الجمعة، 14 يونيو 2013

حدث في الثالث من شعبان


في الثالث من شعبان من عام 747 توفي في غرناطة، عن 73 عاماً، القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الجذامي المعروف بابن شبرين، كان فريد دهره في حسن السمت، وجمال الرواء، وبراعة الخط، وطيب المجالسة.

ولد القاضي أبو بكر بن شبرين في سبتة سنة 674، وهي عَدْوة المغرب إلى الأندلس، وأصله من شِلْب Silves من كورة باجة Beja ، وشلب اليوم في جنوبي غربي البرتغال تبعد عن البحر المتوسط قرابة 15 كيلا، وكانت تتبع إشبيلية في تلك الأيام، وكان جده قد ولي قضاء إشبيلية وعاش والده فيها فلما خرجت من يد المسلمين واستولى عليها الملك فرديناند الثالث سنة 646، رحل الوالد شرقاً إلى رُندة Ronda، ثم غرناطة، ثم عبر البحر إلى المغرب إلى سبتة، وتزوج بها، وولد ابنه أبو بكر ونشأ وتعلم فيها.

وتعلم أبو بكر ابن شبرين النحو في سبتة على جده لأمه الأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، محمد بن عبد الله بن عبيدة، المولود سنة 627 والمتوفى بسبتة سنة 706، سكن سبتة بعد إشبيلية، وكان مقرئاً أديباً يقول الشعر الفائق. وأخذ أبو بكر القراءات عن قاضي سبتة أبي إسحاق الغافقي، إبراهيم بن أحمد بن عيسى بن الغافقي الاشبيلي، المتوفى سنة 716، وهو كذلك ممن خرجوا من إشبيلية، ودرس الأصول والفرائض على إمام سبتة قاسم بن عبد الله بن محمد بن الشاطّ الأنصاري، المولود بسبتة 643 والمتوفى بها سنة 723، وكان كاتباً مترسلاً رياناً من الأدب.

وسمع أبو بكر ابن شبرين الحديث على أبي عبد الله محمد بن حريث البلنسي ثم السبتي خطيب سبتة وفقيهها، راوي الموطأ والمتوفى زاهداً مجاوراً بمكة سنة 722، وأخذ كذلك عن أبي جعفر الثقفي أحمد بن إبراهيم بن الزبير المولود بجيان سنة 627 والمتوفى بغرناطة سنة 708، وكان خاتمة المحدثين وصدور العلماء والمقرئين، وشيوخه نحو الأربعمئة، وإليه انتهت الرياسة بالأندلس في صناعة العربية وتجويد القرآن ورواية الحديث، وله كتاب في التراجم وَصلَ به صلةَ ابن بشكوال، وأخذ أبو بكر كذلك عن أبي عبد الله ابن رشيد الفهري السبتي، محمد بن عمر بن محمد بن عمر، المولود بسبتة 657 والمتوفى بفاس سنة 721، وكان فريد عصره جلالة وعدالة وحفظاً، وأدباً وسمتاً وهدياً، واسع السماع عالي الإسناد، صحيح النقل، أصيل الضبط، تام العناية بصناعة الحديث، درَّس بسبتة، ثم قدم غرناطة سنة 692 فأقام بها خطيباً بمسجدها الأعظم ثم انتقل إلى مدينة فاس فأقام بها معظماً عند الملوك والخاصة. وكان من شيوخ أبي بكر: أبو عبد الله بن ربيع، محمد بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع القرطبي المالكي الأشعري، نزيل مالقة، المولود بقرطبة سنة 626 والمتوفى بمالقة سنة 719، وكان محدث مالقة وفقيهها ووزيرها.

ورحل أبو بكر إلى بجاية في الجزائر وأخذ الحديث عن المحدث الكبير المعمَّر أبي علي المَشَدالّي، منصور بن أحمد بن عبد الحق، المولود سنة 632 والمتوفى سنة 731، وكان محدثاً جامعاً للفقه والأدب والكلام والتصوف، مقبلاً على العبادة والاشتغال بالعلم، ورحل إلى مدينة تونس فأخذ بها عن قاضي الجماعة الشيخ الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع، المتوفى سنة 734 عن 99 عاماً، وكان علامة وقته ونادرة زمانه.

وأجازه مسند الوقت شهاب الدين الأبرقوهي، أحمد بن إسحاق، المولد بأصبهان سنة 615 والذي عاش بمصر وتوفي بمكة سنة 701، وأجازه الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد، محمد بن علي بن وهب بن مطيع، المولود سنة 625 والمتوفى بالقاهرة سنة 702، وأجازه الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، المولود بدمياط سنة 613 والمتوفى بالقاهرة سنة 705، وله 1300 شيخ.

وكان أمير سبتة في تلك الأيام أبا طالب العزفي، عبد الله بن محمد، المولود 638 والمتوفى سنة 713، وكان فقيها، حافظا للحديث، له علم بالتاريخ، يقرب العلماء ويحتفي بهم، فصارت للعلم والأدب سوق رائجة، واستمرت دولته 27 سنة إلى سنة 705 حين استولى على سبتة الأمير فرج بن إسماعيل بن الأحمر النصري، فخرج القاضي أبو بكر بن شبرين عقب ذلك إلى غرناطة والتحق بديوان الكتابة السلطانية، ثم تولى القضاء بكثير من الجهات، وصار من أعيان البلاد ووجهاء الزمان.

ولأخذ أبي بكر عن الشيوخ المعمَّرين اتسع نطاق روايته وارتفع سنده، فصارت الرحلة إليه في طلب الحديث، وبخاصة عندما صار في الأندلس.

وأخذ عن شبرين ابن جزي الكلبي، محمد بن محمد بن أحمد، المولود سنة 721 والمتوفى سنة 757، وهو شاعر من كتاب الدواوين السلطانية في الأندلس والمغرب، وهو الذي أملى عليه ابن بطوطة رحلته فكتبها سنة756، ونقل عنه في رحلة ابن بطوطة شعره في غرناطة:

رعى الله من غرناطة متبوَءاً ... يسر كئيباً أو يجير طريدا

تبرم منها صاحبي بعد ما رأى ... مسارحها بالبرد عُدنَ جليدا

هي الثغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون بَرودا؟!

ومن أشهر من أخذوا عن ابن شبرين الوزير الكبير والأديب الفريد لسان الدين ابن الخطيب، محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني، المولود بغرناطة سنة 713  والمقتول بفاس 776، والذى صنف المقري على اسمه كتابه العظيم: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذِكْرِ وزيرها لسان الدين ابن الخطيب.

قال لسان الدين ابن الخطيب في التاج المحلى في مساجلة القدح المعلَّى يصف شيخه أبا بكر بن شبرين: خاتمة المحسنين، وقدوة الفصحاء اللسنين، قريع بيت تزحم النجوم بكاهله، وورد من المجد أعذب مناهله، ملأ العيون هديا وسمتا، وسلك من الوقار طريقة لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، فما شئت من فضل ذات، وبراعة أدوات، إن خطّ، نزل ابن مقلة عن درجته وانحط، وإن نظم ونثر، تبعت البلغاء ذلك الأثر، وإن تكلم أنصت الحفل لاستماعه، وشرع لدرره النفيسة صدف أسماعه.

وفد على الأندلس عند كائنة سبتة، وقد طوحت النوى برحاله، وظعن عن ربعه لتوالي إمحاله، وكان مُصرِّفَ الدولة ببلادها، والمستولى على طارفها وتلادها، ومَعرَس الآداب ومقيلها، وقاعش العثرات ومُقيلها، أبو عبد الله بن الحكيم، قدس الله هداه وسقى منتداه، فاهتز لقدومه اهتزاز الصارم، وتلقاه تلقى الأكارم، وأنهض إلى الغاية آماله، وألقى له قبل الوسادة ماله، ونظمه في سمط الكتاب، وأسلاه عن أعمال الأقتاد والأقتاب ،ولم يزل زمامه يتأكد في هذه الدول، ويربى له الآتية منها على الأول، فتصرف في القضاء بجهاتها، ونادته العناية هاك وهاتها، فجدد عهد حكامها العدول من سلفه وقضاتها، وله الأدب الذي تحلت بقلائده اللبات والنحور، وقصرت عن جواهره البحور، وسترى من ذلك في تضاعيف هذا المجموع ما يشهد بسعة ذرعه ويخبر بكرم عنصره وطيب نبعه.

وأبو عبد الله بن الحكيم الذي أشار إليه لسان الدين ابن الخطيب هو محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللخمي الرندي، المولود سنة 660، وكان وزير المخلوع النصري أبي عبد الله محمد بن محمد قلده الوزارة والكتابة، سنة 703 ثم لقبه بذي الوزارتين، وصار صاحب أمره ونهيه، واستمر إلى أن توفي بغرناطة قتيلا 708، وكانت له عناية بالرواية واقتناء نفائس الكتب، وقال لسان الدين ابن الخطيب: كان أعلم الناس بنقد الشعر، وأشدهم فطنة لحسنه وقبيحه، ومع ذلك فكانت بضاعته فيه مزجاة.

وقُتِل ابن الحكيم في انقلاب قام به أخو المخلوع، واسمه نصر على أخيه، فقد هاجم في عيد الفطر قصر محمد، فقتلوا الوزير، وخلع محمدٌ نفسه فنفوه إلى بلدة المنكب، ثم مالبث أخوه أن قتله غرقاً سنة 813، وحزَّ في نفس ابن ابن شبرين أن يذهب الوزير ضحية هذا التنازع الأثيم، وهو صاحب فضل عليه حين أحسن وفادته وأكرم منزله وأعلى منزلته، فرثاه بقصيدة منها اعترف فيها بفضله وتذكره بعد أن دالت دولته، ونسيه من كان يطلب رفده ويرجو رضاه:

سقى الله أشلاءً كرُمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا

ومما شجاني أن أُهين مكانُها ... وأهمل قدْراً ما عهدناه مهمَلا

ألا اصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا

لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا

ألا إن يوم ابن الحكيم لمُثكِلٌ ... فؤادي، فما ينفك ما عشت مثكَلا

فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا

رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا؟!

وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا

ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أمحل العام أخضلا

ومازج منا الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا

وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى

به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا

لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا

على خادم الآثار تتلى صحائحاً ... على حامل القرآن يتلى مفصلا

على عضد المُلك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مسكاً ومندلا

على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا

وأنى لنا من بعده متعلل ... وما كان في حاجاتنا متعللا

ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا

يسوء المُصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدها الملا

وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا

فيا أيها الميت الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا

لتهنك من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا

رثيتك عن حب ثوى  في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلى

ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا

تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدَّكِر ذاك الندى والتفضلا

لحى الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا

حنانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعدك أُفلا

وكنت لآمالي حياةً هنيئةً ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتَّلاً

فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد ينسى من ذمامك ما خلا

فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا

فآليت لا ينفك قلبي مكمداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلاً

والتقى ابن شبرين بالملك المخلوع في منفاه فبثه شجونه وأحزانه، وطلب منه أن ينظم قصيدة عن لسانه ينفث بها عن عبراته المكنونة، فقال ابن شبرين  أبياتاً منها:

قفا نفسِّا فالخطب فيه يهون ... ولا تعجلا إن الحديث شجون

علِمنا الذي قد كان من صرف دهرنا ... ولسنا على علم بما سيكون

ذكرنا نعيماً قد تقضى نعيمه ... فأقلقنا شوقٌ له وحنين

وبالأمس كنا كيف شئنا وللدُنا ... حراك على أحكامنا وسكون

وإذ بابنا مثوى الفؤاد ونحونا ... تمد رقاب أو تشير عيون

فنُغِّصَ من ذاك السرور مهنَأ ... وكُدِرَ من ذاك النعيم مَعين

وبِنَّا عن الأوطان بين ضرورة ... وقد يقرب الإنسان ثم يبين

أيا معهد الإسعاد حييت معهداً ... وجادك من سكب الغمام هتون

تريد الليالي أن تهين مكاننا ... رويدك إن الخير ليس يهون

فإن تكن الأيام قد لعبت بنا ... ودارت علينا للخطوب فنون

فمن عادة الأيام ذل كرامها ... ولكن سبيل الصابرين مبين

لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا ... فلا عجب إن العبيد تخون

وما غض منا مَخبَرٌ غير أنه ... تضاعف إيمان وزاد يقين

ومن أدباء ذلك الزمان ابن هانئ السبتي، محمد بن علي بن هانئ، كان أديباً نحوياً مؤرخاً، استشهد في جبل الفتح سنة 733 حين خرج مجاهداً فأصابه حجر منجنيق، وكان صديقاً لابن شبرين من أيام الدرس بسبتة فرثاه بقصيدة طويلة فيها كثير من الذكريات وزيارة الأيام الخوالي:

قد كان ما قال البريدْ ... فاصبر فحزنك لا يفيد

أودى ابن هانئ الرضي ... فاعتادني للثكل عيد

بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد

قد كان زيناً للوجود ففيه قد فجع الوجود

العلم والتحقيق والتوفيق والحسب التليد

تندى خلائقه فقل ... فيها هي الروض المجود

مُغْض عن الإخوان لا ... جهم اللقاء ولا كنود

أودى شهيداً باذلاً ... مجهوده، نعم الشهيد

لم أنسه حين المعارف باسمه فينا تشيد

وله صبوب في طلاب العلم يتلوه صعود

لله وقت كان ينظمنا كما نظم الفريد

أيام نغدو أو نروح وسعينا السعي الحميد

وإذا المشايخ جثم ... هضَبات حلم لا تميد

ومرادنا جم النبات وعيشنا خضر البرود

لهفي على الإخوان والأتراب كلهم فقيد

لو جئت أوطاني لأنكرني التهائم والنجود

ولراع نفسي شيب من ... غادرته وهو الوليد

ولطُفت ما بين اللحود وقد تكاثرت اللحود

سرعان ما عاث الِحمام ونحن أيقاظ هجود

كم رُمت إعمال المسير فقيدت عزمي قيود

والآن أخلفت الوعود، وأخلقت تلك البرود

ما للفتى ما يبتغي ... فالله يفعل ما يريد

أعلى القديم الملك يا ... ويلاه يعترض العبيد؟!

ولكل شيء غاية ... ولربما لان الحديد

إيه أبا عبد الإله ودوننا مرمى بعيد

أين الرسائل منك تأتينا كما نسق العقود

أين الرسوم الصالحات تصرمت؟ أين العهود؟

أنعِمْ مساءً لا تخطتك البشائر والسعود

واقدم على دار الرضى ... حيث الإقامة والخلود

والق الأحبة حيث دار الملك والقصر المشيد

حتى الشهادة لم تفتك فنجمك النجم السعيد

لا تبعدن وعد لو أن ... الميت في الدنيا يعود

فلئن بليت فإن ذكرك في الدنا غض جديد

تالله لا تنساك أندية العلا ما اخضر عود

وإذا تسومح في الحقوق فحقك الحق الأكيد

جادت صداك غمامة ... يرمي بها ذاك الصعيد

وتعهدتك من المهيمن رحمة أبداً وجود

كان أبو بكر بن شبرين فريد دهره في حسن السمت، وجمال الرواء، وبراعة الخط، وطيب المجالسة، من أهل الدين والفضل والعدالة، غاية في حسن العهد وطيب المجلس، أشد الناس اقتداراً على نظم الشعر حتى تعددت أسفار ديوانه وكان يستكثر منه ولا ينقحه، وشعره متعدد الأغراض، فيه الحكمة والزهد إلى الغزل والشوق، ولا عجب فقد كانت الأندلس والمغرب تعجان بالشعراء الذي في كل واد يهيمون، وكانت لابن شبرين مع شعراء زمانه مطارحات شعرية منها ما كان بينه وبين عبد الله بن محمد التجاني التونسي، الأديب الكاتب الرحالة، المولود سنة 675 والمتوفى سنة 721، جمعها التجاني في كتاب أسماه: نفحات النسرين في مخاطبة ابن شبرين.

ودخل الأندلس سنة 718 الكاتب أبو عبد الله محمد بن عمر المليكشي الأفريقي، المتوفى سنة 740، فتعرف على ابن شبرين، وصارت بينهما مراسلات ومطارحات، واعتقله أمير بجاية فكتب إلى صديقه أبي بكر بن شبرين من بجاية، وهو معتقل بقصبتها:

شرح حالي لمن يريد سؤالي ... إنني في اعتقال مولى الموال

مطلق الحمد والثناء عليه ... وهو للعطف والجميل موال

لا أرى للولاة في احتكاما ... وولي عال على كل وال

أرتجي بالمصاب تكفير ذنبي ... حسبما جاء في الصحاح العوال

لا تدوم الدنيا ولا الخير فيها ... وكذا الشر ذا وذا للزوال

فاغتنم ساعة الوصال وكم ... من محنة وهي منحة من نوال

فأجابه رحمه الله:

أرغمن هذه القيود الثقال ... رب ود مصيره للتغالِ

إن عندي من الثناء عليه ... لأماني لم يُملِهِن القالِ

أرْجِ دنياك وارْجُ مولاك واعلم ... أن راجي سواه غير مقال

وابتغاءَ الثواب من ربك اعمل ... فهو يجزي الأعمال بالمثقال

واغتنم غيبة الرقيب ففيها ... لقلوب الرجال أي صقال

وأجِلْ في الوجود فكر غنيٍّ ... عن ضروب الإنعام والأحفال

وإذا الوقت ضاق وسِّعه بالصبر ولا تنس من شهير المقال

"ربما تكره النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال"

ومن شعره يتغزل:

يا أيها المعرض اللاهي ... يسوءني هجرك والله

من يرد الله به فتنة ... يشغله في الدنيا بتياه

وله في هجر الذل:

لي همة كلما حاولت أمسكها ... على المذلة في أرجاء أرضيها

قالت: ألم تك أرض الله واسعة ... حتى يهاجر عبدٌ مؤمنٌ فيها؟

وقال مسترجعاً من ذنبه، ومستوحشاً من شيبه:

قد كان عيبي من قبل في غيب ... فمذ بدا شيبي بدا عيبي

لا عذر لي اليوم ولا حجة ... فضحتني والله يا شيبي

وإلى جانب الشعر يبدو أن ابن شبرين كان يشتغل بتصنيف كتاب تاريخي لأن لسان الدين الخطيب في عددٍ من تراجم العلماء في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة ينقل أخبار وفاتهم عن أوراق شيخه المكتوبة بخطه.

توفي ابن شبرين في غرناطة سنة 747، ولم يعقب من الذكور أحداً، وترك وراءه ثروة طائلة ليس فيها من الكتب إلا قليل، لإيثاره اقتناء النقدين، ودُفن في باب إلبيرة في دار اتخذها لذلك، وعين راتباً لمن يتلو كتاب الله على قبره، ومن شعره رحمه الله:

أثقلتني الذنوب ويحي وويسي ... ليتني كنت زاهداً كأويس
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer