الجمعة، 7 يونيو 2013

حدث في السابع والعشرين من رجب



في السابع والعشرين من رجب من عام 1255= 1839 ولد في دمنهور البحيرة بمصر الشاعر الكبير والفارس الأصيل، رب السيف والقلم، محمود سامي باشا البارودي الشاعر الذي افتتحت به النهضة الشعرية الحديثة، ووحيد زمانه في بلاغة اللسان وثبات الجنان وعلو الهمة ومكارم الأخلاق وحب الإصلاح، وفي مايلي ترجمة لحياته مستقاة في كثير منها مما أورده السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار عند وفاة البارودي سنة 1322= 1904.

ولد محمود سامي بن حسن حسني بك البارودي، سنة 1255 لأسرة ينتهي نسبها إلى أمير مملوكي هو نوروز الأتابكي المالكي الأشرفي، والبارودي نسبة إلى إيتاي البارود بلدة من مديرية البحيرة بمصر، كان أحد أجداده ملتزماً لها فنُسِبَ إليها على عادة تلك الأيام، وكان والده ضابطا كبيراً في الجيش المصري، وتوفي في دنقلة بالسودان، حيث كان مديراً لمنطقتها، وكان محمود سامي حينئذ في السابعة من عمره.

تلقى البارودي تعليمه الأولي في منزل الأسرة، ودخل المدرسة الحربية في سنة 1267 وتخرج منها في أواخر سنة 1271،  ولكنه كان في طبعه ميل غريزي إلى الآداب العربية وفنون الإنشاء والنظم، فاشتغل بها حتى بلغ درجة عالية في النظم والنثر، ثم جنحت نفسه إلى تحصيل فنون الآداب التركية فرحل إلى القسطنطينية وأقام هناك بقلم كتابة السر بنظارة الخارجية في الباب العالي، فأتقن اللغة التركية قراءة وكتابة، وله فيها من الأشعار والرسائل ما يعترف أدباء الترك ببلاغته، وتعلَّم هناك أيضا اللغة الفارسية، وكان كذلك له ينظم الشعر بها، ولما انتهت إمارة مصر إلى إسماعيل باشا، وسافر إلى الأستانة ليشكر السلطان على توليته مصر، عاد بالبارودي في حاشيته وكان ذلك في أواخر سنة 1279، وعينه في مكتب المراسلات مع السلطنة العثمانية، وعلى إثر ذلك نظم البارودي قصيدة يهنيء الخديوي بولاية مصر، جاء فيها:

طرِبَ الفؤادُ وكان غير طَروب ... والمرء رهن بشاشة وقُطوب

رب العلا والمجد إسماعيل من ... وضحت به الأيام بعد شحوب

ملك ترفع أن تكون صفاته ... إلا له أو لابنه المحبوب

وأعاد مصر إلى جمال شبابها ... من بعد ما لبست خمار مشيب

وضاق البارودي بالعمل الديواني وتاقت نفسه للجندية، فألحق في أول سنة 1280 بالجيش في رتبة البكباشي العسكرية، وتعادل المقدم اليوم، ثم أرسل إلى فرنسا مع  عدد من ضباط الجيش المصري لمشاهدة المناورات العسكرية السنوية التي يقوم بها الجيش الفرنسي، ثم سافر إلى لندن للاطلاع على أعمال العسكرية البريطانية ومنجزاتها، ثم عاد إلى مصر فرُقِّيَ في منصف سنة 1281 إلى رتبة القائمقام، في فرقة الفرسان الثالثة  في الحرس الخديوي، وهي رتبة تماثل العقيد اليوم، وفي أواخر سنة 1281 رقي إلى رتبة أمير ألاي على الألاي الرابع من الحرس الخديوي، وهي رتبة تعادل العميد اليوم.

وفي اوائل سنة 1283 تمرد أهل جزيرة كريد عن طاعة الدولة العثمانية، فقامت الجيوش العثمانية بإخماد التمرد، وأرسلت مصر جيشاً لمساعدة الدولة على تأديبهم، كان البارودي فيه رئيس أركانه، وبعد إخماد نار التمرد، أنعم السلطان عبد العزيز على البارودي بالوسام العثماني من الدرجة الرابعة، وتوفيت والدته وهو في الحرب فقال يرثيها:

فيا أمنا زال العزاء وأقبلت ... مصائب تنهى القلب أن يتلوما

وكنت أرى الصبر الجميل مثوبة ... فصرت أراه بعد ذلك مأثما

وقد كنت أخشى أن أراك سقيمة ... فكيف وقد أصبحت في الترب أعظما

وعاد البارودي إلى مصر فعينه الخديوي ضمن حجابه، ويسمى بالياور، ولما صدر الفرمان السلطاني بحصر الخديوية المصرية في ذرية إسماعيل باشا في 13 ربيع الأول سنة 1290، وصار توفيق باشا ولياً للعهد جعل البارودي رئيس الحجاب، ويسمى الياوران، ولم تمض ثلاث سنين حتى جعله الخديوي مدير مكتبه الخاص.

ولكن البارودي عاد إلى السلك العسكري في لما خرجت بلاد الصرب على الدولة العثمانية، وأرسلت الحكومة المصرية جيشاً لمساعدة السلطنة على قمع التمرد، فأرسل إلى الأستانة في مهمة خاصة وأقام فيها ثلاثة أشهر ثم عاد إلى مصر، ثم عاد إليها ثانية مبعوثاً عندما اندلعت فتنة البلغار وخروج الجبل الأسود على الدولة العثمانية، ولما اشتعلت نار الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا سنة 1294 سافر مع الجيش المصري الذي أرسل لمساعدة الدولة إلى فارنا ولم يعد إلا بعد عقد الهدنة، وفي خلال ذلك رقي إلى رتبة أمير لواء ومنح الوسام المجيدي الثالث، وله من قصيدة طويلة يتشوق إلى وطنه ويصف الحرب والجيش بمدفعيته ومشاته وفرسانه:

أدور بعيني لا أرى غير أمة... من الروس بالبلقان يخطئها العد

جواثٍ على هام الجبال لغارة... يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو

إذا نحن سرنا صرّح الشر باسمه... وصاح القنا بالموت واستقتل الجند

وفي شهر ربيع الآخر سنة 1295 عين مديراً للشرقية، ثم عين رئيسا للشرطة في مصر، وكانت تسمى الضبطية، وبقي في هذا المنصب سنة كاملة نجح فيها في حفظ الأمن، رغم ما كان من المنافسة بين الأمراء والكبراء، ومن توجه كثير منهم لإثارة الشرور وإيقاف حركة الحكومة، في أواخر حكم إسماعيل باشا، الذي اتسم بكثرة الإنفاق والإغراق في الديون من الدول الأوربية الطامعة في السيطرة على مصر وخيراتها بما فيها قناة السويس التي افتتحت حديثاً.

وفي سنة 1297= 1879 جرى عزل إسماعيل باشا وأقيم ابنه الأكبر ووليّ عهده توفيق باشا أميراً لمصر، وكان قد وعد بإنشاء مجلس نيابي وتأسيس حكم ملكي دستوري على غرار بريطانيا، نظم البارودي قصيدة هنأه فيها وذكره بذلك الوعد:

سنَّ المشورة وهي أكرم خطة ... يجري عليها كل راع مرشد

هي عصمة الدين التي أوحى ... بها رب العباد إلى النبي محمد

فمن استعان بها تأيد ملكه ... ومن استهان بأمرها لم يرشد

أمران ما اجتمعا لقائد أمة ...  إلا جنى بهما ثمار السؤدد

جَمع يكون الأمر في ما بينهم ... شورى وجند للعدو بمرصَد

فالسيف لا يمضي بغير روية ... والرأي لا يمضي بغير مهند

فا عكف على الشوري تجد في طيها ... من بينات الحكم ما لم يوجد

عيَّن الخديوي توفيق الباروديَّ عضواً في مجلس الوزراء وقلده وزارة الأوقاف، وكانت تسمى نظارة عموم الأوقاف المصرية، وكانت مختلة معتلة فأصلح خللها وداوى عللها بما وضعه لها من القواعد والترتيب، ومن أبرز إنجازاته أنه اجتهد في جمع الكتب الموقوفة المتفرقة في المساجد وإنشاء دار للكتب تجمعها، وكان ذلك أساس دار الكتب المصرية، وعهد بنظارتها إلى صديقه نقيب الأشراف الشيخ محمد علي الببلاوي الذي صار فيما بعد شيخ الجامع الأزهر.

ولما أرادت مصر أن تجد لمشكلتها المالية حلاَّ سنحت الفرصة لإنجلترا فراحت تتدخل في شئون مصر وتتربص بها الدوائر، وما هي إلا سنوات معدودة حتى توصلت إلى ما سمي بالتسوية المصرية في سنة 1297= 1880، والتي منحت بريطانيا وفرنسا حق المراقبة المالية على الدولة المصرية، وفي نفس الفترة رقي البارودي إلى رتبة فريق، وأعطي الوسام المجيدي من الدرجة الثانية.

وبموجب التسوية المصرية أصبحت أمور الدخل والنفقات في أيدي المراقبين الأجنبيين، ونظرت مصر فإذا وزير ماليتها إنجليزي، وإذا وزير الأشغال فيها فرنسي، وإذا دوائرها تمتلئ بالموظفين من الأجانب يتمتعون فيها بالمرتبات العالية، وإن أهلها لتثقل كواهلهم الأعباء حتى يضيقوا بالحياة، وفي هذا يقول البارودي:

حكموا مصر وهي حاضرة الدنيا ... فأمست وقد خلت في البوادي

أصبحت منزل الشقاء وكانت ...  جنة ليس مثلها في البلاد

وقعوا بين ريفها وقراها بضروب الفساد وقع الجراد

في زمان قد كان للظلم فيه ... أثر النار في هشيم القتاد

وفي ظل هذه الأحوال قامت ثورة أحمد عرابي تطالب بمساواة الضباط المصريين بأمثالهم من الضباط الشراكسة، الذين كانوا العنصر المسيطر على الجيش والذين كانوا لا يفترون عن الكيد للمصريين من زملائهم.

وتفاقمت هذه المكائد إلى أن انتهت في غرة ربيع الأول من سنة 1298= 1881م بأن طالب الضباط المصريون الخديوي بعزل عثمان رفقي ناظر الجهادية، أي وزير الدفاع، فأجابهم إلى ذلك، وطلب منهم أن يختاروا وزيراً لها فاختاروا البارودي الذي جمع بين وزارتين:  الجيش والأوقاف.

إن اختيار الضباط المصريين للبارودي ليلي وزارة الدفاع، وهو الذي نشأ في حجر الإمارة عزيزاً كريماً، أمر يدل على ثقتهم الكبيرة بشهامته ووطنيته، وأنه سيعمل لما فيه المصلحة العامة، وكانت حركة الجيش أول الأمر قاصرة على مطالب تتعلق برجاله، ولكن ما لبث أن التقت مع الحركة الوطنية، واتحدت غايتاهما، فإن رجال الحركة الوطنية حينما سدت في وجوههم السبل لم يبق أمامهم إلا الاستعانة بالعسكريين، ورأى العسكريون من جانبهم أن في اضطلاعهم بمطالب الأمة ما يرفع من قدر حركتهم، فرحبوا بالفكرة وساروا بها لا يلوون على شيء.

ولم يطل الأمر أكثر من 6 أشهر حتى شعر البارودي أنه لم يعد محل ثقة الخديوي وأنه يشك في اتفاقه واشتراكه مع الضباط فيما كان يصدر عنهم من الأعمال المخالفة للنظام، فاستعفى فأعفاه الأمير وعين داود باشا يكن ناظراً للجهادية، وقال البارودي قصيدة في هذه المناسبة يهجو فيها عثمان رفقي:

كل صعب سوى المذلة سهل ... وحياة الكريم في الضيم قتل

إن مُرَّ الحِمام أعذب وِرداً ... من حياة فيها شقاء وذل

كيف لا أنصر الرشاد على الغي  ... وعقلي معي وفي النفس فضل؟

إن مُلكاً فيه فلان وزيراً  ... لمباح للخائنين وبِلُّ

أهوجٌ أحمقٌ شتيمٌ لئيمٌ  ... أغتمٌ أبلهٌ زنيم عُتلُ

كنت لا أحسن الهجاء ولكن ... علمتني صفاته كيف أتلو

وزاد ترك البارودي للوزارة الفتنة احتداماً، فحصلت المظاهرة المشهورة في ميدان قصر عابدين، والمواجهة الكلامية بين الخديوي وبين أحمد عرابي، وطلب عرابي إسقاط وزارة رياض باشا الموالية للبريطانيين، فأجابه الخديوي إلى ذلك، وعهد بتشكيل الوزارة إلى شريف باشا، المتوفى سنة 1304 = 1887، وكان شركسي الأصل يتسم بالاتزان والإخلاص.

ولما بلغ محمود سامي البارودي خبر سقوط وزارة رياض باشا أسف أسفاً شديداً لاعتقاده أن الخلل سيزيد والفوضى ستنتشر بعده، وقد سئل عن رأيه في تأليف وزارة تحت رياسة شريف باشا، وهل يجيب الدعوة ليكون فيها ناظرًا للجهادية كما كان؟ فأجاب بأنه عقد النية على أن لا يدخل في خدمة الحكومة ما دام لرجال العسكرية سلطان يعلو سلطان النظام، وصمم على ذلك مع الإخلاص وصدق العزيمة، ولما قبل شريف باشا تأليف الوزارة دعاه ليكون ناظر الجهادية فأبى، ولكن الخديوي توفيق باشا نفسه دعاه وأكد له القول بأنه لم يسئ به ظنًّا قط، بل كان يعتقد إخلاصه في جميع أعماله، وأن الذي أساء به الظن هو رياض باشا، وذكر له أمورا أثرت في نفسه تأثيرا حمله على قبول نظارة الجهادية لا رغبة فيها، ولكن استجابة للأمير وتشفيا ممن كان سببا في تشويه سمعته، ووقع بحسن نيته في الشَّرَك الذي كان يتحامى الوقوع فيه، إلى جانب أن شريف باشا عرف بنزاهته وإخلاصه لمصالح وطنه وبمقاومته للنفوذ الأجنبي والاستعمار البريطاني، وكان دائما محط آمال تطلعات المصريين بوطنيته التي تعلو فوق الشبهات.

وفي هذه الفترة تأسس بمساعي شريف باشا مجلس النواب المصري، على أسس دستورية ثابتة راسخة، ووافق الخديوي توفيق أن يكون الحكم ملكياً دستورياً، وأن يكون مجلس النواب هو مصدر السلطات، ولما أراد المجلس أن ينظر في ميزانية الحكومة عارض وكيلا دولتي فرنسا وإنكلترا ذلك واعتبراه نقضاً للاتفاقيات التي تمنحهما حق مراقبة مالية مصر نظراً لما للدولتين من الديون عند الحكومة، ولما أصر النواب على وجوب النظر في الميزانية كغيرها، وعدم قبول تدخل الأجانب في ذلك، ولم يقبلوا ما نقحت الوزارة به لائحة مجلس النواب، بل أرسلوا وفدًا في أوائل سنة 1299= 1882 إلى الخديوي يطلبون تنفيذ ما قرروه أو إسقاط الوزارة، فطلب من البارودي تأليف وزارة جديدة كان أحمد عرابي وزير الحربية بها، وسارت الأعمال بعد ذلك سيراً مرضيًّا، ثم ما لبث أن تدهورت الأمور بسبب انكشاف تآمر بعض الضباط الجراكسة لقتل عرابي وعدد من مؤيديه، فأحالهم عرابي على محكمة عسكرية يرأسها ضابط وطني شهم هو راشد باشا الجركسي فحكم عليهم بالنفي إلى أقاصي السودان.

وتلقف الإنجليز هذه الأحكام واعتبروها غير عادلة صادرة عن محكمة لا تلتزم بالمعاير القانونية المعتبرة، وخوفوا الخديوي من هيمنة المصريين وبخاصة عرابي، فوقع الخلاف بين الوزارة التي يرأسها البارودي وبين الخديوي توفيق ومن ورائه الإنجليز، وصور هؤلاءالأمور وكأنها بيد حكومة عسكرية مستبدة متصلبة تقود البلاد نحو الهاوية، وتجاهلوا ما أسست له أو أنجزته وزارة البارودي من الإصلاح، ووجدها توفيق فرصة للتخلص من هذه الوزارة المتشددة، وتوترت الأوضاع في البلاد، وأبدت الوزارة مرونة للوصول إلى حل وسط، ولكن الخديوي استمر على موقفه مستنداً إلى تأييد بريطانيا له، وقال لسفراء بريطانيا وفرنسا أنه لم يبق آمنًا على مسنده ولا على دماء الأوربيين وأموالهم في مصر، فطلب قنصل فرنسا وإنكلترا من دولتيهما إرسال أساطيلهما بحجة حماية الأجانب، ولما حضر الأسطولان قدم القنصلان في منتصف سنة 1299= 1882 لائحة يطلبان فيها إسقاط الوزارة وإخراج عرابي من القطر المصري وغير ذلك، فقبلها الخديوي، ولكن الوزارة توجهت في هذه القضية لمجلس النواب متجاوزة الخديوي، ونتج عن ذلك مواجهة متصلبة استقال بعدها البارودي من الوزارة، ولكن بقية الوزارة لم تستقيل معتبرة أن إقالتها هي بيد مجلس النواب، وصار عرابي هو الرجل القوي في الوزارة، وقد عُدَّت هذه الاستقالة من أخطاء البارودي.

وفي هذه الظروف قال البارودي قصيدة قال فيها:

ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت  ... قواعد الملك حتى ظل في خلل

وأصبحت دولة الفُسطاط خاضعة ... بعد الإباء وكانت زهرة الدول

وشاع قول الخديوي حول انعدام الأمن فانحشر الأجانب إلى الإسكندرية تمهيداً للرحيل، وهاجر الألوف منهم، فزاد الخوف وكثر الاعتداء في الإسكندرية، وتفاقم الشر بعد ذلك بحريق الإسكندرية الذي كان بمعرفة محافظها عمر باشا لطفي بإيحاء من الخديوي، وهاجم الأسطول البريطاني الإسكندرية، واستولى عليها جيش الاحتلال البريطاني بقيادة جارنيت ولسلي ثم اتخذ طريقه إلى القاهرة، وسيطرت السفن البريطانية على قتاة السويس، خرج البارودي من عزلته وتولى قيادة قوات المتطوعين في الصالحية، ثم استدعي للمشاركة في موقعة القصاصين، فتأخر وصار عرضة للمدافع البريطانية، فتخاذل بعض من أعوانه وفروا من المعركة، فقال يعرض بهؤلاء وغيرهم من المتخاذلين في الثورة العرابية:

دعوني إلى الجلى فقمت مبادراً ... وإني إلى أمثال تلك لسابق

فلما استمر الجد ساقوا حُمُولهم ... إلى حيث لم يبلغه حاد وسائق

فلا رحم الله امرأً باع دينه ... بدنيا سواه وهو للحق رامق

وقد أقسموا ألا يزولوا فما بدا ... سنا الفجر لإلا والنساء طوالق

فياليتني راجعت حلمي ولم أكن ... زعيماً وعاقتني لذاك العوائق

ولما تمكن الإنكليز من البلاد وحاكموا رجال الثورة حكموا عليه بالنفي في سنة 1300=1882 إلى جزيرة سيلان، جمهورية سريلانكا اليوم، ومكث في المنفى 17 عاماً تعلم خلالها اللغة الانجليزية فأتقنها، وكان يفقه مسلمي سيلان ويدرسهم، وبعد سنة من نفيه توفيت في مصر زوجته عديلة بنت المشير أحمد يَكَن باشا، وأم ولده وبناته الأربع، وكان قد تزوجها سنة 1867، فرثاها بقصيدة من عيون الشعر العربي الحديث، تدفقت من شعور صادق فأتت أبياتها تحمل دفق الإحساس الذي عصرته الفاجعة وعمق الجرح النازف الذي ولدته المصيبة:

ريب المنون قدحتَ أي زناد ... وأطرت أية شعلة بفؤادي

أبلتني الحسرات حتى لم يكد ... جسمي يلوح لأعين العواد

لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي ... تقوى على رد الحبيب الغادي

يا موت فيم فجعتني بحليلة؟ ... كانت خلاصة عدتي و عتادي

لو كنت لم ترحم ضناي لبعدها ... أفلا رحمت من الأسى أولادي؟!

أفردتهن فلم ينمن توجعا ... قرحى العيون روادف الأكباد

يبكين من ألم الفراق حفية ... كانت لهن كثيرة الإسعاد

فخدودهن من الدموع ندية ... وقلوبهن من الهموم سواد

ثم ما لبثت ابنته ستيرة أن توفيت فلما جاءه نعيها في سيلان لم يستطع البكاء من غلبة الحزن عليه، فلم يزد في رثائها على هذين البيتين:

فزعتُ إلى الدموع فلم تجبني ... وفقد الدمع عند الحزن داءُ

وما قصرت في جزع ولكن ... إذا غلب الأسى ذهب البكاء

وفي سنة 1307 توفي أستاذه وصديقه الشيخ حسين المرصفي، وصديقه عبد الله باشا فكري، وزير المعارف في وزارة البارودي، فقال يرثيهما ويتشوق إلى مصر:

أين أيام لذتي وشبابي؟ ... أتراها تعود بعد الذهاب؟

ذاك عهد مضى وأبعدُ شيءٍ ... أن يرد الزمانُ عهد التصابي

يا نديمي من سرنديب كفّا ... عن ملامي وخلياني لما بي

كيف لا أندب الشباب وقد أصبحت كهلاً في محنة واغتراب

لم تدع صولة الحوادث مني ... غير أشلاء همة في ثياب

فجعتني بوالديَّ وأهلي ... ثم أنحت تكرُّ في أترابي

أين مني حسين بل أين عبد الله رب الكمال والآداب؟

لم أجد منهما بديلاً لنفسي ... غبر حزني عليهما واكتئابي

وتزوج البارودي وهو في المنفى أمينة بنت اللواء يعقوب سامي أحد زملائه في الثورة والنفي، ويتوفى له ولد منها اسمه علي وهو لا يزال طفلاً، فيدفنه في بلدة كندي شرق كولومبو التي ضمت قبر زميله الثائر ووزير الأشغال في وزارته المهندس محمود فهمي باشا، الذي توفى منفياً سنة 1311، ويرثي ابنه فيقول:

بكيت علياً إذ مضى لسبيله ... بعين تكاد الروح في دمعها تجري

وإني لأدري أن حزني لا يفي  ... برزئي ولكن لا سبيل إلى الصبر

وكيف أذود القلب عن حسراته ... وأهون ما ألقاه يصدع في الصخر؟!

وتمعن الغربة في قسوتها عليه، فتتدفق قصائده شوقاً إلى مصر، ولكنه يدرك أنه يدفع ثمن إخلاصه ووطنيته، فيقبل صابراً محتسباً:

أبيت في غربة لا النفس راضية ... بها ولا الملتقى من شيعتي كَثَبُ

فلا رفيق تسر النفس طلعته ... ولا صديق يرى ما بي فيكتئب

ومن عجائب ما لاقيت من زمني ... أني منيت بخطب أمره عجب

فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنبٌ أدان به ظلماً وأَغترِب؟

فلا يظن بي الحساد مندمةً ... فإنني صابر في الله محتسب

ويبين البارودي موقفه في الثورة العرابية، وكيف أنه أراد العدل والإنصاف، وتحقيق ما وعد به الخديوي الأمة من الشورى والدستور:

يقول أناس إنني ثرت خالعاً ... وتلك هنات لم تكن من خلائقي

ولكنني ناديت بالعدل طالباً  ... رضا الله واستنهضت أهل الحقائق

فإن كان عصياناً قيامي فإنني  ... أردت بعصياني إطاعة خالقي

وهل دعوة الشورى عليَّ غضاضة ... وفيها لمن يبغي الهدى كل فارق

على أنني لم آل نصحاً لمعشر ... أبى عذرهم أن يقبلوا قول صادق

رأوا أن يسوسوا الناس قهراً فأسرعوا  ... إلى نقض ما شادته أيدي الوثائق

وأصبح وادي النيل نهباً وأصبحت ... إمارته القعساء نُهزة مارق

فهذا هو الحق المبين فلا تسل ... سواي فإني عالم بالحقائق

فيا مصر مد الله ظلك وارتوى ... ثراك بسلسال من النيل دافق

فأنت حمى قومي ومشعب أسرتي ... وملعب أترابي ومجرى سوابقي

ثم عاد البارودي إلى مصر منتصف سنة 1317= 1899م، وأصدر الخديوي عباس، الذي تولى بعد توفيق، عفواً تاماً عنه بعد بضعة أشهر، وأعاد إليه رتبة الفريق العسكرية، وقال البارودي في مستهل عودته قصيدته التي أولها:

أبابلُ رأي العين أم هذه مصرُ؟... فإني أرى فيها عيوناً هي السحرُ

فأي فؤاد لا يذوب صبابة ... ومُزنة عين لا يصُوب لها قَطر

عاد البارودي إلى القاهرة وقد تمكنت منه العلل والأمراض، وكُفَّ بصره، ومثله مثل عرابي الذي عاد سنة 1319، لم يعد إلى السياسة، بل فتح بيته للأدباء والشعراء، يستمع إليهم، ويسمعون منه، وكان على رأسهم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومطران وإسماعيل صبري، وقد تأثروا به ونسجوا على منواله، فخطوا بالشعر خطوات واسعة، وبعد عودته من سيلان جمع البارودي مختاراته الشعرية التي ضمت قرابة 40.000 بيت شعر مما اختاره من شعر ثلاثين من فحول الشعراء المولدين؛ لتكون عونًا للناشئين على تنمية ملكة البلاغة العربية وتقوية سليقة الشعر والخيال، وطبعت بعد وفاته ببضع سنوات في 4 أجزاء.

توفي البارودي، عن 65 عاماً، في الرابع من شوال سنة 1322= 1904، وصلى عليه الإمام محمد عبده، وهكذا كانت نهاية رحلة نفس متعبة بشهامتها وشموخها بعد طول عناء، وهو الذي يقول:

ِ برتني تبارِيحُ الحياة ِ، فلم تدعْ ... لديَّ سوى روحٍ ترددُ في جسمِ
يقولونَ "محمودٌ"، ويا ليتَ أنني ... كما زعموا، أو ليت لِي طالِعاً كاسمي

رحمه الله رحمة واسعة.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer