الجمعة، 31 مايو 2013

حدث في العشرين من رجب


في العشرين من رجب من عام 101 توفي، عن 38 عاماً، الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، في دير سمعان قرب المعرة في سورية، بعد خلافة دامت ثلاثين شهراً، وعادت بالناس بعدلها وبساطتها  إلى أيام الإسلام الأولى وعهد الخلافة الراشدة، بعد أن اختفت معالمها تحت ركام كثيف من الإقبال على الدنيا وملذاتها، والإعراض عن العدل والإنصاف، ولذا عدَّه كثير من العلماء والمؤرخين يمثابة خامس الخلفاء الراشدين. قال سفيان الثوري رحمه الله: أئمة العدل خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز. وسيرة عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة وبعدها فيها جوانب كثيرة من الخير والعبرة، تضيق مقالة مثل هذه عن إيراد جملة منها بَلْهَ كلها، وقد ألفت الكتب والفصول الطوال في عدله وزهده وإدارته رحمه الله تعالى.

ولد عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة سنة 63، وكان جده مروان بن الحكم قد عين والده عبد العزيز، ويلقب أبا الأصبغ، وهو أكبر أولاده، والياً على مصرسنة 65، وبقي والياً عليها حتى وفاته سنة 85، وكان يقظا عارفا بسياسة البلاد، شجاعا جوادا، تنصب حول داره كل يوم ألف قصعة للآكلين، وتحمل مئة قصعة على العجل إلى قبائل مصر. وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وقصة تزويج عمر لها لابنه عاصم  بسبب خشيتها الله عزوجل مشهورة معروفة.

وقد ذكر الأستاذ الزركلي في الأعلام أن ولادة عمر بن عبد العزيز كانت في المدينة، ثم أشار أن هناك خلافاً في مكان ولادته ، فمن المؤرخين من يقول إنه ولد بالمدينة، ومنهم، مثل ابن خلكان، من يقول إنه ولد بحلوان. ويبدو أن الصواب مع ما اختاره الزركلي، إذ لم يخرج والده إلى حلوان إلا بعد ولادته بسنوات، ويذكر الكندي في كتابه ولاة مصر: ووقع الطاعون بمصر في سنة 70، فخرج عبد العزيز منها إلى الشرقية متبدياً، فنزل حلوان فأعجبته، فاتخذها وسكنها، وبنى بحلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن عمارة وأحكمها، وغرس كرمها ونخلها.

ولا خلاف في أنه نشأ بالمدينة وأخذ عن كبار علمائها، إذ أرسله والده إلى المدينة يتأدب بها، وأوكل أمر تأديبه إلى الفقيه المحدث صالح بن كيسان، المتوفى معمراً سنة 140، فكان يلزِمُه الصلوات؛ فأبطأ يوما عن الصلاة فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مُرَجِّلتي تُسَكِّن شعري! فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك ، فبعث إليه عبد العزيز رسولا فلم يكلمه حتى حلق شعره.

وكان عمر يدرس على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، مفتي المدينة وأحد فقهائها السبعة، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص علي بن أبي طالب، فأتاه عمر، فقام يصلي، وأرز عمر فلم يبرح حتى سلم من ركعتين، ثم أقبل على عمر بن عبد العزيز فقال: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ فعرف عمر ما أراد؛ فقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود. فما سُمِع عمر بن عبد العزيز، بعد ذلك ذاكرا عليا إلا بخير.

وعمر بن عبد العزيز تابعي التقى بعدد من الصحابة، وروى عنهم، روى عن أنس بن مالك وصلى أنس خلفه، وقال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى. وكان عمر يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود. واستوهب من الصحابي سهل بن سعد الساعدي الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه، المتوفى سنة 91 عن نحو 100 عام، قدحا شرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبه له.

وبفضل هذه التنشئة صار عمر بن عبد العزيز عالماً بالحديث والفقه، روى عنه عديد من التابعين وغيرهم، قال الإمام مالك ابن أنس: كان عمر بن عبد العزيز بالمدينة قبل أن يستخلف وهو يُعنى بالعلم ويجالس أهله، ويصدر عن رأي سعيد ابن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحدا من الأمراء غير عمر، أرسل إليه عبدالملك فلم يأته، وأرسل إليه عمر فأتاه، وكان عمر يكتب إلى سعيد في علمه.

واختلط عمر بن عبد العزيز في هذه التنشئة بعامة الناس رغم انتسابه إلى طبقة الأمراء، واستفاد من ذلك  أن أصبح ذا دربة بالتعامل مع العامة والصبر عليهم، قيل ليحيى بن الحكم بن أبي العاص: ما بال عمر بن عبد العزيز ومولده مولده ومنشأه منشأه جاء على ما رأيت؟ قال: إن أباه أرسله وهو شاب إلى الحجاز سُوقة، فكان يُغضِبُ الناس ويُغضِبونه، ويمحِّصُهم ويمحِّصُونه، والله لقد كان الحجاج وما عربيٌ أحسن منه أدبا، فطالت ولايته فكان لا يَسمع إلا ما يحب، فمات وإنه لأحمق سئ الادب.

ثم بعث إليه عمه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عند وفاة أبيه، فخلطه بولده وقدَّمه على كثير منهم، وجعله على الحج  من سنة 87، وزوجه بابنته فاطمة، وهي التي يقول فيها الشاعر:

بنت الخليفة، والخليفة جدها ... أخت الخلائف، والخليفة زوجها

فلم تكن امرأة تستحق هذا البيت إلى يومنا هذا غيرها.                                                                                                                                                       

وولي عمر بن عبد العزيز المدينة سنة 87 في زمن الوليد بن عبد الملك، فأول ما جاءها دعا عشرة نفر من فقهاء البلد: عروة بن الزبير، وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمان بن الحارث، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني أدعوكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل ظلامة فأحرج بالله على أحد بلغه ذلك إلا أبلغني.  ثم  عزله الوليد سنة 93 بدسيسة من الحجاج إذ كان عمر قد طالبه بعزله عن العراق، فاضغنها له الحجاج.واستقضى عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ثم جعله أمير المدينة حين آلت إليه الخلافة، قال الإمام مالك: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن يكتب له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ضمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد، فكتبها له. قال مالك: فسألت ابنه عبد الله بن أبي بكر عن تلك الكتب؟ فقال: ضاعت.

وكان عمر بن عبد العزيز بفضل توفيق الله وبفضل دراسته العلم على يد الصحابة وأعلام التابعين، موفقاً مسدداً في أقضيته وقرارته، قال قادم البربري: ذاكرت ربيعة الرأي، ربيعة بن فروخ المتوفى سنة 136، شيئاً من قضاء عمر بن عبد العزيز إذ كان بالمدينة، فقال ربيعة: كأنك تقول إنه أخطأ، والذي نفسي بيده ما أخطأ قط. وهذا أمر اعترف به لعمر بن عبد العزيز كبار علماء عصره، قال الإمام المفسر مجاهد بن جبر المولود سنة 21 والمتوفى سنة 104: أتيناه نعلِّمه، فما برِحنا حتى تعلمنا منه. وقال ميمون بن مهران عالم الجزيرة الفراتية ومحدثها، المتوفى سنة 117: كانت العلماء عند عمر تلامذة.

ولما أدرك الموت سليمان بن عبد الملك سنة 99 استخلف ابن عمه عمر عبد العزيز بنصيحة جليسه العالم الصالح رجاء بن حيوة بن جرول الكندي، المتوفى سنة 112، قال عبد الرحمن بن حسان الكناني: لما مرض سليمان بن عبد الملك المرض الذي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوة؛ فقال لرجاء بن حيوة: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي؟ أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب. قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير. قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوف من بني عبد الملك ألا يرضوا. قال: فول عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتابا وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوما عليها. قال: لقد رأيت، ائتني بقرطاس.

قال: فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، ثم ختمه، ثم دفعه إلى رجاء، قال: اخرج إلى الناس فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوما. قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده. قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم، لا تُخبرون بمن فيه حتى يموت. قالوا: لا نبايع حتى نعلم من فيه. قال: فرجع رجاء إلى سليمان؛ فقال له: انطلق إلى أصحاب الشرط والحرس، وناد: الصلاة جامعة، ومر الناس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه. قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه.

قال رجاء: فلما خرجوا خرجت إلى منزلي، فبينا أنا أسير في الطريق إذ سمعت جلبة موكب، فالتفت فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء، قد علمت موقعك منا، وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئا لا أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني، فإن يكن عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمر نَفَس، حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت. قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه! لا يكون ذاك أبدا؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه. قال: فانصرف.

فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبة خلفي فإذا عمر بن عبد العزيز، فقال لي: يا رجاء، إنه قد وقع في نفسي أمر كثير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص منه ما دام حيا. قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه!؛ فأدارني وألاصني، فأبيت عليه.

قال رجاء: وثقل سليمان، وحجب الناس عنه حتى مات؛ فلما مات أجلسته وأسندته وهيأته، وخرجت إلى الناس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين أصبح ساكنا؛ وقد أحب أن تسلموا عليه، وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه. قال: فأذنت للناس فدخلوا وأنا قائم عنده؛ فلما دنوا قلت: إن أميركم يأمركم بالوقوف؛ ثم أخذت الكتاب من عنده ثم تقدمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب. قال: فبايعوا، وبسطوا أيديهم؛ فلما بايعتهم على ما فيه أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين. قالوا: فمن؟ فافتتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلما نظرت بنو عبد الملك تغيرت وجوههم، فلما قرؤوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا؛ فقالوا: أين عمر بن عبد العزيز؟ فطلبوه فلم يوجد في القوم. قال: فنظروا فإذا هو في مؤخر المسجد. قال: فأتوه، فسلموا عليه بالخلافة، فعقر فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فرَقَوا به المنبر، فلم يقدر على الصعود حتى أصعدوه، فجلس طويلا لايتكلم، فلما رآهم رجاء جلوسا قال: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعونه؟ قال: فنهض القوم إليه فبايعوه رجلا رجلا. قال: فمد يده إليهم. قال: فصعد إليه هشام فلما مد يده إليه قال هشام: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال عمر: نعم، إنا لله وإنا إليه راجعون! حين صار يلي هذا الأمر أنا و أنت.

قال: ثم قام عمر فحمد الله و أثنى عليه، وقال: أيها الناس إني لست بقاض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن حولكم من الأمصار و المدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم، ألا وإن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثم نزل يمشي؛ فأتاه صاحب المراكب، فقال: ما هذا؟ قال: مركب للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، إيتوني بدابتي. فأتوه بدابته فركبها ثم خرج يسير، وخرجوا معه، فمالوا إلى طريق؛ قال: إلى أين؟ قالوا: إلى البيت الذي يهيأ للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، انطلقوا بي إلى منزلي. قال رجاء: فأتى منزله، فنزل عن دابته ثم دعا بداوة وقرطاس، وجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار، ويمل على نفسه. قال رجاء: فلقد كنت أظن سيضعف، فلما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا ونحوه.

وقال مولى لعمر بن عبد العزيز له حين رجع من جنازة سليمان: ما لي أراك مغتما؟ فقال عمر: لمثل ما أنا فيه يُغتَمّ؛ ليس أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في شرق ولا غرب إلا وأنا أريد أن أودي إليه حقه غير كاتب ولا طالبه مني.

وكان عمر رحمه الله يبايع الناس في بساطة متناهية، بايعه رجل، فمد يده إليه، ثم قال: بايعني بلا عهد ولا ميثاق؛ تطيعني ما أطعتُ الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليك. فبايعه.

وكانت أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا؛ يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه. فانقشع عنه الشعراء والخطباء، وثبت الفقهاء والزهاد؛ وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله.

وحدث بعض خاصة عمر بن عبد العزيز إنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عاليا؛ فسأل عن البكاء، فقيل له: إن عمر بن عبد العزيز خيَّر جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر شغلني عنكن، فمن أحب أن أعتقه عتقته، ومن أراد أن أمسكه أمسكته، لم يكن مني إليها شيء؛ فبكين إياسا منه.

وكانت مدة خلافة عمر قريباً من 30 شهراً، وهي مدة زمنية قصيرة لإحداث هذا التأثير الكبير الذي بقيت الناس تتحدث به أجيالاً، ولكننا لا نستغرب هذا لو تبينا منهج عمر في الحكم والإنفاق على صعيد الخليفة ومن يليه من بني أمية، فهو لما ولي الخلافة بدأ بلُحمته و أهل بيته، فأخذ ما بأيديهم وسمى أموالهم مظالم، ففزعت بنو أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته، فأرسلت إليه: إنه قد عناني أمر لا بد من لقائك فيه؛ فأتته ليلا؛ فأنزلها عن دابتها. فلما أخذت مجلسها قال: يا عمة، أنت أولى بالكلام فتكلمي لأن الحاجة لك. قالت: تكلم يا أمير المؤمنين. قال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذابا إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده فقبضه الله وترك لهم نهرا شُربهم سواء، ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل علي أمر صاحبه، ثم لم يزل النهر يشتقُّ منه يزيد ومروان وعبد الملك وسليمان حتى أفضى الأمر إليَّ وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروى أصحاب النهر الأعظم حتى يعود النهر إلى ما كان عليه.

فقالت: حسبك، قد أردت كلامك ومذاكرتك، فأما إذا كانت مقالتك هذه فلست بذاكرة لك شيئا أبدا؛ فرجعت إليهم فأبلغتهم كلامه.

قال عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفا، ثلاثين شهرا، لا والله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون للفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله يتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع بماله؛ قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم. فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه: انظر كل من أدان من غير سفه ولا سرف فاقض عنه. فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه: أن انظر كل بِكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدِق عنه. فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت ، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن انظر من كانت عليه جزية، فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين.

ومما فعله عمر بن عبد العزيز في خلافته أنه ردَّ أرض فَدَك في أولاد فاطمة رضي الله عنها، وفدك قرية بينها وبين المدينة يومان أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة 7 صلحاً، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء، وبعد وفاته قالت فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر: إن رسول اللَه صلى الله عليه وسلم نحلنيها، فقال أبو بكر رضي الله عنه أريد لذلك شهوداً ولهذا قصة ليس هاهنا موضعها، ثم أدى اجتهاد عمر بن الخطاب لما ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين أن يردها إلى ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها فكان علي يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها في حياته لفاطمة وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هي ملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وارثه. فكانا يتخاصمان إلى عمر رضي الله عنه فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرفُ بشأنكما أما أنا فقد سلمتها إليكما، فاقتصدا، فما يؤتى واحد منكما من قلة معرفة.

فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة قال لقريش ووجوه الناس: إن فدك كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر ففعل مثل ذلك، ثم وليها عمر ففعل مثل ذلك، ثم إن مروان أقطعها فوهبها لمن لا يرثه من بني بنيه، فكنت أحدهم، ثم ولي الوليد فوهب لي نصيبه، ثم ولي سليمان فوهب لي نصيبه، ثم لم يكن من مالي شيء أرد علي منها؛ ألا وإني قد رددتها موضعها. قال: فانقطعت ظهور الناس، ويئسوا من المظالم.

وكانت خلفاء بنو أمية قد أمرت بسب على رضي الله عنه على المنابر يوم الجمعة، وكانوا يقولون: لعن الله أبا تراب. فكتب عمر بن عبد العزيز إلى ولاته بإيقاف ذلك، وأبدل بالسب في الخطبة قوله تعالى في سورة الحشر: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

وكان عمر رضي الله عنه يراعي ما اعتاده الناس وساروا عليه، ويحملهم على الحق والعدل بالرفق والتدرج، متأسياً بما رواه مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه. وذكر ميمون بن مهران، قال: سمعت عمر بن عبد العزيز قال: لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت العدل، و إني لأريد الأمر من أمر العامة أن أعمل به فأخاف أن لا تحمله قلوبهم، فأخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فإن أنكرت قلوبهم هذا سكنت لهذا.

وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى ولاته: إنما أهلك من كان قبلكم من الولاة أنهم كانوا يحبسون الخير حتى يُشترى منهم، ويبذلون الشر حتى يفتدى منهم. وكان يقول: إن الوالي بمنزلة السوق يُجلَب إليها ما ينفُقُ فيها، فإن كان بَرا أتوه ببرهم، وإن كان فاجراً أتوه بفجورهم.

وقال عمر بن عبد العزيز لزوجته فاطمة بنت عبد الملك: إني نظرت إلي فوجدتني قد وليت هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود، وأشباههم، في أقاصي البلاد و أطراف الأرض فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت أن لا يثبت لي عند الله عذر ولا يقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فخفت على نفسي خوفا دمع له عيني، ووجل له قلبي؛ فأنا كلما ازددت لهذا ذكرا ازددت منه وَجَلا.

وكان عمر بن عبد العزيز عابداً متبتلاً ملك عليه خوف الله نفسه، ولكنه فهم تقوى الله فهماً يليق بما منحه الله إياه من السلطان، قال رحمه الله: ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير. ولا يعني هذا إهمال العبادات والحرص على الحسنات، فقد ورد أنه كان لا يدع النظر في المصحف كل يوم ولكن لا يُكثِرْ، وذلك لإن في وقته حقاً للأمة التي امتدت حدودها من أفغانستان إلى الأندلس.

ومن إنجازات عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة توسعة المسجد النبوي بإشرافه، وكذلك الحفاظ على محمياتها الطبيعية التي حماها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يؤتي بأحد قطع من الحمى شيئاً، وإن كان عوداً واحداً، إلا ضربه ضرباً وجيعا. ومن إنجازاته في خلافته أن جعل الأندلس ولاية مستقلة بعد أن كانت تتبع أفريقية، وأمر ببناء الجسر الأعظم على نهر قرطبة، وقام عامله على العراق عدي بن أرطاة الفزاري بفتق نهر من بثق نهر شيرين في البصرة، ولما فرغ عدي منه كتب إلى عمر بن عبد العزيز إني احتفرت لأهل البصرة نهراً عذُبَ به مشربهم، وجادت عليه أموالهم، فلم أر لهم على ذلك شكراً، فإن أذنت لي قسمت عليهم ما أنفقته عليه. فكتب إليه عمر: إني لا أحسب أهل البصرة عند حفرك هذا النهر خلوا من رجل يشرب منه، يقول الحمد لله، وإن الله عز وجل قد رضي بها شكراً  من جنته، فارض بها شكراً من حفر نهرك.

وكانت آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيزأن حمد الله و أثنى عليه، ثم قال: أيها الناس؛ أما بعد؛ فإنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم؛ فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحُرِم جنة عرضها السموات والأرض؛ ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم وخافه، وباع نافدا بباق وقليلا بكثير وخوفا بأمان؛ ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى يرد إلى خير الوارثين؛ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع، غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب وباشر التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدم؛ فاتقوا الله قبل انقضاء مراقبته ونزول الموت بكم؛ أما إني لأقول هذا وما أعلم أن عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله. ثم رفع طرف رداءه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.

ولما رأى مسلمة بن عبد الملك، وكان مجاهداً صالحاً من بني أمية، أن عمر بن عبد العزيز اشتد وجعه، وظن أنه ميت، قال: يا أمير المؤمنين، إنك قد تركت بنيك عالة لاشيء لهم، ولابد لهم مما لابد لهم منه، فلو أوصيت بهم إلي وإلى ضربائي من قومك فكفوك مؤونتهم. فقال: أجلسوني؛ فأجلسوه؛ فقال: أما ما ذكرت من فاقة ولدي وحاجتهم، فوالله ما منعتهم حقا هو لهم، وما كنت لأعطيهم حق غيرهم، وأما ما ذكرت من استخلافك ونظرائك عليهم لتكفوني مؤونتهم فإن خليفتي عليهم الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين؛ ادعهم لي. فدعاهم وهم اثنا عشر، فاغرورقت عينا عمر، فقال: بأبي فتية تركتهم عالة، وإنما هم أحد رجلين: إما رجل يتقي الله ويراقبه فسيرزقه الله؛ وإما رجل وقع في غير ذلك فلست أحب أن أكون قويته على خلاف أمر الله؛ وقد تركتكم بخير؛ لن تلقوا أحدا من المسلمين ولا أهل الذمة إلا سيرى لكم حقا. انصرفوا، عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.

و لما بدء المرض بعمر بن عبد العزيز وأحس بدنو أجله أراد أن يشتري قبراً فأرسل إلى نصراني من أهل دير سمعان ليشتريه منه، فقال له النصراني: والله يا أمير المؤمنين إني لأتبرك بقربك وبجوارك، فقد حللتك. فأبى ذلك عليه إلا أن يبيعه، فباعه إياه بثلاثين دينارا، ثم دعا بالدنانير فوضعها في يده.

ورثاه جرير فقال:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمرا عظيما فاضطلعت به ... وسرت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

ونختم هذه السيرة العطرة بقول مالك بن دينار: يقولون: مالك زاهد؛ أيُّ زهد عند مالك وله جبة وكساء؟! إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer