الجمعة، 23 يناير 2015

حدث في الثالث من ربيع الآخر

في الثالث من ربيع الآخر من عام 6 وقعت غزوة ذي قَرَد، ويقال لها كذلك غزوة الغابة، وذلك على إثر غارة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بها زعيم غطفان عُيينة بن حِصن الفَزاري، وقامت بها مجموعة من فرسان غطفان يقودهم ابنه عبد الرحمن، وأحبط الغارة الصحابي الشجاع سَلَمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي حين تصدى للمغيرين بمفرده، ثم لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم لكسر شوكة كل من تفكر نفسه في العدوان على المدينة.
وكانت إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين، وتسمى اللقاح لأنها حوامل ذات ألبان، وكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلة عند المغرب، وكانت ترعى في مكان يدعى البيضاء على طريق خيبر، فأجدب فقربوها إلى الغابة، تصيب من أثلها وطرفائها وتغدو في الشجر، والغابة موضع شمالي المدينة فيه شجر كثير كما هو واضح من اسمه.
وابتدأت الغارة كعادة العرب في أن تقوم مجموعة من الخيالة فتهجم على حين غرة ليلاً أو فجراً على مرعى الإبل وتقتل رعاتها أو ينهزموا وتستاق الإبل إلى مضاربها دون كثير قتال، وفي هذه الحالة كانت الإبل يرعاها رجل من غفار وامرأة له، ويقال هو أبو ذر أو ابنه، فقتل المغيرون، وكانوا 40 رجلاً، الرجل واحتملوا المرأة مع الإبل.
وكاد الأمر أن يتم كما خطط له عيينة بن حصن، لولا أن الله قيض سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي، وكان من شباب الصحابة الأبطال، رامياً لا يخطئ الهدف، عدَّاء لا يدركه أحد، وكان قد خرج في الغلس إلى الغابة، متوشحاً قوسه ونبله، ومعه رباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم وفرس لطلحة بن عبيد الله يقوده يريد أن يتركه يرعى مع الإبل، حتى إذا علا سلمة ثنية الوداع نظر إلى بعض خيول المغيرين وأدرك ما يجري، فقال للغلام: يا رباح، اقعد على هذا فألْحقهُ بطلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أُغير على سَرْحه. ثم صعد سلمة على سلع وصرخ بأعلى صوته: واصباحاه! وهي كلمة تعني الخطر الداهم والنفير القائم اللازم.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن سلمة بن الأكوع قصة ما حدث بعدها، ونوردها هنا ببعض الزيادات والتصرف من كتب الحديث الأخرى، قال سلمة: ثم اتَّبعت القوم معي سيفي ونبلي، فجعلت أرميهم وأعقِر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إليّ فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت، فلا يُقبل إليّ فارس إلا عقرت به، فجعلت أرميهم وأنا أقول:
أنا ابن الأكوعِ ... واليومُ يومُ الرُّضَّع
قال: فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة، فيقع سهمي في الرجل حتى أنتظم كتفه، فقلت:                                       
خذها وأنا ابن الأكوعِ ... واليوم يوم الرُّضَّعِ
فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا عَلَوت الجبل فردَّيتهم بالحجارة.
ومعنى ما ارتجزه سلمة: خُذ الرَّمْية مني واليومُ يومُ هَلاَك اللِّئَامِ، والرُّضع هنا جمع راضع بمعنى لئيم.
نعود إلى قول سلمة: فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم، وأرتجز حتى ما خلق الله شيئاً من ظَهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلَّفته وراء ظهري، فاستنقذته من أيديهم، ثم لم أزل أرميهم حتى ألقَوا أكثر من ثلاثين رمحاً وأكثر من ثلاثين بُرْدة يَستخِفُّون منها، ولا يُلْقون من ذلك شيئاً إلا جعلت عليه حجارة، وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا امتدّ الضحى أتاهم عُيَينة بن حصن الفَزاري مَدداً لهم وهم في ثنيَّة ضيِّقة، ثم علَوت الجبل فأنا فوقهم، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البَرح! ما فارقنا بسَحَر حتى الآن، وأخذ كلَّ شيء بأيدينا وجعله وراء ظهره. فقال عيينة: لولا أنَّ هذا يرى أن وراءه طلباً لقد ترككم! ليَقُم إِليه نفر منكم، فقام نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفونني؟ قالوا: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرّم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني. فقال رجل منهم: إنّ أظنّ. تصديقاً للقول.
ونترك حديث سلمة ونقول: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة الفزع الفزع، ونودي: يا خيل الله اركبي، ولم تكن تقال قبلها، فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول من انتهى إليه الفرسان المقداد بن عمرو الكندي الحضرمي، ويقال له كذلك: المقداد بن الأسود، وكان أحد أول سبعة أظهروا الإسلام، وتلاه ستة من فرسان الأنصار، فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليهم سعد بن زيد، وقال له: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس.
وكان ممن لبى نداء الرسول صلى الله عليه وسلم أبو عياش عبيد بن زيد بن صامت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا عياش، لو أعطيتَ هذا الفرس رجلا هو أفرس منك، فلحق بالقوم. قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله أنا أفرس الناس! ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني. وكان أبو عياش يقول: عجبا لي!؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أعطيتَ فرسك هذا من هو أفرس منك. وأقول: أنا أفرس الناس. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس أبي عياش معاذ أو عائذ بن ماعص.
وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حشد جيش إزاء هجمة يقوم بها بعض لصوص الإبل، إدراكاً منه أن القضية ليست أمراً يتعلق بالإبل، بل كانت هيبة الدولة الناشئة في المدينة على المحك، فكان لزاماً عليه أن يردع كل من يستهين بالمسلمين أو يطمع في الغدر بهم أو سرقة أموالهم، وليبسط سلطانه على المناطق المحيطة بالمدينة المنورة.
واكتسب هذا القرار أهمية أكثر لكون الغارة من تدبير عيينة بن حصن زعيم غَطَفان، القبيلة القيسية العربية الكبيرة، وكانت أراضيها تجاور المدينة المنورة من الشرق والغرب، وكان معروفاً بالغلظة والشدة، وكان عيينة يُعدُّ في الجاهلية من الجرّارين، يقود عشر آلاف، وهو أحد من تحالفوا مع قريش لغزو المدينة يوم الأحزاب، وكانت بلاده قد أجدبت فسار في نحو مئة بيت من آله حتى أشرف على بطن نخل، فهاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فورد المدينة ولم يسلم ولم يبعد، وقال: أريد أدنو من جوارك فوادِعْني، فوادعه النبي ثلاثة أشهر، فلما فرغت انصرف عيينة إلى بلادهم فأغار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة، فقال له الحارث بن عوف: عاهدتَ محمداً في بلاده ثم غزوته!
وسيعلن عيينة إسلامه  بعد فتح مكة في سنة 8، واعتبره الرسول بعدها في المؤلفة قلوبهم، ونعته بالأحمق المطاع في قومه، وارتد عيينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولحق بطليحة بن خويلد الأسدي، فأسره خالد بن الوليد رضي الله عنه وأخذ مقيداً للمدينة، يضربه صبيانها،  ولما كلمه أبو بكر رضي الله عنه رجع إلى الإسلام، فقبل منه أبو بكر ذلك وعفا عنه وكتب له أماناً. وتزوج ابنته عثمان رضي الله عنه.
وخرج الفرسان في طلب القوم، فكان أول من لحق بالقوم مُحرِز بن نَضلة الأسدي، ويقال له الأخرم كذلك، وكان على فرس لمحمود بن مسلمة، وذلك أن الفرس كان مربوطاً بجذع نخل في بستان، فلما سمع صاهلة الخيل بدأ يجول في حبله يريد اللحاق بهم، وكان فرساً صنيعاً جامَّاً، أي لم يُركب فهو مرتاح، فقال نساء من نساء بني عبد الأشهل حين رأين صنيع الفرس: هل لك في أن تركب هذا الفرس؟ فإنه كما ترى ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين؟ قال: نعم، فأعطينه إياه، فخرج عليه فلم يلبث أن بذَّ الخيل بجَمامه حتى أدرك القوم فوقف لهم بين أيديهم ثم قال: قفوا يا معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والأنصار. فحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس فلم يقدر الرجل عليه وعاد إلى مربطه. وكان محرز قد رأى في منامه كأن السماء انفرجت له، فدخلها حتى بلغ سدرة المنتهى فقيل له هذا منزلك، فقص رؤياه على أبي بكر، وكان من أعبر الناس للرؤيا، فقال: أبشر بالشهادة. فقتل بعد ذلك بيوم، وكان يوم استشهد ابن 37 سنة.
وجاء بعد محرز أبو قَتَادة الحارثُ بن رِبعي، المتوفى سنة 54 وقد ناهز 70 سنة، أدرك حبيب ابن عيينة بن حصن فقتله، وغشَّاه بُرده ثم تابع جريه وراء القوم، وقتل قاتل محرز بن نضلة. قال سلمة: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلّلون الشجر، وإِذ أولهم الأخرم الأسديّ، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أثره المقداد بن الأسود الكِندي، فولّى المشركون مدبرين، وأنزِل من الجبل فآخذ عِنان فرسه، فقلت: يا أخرم إئذن القوم، يعني احذرهم، فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أنَّ الجنة حق والنار حق فلا تَحُل بيني وبين الشهادة. فخلّيت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين، فعقر الأخرم بعبد الرحمن، وطعنه عبد الرحمن فقتله؛ فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعَقَر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم.
نعود إلى حديث سلمة بن الأكوع: ثم إنِّي خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شِعْب فيه ماء يقال له ذو قَرَد، فأرادوا أن يشربوا منه، فأبصروني أعدو وراءهم فعطفوا عنه، وأسندوا في الثنيّة ثنيّة ذي بئر، وغربت الشمس وألحق رجلاً فأرميه فقلت:
خذها وأنا ابن الأكوعِ ... واليوم يوم الرُّضَّعِ
فقال: يا ثُكَلْ أمِّ؛ أأكوعُ بُكرة؟ يعني أنت الأكْوع الذي قد تَبِعنا بُكْرة اليوم. فقلت: نعم، أي عدوَّ نفسه! وكان الذي رميته بُكرة، فأتبعته سهماً آخر، فعلق به سهمان، ويخلِّفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه عند ذي قَرَد .
وجاء عُكاشة بن مِحصن  فوجد اثنين من المغيرين على بعير واحد رديفين فشكهما برمحه فقتلهما معاً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منا خير فارس في العرب. قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عكاشة بن محصن. فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذلك رجل منا يا رسول الله. قال: ليس منكم، ولكنه منا للحِلف. وعكاشة هو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمعه يقول: يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي على صورة القمر ليلة البدر. فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. قال: اللهم اجعله منهم. فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وأقام سعد بن عبادة في ثلاثمئة من قومه يحرسون المدينة، وسار مع الجيش باتجاه ذي قَرَد، وفي الطريق وجد الناس القتيل الذي سجَّاه ببرده أبو قتادة، فقال رجل من الصحابة: يا رسول الله، قد استشهد أبو قتادة، قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا قتادة، والذي أكرمني بما أكرمني به؛ إن أبا قتادة على آثار القوم يرتجز. فأدخل الشيطان الشك في قلوب بعض الصحابة أن الرسول يقول هو حي يطارد القوم، وهم ينظرون الى فرسه قد عُرقبت، وينظرون إليه مسجى عليه ثيابه، فخرج عمر بن الخطاب وأبو بكر رضي الله عنهما يسعيان حتى كشف الثوب، فقالا: الله أكبر، صدق الله ورسوله! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده لتعرفوا أنه صاحبه.
ولم يلبث أن طلع عليهم أبو قتادة يحوش اللقاح، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم بارك في شعره وبَشَرَه، وقال لأبي قتادة: أفلح وجهك. قال: ووجهك يا رسول الله. قال: فما الذي بوجهك؟ قال: سهم رميت به أصابني يا رسول الله، قال: ادن مني يا أبا قتادة، قال أبو قتادة: فدنوت منه، فنزع النصل نزعا رفيقا، ثم بزق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع راحته عليه، فو الذي أكرم محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوة ما ضرب علي ساعة قط، ولا قرح قط علي. وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة: من اتخذ شعراً فليحسن إليه أو ليحلقه، وقال له: أكرم جمَّتك وأحسن إليها. فكان يرجّلها غبّاً.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء يقال له بيسان، فسأل عنه، فقيل: اسمه يا رسول الله بيسان، وهو مالح. فقال: بل هو نعمان، وهو طيب. فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وغير الله الماء، واشتراه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، ثم تصدق به، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ما أنت يا طلحة إلا فياض! فسُمىَّ بذلك الفياض، وكان هو الذي ينحر للجيش لكل مئة جَزور كل يوم، فأطعمهم وسقاهم.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد، على مسافة 35 كيلاً شمال شرقي المدينة، وتلاحق به الناس، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به وأقام عليه يوماً وليلة، يتحسس خبر المغيرين لئلا يجمعوا قواتهم ويكروا في هجوم آخر على المدينة، وصلى رسول الله بأصحابه صلاة الخوف، ولعلها أول مرة يصليها، فصف الناس خلفه صفين: صف خلفه، وصف موازي العدو، فصلى بالصف الذي يليه ركعة، ثم نهض هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة.
نعود إلى رواية سلمة رضي الله عنه: وإذا بنبي الله صلى الله عليه وسلم في خمس مئة، وإِذا بلال قد نحر جزوراً ممَّا خلَّفت فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش وليس لهم ماء دون أحساء كذا وكذا؛ خلِّني فأنتخبُ من أصحابك مائة، فآخذ على الكفار بالعَشوة فلا يبقى منهم مُخْبر إلا قتلته. فقال: أكنت فاعلاً ذلك يا سلَمة؟ قال: قلت: نعم، والذي أكرمك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار، ثم قال: يا ابن الأكوع؛ ملكتَ فاسجِح، إنهم يُقْرَون الآن بأرض غطفان. أي يضيّفون. فجاء رجل من غطفان فقال: مرّوا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزوراً، فلما أخذوا يكشِطون جلدها رأوا غَبَرة، فتركوها وخرجوا هراباً.
فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجَّالتِنا سلمة. فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْمَ الفارس والراجل جميعاً، ثم أردفني وراءه على العَضْباء راجعين إلى المدينة.
فلما كان بيننا وبينها قريبٌ من ضحوة، وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يُسبق، جعل ينادي: هل من مسبق؟ ألا رجل يسابق إِلى المدينة؟ فأعاد ذلك مراراً وأنا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْدِفي على ناقته العضباء، فقلت له: أما تُكرم كريماً، ولا تهاب شريفاً؟ قال: لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمِّي خلّني فلأسبق الرجل. قال: إن شئت. قلت: اذهب إِليك. فطفر عن راحلته، وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إنِّي ربطت عليه شَرَفاً أو شَرَفين، يعني استبقيت من نَفَسي، ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصكَّ بين كتفيه بيدي، قلت: سبقتك والله! قال: فضحك وقال: إِن أظنُّ.
وغاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة 5 ليال، أرسل إليه في أثنائها سعد بن عبادة بأحمال تمر وبعشرة جمال للذبح، أرسلها مع ابنه قيس بن سعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، بعثك أبوك فارسا، وقوَّى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو، اللهم ارحم سعدا وآل سعد! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم المرء سعد بن عبادة. فتكلمت الخزرج فقالت: يا رسول الله هو بيتنا وسيدنا وابن سيدنا، كانوا يطعمون في المحْل، ويحملون الكَّل، ويُقرُون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيار الناس في الإسلام؛ خيارهم في الجاهلية، إذا فقهوا في الدين.
وقتل في هذه الغزوة مسلماً هشام بن صبابة الليثي، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى قدم المدينة، ولم يشتبك جيشه في قتال، ولكن كل من حول المدينة علم أن حمى الرسول والمسلمين لا تضام، وأن عواقب عدوانه ستكون سريعة ووخيمة.
ولما وصل الرسول مكاناً يقال له ظريب التأويل، قالت بنو حارثة من الانصار: يا رسول الله! ها هنا مسارح إبلنا ومرعى غنمنا ومخرج نسائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قطع شجرة فليغرس مكانها ودية. أي فسيلة. فغرست الغابة.
أما امرأة الغفاري فأفلتت من القوم وعادت إلى المدينة على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم على الرسول أخبرته الخبر فلما فرغت قالت: يا رسول الله إني قد نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بئس ما جزيتها، أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله.
وقال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد:
أظنَّ عيينةُ إذ زارها ... بأن سوف يهدم فيها قصورا
فأُكذِبتَ ما كنت صدَّقتَه ... وقلتم سنغنم أمراً كبيرا
فعِفت المدينة إذ زرتها ... وآنست للأُسد فيها زئيرا
فولوا سراعاً كَشَدِّ النعام ... ولم يكشفوا عن مُلِطٍّ حصيرا
أميرٌ علينا رسولُ المليك ... أحبب بذاك إلينا أميرا
رسولٌ نصدَّق ما جاءه ... ويتلو كتاباً مضيئاً منيراً
وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد للفوارس:
أتحسب أولادُ اللقيطة أننا ... على الخيل لسنا مثلهم في الفوارس
وإنا أناس لا نرى القتل سُبّة ... ولا ننثني عند الرماح المداعس
وإنا لنَقري الضيف من قَمَعِ الذّرا ... ونضرب رأس الأبلخ المتشاوس
نرد كُماة الـمُعلَمين إذا انتخوا ... بضرب يسلي نخوة المتقاعس
بكل فتى حامي الحقيقة ماجد ... كريم كسرحان الغَضاة مُخالس
يذودون عن أحسابهم وتلادهم ... ببيض تقد الهام تحت القوانس
فسائل بني بدر إذا ما لقيتَهم ... بما فعل الإخوان يوم التمارس
إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم ... ولا تكتموا أخباركم في المجالس
وقولوا زَلِلنا عن مخالب خادر ... به وَحَرٌ في الصدر ما لم يمارس
توفي سلمة بن الأكوع رحمه الله في المدينة سنة 74، بعد حياة حافلة بالجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلاث مرات؛ فى أول الناس ووسطهم وآخرهم، وغزا مع الرسول 7 غزوات، وأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك المدينة وسكنى البادية، فلما قُتل عثمان خرج من المدينة معتزلاً، فسكن الربذة وتزوج هناك وولد له، فلم يزل بها حتى كان قبل وفاته بليال عاد إلى المدينة فتوفى بها بعد أن كُفَّ بصره، وكان قد ناهز 90 سنة، قال سلمة بن الأكوع: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا، ومسح على وجهي مرارا، واستغفر لي مرارا عدد ما في يدي من الأصابع.
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer