الجمعة، 8 مارس 2013

حدث في الثامن والعشرين من ربيع الآخر

في الثامن والعشرين من ربيع الآخر من سنة 264 توفي في مصر، عن 96 عاماً، الإمام يونس بن عبد الأعلى الصَدَفي الشافعي، الفقيه الكببر والمحدث الثبت، صاحب الإمام الشافعي بمصر، قال عنه الإمام: ما رأيت بمصر أحدا أعقل من يونس. والصَدَفي: نسبة إلى الصدف بن سهل، وهي قبيلة كبيرة من حِميَر نزلت مصر.
ولد أبو موسى يونس بن عبد الأعلى بن موسى بن ميسرة الصدفي في مصر سنة 170، وكان والده عبد الأعلى - ويُكنّى أبا سلمة - رجلاً صالحاً، ومن كلامه: من اشترى ما لا يحتاج إليه: باع ما يحتاج إليه، وقال ولده يونس: والأمر عندي كما قال. وتوفي عبد الأعلى سنة 201 عن 80 سنة رحمه الله تعالى.
حفظ ابن عبد الأعلى القرآن الكريم وتعلم القراءات عَرْضاً عن الإمام وَرْش، عثمان بن سعيد المتوفى بمصر سنة 197 عن 87 سنة، وقرأ كذلك على كبار قرّاء زمانه، وصار علماً في رواية القراءات، وممن روى القراءة عنه محمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن جرير الطبري.
طلب ابن عبد الأعلى علم الحديث حتى صار علامة في علم الأخبار والصحيح والسقيم، وروى الحديث عن الإمام سفيان بن عيينة، وقد قال عنه الشافعي: مالك وسفيان قرينان. وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا كان أعلم بالسُنن من سفيان بن عيينة.
وروى عن يونس بن عبد الأعلى الإمامُ مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه، وله أحاديث في سنن الإمام النسائي، أحمد بن شعيب المتوفى سنة  303 عن 88 عاماً، وفي سنن الإمام ابن ماجه، محمد بن يزيد الربعي المتوفى سنة 273 عن 67 عاماً، وفي تاريخ الإمام محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 عن 86 عاماً، وفي كُتُبِ الإمام محمد بن نصر المروزي، إمام الحديث في عصره بلا مدافعة، والمتوفى سنة 294 عن 92 عاماً، وفي مسند الحافظ أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرايني، المتوفى سنة 316، وفي كتب الإمام أبو جعفر الطحاوي، أحمد بن محمد المتوفى سنة 321 عن 82 عاماً.
وحيث أمدَّ الله في عمره فقد قصده طلاب الحديث من خراسان والعراق والشام وإفريقية والمغرب وبلاد الأندلس، وكثير منهم كانوا من كبار علماء بلدانهم وقضاتها.
وجاء إلى مصر من خراسان في طلب الحديث محدثّان كبيران رحّالان هما أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي، وتركا أثراً كبيراً في نفس يونس بن عبد الأعلى.  أما أبو زرعة الرازي، عبيد الله بن عبد الكريم المتوفى سنة 264 عن 64 عاماً، فكان حافظاً إماماً، كان يحفظ مئة ألف حديث، ويقال: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل. وأما أبو حاتم الرازي، محمد بن إدريس بن المنذر المتوفى سنة 277 عن 82 عاماً، فكان محدثاً كبيراً من أقران البخاري ومسلم رحمهم الله تعالى.
وقد ذكرهما يونس بن عبد الأعلى فقال: أبو زرعة آية، وإذا أراد الله أن يجعل عبداً من عباده آية جعله، وما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة، هو وأبو حاتم إماما خراسان. ودعا لهما وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين.
وجاء إلى مصر كذلك ابن أبي حاتم عبد الرحمن، المتوفى سنة 327 عن 67 عاماً، الذي ذكر في كتابه الجرح والتعديل أنه أقام على ابن عبد الأعلى سبعة أشهر، وأن والده كان يوثّق يونس بن عبد الأعلى ويرفع من شأنه، وقد روى عن والده: قدمت مصر فلقيت محدثها أبا طاهر أحمد بن عمرو بن السرح،  المتوفى سنة 250، فقال لى: منذ كم قدمت مصر؟ قلت: منذ شهر، قال: أتيت أبا موسى يونس بن عبد الأعلى؟ قلت: لا. قال: قدمت مصر منذ شهر ولم تلق يونس؟! وجعل يعظم شأنه، ويحث عليه.
أما في الفقه، فقد تفقه يونس على الإمام الفقيه المحدث عبد الله بن وهب الفهري، المتوفى سنة 197 عن 72 عاماً، وكان من أصحاب الإمام مالك بن أنس والليث بن سعد، وهو ممن جمع بين الفقه والحديث، والعبادة والزهد، وكان حافظا ثقة مجتهدا، يحدث بمئة ألف حديث، وقسّم ابن وهب سَنَته أثلاثاً: ثلثاً في الرباط في سبيل الله، وثلثاً يعلِّم الناس بمصر، وثلثاً في الحج. وتوفي رحمه الله بعد أن قُرِئ  عليه كتاب أهوال يوم القيامة - من تأليفه - فخَرَّ مغشياً عليه. فلم يتكلم بكلمة، حتى مات بعد أيام، رحمه الله.
وذُكِرَ عند الإمام مالك ابن وهب وابن القاسم، الإمام عبد الرحمن بن محمد المتوفى بمصر سنة 191 عن 59 عاماً، فقال مالك: ابن وهب عالم، وابن القاسم فقيه. وهذا من دقة الإمام مالك وإنصافه فقد كان ابن القاسم راوية مدونته، وكان مالك يكتب إلى ابن وهب: إلى عبد الله بن وهب مفتي أهل مصر. ولم يفعل هذا مع غيره.
وصُحبة يونس لابن وهب أكثر من صحبته للشافعي، وروايته عن ابن وهب أكثر بكثير من روايته عن الشافعي، ولم يكن في أصحاب ابن وهب أحفظ ولا أتقن من يونس بن عبد الأعلى،  ولكنه نُسِبَ إلى الشافعي لَـمّا لزمه ونشر مذهبه من بعده.
جاء الإمام الشافعي إلى مصر في آخر سنة 199، وأقام في مصر قرابة أربع سنوات قبل أن يتوفى في سنة 204، فأقبل عليه ابن عبد الأعلى وصاحَبَه ولازمه ملازمة تامة، وأخذ عنه الحديث وتفقه عليه، وأكثر من الرواية عنه.
وأُعجِبَ الشافعي بتلميذه ولا سيما بعقله وسعة فكره، قال عمرو بن خالد: قال لي الشافعي: يا أبا الحسن انظر إلى هذا الباب - وأومأ إلى الباب الأول من أبواب المسجد الجامع - قال: فنظرت إليه، فقال: ما يدخل من هذا الباب أعقل من يونس بن عبد الأعلى!
واستفاد يونس من الإمام الشافعي رحمه الله كثيراً، لا من فقهه وعلمه فحسب، بل من أدبه وتجربته ورحلاته، ومن نصائح الشافعي له: قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: يا أبا موسى، رضا الناس غاية لا تدرك، ما أقوله لك إلا نصحا، ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك في أمر دينك ودنياك، فالزمه، ودع الناس وما هم فيه. وقال له الشافعي: آلات الرياسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة. وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام، أرفع الناس قدراً من لا يرى قدره، وأكثر الناس فضلا من لا يرى فضله.
وروى يونس بن عبد الأعلى ثناء الإمام الشافعي على الإمام أبي حنيفة والإمام مالك  رحمة الله عليهم أجمعين، فقد نقل عن الشافعي قوله: ما طلب أحد الفقه إلا وكان عيالا على أبي حنيفة. ونقل عنه قوله عن الإمام مالك: إذا جاء الأثر  - أي الحديث - فمالكٌ النجم، وما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من موطأ مالك.
وقال يونس بن عبد الأعلى: كان الشافعي يتمثل:

إذا أصبحتَ عندك قُوتُ يوم ... فخلِّ الهم عني يا سعيدُ
ولم تخطر هموم غد ببالي ... لأن غداً له رزق جديد
أُسَلِم إن أراد الله أمراً ... وأترك ما أريد لما يريد
وكان يونس يروى عن الإمام الشافعي:

ما حكَّ جلدكَ مثل ظفركْ ... فتولَّ أنتَ جميع أمركْ
وإذا قَصدتَ لحاجةٍ ... فاقْصدْ لمعترفٍ بقدرِكْ
والإمام الشافعي رحمه الله مضرب المثل في إتقانه للغة العربية وطواعيتها له في حسن المنطق، فقد كان من أشعر الناس وآدب الناس وأفصح الناس وأعرفهم بالقراءات، ولذا قال يونس عن أستاذه رحمهما الله: كان الشافعي إذا أخذ في العربية، قلت هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الشعر وإنشاده، قلت هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه، قلت هو بهذا أعلم! وما كان الشافعي إلا ساحراً، وما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، وكأن ألفاظه سكر.
وكان الشافعي يعتقد بإخلاص وتقوى ابن عبد الأعلى، ولذا طلب منه في مرضه أن يدعو له، قال يونس بن عبد الأعلى: ما شاهدت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي، دخلت عليه فقال: اقرأ عليَّ ما بعد العشرين والمئة من آل عمران، فقرأت ولما قمت قال: لا تغفل عني فإني مكروب. وأراد الشافعي قراءة هذه الآيات التي تتحدث عن غزوة أحد وما لقي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، لتجلب الراحة إلى نفسه لما تحقق من بعدها نصر وفرج.
وكانت بين التلميذ وبين أستاذه مباسطة وانشراح يفضي إليه بنفثات صدره، قال له الشافعي: يا أبا موسى أفلستُ في دهري ثلاث مرات، وربما أكلت التمر بالسمك، وقد أنستُ بالفقر حتى صرت لا أستوحش منه. وقال له الشافعي: يا يونس دخلت بغداد؟ قلتُ: لا، قال: ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس!
وأخذ ابن عبد الأعلى على الإمام أنس بن عياض الليثي، أبو ضمرة المدني المتوفى سنة 200 وله 96 سنة، وكان الإمام مالك بن أنس يثني عليه، ويقول فيه الخير، وأنه قد سمع وكتب، قال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أحداً أحسن خُلُقاً من أبي ضمرة، ولا أسمَحَ بعلمه منه. قال لنا: والله لو تهيأ لي أن أحدثكم بكل ما عندي في مجلس واحد لفعلت.
ومن فقه الإمام يونس بن عبد الأعلى أنه كان يرفض قبول زواج الإنسي بالجني، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قدم علينا يغنم بن سالم بن قنبر البصري مصر، فجئته فسمعته يقول: تزوجت امرأة من الجن. فلم أرجع إليه. وهذا لأن اختلاف الجنس من موانع النكاح،  ولا يجوز للإنسي أن يتزوج جنية لقوله تعالى في سورة النحل: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } وقوله في سورة الروم: { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.
وكان يونس فقيراً في أول أمره، حتى أعطاه محفوظ بن سليمان صاحب الخراج أرضاً زراعية وأعفاه من خراجها سنين كثيرة، فكان ذلك أول غناه، فبنى داراً مشهورة في حي قومه المسمى خطة الصدف مكتوب عليها اسمه وتاريخ إنشائها في سنة 215.
ولمقامه وتقواه دخل في سلك القضاء شاهداً مدة ستين سنة، والشاهد هنا تعني نائب القاضي، وبسبب هذا المنصب مرَّ يونس بمحنة قادته إلى السجن ثمانية سنوات، فقد مات أحد الأثرياء ولم يترك إلا بنتاً، وأوصى أن تودع تركته وكانت ثلاثة وثلاثين ألف دينار عند  أمناء منهم يونس، ولما طالبهم القاضي محمد بن أبي الليث بأدائه حمل إليه يونس حصته من الأمانة، ولكن غيره من الأمناء كان قد تصرف بالمال، وسعوا في أن أقاموا عليه شاهدين شهدا أن المال حُمِل إليه، فطولب به ولم يستطع أداءه، فأمرالقاضي بسجنه.
ثم غضب الخليفة العباسي المتوكل على القاضي ابن أبي الليث لأمور بلغته عنه، فأرسل في سنة 235 يعقوب بن إبراهيم، المعروف بقوصرة، واليا على بريد مصر وللكشف على أحوال محمد بن أبي الليث، فقيل لقوصرة: إن يونس بن عبد الأعلى يشهد عليه وهو في سجنه، فأحضره وسأله عن محمد بن أبي الليث فقال: ما علمت إِلا خيراً، فقيل له: فإنه سجنك عدة سنين! فقال: ليس الذنب له، الذنب للذي شهد عليّ! وأطلق قوصرة سراح يونس وعاد إلى منزله.
وهذا الصبر والاحتساب من هذا الإمام الكبير دليل على تمكن خشية الله منه، ومنهجه في الإعراض عما لا طائل منه، وكان كثيراً ما ينشد أبيات محمد بن أبي العتاهية:

قد أفلح السَّاكتُ الصَّموت ... كلامُ واعي الكلام قوتُ
ما كلّ قولٍ له جوابٌ ... جوابُ ما تكره السكوت
ياعجباً لامرئ ظلومٍ ... مستيقنٍ أنّه يموت
ثم جرت  بعد ذلك قضية ادعى فيها أبناء عبد العزيز الجَروي الـجُذامي، وهو أحد من تغلبوا على مصر، أن والدهم قد أودع مالاً عند بني عبد الحكم، وهم أسرة علم وثراء، فأظهرآل عبد الحكم براءة بينهم وبين الجروي، ومال نحوهم قوصرة، وتحامل عليهم القاضي ابن أبي الليث، فكتب إلى الخليفة بالعراق بأن قوصرة انحاز إليهم، فجاء الأمر بعزل قوصرة عن البريد فخرج عن مصر.
ويبدو أن الخليفة جاءته بعض الوشايات أن كتابة القاضي إليه كانت لجُعل منّاه به أبناء الجروي، فقد ورد  كتاب منه إلى قوصرة وهو في الطريق يأمره بالرجوع والكشف على محمد بن أبي الليث، فرجع وكشف عنه وبالغ في أمره، وكاتب المتوكل بما صح من أمره، فورد عليه كتاب المتوكل بحبس ابن أبي الليث واستصفاء ماله، فحُبِسَ وحبس أولاده وأعوانه، ومكث ابن أبي الليث ما يزيد على سنة في السجن، ثم ورد كتاب من الخليفة المتوكل صُحبة عبد الله بن عبد العزيز الجروي برفض البراءة، ومطالبة بني عبد الحكم بالمال، وأذن للخليفة لابن أبي الليث بالحكم عليهم، فأخرج من السجن فحكم بمئة ألف دينار، واشتد الأمر على بني عبد الحكم حتى مات عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم في العذاب!
ثم ورد كتاب المتوكل بإطلاق بني عبد الحكم وردّ أموالهم عليهم، وبأن يطاف بابن أبي الليث على حمار بإكاف، فطيف به في جميع الفسطاط، وذلك في رمضان سنة 237، ولم يزل فِي السجن إلى أواخر سنة 241، فأعيد إلى القضاء.
وبقي محمد بن أبي الليث يذكر ويشكر ليونس بن عبد الأعلى موقفه النبيل منه وشهادته بما يعرفه وتقديره له أنه حكم بما شهد به الشهود، ففي سنة 246 عزل الخليفة محمداً بن أبي الليث وأمره بالتوجه إلى بغداد، وعيَّن القاضي بكار بن قتيبة على قضاء مصر وتوجه إليها من بغداد، فالتقى القاضيان في الطريق فقال بكار لابن أبي الليث: أنا رجل غريب، وأنت قد عرفت البلد، فدُلَّني على من أشاوره وأسكن إليه؟ فقال له: عليك برجلين: أحدهما عاقل وهو يونس بن عبد الأعلى، فإني سعيت في دمه فقَدَر عليَّ فحقن دمي، والآخر أبو هارون موسى بن عبد الرحمن بن القاسم فإنه رجل زاهد.
فقال له بكار: صف لي الرجلين فقال له: أما يونس فرجل طوال أبيض، ووصفه ووصف موسى. فلما دخل بكار مصر ودخل الناس إليه دخل شيخ فيه صفة يونس، فرفعه بكار وأقبل يحدثه، ويقول: يا أبا موسى في كل حديثه، فبينا بكار كذلك إذ قيل له: قد جاء يونس، فأقبل على الرجل وقال له: يا هذا من أنت؟ وما سكوتك كذا؟ لو أفشيت إليك سراً لي! ثم دخل يونس فأكرمه ورفعه، وأتاه موسى بن عبد الرحمن فاختص بهما وأخذ رأيهما.
ومن قضاة مصر في تلك الفترة الحارث بن مسكين بن محمد الأموي، وكان فقيهاً على مذهب مالك، ثقة في الحديث، حمل في أيام المأمون إلى العراق وسجن في محنة القرآن، فلما ولي المتوكل أطلقه، فعاد إلى مصر، ثم جاءه في سنة 237 كتاب بتوليه القضاء، وهو بالإسكندرية، فامتنع،  فلم يزل به إخوانه حتى قبل، فقدم مصر، فجلس للحكم، وجعل على مسائله يزيد بن يوسف وعمرو بن يوسف، وبدر منه تصرف غريب ذلك إنه أخرج أصحاب أبي حنيفة والشافعي من المسجد، وأمر بنزع حصرهم من العمد، وبقي في القضاء زهاء ثمانية أعوام ثم استعفى من القضاء سنة 245 فأعفي، وتوفي رحمه الله سنة 250 عن 96 عاماً.
وبسبب ذلك حدثت وحشة ظاهرة بينه وبين علماء الحنفية والشافعية، وحدث أن حضر الحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى في جنازة لأحد أعوان القاضي فتحدث يونس بموعظة فيها كلام الزُّهاد وحكايات الصالحين، فبكى بعض أهل المجلس، وضاق الحارث بن مسكين بذلك، فالتفت إلى يونس بن عبد الأعلى وقال له: أنت تُحسِنُ هذا كله، وأنت تصنع ما تصنع! فقال له يونس: أنت قاض؛ وفي الحديث أن القاضي يذبح بغير سكين.
وتقدم مرة يونس بن عبد الأعلى بشهادة عند القاضي الحارث بن مسكين، فلما أدى الشهادة وانصرف أُسْقِطَ في يده، وعلم أن أعوان القاضي من خصومه سيسعون إلى تجريحه وردِّ شهادته، فرجع إلى الحارث على الفور فقال: أصلح الله القاضي، إنني شهدت اليوم شهادة في قلبي منها شيء، ولست أحبها. فأوقف الحارث الشهادة، فبلغهم ذلك فأسفوا، وقالوا: أُفلِتَ يونس من أيدينا.
ويبدو أن العداوة بينه وبين هؤلاء باضت وفرخت، ذلك إنه عندما مات أحدهم لم يستطع أن يخفي ارتياحه، ونلتمس له في ذلك عذراً أن يكون التعدي من والمضايقة من طرفهم، قال الراوي: كنت عند يونس بن عبد الأعلى، والقارئ يقرأ عليه، فدخل رجل فقال: مات يزيد بن يوسف، فصاح أهل المجلس، فقال يونس بن عبد الأعلى: ما بالكم؟ قالوا: مات يزيد بن يوسف. فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه فقال: حبذا موت الأعداء بين يديك وأنت تنظر. ثم خرج إلى جنازته وهو راكب حماراً فصلى عليه، ولم ينزل عن الحمار.
ولما توفي هذا الإمام الجليل خرجت البلد بأسرها في جنازته وأم الصلاة عليه أمير مصر أحمد بن طولون.
وكان ليونس ولد جاءه وهو في السبعين من عمره أسماه أحمد، ولد له سنة 240 وتوفي سنة  302، وكان من الخاشعين البكائين، حدث عن أبيه وغيره. ولأحمد ولدٌ أسماه يونس ولد سنة 286 وتوفي سنة 331، وكان من أفاضل الناس، وكان يحب الخلوة والوحدة ويكره غشيان الناس له.
ومن أحفاد ابن عبد الأعلى رحمه الله المؤرخ ابن يونس، أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد المتوفى سنة 347 عن 66 عاماً، وكان محدِّثاً لم يرحل ولا سمع بغير مصر، ولكنه إمام ثبْتٌ واع، واشتُهِرَ بكتابين ألفهما في تراجم أعلام مصر، أحدهما كبير يختص بالمصريين، والآخر صغير يشتمل على ذكر الغرباء الواردين على مصر، وأثنى عليهما ابن خلكان، ولما توفي أبو سعيد رثاه أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني الخشّاب النحوي العروضي بقوله:

بثثتَ علمك تشريقاً وتغريباً ... وعدتَ بعد لذيذ العيش مندوبا
أبا سعيد وما نألوك أن نشرت ... عنك الدواوين تصديقاً وتصويبا
ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه ... حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا
أرّختُ موتك في ذكري وفي صُحفي ... فمن يؤرخني إذ كنت محسوبا؟
نشرت عن مصر من سكانها علماً ... مبجّلاً بجمال القوم منصوبا
كشفت عن فخرهم للناس ما سجعت ... وُرْقُ الحمام على الأغصان تطريبا
أعربت عن عرب، نقّبت عن نجبٍ ... سارت مناقبهم في الناس تنقيبا
أنشرت ميتهم حيّاً بنسبته ... حتى كأن لم يمت إذ كان منسوبا
إن المكارم للإحسان موجبة ... وفيك قد رُكّبت يا عبد تركيبا
حُجِبتَ عنَّا وما الدنيا بمظهرة ... شخصاً وإن جلَّ إلا عاد محجوبا
كذلك الموت لا يبقي على أحدٍ ... مدى الليالي من الأحباب محبوبا
ولأبي سعيد المؤرخ ابن اسمه علي، اتجه إلى علوم الفلك والتنجيم، وعاش في كنف الدولة الفاطمية، وألف لها زيجاً يعرف بالزِّيج الحاكمي أو بزيج ابن يونس، وهو زيج كبير في أربع مجلدات، والزيج: كتاب يُحسَبُ فيه سير الكواكب وتقويم السنين.

 
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer