الجمعة، 24 مايو 2013

حدث في الثالث عشر من رجب


في الثالث عشر من رجب من سنة 1315 توفي في القاهرة، عن 72 عاماً، مفتى مصر وشيخ الجامع الأزهر الإمام محمد العباسي المهدي بن الشيخ محمد أمين ابن الشيخ محمد المهدي، وتعطينا سيرته صورة عن طبقة من العلماء في ذلك العصر، كانت تجمع بين العلم والعمل والإخلاص، وترعى الله عزوجل أينما اتجهت، ونورد ترجمته مأخوذة جلِّها مما أورده العلامة أحمد تيمور باشا رحمه الله في كتابه تراجم أعيان القرن الثالث عشر.

وكان جد الإمام العباسي وسميه محمد قد ولد لأسرة قبطية، وأسلم هو صغيراً دون البلوغ على يد الشيخ محمد بن سالم الحفني، المولود سنة 1101 والمتوفى سنة 1181، وحلت عليه أنظاره، وأشرقت عليه أنواره، وفارق أهله،  وحضنه الشيخ ورباه وأحبه، واستمر بمنزله مع أولاده، واعتنى بشأنه، وقرأ القرآن ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم، ولازم دروس المشايخ واجتهد في التحصيل، حتى تصدر للتدريس في سنة 1190 بعد وفاة الشيخ الحفني، ولما توفي الشيخ محمد الهلباوي سنة 1192 جلس مكانه بالأزهر يدرس النحو، وكان فصيحاً حَسَن البيان والتفهيم وسلس التعبير واضح العبارات، مع حسن السمت ووجاهة الطلعة وجمال الهيئة وبشاشة الوجه وطلاقة اللسان وسرعة الجواب، وصار من كبار العلماء، وترشح لرياسة الأزهر بعد الشيخ الشرقاوي ولكنها لم تتم له،ولما توفي صلي عليه بالأزهر في مشهد حافل جداً ودفن عند شيخه الشيخ الحنفي.

وكان والده الشيخ محمد أمين عالماً حنفياً تولى الفتوى بمصر زمناً، وتوفي سنة 1247، وخلف ولدين هما محمد عبد اللطيف وهو الأكبر وكان ابن خمس سنين، أما الشيخ محمد المهدي فولد بالإسكندرية سنة 1243، وتوفي والده وهو في الثالثة، وبعد أن حفظ بعض القرآن في الإسكندرية سافر إلى القاهرة سنة 1255 فأتم حفظه، واشتغل بالعلم سنة 1256 فقرأ على الشيخ إبراهيم السقاء الشافعي، والشيخ خليل الرشيدي الحنفي، والشيخ البلتاني وغيرهم، ثم صدر أمر إبراهيم باشا بن محمد علي بتوليته إفتاء الديار المصرية في منتصف شهر ذي القعدة من سنة 1264 وهو في نحو الحادية والعشرين من سنيه، لم يتأهل بعد لمثل هذا المنصب الكبير!

ويقال إن السبب في ذلك أن عارف بك الذي تولى القضاء بمصر، كانت له صلة بوالد الشيخ العباسي، فلما ذهب إبراهيم باشا إلى القسطنطينية ليتسلم من السلطان مرسوم ولايته على مصر قابله عارف بك، وكان إذ ذاك شيخاً للإسلام وأوصاه خيراً بذرية الشيخ المهدي، وأن يولي منهم من يصلح لمنصب أبيه، فكان همه السؤال عنهم عودته لمصر، وطلب المترجم لحضرته فصادفوه في درس الشيخ السقاء يحضر مقدمة مختصر السعد، فركب إليه وهو بين الخوف والرجاء، ولما قابله أثنى عليه لاشتغاله بالعلم، ثم أنباه بأنه ولاه منصب الفتوى بمصر، وعزل عنه الشيخ أحمد التميمي الخليلي وخلع عليه خلعة هذا المنصب، ثم عقد له مجلساً بالقلعة حضره حسن باشا المنسترلي والشيخ مصطفى العروسي وغيرهما، فأقروا على إقامة أمينٍ للفتوى يقوم بشؤونها حتى يتأهل صاحبها لها ويباشرها بنفسه، واختاروا له أستاذه الشيخ خليل الرشيدي الحنفي بدل الشيخ علي البقلي أمين فتوى التميمي، ونزل المترجم من القلعة بموكب كبير من العلماء والأمراء ووفد الناس على داره للتهنئة، ومدحه الشعراء.

وكان مفتي مصر المعزول الشيخ أحمد التميمي من مدينة الخليل في فلسطين، جاء به كذلك إبراهيم باشا في حروبه في بلاد الشام، وروى ابنه  محمد التميمي في ترجمة جمعها لأبيه أن سبب عزله عن الإفتاء أحقاد قديمة كانت في صدر إبراهيم باشا منه بسبب معارضته له في أمور تخالف الشرع كان يريدها ويعارضه الشيخ فيها، فلا يجد بداً من الإذعان بسبب إقبال أبيه محمد علي بك الكبير على الشيخ، فلما تخلى محمد علي عن ولاية مصر وتولاها إبنه  إبراهيم كان أكبر همه عزله عن الإفتاء.

وأكب العباسي على الاشتغال بالعلم خصوصاً الفقه حتى نال منه حظاً وفيراً، وجلس للتدريس بالأزهر لإقراء الدر المختار فقرأ منه إلى كتاب الطلاق وأكمل قراءته في داره، وقرأ الأشباه والنظائر في داره أيضاً، ولحداثة سنه أيضا لاقى من أهل العلم ترقباً واستغراباً جعلاه يمعن في التحري والتحذر ويباشر أمور الفتوى بعفة وأمانة وتدقيق وتحقيق، واشتُهِر بين الناس بالحزم والعزم وعدم ممالأة الحكام، وحسبك وقوفه في وجه عباس باشا الأول وتعريضه نفسه للتهلكة صيانة لما استودع من أمانة العلم، وسبب ذلك ان هذا الوالي أراد أن يمتلك جميع ما بيد ذرية جده محمد على مدعياً انه ورد مصر لا يمتلك شيئاً، فكل ما خلفه لذريته إنما هو من مال الأمة يجب رده إليها، ووضعه بيد أمينها المتولي شؤونها، واستفتى المترجم فلم يوافقه وأصر على الامتناع، ولم يحفل بوعيده وتهديده، حتى طلبه فجأة إلى بنها فسافر إليها وهو موقن بالهلاك، وكان معه عند طلبه الشيخ أبو العلاء الخلفاوي، فسافر معه لمؤانسته ومواساته، فلما وصلا قصر بنها روجع المترجم في الفتوى فأصر على قوله الأول، فأُمر بهما فانزلا إلى سفينة بخارية سافرت بهما ليلاً لنفي المترجم إلى أبى قير؛ واعتراه لشدة وجله زحير كاد يودي به وهو مع ذلك مُصِرٌّ على قوله، والشيخ أبو العلاء يهوُن عليه الأمر ويؤانسه بالكلام إلى أن صدر الأمر بإرجاع السفينة، وأُنزلا منها وأُمرا بالسفر إلى القاهرة وسلَّم الله. فكانت هذه الحادثة سبباً لعلو المترجم في النفوس وأعظام الولاة فمن دونهم لشأنه؛ وتسبب منها إقباله على الشيخ أبي العلاء المذكور وسعيه له في المناصب التي تولاها وعظم بها أمره بعد ذلك.

وفي سنة 1287 استاء الخديوي إسماعيل باشا من الشيخ مصطفى العروسي شيخ الأزهر، فأراد عزله ولكنه خشي الفتنة، لأنه شيء لم يقع من قبل لأحد من مشايخ الأزهر، فأخذ في جس نبض العلماء وسبر غورهم في ذلك، فهون عليه الشيخ حسن العدوى الأمر، وأوضح له انه وكيل الخليفة أن يعزل من يشاء، والوكيل له ما للأصيل، فسر الخديو وبادر إلى عزل الشيخ العروسي في أواخر السنة المذكورة، وكان العدوى يطمع فيها، وما قال ما قال إلا توطئة لنفسه فأخلف الله ظنه، وصدر أمر الخديو في منتصف شوال بتولية الشيخ العباسي والجمع له بين منتصب الإفتاء ومنصب الأزهر، فاستدعاه وخلع عليه وأنزله من عنده بالموكب المعتاد. فباشر شؤون منصبه بحزم وعزم وتؤدة وتعقل، وكان أول ما صدر منه سعيه لدى الخديو بإعادة ما كان لأهل الأزهر من المرتبات التي أبطلت زمن عباس باشا، فوافقه على ذلك وأعيدت المرتبات الشهرية والسنوية.

ولما أصبح الشيخ محمد العباسي المهدي شيخاً للأزهر لم يجد به نظاماً يتبع في إعطاء إجازة التدريس ولا دفتراً يضم أسماء العلماء بالأزهر، بل كان من آنس في نفسه قوة وأهلية للتدريس أعد نفسه لتدريس أحد الكتب ودعا الطلبة والعلماء لحضور ابتداء درسه، فإذا أداه حق الأداء وأجاب على كل الأسئلة التي وجهت إليه والاعتراضات التي اصطدم بها من الطلبة والعلماء عد عالماً، وذلك بتهنئة العلماء إياه وثنائهم عليه، وعليه بعد ذلك أن يدعو جلة العلماء والفضلاء إلى مأدبة يعملها لهم شكراً على نجاحه وفلاحه، أما إذا لم يسدد إلى سداد، ولم يوفق في درسه إلى صواب، فإن العلماء ينصرفون عنه دون تهنئته، وحينئذ يتبين الجمهور أنه أخفق ولم يوفق.

فعزم الشيخ العباسي المهدي على أن يسجل أسماء العلماء الذين يدرسون في الأزهر لذلك العهد وألا يدخل في زمرتهم أحد بعد ذلك إلا إذا اجتاز امتحاناً يعقد لذلك، وعين 11 علماً على الطالب أن يمر فيها بنجاح في ذلك الامتحان، واستصدر أمراً من الخديو بوضع قانون للتدريس يشمل هذه الإصلاحات سمي بقانون الامتحان.

ولم يزل العباسي سائراً في طريقه المحمود، ملحوظاً بعين التبجيل من الحكام، ومن الخاص والعام، حتى قامت الثورة العرابية المشهورة، ورأى فيه العرابيون أنه ليس بالرجل الذي يوافقهم ويساعدهم في مطالبهم، فكان من جملة ما طلبه عرابي باشا من الخديو لما زحف بالجيش على قصر عابدين عزل المترجم من الأزهر، فعزل عنه في المحرم سنة 1299، وتولى عليه بدله الشيخ محمد الانبابي، وانفرد هو بالافتاء، ثم تجسمت الفتنة وجاهر العرابيون بطلب عزل الخديو، وكتبوا قراراً بذلك أجبروا العلماء والوجهاء على التوقيع عليه، فامتنع المترجم من موافقتهم على ذلك، وقال لحامل القرار: أنا لا أوقع بيدي، فإذا كان في الأمر غصب فإن خاتمي معه، خذوه ووقعوا انتم بأيديكم كما تشاءون.

فانحرف عنه العرابيون وضايقوه وبثوا عليه العيون حتى احتجب في داره التي على الخليج بالقرب من مدرسة الفخري المشهورة بجامع البنات، وتحامى الناس زيارته، وصار لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة في أقرب مسجد إليه؛ ومرت عليه أيام وليال قضاها في انتظار حتفه في كل ساعة تمر به، حتى كانت الهزيمة الكبرى على العرابيين، وتشتت شملهم، وعود الخديو إلى مقر ملكه في 12 ذي القعدة من تلك السنة، فذهب المترجم فيمن ذهب للسلام عليه وتهنئته بالظفر، ودخل مع العلماء فخصه الخديو بترحيب ورعاية زيادة عمن معه من العلماء تقديرا لحسن بلائه في الإخلاص له مدة الفتنة؛ ولحظ الشيخ الأنبابي شيخ الأزهر إغماضا عنه من الخديو، وخشي أن يعزله ليعيد العباسي، فقال بيدي لا بيد عمرو، واستقال بعد أيام؛ فأصدر الخديو أمره يوم الأحد 18 منه بإعادة العباسي إلى الأزهر، علاوة على منصب الإفتاء الذي بيده، ونصه موجها لرئيس النظار، وهو ما يعادل في عصرنا رئيس الوزراء:

إنه بناء على استعفاء حضرة الأستاذ الشيخ محمد الأنبابي من وظيفة مشيخة الجامع الأزهر، ووثوقنا بفضائل وعالمية حضرة الأستاذ الشيخ محمد العباسي المهدي، قد اقتضت إرادتنا توجيه هذه الوظيفة لعهدته كما كانت قبلا، علاوة على وظيفة إفتاء السادة الحنفية المتحلي بها من السابق، وصدر امرنا للمومى إليه بذلك في تاريخه، ولزم إصدار هذا لدولتكم إشعارا بما ذكر في 2 أكتوبر سنة 1882 الموافق 18 ذي القعدة سنة 1199.

فتمت للعباسي رياسة الأزهر على رغم أنف كثيرين، فإن بعض علماء الأزهر سعوا لتنصيب الشيخ عبد الهادي نجا الأبياري، وكتبوا كتابة بذلك وأخذوا يوقعون عليها، ويطوفون بها على العلماء، فلم يشعروا إلا وقد فاجأهم الأمر بإعادة العباسي، وذهب سعيهم وتعبهم أدراج الرياح.

واستمر العباسي جامعاً للمنصبين قائماً بشؤونهما أتم قيام، حتى كانت سنة 1304 وفيها بلغ الخديو أن جماعة من الأعيان والتجار مثل محمد باشا السيوفي، وأخيه أحمد باشا يجتمعون للسمر بدار العباسي في أغلب الليالي، فيتكلمون في الأمور السياسية ويظهرون أسفهم من وجود الإنجليز بمصر، وموافقة الحكومة لهم فيما يحاولون، وغير ذلك من هذه الشؤون، فحنق الخديو وأرسل لمحمد باشا السيوفي بالحضور فلم يجدوه، بل وجدوا أخاه أحمد باشا، فحضر إلى القصر وقابل الخديو، فوبخه توبيخاً شديدا وقال له: يخيل إليً أنكم تريدون إعادة الثورة العرابية، فتبرأ من ذاك وحلف أن اجتماعهم لم يكن إلا بقصد السمر والائتناس، ثم قابل الخديو الشيخ العباسي في إحدى المقابلات الاعتيادية فلم يهش له كعادته، بل قال له وقت الانصراف: يا حضرة الأستاذ، الأجدر بالإنسان أن يشتغل بأمور نفسه، ولا يتدخل فيما لا يعنيه ويجمع الجمعيات بداره. فلم يجبه المترجم إلا بقوله: أطال الله عمر أفندينا وأدام عليه العافية؛ إنني ضعفت عن حمل أثقال الأزهر، فأساله أن يعفيني منه. ولم يكن الخديو يتوقع منه هذا الكلام، بل كان يظنه يجيب بجواب يصرف المسألة بسلام، فغضب وقال مستفهما: ومن الإفتاء أيضاً؟ فقال له: نعم يا أفندينا ومن الإفتاء أيضاً، ثم انصرف.

ولم يكن الشيخ ممن يعزب عنهم أن مثل هذا السبب لا يدعو إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الخديو صرفه بالحسنى مع من اتهم معه، ولكن كان هناك سبب أقوى أغضبَ رئيس النظار نوبار باشا الأرمني، وذلك لحادثة رفعت عنها دعوى أمام المحاكم الأهلية، واستدعى الأمر طلب كشف وجه إحدى النساء المخدرات للتحقق منها فامتنعت عن الإسفار محتجة بعدم جوازه في الشريعة، واستفتي المترجم في النازلة، فأفتى بعدم الجواز وشدد في المسألة؛ فشكا رئيس النظار للخديو وأوضح له أن الشيخ أصبح عقبة أمام القضاة معارضاً لأحكام القضاء؛ ويقال إنه طلب منه إما أن يقيله من الوزارة، أو يعزل العباسي. فلما قال الخديو للشيخ ما قال تيقن أن المراد عزله فاستقال. فأمر الخديو يوم الثلاثاء 3 ربيع الثاني من السنة المذكورة بإعادة الشيخ محمد الأنبابى للأزهر، وإقامة الشيخ محمد البناء للإفتاء.

وبقى العباسي بداره التي على الخليج واشتغل بإصلاح قسم منها تشعث فأعاده إلى رونقه الأول، وصبغ حيطانه بالأصباغ، وهو القسم المطل على الخليج، وصار يمضي وقته بالنظر في شؤونه الخاصة والاشتغال بالعلم، إلى أن أعيد إلى الإفتاء قبيل وفاته فبقى به إلى وفاته، وأصيب في آخر أيامه بفالج وهو يتوضأ لصلاة الجمعة أبطل حركته، ثم تعافى قليلاً وصار يخرج في عجلته للتنزه بدون فرجية بل بعباءة بيضاء من الصوف، وأشير عليه بالإقامة بحلوان لجفافها، فانتقل إليها وأقام بها برهة لم يستفد فيها شيئاً، فعاد لداره بالقاهرة، ووافته منيته في الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء 13 رجب سنة 1315 عن اثنتين وسبعين سنة، بعد أن لازمه المرض نحو أربع سنوات، فأذن له على المآذن، وحزن الناس لموته حزناً شديداً، وتكاثرت الجموع على داره لتشييع جنازته، فقيل إن عدد المشيعين بلغ نحو أربعين ألفاً، والمصلين عليه نحو خمسة آلاف، ثم دفن بقرافة المجاورين في زاوية الأستاذ الحفني جنب أبيه وجده، ورثاه كثير من الشعراء.

وكان العباسي رحمه الله ربعة إلى الطول، مليح الوجه، منور الشيبة، معتدل القامة، ذا هيبة ووقار، مات عن ثروة طائلة وولدين هما الشيخ عبد الخالق المهدي والشيخ أمين، ماتا بعده الواحد تلو الآخر. ولم يؤلف من التآليف سوى مجموع فتاواه الذي سماه الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية، وطبع بمصر بين سنوات 1301 إلى 1304 في ثمانية أجزاء كبار، مرتبة على المواضيع.

عاش العباسي في عز وتبجيل مدة حياته، وتولى الإفتاء مدة إبراهيم باشا وعباس باشا الأول وسعيد باشا وإسماعيل باشا وتوفيق باشا، أي أربعين سنة من سنة 1264 إلى سنة 1304 لم يعزل فيها، فلم تحفظ عليه بادرة خطأ أو مخالفة للشرع، وسبب ذلك انه تولاه وهو صغير والعيون شاخصة إليه، فكان لا يفتي فتوى إلا بعد المراجعة والتدقيق والتعب الكثير، فحصلت له بذلك مَلَكة فيه حتى صار معدوم النظير، لا يجاريه مجار في هذا المضمار وأضيف إلى ذلك ما كان عليه من التقوى والتشدد في أمر الدين، حتى كانت مواقفه أمام الولاة لا تزيده إلا رفعة في عيونهم لعلمهم أنه لا يريد إلا نصرة الحق، فأحبوه وأغدقوا عليه بالإنعام.

ومن مواقفه غير ما ذكرناه أن الخديو إسماعيل باشا أراد مره ان يستولي على الأوقاف الأهلية ويعوض عنها أهلها ما يقوم بمعاشهم، فاستفتاه في ذلك فتوقف، وأفتاه بعضهم بالجواز، فتكدر منه وجمع بينه وبين مخالفيه، فناظرهم وفاز عليهم بعدما ألفوا رسائل في الحادثة وأكثروا من الجلبة.

ولم يقتصر الولاة على مشاورته في الأمور الدينية المختصة بمنصبه، بل كانوا يستشيرونه في غيرها من معضلات الأمور لما عرفوه فيه من سعة المدارك وجودة الرأي، حتى أن إسماعيل باشا لما عزل عن مصر قال لولده توفيق باشا فيما أوصاه به: احتفظ يا بني بالشيخ المهدي فأنه رجل لا نظير له.

وبالجملة فمحاسن المترجم كثيرة، ولم يكن فيها ما يشينه، سوى ما كان يرميه به بعض شانئيه من الإمساك والتقتير، ويضعون عليه النوادر الخارجة عن حد المعقول، والمعروف عنه المشاهد للقاصي والداني أن داره كانت مفتوحة للصادر والوارد، لا تخلو مائدته يوماً عنهم، وحسبنا أنه كان يخرج زكاة أمواله كل سنة ويفرقها على المستحقين رحمه الله رحمة واسعة وأكثر في الأمة من أمثاله.

وكان حائزاً لكسوة التشريف من الدرجة الأولى، ومنحه الخديو عباس باشا الثاني الوسام العثماني الأول في 21 صفر سنة 1310 هو وشيخ الأزهر الشيخ محمد الأنبابي، وقاضي القضاة جمال الدين افندي، وسبب ذلك ان السيد توفيقاً البكري نقيب الأشراف سافر في هذه السنة إلى دار السلطنة، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، وبرتبة قضاء عسكر الأناضول، فلما بلغ مسامع الخديو أحب أن لا يكون ممتازاً من كبار الشيوخ وهم القاضي والمفتي وشيخ الأزهر، فأنعم عليهم بهذا الوسام، وأرسل إلى السلطان ملتمساً الإنعام على المفتي وشيخ الأزهر برتبة قضاء عسكر الأناضول، وعلى القاضي برتبة قضاة عسكر الرومللي، لأنه كان حائزاً لرتبة الأناضول، لكن طلبه لم يصادف قبولاً.

أحيل على الشيخ العباسي قديماً أمر انتقال القضاة الشرعيين والمفتين الذين يقامون في ولايات القطر ومراكزه، فكان يختار ذوي الكفايات يتحرى فيهم النجابة والذكاء والديانة، ويحامي عنهم لدى الحكام، ويشد أزرهم، فحصل له بذلك مقام لدى أهل العلم المرشحين لهذه المناصب، وقصدوه ووجهوا وجوههم شطر داره، وهو مع ذلك لا يميل مع الهوى في تنصيبهم، ولو كان ممن يمد اليد لجمع من هذا الوجه شيئاً كثيراً، ثم رأت الحكومة أن يكون أمر تنصيبهم منوطاً بلجنة تؤلف من بنظارة الحقانية برياسة وكيلها إذ ذاك بطرس غالي باشا، وعرضوا على المترجم أن يكون من أعضاء تلك اللجنة فأبى.

وكان له في المحاماة عن أهل الأزهر ومساعدتهم القدح المعلى، ونروي عنه مواقف في ذلك: منها أن الشيخ مصطفى العروسي مدة توليه على الأزهر استصدر من الخديو إسماعيل باشا أمراً بنفي الشيخ حسن العدوى الحمزاوي إلى أسنا وكاد ينفذ فيه لولا أنه استغاث بالشيخ العباسي فقام بناصره وذهب للخديو مستشفعاً، ولجّ وألحّ حتى عفى عن الشيخ، والعدوي المولود سنة 1220 والمتوفى سنة 1303، له شرح على البخاري اسمه النور الساري من فيض صحيح البخاري.

رحمهم الله تعالى وبارك في الأزهر وعلمائه الأفاضل.

 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer