الجمعة، 22 مارس 2013

حدث في التاسع من جمادى الأولى

في التاسع من جمادى الأولى من سنة 705 جرت مناظرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، المولود بحرّان سنة 661 والمتوفى بدمشق سنة 728، وفريق من المتصوفة الذين يتبعون الطريقة الأحمدية، والذين ابتعدوا في ممارساتهم عن تعاليم القرآن الكريم وتقاليد السنة المطهرة، نورد بعضاً مما جرى في تلك الواقعة، نقلاً عما أورده ابن تيمية نفسه، وقد كتب ابن تيمية بعد هذه المناظرة جزءاً أسماه: كشف حال المشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية.
وينبغي أن نقدم لذلك بأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن معادياً للصوفية على إطلاقها، بل نرى منه الثناء الكبير على أئمة الصوفية كالشيخ عبد القادر الجيلاني وغيره، وكان ينكر على فريق منهم، كما سنرى، احترافهم للتصوف وبعدهم عن القرآن والسنة، وإتيانهم بأمور ومخاريق ليست من الدين وبساطته، لم ترد عن الرسول صلوات الله عليه ولا عن صحابته وتابعيهم، ولذا كان يسميهم ضلال الصوفية أو منحرفتهم أو باطنية الصوفية، تمييزاً لهم عن باقي المتصوفة المحافظين على منهج القرآن والسنة، فقد كان منهجه أقرب إلى الإنكار على من يغلو منهم في تعظيم الشيوخ وتقديسهم، أو يحترف التصوف، أو يدخل عليه مظاهر ومسالك لا تستقيم مع ميزان الشرع والسنة.
وقد يقسو رحمه الله في هجومه عليهم أحياناً بسبب جو المناظرة وطبعه الفطري، كما أشار إلى ذلك تلميذ ابن تيمية الإمام الذهبي في تاريخه فقال: وتألموا منه بسبب ما هو المعهود من تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته، وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير النفوس، ولو سلم من ذلك لكان أنفع للمخالفين.
ونشير في هذا الصدد أن خال الشيخ ابن تيمية كان من المتصوفة، كما أورد ذلك تلميذ ابن تيمية الإمام الذهبي في تاريخه في وفيات سنة 698 فقال: علي بن عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن عبدوس، الشيخ أبو الحسن ابن الحلاوي الحراني، الزاهد، الصوفي، خال شيخنا ابن تيمية.
صحب المشايخ وتجرد وسافر، ولقي الكبار، وحفظ عنهم كثيراً من أخبار الصوفية وآدابهم، وأنفق ماله في وجوه الخير، واختل عقله مرة من الذكر والعبادة، وعولج ثم تماثل وكان مقيمًا بالخانكاه الأسدية.
ونورد كذلك ما أورده الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي، عبد الرحمن بن أحمد، المولود ببغداد سنة 736 والمتوفى بدمشق سنة 795، وذلك في كتابه ذيل طبقات الحنابلة حين ترجم لعماد الدين الواسطي الحزامي، أحمد بن إبراهيم، المولود سنة بواسط 657 والمتوفى بدمشق سنة 711، فقال:
الزاهد القدوة العارف، كان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، وألهمه اللّه من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عن البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط وقرأ شيئاً من الفقه على مذهب الشافعي، ثم دخل بغداد، وصحب بها طوائف من الفقهاء، وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الفقهاء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإِسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم ما يطلبه من لوايح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذلك عنهم، وانتفع بهم، واقتفى طريقتهم وهديهم.
ثم قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصاحبه، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله، وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وطرائقه المأثورة عنه في كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولاً وفروعاً، وشرع في الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم، وانتقل إلى مذهب الإمام أحمد... وألف تآليف كثيرة في الطريقة النبوية، والسلوك الآثري والفقر المحمدي؛ وهي من أنفع كتب الصوفية للمريدين، انتفع بها خلق من متصوفة أهل الحديث ومتعبديها.
وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يعظمه ويجله، ويقول عنه: هو جنيد وقته. وكتب إليه كتاباً من مصر أوله: إلى شيخنا الإمام العارف القدوة السالك.
وكان معمور الأوقات بالأوراد والعبادات، والتصنيف، والمطالعة، والذكر والفكر، مصروف العناية إلى المراقبة والمحبة، والأنس بالله، وقطع الشواغل والعوائق عنه، حثيث السير إلى وادي الفناء بالله، والبقاء به، كثير اللهج بالأذواق والتجليات، والأنوار القلبية، منزوياً عن الناس، لا يجتمع إلا بمن يحبه، ويحصل له باجتماعه به منفعة دينية.
نعود إلى المناظرة التي قال عنها المؤرخون: وفي سنة 705 أظهر ابن تيمية الإنكار على الفقراء الأحمدية فيما يفعلونه: من دخولهم في النيران المشتعلة، وأكلهم الحيات ولبسهم الأطواق الحديد في أعناقهم، وتقلدهم بالسلاسل على مناكبهم، وعمل الأساور الحديد في أيديهم، ولفهم شعورهم وتلبيدها. وقام في ذلك قياماً عظيماً بدمشق، وحضر في جماعة إلى نائب السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، وعرفه أن هذه الطائفة مبتدعة، فجمع له ولهم الناس من أهل العلم، فكان يوماً مشهوداً كادت أن تقوم فيه فتنة، واستقر الأمر على العمل بحكم الشرع ونزعهم هذه الهيئات.
قال ابن تيمية:
أما بعد فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر  البطائحية، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه...
وذلك أني كنت أعلم من حالهم أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ... فيوجد أيضا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام، والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الباطلة، وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد.
وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة، بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم، بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات وإظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك، فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم، فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة
 فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن ؛ فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينا يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وإنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم - أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة، ولا من المشايخ الذين يقتدى بهم ولا يجوز التعبد بذلك، ولا التقرب به إلى الله تعالى، لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال فالتشبه بأهل النار من المنكرات...
وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقا إلى الله وسببا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرا عند الله وقربة إليه، فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله ؛ ولا دين إلا ما شرعه الله...
إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم...
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة، والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة... وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم...
فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب، فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة ... مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر وسأل عنهم فقيل له هم مشتكون فقال ليدخل بعضهم فدخل شيخهم وأظهر من الشكوى علي ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاما كثيرا لم يبلغني جميعه ؛ لكن حدثني من كان حاضرا أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده، أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يُسلَّم إلينا، قال: فنسمع كلامه فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا نريد أن تشد منا، قال: لا ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم. فكرروا ذلك، فأمر بإخراجهم، فأرسل إلي بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء، فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان...
فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته واستنصرته واستهديته وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك وأنها تكون بردا وسلاما على من اتبع ملة الخليل...
فلما أصبحنا ذهبت للميعاد... وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء وقالوا أنواعا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقا لا يعرفها أحد من العلماء، وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق وأشباه هذه الدعاوى ذات الزخرف والتزويق، وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار لهم في القلوب موقع هائل ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.
وها أنا ذا أصف ما كان، قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم، فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالاً، وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزّة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا منه مالاً كثيرًا، ثم انكشف له أمرهم.
قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم أوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه، بل من بعيد؛ لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه، وجذب الشعر؛ فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز.
وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة، وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما سأذكره.
قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون: لنا هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع، فليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر البارنج وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق.
فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقيَ في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه، وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات، وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم، أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم.
فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر، وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال: اليوم نرى حربًا عظيمًا، ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.
وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق. وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر، فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن له فيهم ظنًّا حسناً، والله أعلم بحقيقة الحال... وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق، فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه...
فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يُسمي نفسه خليفة سيده أحمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك، وكان من مدة قد قدم عليَّ منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة، فأعطيته طِلْبته، ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي عليَّ تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى عليَّ تلبيس أحد، بل أُدركه في أول الأمر، فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا، فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.
فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح، والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة، فقلت: أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى في سورة غافر: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ﴾، هذه إلى جنب هذه، وقال تعالى في سورة الحجر: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ﴾، فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن وهب بن منبه روى: أنه كان في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقًا، في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت، فقلت: لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: أمتهوكون يا ابن الخطاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتمونني لضللتم!
فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى في سورة المائدة: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تُعلم صحتها، وما علينا من عباد بني إسرائيل؟ ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشِبْهه بكيفية قوية.
فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن قوم شافعية، فقلت له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية، ودعَوْتُه وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.
فانتدب ذلك الشيخ عبد الله، ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة، لا يوقف عليها، وذكر كلاماً لم أضبط لفظه ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا يقف عليه أهل الظاهر، فلا ينكرونه علينا. فقلت له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه.
فقال ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها: أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار... لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج وحجر الطلق، فضجَّ الناس بذلك... فأظهر الوهم على عادتهم فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة حطب، فقلت: بل قنديل يوقد، وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك، تغير وذل وذُكِرَ لي أن وجهه أصفرَّ.
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا يعني: الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به! فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به! وتكلمت في هذا ونحوه، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح، وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.
فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه قول الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾... فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما يطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة.
فقالوا: نحن ملتزمون بالكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟ نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزاماً عامًّا، ومن خرج عنه ضُرِبت عنقه، وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًّا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور، أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته؛ حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة، جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله، ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهذا قد فُعل بالأمس بحضرة شيخهم، فأمَرَ قائلَ ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة، وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا، وهذا منكر يبطل الصلاة.
فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس، فقلت: العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم ويقدرون على دفعه.. وليسوا مغلوبين على ذلك كما يُغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.
فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة، وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم، قلت له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حالٌ يَرِد عليهم فقلت: هذا من الشيطان الرجيم! لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال: ما في السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن.
فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ فقلت: بهذه السياط الشرعية! فأُعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية. وأمسكتُ سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يُقَرُّونَ ولا نُقَرُّ نحن؟ فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته، فأُفحموا لذلك.
أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز، يعني أتباع أحمد بن الرفاعي، فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله؟! فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرًّا مع الله. فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسَّره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل.
وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب، فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾.
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer