بشهر، وأدرك السلطان عبد الحميد بعد نتائج هذه الحرب الكارثية، أن أية مساعدة تقدمها له الدول الأوربية على الصعيد الداخلي أو الخارجي مهما كانت قليلة سيكون ثمنها أن تتدخل هذه الدول في شؤون الرجل المريض، كما كانت أوربا تسمي الدولة العثمانية، وأنه لمواجهة التحديات لا بد له من أن تكون يده مطلقة في الحكم، لا يقيدها أو يعيقها برلمان فأقدم على حل البرلمان، ثم علق الدستور قبل توقيع معاهدة سان ستيفانو، وأمضى 40 سنة يحكم البلاد حكماً مطلقاً اعتمد فيه على مجموعة من الأعوان المخلصين الذين استأمنهم لتنفيذ مشاريعه التي كانت ذات هدفين أساسين: النهوض بالدولة العثمانية من خلال تحديث وتنمية التعليم والصناعة والتجارة، وتوطيد الوحدة بين عناصر الدولة العثمانية تحت شعار الرابطة الإسلامية.
وتحققت نظرة السلطان عبد الحميد عندما استغلت فرنسا وبريطانيا ضعف الدولة العثمانية بعد هذه الحرب، فقامت فرنسا باحتلال تونس في سنة 1298=1181، وتلتها بريطانيا التي أصبح جلادستون رئيس وزرائها، فقصفت سفنها الإسكندرية واحتلت مصر سنة 1299=1882، بحجة تأييد الخديوي توفيق إزاء تمرد عرابي باشا، فاتجه عبد الحميد للاعتماد على ألمانيا للمساعدة التقنية، وزاد في دعوته للرابطة الإسلامية، وهي الفكرة التي شكلت تهديداً خطيراً للدول الأوربية الاستعمارية في مستعمراتها المسلمة، فإن كان السلطان هو الخليفة المسلم الواجبة طاعته شرعاً على كل المسلمين، فإن على مسلمي الهند والجزائر وتونس وغيرها من البلدان المسلمة المحتلة أن يدينوا له بالولاء والطاعة، كما هو كذلك واجب سلاطين هذه البلاد الذين أقامهم المحتل.
 وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer