الجمعة، 29 مارس 2013

حدث في السادس عشر من جمادى الأولى

في السادس عشر من جمادى الأولى من سنة 814 أمر السلطان المملوكي الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق بإعدام ثلاثة رجال من آل البيري يمتون بالقرابة لجمال الدين البيري الإستدار الذي كان قد أعدمه خنقاً قبل سنتين في 11 جمادى الآخرة من سنة 812، والمقتولون من أقارب البيري هم أحمد ابنه، وأحمد ابن أخته، وحمزة ابن  أخاه. وسنتناول هذه الواقعة بما يعطينا إطلالة على جوانب مضطربة من عصر الممماليك، بدا فيها التكالب على المال، والمبالغة في الظلم والمصادرات، والمسارعة إلى سفك الدماء، وتقلب الأحوال، وهي جوانب مظلمة تظهر على أشدها عندما يكون السلطان ولداً يافعاً أو شاباً متقلباً حائراً.
ونبدأ بالحديث عن منصب الإستدار، قال القلقشندي في صبح الأعشى: دار: لفظةٌ فارسية معناها مُمْسِك، وكثير من كتاب الزمان أو أكثرهم بل كلهم يظنون أن لفظ دار في ذلك عربي بمعنى المحلة، كدار السلطان أو الأمير ونحو ذلك، وهو خطأ كما سيأتي بيانه.
والمضاف إلى لفظ دار من من وظائف أرباب السيوف تسعة ألقاب: الأول - الإستدار. بكسر الهمزة وهو لقبٌ على الذي يتولى قبض مال السلطان أو الأمير وصرفه، وتمتثل أوامره فيه. وهو مركب من لفظتين فارسيتين: إحداهما إستذ، ومعناها الأخذ. والثانية دار، ومعناها المُمسِك كما تقدم، فأدغمت الذال الأولى وهي المعجمة في الثانية وهي المهملة فصار إستدار.
ثم نستعرض سريعاً سيرة السلطان الناصر فرج المولود سنة 791، وتوفي والده الملك الظاهر برقوق سنة 801 عن 63 عاماً، وبعد أن حكم مصر أتابكاً وسلطاناً قرابة 21 عاماً، وأوصى برقوق بالحكم لابنه الناصر فرج الذي كان في العاشرة، وامتنع نائب الشام عن الطاعة وانضم إليه نواب حلب وحماة وصفد وطرابلس وغزة، فخرج الناصر فرج لقتالهم سنة 802 فتلقوه في الرملة بفلسطين فهزمهم ودخل دمشق، فأعلن الامان، وهدأت الأمور، فعاد إلى مصر.

وما لبث تيمور لنك أن تقدم من المشرق لاحتلال حلب وحماة ودمشق سنة 803، فجاء الناصر فرج بجيش كبير من مصر ورابط في دمشق، وناوش طلائع تيمورلنك، ثم عاد فجأة إلى القاهرة وترك دمشق وغيرها فريسة لتيمورلنك وعساكره فأمعنوا فيها نهبا وحرقا وتعذيبا ومحوا.

وفي سنة 808  ضاق صدر الناصر فرج بسيطرة الأمراء عليه ومخالفتهم لقرارته، فخرج متنكرا، واختفى، فاجتمع الأمراء وأخرجوا أخا له صغيرا أيضا فبايعوه، وهو عبد العزيز بن برقوق، فلم يلبث أن ظهر الناصر بعد نحو شهرين من اختفائه، فقاتل من كانوا مع أخيه، وقتل أخاه، وعاد إلى السلطنة.

وانتظمت له الأمور إلى سنة 814، ولكنه أفرط في قتل مماليك أبيه خشية انقلابهم عليه، فخرج بعضهم إلى غزة وبلاد الشام، والتف حولهم كثيرون من جبل نابلس وغيره، واستفحل أمرهم، فقصدهم الناصر، وقاتلهم في اللجون من ضياع الشام، فكانت الدائرة عليه وانهزم، فدخل دمشق، فنادوا بخلعه، فأرسل إليهم يطلب الامان، فقيدوه وسجنوه في قلعة دمشق، ثم قتلوه في القلعة وعينوا مكانه الخليفة العباسي المستعين بالله.

أما الإستدار البيري، الذي أعدم بسببه أقاربه الثلاثة، فهو جمال الدين يوسف بن أحمد البيري، نسبة إلى البيرة وهي بلدة قرب نصيبين في جنوبي تركيا اليوم، ولد سنة 752 في البيرة، وكان والده خطيب البلدة، وتزوج والده أخت وزير حلب شمس الدين عبد الله بن يوسف بن سحلول، فنشأ في حلب في كنف خاله، وسلك سبيل طلب العلم على خطى والده، فحفظ القرآن وكتباً في الفقه والعربية،  وتزيا  بزي الفقهاء، ويبدو أنه لم يستطع أن يحصل قوت عيشه من وراء العلم في حلب، فارتحل على فاقة عظيمة إلى دمشق فتزيا بزي الجند وخدم بلاصياً عند الشيخ علي كاشف بر دمشق وغيره، ثم ارتحل إلى القاهرة وهو في الثامنة عشرة من عمره، فخدم إستداراً عند الأمير بجاس النوروزي نائب قلعة الجبل، وعمل معه فترة طويلة وتزوج ابنته وعُرِفَ به، فصار يدعى إستدار بجاس بعد أن كان يعرف بابن الحريري.

وصحب جمالُ الدين القاضيَّ سعدَ الدين إبراهيم بن غراب، وكان ناظر الجيوش وناظر الخاص، ثم صار إستدار السلطان، فنوه ذلك بذكر جمال الدين الذي عمل إستداراً عند الأمير سودون الحمزاوي خازندار السلطان.

وكان كبار الأمراء حول الملك الشاب كانوا موضع شك دائم لاحتمال أن ينقلبوا عليه ويتآمروا لتولية واحد منهم، وكان الملك الشاب في توجس دائم منهم، ولذا كان يقرٍّب هذا ويبعد ذاك ويسفك دم الآخر، وأغلب ذلك مبني على حلقة مفرغة من الظُّنة تفاقم في الشك وتزيد في التوتر، ويستغلها المتعادون للوشاية بخصوهم متقربين إلى الملك بذلك علَّ بطشه يخلصهم من هؤلاء الأعداء، وممن طالهم هذا الوباء الأتابك يشبك الشعباني، الذي كان بمثابة الوصي على الملك، فقد أراد إبعاد بعض الأمراء عن القاهرة، فقاتلوه وهزموه، وسجنه الملك الناصر فرج سنة 803 في الإسكندرية وحيث كان ابن غراب محسوباً عليه اختفى من الخوف، ثم طلب الأمان من السلطان والأمراء فلما جاءه عاد ابن غراب للقاهرة ونزل على صديقه جمال الدين البيري الذي استرضى السلطان عنه فأعاده إلى منصب ناظر الجيوش، واختص ابن غراب بالسلطان الذي عفى عن يشبك وأعاده إلى القاهرة.

وفي سنة 805 اعتقل السلطان إستداره سعد الدين ابن غراب، وعين محله ركن الدين عمر بن قايماز وكان إستدار الأمير بيبرس كبير الأمراء وابن أخت السلطان، الأتابك، فدعي البيري ليصير إستدار الأمير بيبرس مع بقائه عند الأمير سودون، فظهرت حسن مباشرته للوظائف الكبار، وعظم قدره ومحله، وأثرى وعمَّر الدور الكبار، ويقال أنه وجد في واحدة منها خبيئة للفاطميين، وأكد هذا المقريزي في المواعظ والاعتبار، منبهاً أن صلاح الدين لم يجد كثير مال للفاطميين لأنهم خبؤوه فوجد بعضه البيري.

وفي سنة 807 تخيل السلطان أن الأتابك يشبك يدبر أمراً، ولم يكن لذلك أساس في الواقع، وبلغ ذلك الشك مسامع يشبك فما عاد يصعد للقلعة خشية من أن يعتقله السلطان، وأدى هذا إلى أن يؤكد للسلطان شكوكه، وانتهى الأمر بيشبك أن هرب إلى الشام ومعه الوزير ابن غراب، فسجن السلطان بعضاً من أعوانهما ومنهم جمال الدين البيري، ثم أخرجه وعينه إستداراً للسلطان مكان عمر بن قايماز، وعاد ابن غراب فجأة للقاهرة ونزل على صديقه جمال الدين البيري الذي استرضى السلطان عنه فأعاده إلى منصب ناظر الجيوش، واختص ابن غراب بالسلطان ومازال به حتى عفى عن يشبك وأعاده إلى القاهرة.

واشتُهر جمال الدين بالمروءة وقضاء حوائج الناس، وصار مقصداً للملهوفين يقضي حوائجهم، ويركب معهم إلى ذوي الجاه، فتزايدت وجاهته، ونفذت كلمته، ومات قاضي الشافعية بحلب سنة 805، وكان شمس الدين محمد بن أحمد البيري، أخو جمال الدين، قاضي البيرة فنُقِلَ بمساعي أخيه ليصير قاضي حلب، ثم عزل فتوجه إلى مكة المكرمة فجاور بها.
واستمر نجم البيري في الصعود حتى أصبح في مقام الوزراء، وعرضت عليه الوزارة سنة 806 فحلف ألا يتولاها، وأشار عليهم بعلم الدين يحيى بن أسعد فأخذوا برأيه وعينوه في الوزارة.
وكان الأمير يلبغا السالمي من قدامى كبار أمراء الدولة، وقد ناله نصيب من تقلباتها وإهاناتها، وانتهى به الأمر في سنة 807 أن صار مشير الدولة، وكان منافساً لجمال الدين البيري في الاستحواذ على إدارة البلاد، وبدأ يتعرض له أمام السلطان والأمراء، وبحكم منصبه قام يلبغا مرتين بتغيير أسعار النقود تغييراً مجحفاً بالناس، وأخلَّ بنسبة الذهب والفضة فيما يسك من نقود، فتضعضت الثقة التجارية وارتفعت الأسعار، فانتهز ذلك البيري وسعى لدى السلطان حتى غيَّره عليه، فأمر بالقبض علي يلبغا السالمي، وسلمه لجمال الدين البيري فعاقبه وصادره، ثم نفي إلى الإسكندرية، وبقي فيها حتى لقي حتفه خنقاً بأمر السلطان في سنة 812.
وفي أوائل سنة 808 اختفى فجأة الملك الناصر فرج! ولم يُعرف له مكان أو يعثر له على أثر، فخلعه كبار أمراء الدولة وعينوا محله أخاه عبد العزيز وتلقب بالملك المنصور، ثم ظهر الملك الناصر بعد 70 يوماً من مخبئه بالقاهرة، حيث كان في بيت سعد الدين ابن غراب، وعاد إلى الملك وتعقب بالعقوبة من انكشفت له عداوته من أمراء المماليك، وألقى السلطان مقاليد الدولة في يد ابن غراب، وكان من الطبيعي أن يتوجس جمال الدين البيري من أن يتناوله ابن غراب بالإقصاء، رغم سابق صداقة بينهما، ولكن ابن غراب مرض مرضاً لم يمهله فمات وهو دون الثلاثين، فاستولى جمال الدين حينئذ على الأمور وتولى نظر الخاص.

وبعد وفاة سعد الدين ابن غراب عُزِل أخوه ماجد بن عبد الرزاق وسُلِّم إلى جمال الدين البيري لاستخلاص أمواله، فعاقبه أشد عقوبة وسجنه عنده، ثم سلمه إلى الوالي وحرضه عليه حتى مات تحت العقوبة.
وفي أول سنة 810 خرج السلطان الملك الناصر فرج إلى الشام، ولما وصل دمشق أمر باعتقال الأمير يشبك والأمير شيخ، نائب السلطنة بالشام، وسلمها إلى الأمير منطوق أمير قلعة دمشق، فاستمالاه حتى انضم إليهما وأطلق سراحيهما فهربا إلى حمص وبدأا في الإعداد للإطاحة بالملك الناصر الذي عاد إلى مصر، وهاجم الأميران دمشق بعد شهرين ففر من كان بها من الأمراء وملك شيخ دمشق، وقبض على جماعة، وولي وعزل، ونادى بالأمان، ولكن أمير حلب الأمير نوروز الحافظي الذي كان موالياً للسلطان جمع جيشاً كبيراً واتجه به نحو الشام، فكانت بينه وبين جيش يشبك وقعة قُتِل فيها يشبك وعدد من أمرائه وأسر فيها عدد آخر، وذلك في ربيع الآخر من سنة 810، فلما بلغ ذلك الأمير شيخ خرج من دمشق ودخلها نوروز دون قتال، وبعث بالخبر إلى السلطان، فسر بذلك سروراً كثيراً، ولكن الأمير شيخ بقي متمرداً على السلطان ومصدر قلق كبير له، لأنه كان من كبار الأمراء ويميل إليه كثير  منهم، ولذا اضطر السلطان إلى مهادنته بوساطة الأمير نوروز فأعاده نائباً على الشام في آخر سنة 810.
وبقتل يشبك خلا الجو لجمال الدين البيري، وصار عزيز مصر على الحقيقة، لا يعقد أمر إلا به، ولا تنفصل مشورة إلا عن رأيه، ولا يخرج إقطاع ولو قلَّ إلا بإذنه، ولا يَستخدم أحدٌ من الأمراء ولو عظم كاتباً عنده إلا من جهته، ولا تباع دار حتى تعرض عليه، ولا يثبت مكتوب على قاض حتى يستأذنه، ولا يباع شيء من الجوهر والصيني، ولا من آنية الذهب والفضة، ولا من الفرو والصوف والحرير، ولا من كتب العلم النفيسة، حتى تعرض عليه، ولا يلي أحد وظيفة ولو قلَّت، حتى نواب القضاة، إلا بأمره، ثم تجاوز ذلك حتى صار لا يتحكم أمير في فلاّحه حتى يؤامره، ولا تكتب وصية حتى تعرض عليه أو يأذن، فيها وخضع له الآمر والمأمور، وكثر تردد الناس إلى بابه، حتى كان رؤساء الدولة من الدوادار وكاتب السر فمن دونهما ينزلون في ركابه إلى منزله، ولا يصدر أحد منهم إلا عن رأيه، وجعل البيري ابنه أمير الحاج رُغم حداثة سنة وهوج وخفة فيه.
وزاد جمال الدين البيري نسبة كثير من الضرائب حتى وصل بعضها إلى الضعف، واستحدث بعضها، وشملت حتى ما صيد من سمك النيل الذي كان يحمل إلى دار السمك بالقاهرة، فيباع ويؤخذ منه مكس السلطان، فزاد جمال الدين فيما كان يؤخذ من الصيادين مكساً، فقلّ السمك بالقاهرة وغلا سعره.
ثم شرع في انتهاك حرمة الأوقاف، فحلها أولاً فأولاً، وكان قبل ذلك يتوقى في الظاهر، فربما رام استبدال بعض الأوقاف فيعسِّر عليه القاضي الذي مذهبه جوازه إلى أن تجتمع شروط الجواز، فيبادر هو فيدس بعض الفعلة إلى ذلك المكان في الليل، فيفسد في أساسه حتى يكاد يسقط، فيرسل من يحذر سكانه، فإذا اشتهر ذلك بادر المستحق إلى الاستبدال، ومن غفل منهم أو تمنع سقط فنقص من قيمته ما كان يدفعه له لو كان قائماً، ثم لم يعد محتاجاً إلى هذه الحيلة لما زاد تمكنه في الدولة، فقد تواطأ معه للأسف قاضيان فاسدان هما القاضي الحنفي كمال الدين عمر ابن العديم، والقاضي الحنبلي مجد الدين سالم بن سالم المقدسي الحنبلي، حتى أن ناظر الجيش كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز رافق ابن العديم في جنازة، ففاتحه في انتهاك حرمة الأوقاف بكثرة الاستبدال، فقال له: إن عشت أنا والقاضي مجد الدين سالم لا يبقى في بلدكم وقف!

وكانت بينه جمال الدين وبين المقريزي المؤرخ صحبة، ومع ذلك فإن تقي الدين المقريزي، أحمد بن علي المولود سنة 766 والمتوفى سنة 845، قال في كتابه المواعظ والاعتبار وهو يستعرض أنواع الأوقاف:
الجهة الثانية تُعرف بالأوقاف الحكمية بمصر والقاهرة، ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعيّ، وفيها ما حُبس من الرباع على الحرمين وعلى الصدقات والأسرى وأنواع القُرَب، ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف، فتارة ينفرد بنظر أوقاف مصر والقاهرة رجل واحد من أعيان نوّاب القاضي، وتارة ينفرد بأوقاف القاهرة ناظر من الأعيان، ويلي نظر أوقاف مصر آخر، ولكل من أوقاف البلدين ديوان فيه كتّاب وجباة، وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمة، فيُصرف منها لأهل الحرمين أموال عظيمة في كلّ سنة، تحمل من مصر إليهم مع من يثق به قاضي القضاة، وتفرق هناك صرراً، ويُصرف منها أيضاً بمصر والقاهرة لطلبة العلم ولأهل الستر وللفقراء شيء كثير، إلاّ أنها اختلت وتلاشت في زمننا هذا، وعما قليل إن دام ما نحن فيه لم يبق لها أثر البتة، وسبب ذلك أنه ولي قضاء الحنفية كمال الدين عمر بن العديم في أيام الملك الناصر فرج، وولاية الأمير جمال الدين يوسف تدبير الأمور والمملكة، فتظاهرا معاً على إتلاف الأوقاف، فكان جمال الدين إذا أراد أخذ وقف من الأوقاف، أقام شاهدين يشهدان بأن هذا المكان يضرّ بالجار والمارّ، وأن الحظ فيه أن يستبدل به غيره، فيحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم باستبدال ذلك، وشَرِهَ جمال الدين في هذا الفعل كما شَرِهَ في غيره، فحكم له المذكور باستبدال القصور العامرة، والدور الجليلة بهذه الطريقة، والناس على دين ملكهم، فصار كلّ من يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضي المذكور بجاه أو مال، فيحكم له بما يريد من ذلك، واستدرج غيره من القضاة إلى نوع آخر، وهو أن تقام شهود القيمة فيشهدون بأن هذا الوقف ضارّ بالجار والمار، وأن الحظ والمصلحة في بيعه أنقاضاً، فيحكم قاض شافعيّ المذهب ببيع تلك الأنقاض. واستمرّ الأمر على هذا إلى وقتنا هذا الذي نحن فيه، ثم زاد بعض سفهاء قضاة زمننا في المعنى وحكم ببيع المساجد الجامعة إذا خرب ما حولها، وأخذ ذرية واقفها ثمن أنقاضها، وحكم آخر منهم ببيع الوقف ودفع الثمن لمستحقه من غير شراء بدل، فامتدت الأيدي لبيع الأوقاف حتى تلف بذلك سائر ما كان في قرافتي مصر من التُرَب، وجميع ما كان من الدور الجليلة، والمساكن الأنيقة، بمصر الفسطاط فكان ما ذكر أحد أسباب الخراب.

ومن التناقضات التي أشار إليها المؤرخون أن هؤلاء الأمراء على ظلمهم وعسفهم وجمعهم الأموال بالباطل، كانوا يبنون المساجد والمدارس والأربطة، وإلى الله ترجع الأمور، ويتكرر في ثنايا كتاب المواعظ والاعتبار ما اغتصبه جمال الدين وابن أخته الأمير الحاجب شهاب الدين من الأوقاف والمنشآت العامة ودروب وحوانيت وأملاك الناس وأوقافهم ليبني دوره ومدرسته وقيساريته وفندقاً للتجار يصطلح عليه بالوكالة، ولذا قال ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة: وأعجب من ظلمهم إنشاؤهم المدارس والربط، من هذا المال القبيح، الذي هو من دماء المسلمين وأموالهم! وهكذا رأينا جمال الدين البيري يبني مدرسة برحبة العيد بالقاهرة ويرتب فيها مدرسين على المذاهب الأربعة ودرس حديث، وافتتحها في منتصف سنة 811، ومدَّ فيها سماطاً هائلاً وملأ الفسقية بالسكر المكرر، واستمر حضور المدرسين، في كل يوم يحضر واحد ويخلع عليه عند فراغه، فلما كان بعد أسبوع جدد فيها درس تفسير يقوم به قاضي القضاة جلال الدين البلقيني،  ولم يمض وقت طويل إلا وقد وصلت أخبار المدرسة للسلطان، ونمَّ بعض الناس على جمال الدين بأنه عمل مدرسة وبالغوا في وصفها وما بها من الرخام والزخرفة، وأنه ما اكتفى بذلك حتى شرع في بناء مدرسة أخرى بباب زويلة، فاستفسر الملك الناصر منه عن ذلك، فأدرك ما قد كيد له، وفهم من أين أُتي، فقال على الفور للسلطان: إنما شرعت في عمل مسجد وفيه مدرس على اسم مولانا السلطان ليختص بثواب ذلك. فأرضاه بذلك وقد لزم غلطه فصيره له حقيقة.

ولم يزل نفوذ جمال الدين يتزايد ومكانته تعلو، وهو يحصل الأموال من كل طريق، ويداري بالكثير منها، ويمتن على الملك الناصر بكثير من الأموال التي ينفقها عليه، إلى أن كاد يغلب على الأمر، وفي الآخر صار يشتري بني آدم الأحرار من السلطان، فكل من عاداه أو شك في عداوته أو خشي من منافسته، استأذن السلطان في إهلاكه، واشتراه منه بمال معين يعجل حمله إلى الناصر، ويتسلم ذلك الرجل فيهلكه، فهلك على يده خلق كثير جداً.
وكانت بداية النهاية لجمال الدين البيري في رحلة قام بها السلطان أواخر سنة 811 إلى دمشق لمواجهة تمرد الأمير شيخ، فقد وشى الأمير يشبك الموساوي إلى السلطان أن الأمير شيخ قد خرج عن طاعته، وبلغ ذلك مسامع الأمير شيخ فاستدعى القضاة والأعيان، وكتب محضرا أخذ خطوطهم فيه ببطلان ما قيل عنه، وأنه باق على الطاعة السلطانية، وأرسل به قاضي دمشق إلى القاهرة يستعطف خاطر السلطان، فلم يقبل السلطان عذره، واشتد غضبه، وأمر بالاستعداد للخروج إلى الشام، لقتال الأمير شيخ، فبدأ شيخ بدوره في تجميع القوات وتجهيز الجيش، وأعلن تمرده على السلطان، واتجه السلطان إلى دمشق لقمع التمرد فلما عسكر بمرج اللَجون جنوبي طبرية في أول سنة 812، أتاه الأمير أقبغا وأخبره أن بعض مماليكه سيغدرون به ويقتلوه، فاستشار السلطان كاتب السر فتح الدين فتح الله والأمير جمال الدين البيري الإستدار بحضور الأمير أقبغا، وكانا من دون الناس موضع ثقة السلطان، فاستشارهما فيما يعمل، فاستقر رأيهم على أن يستدعي السلطان المتآمرين إلى عنده، ويقبض عليهم.

وكان  جمال الدين ميالاً للمتآمرين، فأخبرهم بما ينتظرهم، وبعث إليهم بمال كبير لهم، وللأمير شيخ نائب الشام، فهربوا في جنح الليل إلى جهة الشام حتى لحقوا بالأمير شيخ، واشتد قلق السلطان، وطلب السلطان جمال الدين وفتح الله لثقته بهما، ولا علم له بشيء مما فعله جمال الدين، فأشار عليه فتح الله بالثبات، وأشار جمال الدين بركوبه ليلاً، وعوده إلى مصر، يريد بذلك إفساد حال السلطان، فنازعه فتح الله وخاصةُ السلطان، وما زالوا بالسلطان يثبتونه ، فدخل دمشق دون مقاومة واستطاع في النهاية كسر الأمير شيخ في معركة عند مدينة صرخد في سهل حوران جنوبي دمشق، ومع ذلك ولاّه السلطان إمارة طرابلس، وكتب إلى أهل دمشق بذلك وأمرهم أن يقاتلوا الأمير شيخ إن هو قصد دمشق!

ولم يبلغ خبر هذا التواطؤ السلطان الملك الناصر إلا بعد أيام فلم يعد يثق به أبداً، وكان سبب كشفه أن السلطان لم يكن معه في هذه السفرة من الذهب إلا النزر اليسير، فطلب من جمال الدين مبلغاً فقال جمال الدين: ما معي إلا مبلغ هين. فاستغرب السلطان ذلك وقصه لفتح الله كاتب السر، فقال له فتح الله: قد رافق جمال الدين في هذه السفرة تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم كاتب المماليك، وأخوه مجد الدين عبد الغني مستوفي الديوان المفرد، فاسألهما وتلطف بهما تعلم ما مع جمال الدين من الذهب. فطلبهما السلطان وسألهما، فأعلماه بما فعله جمال الدين من إرسال الذهب للأمراء وإعلامهم بنية السلطان في اعتقالهم، حتى فروا ولحقوا بالأمير شيخ، واستشار السلطان الأمير الكبير تغري بردي، والد المؤرخ، في القبض على جمال الدين، فقال له: المصلحة تركه حتى يعود إلى جهة القاهرة، ويقبض عليه وعلى جميع أقاربه، حتى لا يفوت السلطان منهم أحد، وتكون الحوطة على الجميع معاً، فأعجب السلطان ذلك، وسكت عن قبضه بالديار الشامية.

وعاد السلطان قافلاً نحو القاهرة، فلما بلغ قريباً منها في يوم 9 جمادى الأولى أمر بالقبض على الأمير جمال الدين الإستدار وعلى ابنه الأمير شهاب الدين أحمد وعلى ابني أخته الأمير شهاب الدين أحمد وحمزة، وعامة حواشيه وأسبابه، وقيدوا، ومضى بهم الأمير الكبير تغري بردى إلى القاهرة، وأمر بالختم على حواصل جمال الدين ودوره، وأحيط بها، وتقدم فتح الله كاتب السر لحفظ موجوده.

والله يمهل ولا يهمل، ولذا شرب الأمير جمال الدين البيري من كأس طالما جرعها آخرين، وكان نصيبه العصر في رجليه حتى يعترف على ما لديه من أموال جمعها فيضمها السلطان إلى جملة ثروته، فأخرج عدة دخائر منها ذخيرة من حارة زويلة، وجدت مدفونة في التراب، ذهباً مصبوباً من غير وعاء، زنته تعاد اليوم 233 كيلاً، غربلت من التراب، ووزنت بحضرة قضاة القضاة الأربع، وذخيرة أخرى وجد فيها تسع قفاف مملوءة ذهباً، وحق فيه نفائس من الجوهر، وذخيرة ثالثة أخرجها ابنه أحمد بحضرة القضاة وكاتب السر من منزله، بلغت 202000 دينار، ثم خبيئة أخرى من داره، بلغت ستين ألف دينار، ومن السلاح والقماش وسائر الأصناف شيئاً كثيراً، فكان يحمل منه في كل يوم عدد كثير من الأحمال، ثم عصر ثانية عصراً شديداً، وعصر ابنه بحضرته، فاعترف الإبن بذخيرة وجد فيها 11300 دينار، ولم يعترف جمال الدين بشيء، وأنزل ابن أخته شهاب الدين أحمد الحاجب وأخيه حمزة من القلعة إلى بيت الأمير تاج الدين بن الهيصم الإستدار، فسلما إليه، فعاقب جماعة من أقارب جمال الدين، بل طال العذاب زوجته سارة بنت الأمير بجاس، ووضعت وهي حامل على دست نار فأَسقطت، ورأت من الذل ما لا يوصف، وماتت بعد ذلك قهراً.

ثم طلب السلطان مواجهة جمال الدين فأحضر محمولاً إلى بين يديه، لأنه من شدة التعذيب ما عاد يتمكن من المشي، فلما مثل جمال الدين أمام السلطان عنَّفه على ما كان منه، فاعترف بالخطأ، وسأل العفو، وقبل الأرض، ثم أعاده إلى موضع حبسه من القلعة، وأمر بمعالجته حتى يبرأ.

وبعد ذلك وجد لجمال الدين بمدرسته بيت فيه سبعمئة قفة فلوس، فكان مبلغ ما وجد له 964000 دينار، ثم نقل في النهاية على قفص حمال إلى بيت الأمير حسام الدين حسين الأحول، فعاقبه أشد العقوبة لإحن كانت في نفسه منه، ثم خنقه في 11 جمادى الآخرة من سنة 812، وقطع رأسه، وحمله إلى السلطان حتى رآه، ثم أعاد الرأس، فدفن مع جثته.

ومن غريب ما اتفق في ذلك أنه جمال الدين البيري كان قد أخذ من تَرِكة بعض الأكابر حاصلاً فيه ذهب وعلبة ملأى بالجواهر والأحجار النفيسة، فبلغ السلطان ذلك، فطلبه من الأمير جمال الدين فأنكره، وأودع ذلك عند جندي يقال له جلبان، فلما قُبِض على جمال الدين وأُمر بحمل ما عنده من الأموال ذكر أن له عند جلبان وديعة نحو عشرة قفف ذهباً، فطُلِبَ المذكور فغلب عليه الخوف فأحضر الذهب والعلبة التي فيها الجواهر، فسُرَّ الناصر بذلك سروراً شديداً، وبلغ ذلك جمال الدين فشق عليه مشقة شديدة.

وبعد قتل جمال الدين البيري عيَّن الملك الناصر فرج في منصب ناظر الخاص عبد الغني بن إبراهيم ابن الهيصم القبطي المصري، فاستمر أزيد من سنة في هذا المنصب ومات في سنة 813، وقد فتح هو كذلك من أبواب الظلم والمصادرات في هذه المدة اليسيرة الشيء الكثير.

ولكن ما لبث الانتقام أن لحق بأقارب جمال الدين البيري، فأُمْسِك ابنه الأمير شهاب الدين أحمد، وأخواه القاضي شمس الدين محمد، وناصر الدين، وابن أخته الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب، وكان يشغل منصب إستدار الأملاك والذخائر السلطانية، وابن أخته حمزة، وزوج ابنة أخيه شرف الدين أبو بكر بن العجمي، وعوقبوا عقوبات شديدة، وألزموا بأموال كثيرة، فمات ناصر الدين أخو جمال الدين في العقوبة بعد ما أخذ منه نحو مئة ألف درهم، وأخذ من الأمير أحمد ابن أخته ستة آلاف دينار مصرية، ثم انتهى الأمر بقتل أحمد ابنه، وأحمد ابن أخته، وحمزة ابن  أخاه، وسلم من الموت أخوه محمد شمس الدين.

وكان محمد قد سلك طريق العلم كما سبق وذكرنا، وجاء من مكة إلى القاهرة في دولة أخيه فعظم قدره وولي خطابة بيت المقدس ثم قضاء مصر، ثم نزع أخوه جمال الدين مشيخة المدرسة البيبرسية ثم تدريس الشافعي من علي بن سيف الأبياري النحوي وأعطاهما له، ثم انتزعتا منه بعد مقتل أخيه، ثم أعيدت إليه البيبرسية في سنة 816، ثم قُرِّر في مشيخة سعيد السعداء سنة 820، واستمر بها حتى وفاته سنة 829، ه، وكان ساكناً وقوراً لين الجانب قليل الشر كثير الثروة.

وامتدت يد الملك الناصر فرج إلى المدرسة التي أنشأها الأمير جمال الدين يوسف الإستدار برحبة باب العيد، فقد حسن أعداء جمال الدين للسلطان أن يهدمها، ويأخذ رخامها، فإنه في غاية الحسن، ويسترجع الأملاك والأراضي الموقوفة عليها، فإنها تغل جملة كبيرة، فعزم على ذلك، وكادت أن تهدم، ولكن فتح الله كاتب السر عمل على صرف السلطان عن ذلك، ومازال به حتى تركها وقرر أن ينقض ما وقفه جمال الدين، ويجدد السلطان وقفها، فتصير مدرسته، فاشترى السلطان بناء المدرسة بعشرة آلاف دينار من ورثة جمال الدين، وكتب لها كتاب وقف على ما كان جمال الدين قرره فيها من الفقهاء والقراء وغيرهم، وأمر أن يمحي اسم جمال الدين ورَنْكه، أي شعاره، من المدرسة، ويكتب بدله اسم السلطان، فصارت تدعى بالمدرسة الناصرية، بعدما كان يقال لها الجمالية.

وما من يد إلا يد الله فوقها ... وما ظالم إلا سيبلى بأظلم

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer