الجمعة، 10 مايو 2013

حدث في التاسع والعشرين من جمادى الآخرة


في التاسع والعشرين من شهر جمادى الآخرة من سنة 1307=1890 توفي، عن 59 سنة، في بهوبال بالهند العلامة أبو الطيب محمد صِدِّيق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، من رجال النهضة الإسلامية المجددين.

ولد صديق حسن خان سنة 1248= 1832 في بلدة بريلي Bareilly من ولاية أُتار براديش في شمال الهند، لأسرة يعود نسبها إلى الإمام زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي، رضوان الله عليهم أجمعين، وتوفي والده وهو في السادسة من عمره، ونشأ في رعاية والدته في بلدة أسرته قِنَّوج، Kannauj في ولاية أُتار براديش،  وهي بلدة تقع على بعد 400 كيلو جنوبي شرق دهلي، دخلها الإسلام سنة 407، وأخرجت كثيراً من علماء القارة الهندية المتمرسين بعلوم العربية والإسلام، كان والده المولود سنة 1210 والمتوفى سنة 1253، من مشايخ العلم في الهند، وصاحب تصانيف باللغات الثلاث: العربية والهندية والفارسية.

نشأ صِدِّيق حسن في قنوج، ورعاه أخوه الأكبر أحمد الذي يكبره بسنتين، وتوجه صديق حسن لطلب العلم فدرس اللغتين العربية والفارسية وشيئاً من الفقه على أخيه أحمد وغيره من علماء منطقته، وبعد ذلك ذهب إلى مدينة كانبور Kanpur، ودرس على بعض علمائها علوم البلاغة العربية، ثم سار على خطى والده فارتحل إلى دلهي لتحصيل العلوم لدى عالمها ومفتيها الشيخ محمد صدر الدين خان الدهلوي، فدرس عليه سنتين أجازه بعدها، وتخرج صديق خان من دلهي وقد أكمل مختلف العلوم والفنون والآداب باللغات العربية والفارسية والأُردية.

 ولما تخرج على أساتذته، سافر إلى بهوپال Bhopal في وسط الهند في ولاية ماديا براديش، طلبا للمعيشة، فلقي الحفاوة من الوزير جمال الدين الصديقي الدهلوي الذي ولاه الإشراف على تعليم أسباطِه، ثم ساءت العلاقة بينه وبين الوزير، فأخرجه من بهوبال، ثم صلح الأمر بينهما، حيث أدرك الوزير قدره فاستقدمه إلى بهوبال، وولاه تحرير جريدة الوقائع، وزوجه بابنته.

وتوفي أخوه أحمد سنة 1277في كُجُرات، وهو في طريقه إلى الحج وعمره 30 عاماً، وأشار صديق حسن خان أنه دُفن في التكية الماتريدية عند مزار السيد يحيى الترمذي، وذكر حزنه الشديد فقال: والله يعلم ماذا صبّ عليّ من المصائب والأحزان والنوائب، ولا مفر لأحد من تقدير العزيز العليم.

وسافر صديق حسن خان إلى الحجاز وبعض البلدان العربية الأخرى، ومن أساتذته المعروفين الشيخ محمد يعقوب الدهلوي المهاجر المتوفى بمكة المكرمة في سنة 1281، حيث أخذ عنه رواية القرآن الكريم بالسند، كما درس علم الحديث على القاضي زين العابدين محمد الأنصاري اليماني، وأخذ الإجازة في الحديث النبوي من الشيخ عبد الحق بن فضل الله الهندي، ومن عالم صبيا في اليمن الشيخ القاضي المُعمَّر حسين بن محسن السبيعي الأنصاري، تلميذ العلامة محمد بن ناصر الحازمي، تلميذ العلامة القاضي محمد بن علي الشوكاني، وكان القاضي السبيعي، المولود سنة 1225 والمتوفى بمومباي سنة 1327، يتردد بين اليمن والهند جالباً نفائس المخطوطات إلى صديقه صِدِّيق حسن خان، فساعده في تكوين مكتبة ضخمة نفيسة، احتوت كما قال صديق حسن على أكثر كتب الأمير الصنعاني، محمد بن إسماعيل المولود سنة 1099 والمتوفى سنة 1182، وكتبه أكثر من مئة كتاب، من أبرزها كتاب سُبُل السلام، وكذلك اقتنى بواسطتهم كتب الإمام الشوكاني المتوفى سنة 1250، وطبع في الهند كتابي نيل الأوطار واتحاف الأكابر في مسندات الدفاتر.

وعاد صديق حسن خان من الحجاز إلى الهند، وقد ذاع صيته لتضلعه في العلوم الإسلامية والعلوم العقلية والنقلية، ولتمكنه من ناصية اللغات العربية والفارسية والأُردية، ولانكبابه على الدرس والتأليف والتدوين، ولهذه الخصائص تولى في أيام الملكة سكندر بيجوم منصب وزارة التعليم وكانت تسمى نظارة المعارف، ثم تولى الوزارة العظمى، والتي كانت تسمى، وفقاً للتقاليد العربية، ديوان الإنشاء، ومُنح لقب خان.

وكانت ملكة بهوبال في حينه شاهجهان بيجوم، المولودة عام 1254= 1838 والمتوفاة عام 1319= 1901، وكانت شاهجهان قد تزوجت وعمرها 17 عاماً من باقي محمد خان ثم توفى عنها سنة 1284، وكانت ملكة عاقلة مدبرة عادلة مهتمة برعاية شعبها ومصالحه، فازدهرت بهوبال في عهدها وصارت من أغنى ممالك الهند، وكانت شاهجهان تلتزم بتعاليم الإسلام، وتُعنى بالعلم الديني، ولها أياد بيضاء في دعم العلماء والمدارس في القارة الهندية، إلى جانب مشاريعها العمرانية والتنموية، وكانت على صلة بأهل العلم والعلماء وعلى رأسهم صديق حسن خان، وتحولت هذه الصلة إلى أن تزوجها صديق حسن زوجة ثانية في عام 1288= 1871، والزواج بثانية أمر غير مألوف البتة في الهند، كما أشار إلى ذلك السيد صديق حسن خان في كتابه: نشوة السكران من صهباء تذكار الغزلان، المطبوع ببهوبال سنة 1294، ولم يرزقا بأولاد، وبناء على هذا الزواج صار صِدِّيقُ حسن أميرَ بهوبال ومُنح لقب نَوَاب، وهو لقب حاكم بهوبال إن كان ذكراً، وإن كان أنثى أضيف له نواب بيجوم.

كان لهذا الزواج أكبر الأثر في انطلاق حياة صديق خان العلمية، إذ يحلم كل عالم متوجه للتصنيف والتحقيق أن يتفرغ بكليته للعلم فلا يكون له عمل إلاه، وأن تكون له مكتبة واسعة يرتع في رياضها ويجد فيها طلبته لتفسير الغوامض وحل الإشكالات وتلاقح أفكار السابقين والمعاصرين، وأن يتاح له نشر كتبه دون الاعتبارات المادية التي تقيد دور النشر في طباعة الكتب ونشرها، وكان زواج صديق حسن خان بالأميرة شاهجان بيجوم حلماً تحقق فيه كل ذلك، فهو مَعلَمٌ هام في حياة صديق خان، أشار إلى ذلك في كتابه أبجد العلوم فقال عن نفسه: ألقى عصا التسيار والترحال بمحروسة بهوپال، وأقام بها وتوطن وأخذ الدار والسكن، وتمول وتولد، واستوزر وناب، وألف وصنف، وعاد إلى العمران بعد خراب، وكان فضل الله عليه عظيما جزيلا، والحمد لله الذي فضَّله على كثير ممن خلق تفضيلا.

وكان من ثمرات هذا الزواج حركة إحياء للتراث العلمي الإسلامي وطبعه ونشره، في الهند وخارجها، ومن حسنات صديق خان طبعه على نفقته في المطبعة الأميرية بمصر كتاب فتح الباري في شرح البخاري للحافظ ابن حجر، وكتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني، وتفسير الحافظ ابن كثير مع تفسير صديق حسن خان المسمى فتح البيان، وكان لهذه الكتب وغيرها أثر طيب في تنشيط الحركة العلمية وتجديدها بعد ركود، واشتهر معها فضل وعلم صديق حسن خان.

ولم يقتصر الإحياء على صديق حسن خان ومؤلفاته، بل استقدم هو إلى بهوبال علماء الهند المميزين، ومنهم الفقيه المحدث محمد بشير بن محمد بدر الدين السهسواني المولود قرابة1250= 1834 والمتوفى سنة 1326= 1908، دعاه النواب صديق حسن خان إلى پهوپال سنة 1295، ففوض إليه رياسة المدارس الدينية فيها، فأقام نحو 25 عاما، ثم عاد إلى دهلي، وتوفي بها.

وفي خُلُق العالم المتواضع، يتحدث صديق حسن خان بنعمة الله عليه في زواجه بأميرة بهوبال، ومن الواضح من غزارة مؤلفاته أن زواجه واشتغاله بأمور الدولة السياسية والإدارية لم يزاحما نشاطه العلمي، ولم يركن إلى الثروة والجاه بل تابع خدمة العلم والدين، وما عند الله خير وأبقى.

كان صديق حسن خان صاحب موهبة وإمداد إلهي في التأليف والتصنيف؛ يدلك على ذلك عدد كتبه وتنوع مواضيعها، وجدة مناهجها، وقد بلغ عدد كتبه أكثر من 220 مصنفاً بين كتب كبيرة ورسائل صغيرة، وينبغي أن نشير إلى أنه رحمه الله لم يكن بِدَعاً في علماء الهند التي كانت تشهد نهضة علمية على يد علماء فطاحل، خلفوا لنا كتباً قيِّمة في مواضيع نفيسة، تشرف والدي رحمه الله تعالى بتحقيق ونشر طائفة طيبة منها في تحقيق دقيق وإخراج جديد، فنفذ منها نور علماء الهند إلى بلاد العرب، وتبين فضل هؤلاء العلماء الصلحاء الزهاد رحمات الله وبركاته عليهم.

ومؤلفات صديق حسن خان متعددة المواضيع، فهي في التفسير وعلوم القرآن والحديث والعقيدة واللغة والأدب والتاريخ، وهي كذلك بالعربية والفارسية والأردية والهندية، وهو بهذا بزَّ أقرانه من علماء شبه القارة الهندية، ويضيق المجال عن تعداد كتبه، ولكنني أظن أن أول كتبه العربية هو الحطة في ذكر الصحاح الستة الذي طبع سنة 1283 في المطبعة النظامية بكانبور، والنظامية نسبة إلى ملك حيدر آباد الذي يلقب بالنظام، ولعل أول كتاب له طبع خارج الهند هو كتابه الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة، الذي طبع سنة 1293 في مطبعة الجوائب بالآستانة، وينبغي أن صديق حسن خان رحمه الله أنشأ في بهوبال مطبعة عربية طبع فيها كتبه وأسماها المطبعة الصديقىة.

وقد ابتدأ صديق حسن خان كتبه على نحو تقليدي ثم تحول نحو ما يسمى بمدرسة السلف، والتي تختلف في نواحي كثيرة عن المدرسة السلفية المعاصرة، وأود أن أدلل على ذلك بما أورده في كتابه أبجد العلوم حين قال: واعلم أن أصول الدين اثنان لا ثالث لهما: الكتاب والسنة، وما ذكروه من أن الأدلة أربعة: القرآن والحديث والإجماع والقياس، فليس عليه إثارة من علم، وقد أنكر إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه الإجماع الذي اصطلحوا عليه اليوم، وأعرض سيد الطائفة المتبعة داود الظاهري عن كون القياس حجة شرعية، وخلاف هذين الإمامين نص في محل الخلاف، ولهذا قال بقولهما عصابة عظيمة من أهل الإسلام قديما وحديثا إلى زماننا هذا، ولم يروا الإجماع والقياس شيئا مما ينبغي التمسك به، سيما عند المصادمة بنصوص التنزيل وأدلة السنة الصحيحة.

وهو يقول في ترجمة ابن حزم: وذكر الشيخ ابن عربي صاحب الفتوحات أنه رأى ابن حزم في المنام وقد عانق رسول الله صلى الله عليه وسلم فغاب أحدهما في الآخر فلم أعرف أحدهما عن الآخر. هذا حاصل معناه، وهذا يدل على حسن عاقبته، ولطف علمه، وخيرة طريقه، وكذا اتحاده بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس وراء ذلك غاية،  والله أعلم. ثم قال: والظاهرية هم أئمة الأمة وسلفها وقدوة المسلمين في كل زمان ومذهبهم أصفى مذاهب عالم الإمكان.

وأرجع بعض الباحثين توجهه السلفي إلى اتصاله بالقاضي حمد بن علي بن عتيق المولود بالزلفي من بلاد نجد سنة 1227 والمتوفى سنة 1301، وأورد للدلالة على ذلك رسالة منه إلى صِدِّيق حسن خان فيها ثناء عاطر على كتابه الحطة وتفسيره للقرآن الكريم، ثم يطالبه بمراجعة التفسير ليكون على المنهج السلفي الخالص، وقال فيها: ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم، بعضا بلفظه وبعضا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك، ولم تمعن النظر فيها، ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال، وما دخل عليك من ذلك فنقول إن شاء الله بحسن القصد، واعتماد الحق وتحري الصدق والعدل، وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره... فأعرِِضْ عما قالوه وأقبِل على الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها ففيه الشفاء... وليتك اقتصرت على ذلك ولم تكبر هذا الكتاب بمذهب أهل البدع فإنه لا خير في أكثره وما فيه من شيء صحيح...

وأيد الكاتب نظريته بقوله: وبعد ذلك وفي عام 1289 صنف المؤلف رسالته قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر. والحق أن صديق حسن خان قد نهج هذا المنهج قبل هذه الرسالة بزمان، والرسالة، وهي أول اتصال بينهما، كُتبت كما يذكر ابن عتيق في ثناياها في شوال من سنة 1297، فكأن الكاتب لم يقرأ الرسالة رغم أنه أوردها في كتابه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد أشار حسن صديق خان إلى تطوره الفكري وتميزه عن علماء الهند في ترجمته لنفسه في كتابه أبجد العلوم سنة 1296 فقال: ثم اختص، بعونه تعالى وصونه، بتدوين علوم الكتاب العزيز، وأحكام السنة المطهرة البيضاء، وتلخيصها وتلخيص أحكامها من شوب الآراء ومفاسد الأهواء، وهذا - إن شاء الله تعالى - خاص به في هذا العهد الأخير، والله يختص برحمته من يشاء. كيف، وعلماء الأقطار الهندية وإن بالغ بعضهم في الإرشاد إلى اتباع السنة، وقرره في مؤلفاته، وحرره في مصنفاته، على وجه ثبت به على رقاب أهل الحق المنة، وشمر بعضهم عن ساق الجد والاجتهاد في الدعوة إلى اعتقاد التوحيد، ورد الشرك والتقليد، باللسان والبيان، بل بالسيف والسنان، لكن لم يدون أحد منهم أحكام الكتاب العزيز، وعلوم السنة المطهرة من العبادة والمعاملة وغيرها خالصة عن آراء الرجال، نقية عن أقوال العلماء، على هذه الحالة المشاهدة في كتبه المختصرة والمطولة.

وكان صديق حسن خان صاحب مبادرة محمودة في الترويج لمؤلفاته ولنفسه، لا تدخل في باب الكبر والخيلاء المذمومين، وإن كانت غير مألوفة عند جمهور العلماء، وقل أن يرضوا عنها، ومن أمثلة ذلك أنه أهدى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني تفسيره للقرآن الكريم، مع كتاب في ذلك، فأنعم عليه السلطان بالوسام المجيدي من الدرجة الثانية، وأرسل له السلطان جواباً عن يد الصدر الأعظم خير الدين باشا التونسي، المولود سنة 1225 والمتوفى سنة 1308، وكان من العلماء المصلحين، أرفقه الصدر الأعظم بكتابه أقوم المسالك في أحوال الممالك.

وإزاء هذه المؤلفات المتنوعة العديدة ادعى المستشرق ادوارد بن كورنيليوس فان ديك في كتابه اكتفاء القنوع بما هو مطبوع، أن صديق حسن خان كان يكلف من حوله من العلماء بالتأليف، ثم يأخذ مصنفاتهم وينسبها لنفسه، بل كان يختار الكتب القديمة التي لم تكن منها سوى النسخة الواحدة ويغير العنوان ويبدله باسم آخر ويضع على الصحيفة الأولى اسمه مع ألقاب الفخر. وهذه دعوى باطلة ردَّ عليها الباحثون وبيّنوا أن النَفَس والمنهج واحدٌ في هذه الكتب، فهي بالتأكيد من تأليفه، وإن كنت لا أستبعد أن يكون لديه أعوان يساعدونه في البحث فيما يختار من مواضيع عن النصوص في المراجع والكتب.

أقول ذلك لأن المحدث الكبير عبد الحي بن عبد الكبير الكَتَّاني، المولود سنة 1305= 1888 والمتوفى سنة 1382= 1962، ذكر ما يدل أن صديق حسن خان لم يكن ضابطاً كما يفترض في محدث من المرتبة الأولى، قال الكتاني في فهرس الفهارس عند ذكر ثَبَت صديق حسن خان المسمى سلسلة العسجد في ذكر مشايخ السند: أروي الثبت المذكور وكل ما يصح لصديق حسن من مروي ومؤلف عن صاحبنا الشيخ أحمد بن عثمان العطار المكي عنه، قال لي: اجتمعت به في بهوبال سنة 1296 وكان أميراً بها فسمعت منه حديث الأولية، وهو أول حديث سمعته منه، وكان بيده ثبته المسمى سلسلة العسجد فلما وصل إلى شيخ شيخه الحازمي فوصفه بالحسيني فقلت: بل الحسني بالتكبير، ثم لما وصل لإبراهيم التازي ذكره بالنون، قلت: له بل بالتاء نسبة إلى مدينة تازا، ثم لما وصل إلى إسماعيل بن أبي صالح المؤذن جعله ابن صالح، فقلت له: ابن أبي صالح، فرجع، وكان ذلك بمحضر شيخنا القاضي حسين وبواسطته دخلت عليه، ثم أجازني كل ما يصح له من مؤلف ومروي، ولازمته بعد ذلك أعواماً، وفوض إلي مكتبته، وبعد عزله عن الإمارة جلس يؤلف رسائل باللغة الهندية إلى أن مات. وأحمد المكي مولود سنة 1277 ولا تعلم سنة وفاته، ولكنه أجاز الكتاني سنة  1325، وكان يتجر في الكتب يجلب غريبها للحجاز وغريب ما في الحجاز للهند، وبقي يتردد بين الهند والحجاز واليمن نحو 15 سنة.

وهذه الملاحظة لا تغض من مكانة صديق حسن خان، قال عبد الحي الكتاني: وبالجملة فهو من كبار من لهم اليد الطولى في إحياء كثير من كتب الحديث وعلومه بالهند وغيره، جزاه الله خيراً.  وقال الكتاني عن كتاب الحطة: هو كتاب نفيس جداً جمع فيها كل ما يتعلق بالكتب الستة والموطأ ومسند أحمد من تراجم المؤلفين ومن خدمها واصطلاحها وغير ذلك من اللطائف التي كانت مفرقة فجمعها.

وقد رأى الإمام عبد الحي اللكنوي، المولود سنة 1264، أن صديق حسن خان قد أخطأ في بعض كتبه، فألف في الرد عليه كتاب تذكرة الراشد برد تبصرة الناقد، وكتاب إبراز الغي الواقع في شفاء العي، قال السيد عبد الحي الكتاني: وكل منهما لا يخلو تصنيفه ورده وجوابه من فوائد، جزاهما الله خيراً.

ويبدو أن الرد تحول إلى سجال والاختلاف تحول إلى خلاف باض فيه الشيطان وفرّخ، ولكن صديق حسن خان لما توفي اللكنوي سنة 1304 حزن عليه، فقد كان نظيره في العلم وغزارة التحقيق والتأليف، وهذا شأن العلماء الحق، ذكر والدي رحمه الله ضمن تحقيقه في أول كتاب الرفع والتكميل في الجرح والتعديل لعبد الحي اللكنوي: لقيت في رحلتي الى الهند وباكستان في سنة 1382هـ حفيد صديق حسن خان: الشيخ رشيد الحسن فحدّثني أن السيد أمَرَ بإغلاق بلدة بهوبال التي هو مَلكُها ثلاثة أيام حُزناً على الشيخ أبي الحسنات! وقال: اليوم مات ذوقُ العلم! وما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على المزيد من العلم والتحقيق. وتأسَّف السيد صِدّيق حسن خان بموته تأسفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وصلى عليه صلاة الغَيبة.

ويبدو أن كيد الحساد أدرك صديق حسن خان في نهاية الأمر، فجرى عزله من منصب الإمارة، ونزع عنه لقب نواب، وقد لمح هو إلى ذلك في ترجمته لنفسه في أبجد العلوم فقال: مع ما هو مبتلى به من سياسة الرياسة، وقلة الشغل بالعلم والدراسة، وفقد الأحبة والأنصار، وتسلط الأعداء الجاهلين بالقضايا والأقدار، والمرجو من حضرة رب العالمين أن يجعله ممن قال فيهم في سورة النحل: ﴿وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، والحمد لله الذي جعله محسودا ولم يجعله حاسدا، وخلقه صابرا شكورا ولم يخلقه فظا غليظ القلب عاندا.

ولم استطع العثور فيما تحت يدي من مراجع عن ملابسات عزله، وترجعها بعض المصادر إلى أن الحكومة البريطانية اتهمته بالتحريض ضدها، والحض على الجهاد من خلال رسائله وكتبه، وأشاعت أنه فرض الحجاب الشرعي على ملكة بهوبال، ولست أميل لهذا الرأي، ذلك أنه في كتابه أبجد العلوم وقد كتبه سنة 1296، ترجم لزوجته ملكة بهوبال وأشار إلى موافقة حاكم الهند البريطاني على زواجه منها وأشار إلى نيلها الأوسمة البريطانية واحداً تلو الآخر بلهجة المفتخر المعتز، ولو كان غير ذلك لضرب الصفح عن كل ذلك، وأشار إلى مآثرها الأخرى وما أكثرها. أضف إلى ذلك أن صديق حسن خان ختم كتابه التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، وقد كتبه سنة 1298، بلهجة مفعمة بالتشاؤم من وضع المسلمين المقلدين وغياب العمل بالدليل، بل منع العمل به حتى في مكة والمدينة، ولكنه أشار إلى أن البلاد الهندية مع كونها بأيدي البرطانية فإنها آمنة مطمئنة لقوم مسلمين.

نعم قال صديق حسن خان في كتابه العبرة مما جاء في الغزوة والشهادة والهجرة: وأما القوم الذين في بلاد المسلمين، ويدعون أنهم من رعية النصارى، ويرضون بذلك، ويفرحون به ... فهؤلاء قوم أُشربوا حب النصارى في قلوبهم... وقصروا نظرهم على عمارة الدنيا وجمعها... وأن النصارى أقوم لحفظها ورعايتها. فإن كان القوم المذكورون جهالاً، يعتقدون رفعة دين الإسلام، وعلوه على جميع الأديان، وأن أحكامه أقوم الأحكام، وليس في قلوبهم مع ذلك تعظيم للكفر وأربابه، فهم باقون على أحكام الإسلام، لكنهم فساق مرتكبون لخطب كبير يجب تعزيرهم عليه وتأديبهم وتنكيلهم، وإن كانوا علماء بأحكام الإسلام، ومع ذلك صدر منهم ما ذكر، فيستتابوا، فإن رجعوا عن ذلك وتابوا إلى الله، وإلا فهم مارقون... فإن اعتقدوا تعظيم الكفر ارتدوا وجرى عليهم أحكام المرتد. ولكن كتاب العبرة طبع سنة 1293 في بهوبال، والكتابان المذكوران تاليان لهذا،  فلعل في الأمر شيئاً لم نوفق للتوصل إليه.

أصيب صديق حسن خان بمرض الاستسقاء، وهو انتفاخ البطن من السوائل مع عطش دائم، حتى توفاه الله في 29 جمادى الآخرة من عام 1307، بعد عمر حافل بالتصنيف والتأليف، ساهم في أثنائه في تنشيط حركة البحث والتأليف والاجتهاد والنشر، رحمه الله رحمة واسعة.

خلف صديق حسن خان ولدين وابنة، ولا نعلم شيئاً عن ابنته، ولكن الولدين سارا على منهج والديهما في التحقيق والتأليف، هما ولده الأكبر: أبو الخير طيب نور الحسن ، المولود سنة 1278 والمتوفى سنة 1330،  وقد بلغ نور الحسن في حياة والده مبلغ العلماء والباحثين، وطبع في حياة والده أول كتاب له وعمره 18 عاماً، وله مؤلفات في فقه السنة والحديث، ومؤلفات أدبية وتاريخية في شعراء الفرس والهند. وقد قال والده عنه في أبجد العلوم: وجمعت له من الكتب النفيسة العزيزة الوجود خزينة، ومن الأموال المحللة عدة يعيش بها عيشة رضية إن شاء الله تعالى.

والولد الثاني هو أبو النصر علي، المولود سنة 1283، ويبدو أنه لم يكن على هوى والده في الانكباب على الدرس والانشغال بالعلم، فقد ذكره والده كذلك في أبجد العلوم ووصفه بالذكاء والفطنة، وحفظ قسط كبير من الشعر العربي والفارسي، ثم قال: وكذلك هو أحب أولادي إليّ، وإن كان قليل الاعتناء بالعلم وبما لدي، لكن أرجو ربي أن يجعله من أهل العلم وخُلَّص عباده، ويخصه باعتمال مرضاته ومراده، وما ذلك عليه بعزيز وكم دعوت له ولأخيه وأخته في الحرمين الشريفين وأماكن الإجابة وظني أن دعواتي قد حلت إن شاء الله تعالى محل القبول والاستجابة، ولا عبرة بحركات عهد الصبا، إنما العبرة بما يستقر عليه الحال عند الانتهاء، أحسن الله إلينا جميعا فإنه سبحانه كان بصيرا سميعا.

ولا يكتمل الحديث عن صديق حسن خان دون أن نترجم لزوجته الثانية شاهجهان بيجوم ترجمة مختصرة مستقاة مما أجزل فيه هو الثناء في أبجد العلوم، ومن بعض المراجع الأجنبية:

كما ذكرنا ولدت شاهجهان سنة 1254، في عهد الاستعمار البريطاني، وكان والدها جهانكير محمد خان أمير بهوبال، وتوفي سنة 1260= 1844، فخلفته في الإمارة وسنها 6 سنوات، على أن تكون الوصية عليها والدتها سكندر بيجوم، وفي سنة 1277= 1860 تولت والدتها عرش بهوبال رسمياً، ولما توفيت والدتها سنة 1285 = 1868تولت هي عرش بهوبال، وكانت أيماً فتزوجت صديق حسن خان سنة 1288، بعد صدور موافقة حاكم الهند لورد مايو، ومنحتها الحكومة البريطانية وسام نجمة الهند سنة 1289، والتقت بحضور زوجها بأمير أدنبره، ثم في أواخر 1292 بأمير ويلز أثناء زيارته للهند، ثم منحت وسام إمبراطورة الهند سنة 1294، وأصبحت تستقبل وتودع بسبع عشرة طلقة مدفع، ثم منحها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني سنة 1296 الوسام العثماني من الدرجة العليا.

وزارت الملكة شاهجهان يريطانيا سنة 1329 أي بعد 12 عاماً من وفاة زوجها ، بمناسبة تتويج الملك جورج الخامس، وكانت كما ذكرت الصحف البريطانية محافظة على الحجاب والنقاب، ولبس القفاز في يديها.

وبعيداً عن السياسة، كانت شاهجان سيدة مثقفة، تنظم الشعر بالفارسية والأردية، ولها على الأقل مؤلف واحد بالأوردية يسمى تاج الإقبال تاريخ بهوبال، وكان في أول الأمر برزة تختلط بالرجال وتدير أمور الدولة، ثم توقفت عن ذلك بعد زواجها بالسيد صديق حسن خان، ولعلها عادت إلى ذلك بعد وفاته، إذ أثنت الصحف البريطانية على حسن إدارتها لبلادها واهتمامها براحة مواطنيها وكان عددهم آنذاك 7 ملايين نسمة.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer