الجمعة، 27 ديسمبر 2013

حدث في الرابع والعشرين من صفر

 
في الرابع والعشرين من صفر من عام 385 توفي بالري، عن 59 سنة، الصاحب ابن عباد، أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني، الوزير الكبير والأديب البليغ، الذي كان قطب زمانه في الأدب والسياسة والفضل والكرم.
ولد ابن عباد في 16 ذي القعدة من سنة 326 في إصطخر، وكان والده عباد وزيراً لركن الدولة الحسن بن بويه، وكان له رواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صدوقاً، وصنف كتاباً في أحكام القرآن، ويتبع مذهب أبي حنيفة في الفقه، ويتسم بالتقوى والوقار، قال الصاحب: قال رجل لأبي: أنت على مذهب أبي حنيفة ولا تشرب النبيذ - يعني غير المسكر قال: تركته لله إجلالا وللناس جمالا. وتوفي والده سنة 335.
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العبّاس عبادٌ وزارتَه وإسماعيلُ عن عباد
وأخذ الصاحب الأدب عن الإمام اللغوي الأديب ابن فارس، أبي الحسين أحمد بن فارس الرازي الشافعي ثم المالكي، المتوفى سنة 395، وكان رحمه الله بقزوين يصنف في كل ليلة جمعة كتابا ويبيعه يوم الجمعة قبل الصلاة ويتصدق بثمنه، فكان هذا دأبه، وكان تلميذه الصاحب بن عباد يقول: شيخنا أبو الحسين بن فارس رُزِقَ التصنيف وأمِنَ من التصحيف. ومن تصانيفه: كتاب المجمل في اللغة، وكتاب متخير الألفاظ، وكتاب فقه اللغة، وكتاب غريب إعراب القرآن، والصاحبي، في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، وسمَّاه كذلك لأنه ألفه برسم خزانة الصاحب ابن عباد.  قال ياقوت في معجم البلدان: قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالري، في دار كتبها التي وقفها الصاحب ابن عباد رحمه الله، وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته هذه: أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه. كتابي في قراء الأمصار، الذين بينت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى، المعروف بكتاب السبعة، فما تضمن من أثر وقراءة ولغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى آثر سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه، حكاية شيء منه عنهم، أو عني لهذه المكاتبة فعل. وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه.
وأخذ عن أبي الفضل ابن العميد، محمد بن الحسين، المتوفى سنة 360، وزير ركن الدولة البويهي والد عضد الدولة، وكان ابن العميد آية في التَّرسُل والإنشاء، وكان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وكان متَّهماً في اعتقاده بأنه يتبع رأي الحكماء في وجود العالم دون مسبب، وكان يقال له الأستاذ، وكان ابن عباد يصحبه لا يفارقه، وله فيه مدائح كثيرة، فقيل له صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علماً عليه، وسمي به من تولى الوزارة بعده. ولما زار ابن عباد بغداد أول مرة وعاد قال له ابن العميد: كيف وجدتها؟ فقال له: بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد.
وزوج الصاحب ابن عباد سبطَه عباد بن الحسين من إحدى أميرات البيت البويهي وكانت ابنة خالة ركن الدولة البويهي، وتزوج ابنته أحد السادات الزيدية من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم في همذان، ولما ولد حفيده قال:
الحمد لله حمداً دائماً أبداً ... أن صار سبط رسول الله لي ولداً
قسَّم ركن الدولة البويهي، أبو علي، الحسن بن بويه، البلاد على أولاده الثلاثة، قبل وفاته سنة 366 عن 82 سنة، فعهد إلى ولده عضد الدولة بالملك بعده، وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن عليٍّ همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة، وكان مؤيد الدولة المولود سنة 330 والمتوفى سنة 373، قد استوزر ابن عباد سنة 360، وكان ابن أستاذه أبو الفتح ابن العميد، علي بن محمد، المولود سنة 337، وزيراً عند الأب؛ ركن الدولة، فلما مات سنة 366 عمل عليه حتى عزله مؤيد الدولة وعينه مكانه، واستمر فيها مدة لم تطل، ثم قبض عليه مؤيد الدولة، وأخذ جميع ما في داره من الموجودات والأموال، وعذبه ثم قتله، وأعاد إلى وزارته ابن عباد، ولذا لا غرو أن يقول الصاحب:
إذا أدناكَ سلطانٌ فزدْهُ ... من التعظيم وانصحْه وراقبْ
فما السلطان إلا البحر عِظَماً ... وقربُ البحر محذور العواقبْ
وفي سنة 373 مرض مؤيد الدولة بجرجان مرضاً لا شفاء منه، ورفض قبل موته أن يعهد بالملك إلى أحد، وكان للصاحب معه موقف يدل على دين وصيانة فقد قال له في إحدى صحوات المرض: تب يا مولانا من كل ما فرطت فيه، وتبرأ من هذه الأموال التي لست على ثقة من طيبها وحصولها من حلها، واعتقد متى أقامك الله وعافاك أن تصرفها في وجوهها، وترد كل ظلامة تعرفها. ففعل ذلك، وتلفظ به.
 وجمع الصاحب القواد واستشارهم، وقرر الأمر لفخر الدولة، وكان في نيسابور، ثم خاف افتراقهم، فأجلس أخاه أبا العباس خسرو على سرير المملكة، وكتب لفخر الدولة سراً يستدعيه، فسار عن نيسابور إلى جرجان، فدخل الصاحب على خسرو فيروز، وقال له: هذا أخوك، وأكبر منك قد وصل، وميلُ الأجناد إليه أكثر من ميلهم لك. وحسَّن له الخروج للقائه، فخرج إليه، وتلقّاه، وتسلَّم فخر الدولة الملك.
وطلب الصاحب من فخر الدولة أن يعفيه من الوزارة فقال له فخر الدولة مشيراً إلى سابقة والده: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة، ما لنا فيها من إرث الإمارة، فسبيل كل منا أن يحتفظ بحقه. وبقي الصاحب عنده مبجلاً ومعظماً، نافذ الأمر، ونعته بكافي الكفاة، مضافاً إلى الصاحب الجليل، ولم يلبس زي الوزراء بل بقي يلبس القباء استخفافاً بالوزارة. وبقي فخر الدولة المولود سنة 341 في الملك حتى وفاته سنة 387.
وكان الصاحب محترماً لدى أبناء بويه كلهم، وكان عضد الدولة أخوهم الأكبر سناً والأعرق إمارة والأمهر تدبيراً وإدارة، وكان إخوته يخافونه لطموحه التوسعي، ولكنه كان عالماً يحترم العلماء والأدباء، ولذا أرسل مؤيد الدولة وزيره الصاحب ابن عباد في سنة 370 إلى أخيه عضد الدولة رسولاً يبذل له الطاعة والموافقة، فالتقاه عضد الدولة بنفسه، وأكرمه، وأقطع مؤيدَ الدولة همذان وغيرها.
وشارك الصاحب بن عباد في حملات عسكرية أخضع الأطراف التي خرج فيها متمردون وأصلح أمورها، ومن ذلك مسيره سنة 377 إلى طبرستان فنفى المتغلبين عنها، وفتح عدة حصون، وأصلحها ورمم برج قزوين، ثم عاد إلى الري، وقيل إنه فتح 50 حصناً وأخضعها لملكه.
وفي سنة 379 توفي شرف الدولة ابن عضد الدولة، وكان ملك العراق، وعهد إلى أخيه أبي نصر بهاء الدولة، وكان ابن عباد يطمح أن يمتد نفوذه وسلطانه إلى العراق، وكان يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي إلا أن أملك العراق وأتصدر ببغداد، وأستكتب أبا إسحاق الصابئ ويكتب عني وأغيَّر عليه. وبلغت هذه الكلمة الصابئ فعلق عليها في شيء من التهكم: ويغيّرَ عليَّ وإن أصبت.
وشجع ابنُ عباد ملكه فخر الدولة على المسير إلى العراق، وذلك بطريقة فيها كثير من الذكاء والدهاء، فقد دسًّ إلى فخر الدولة من يعظِّم عنده ملك العراق، ويسهل أمره عليه، ولم يباشر هو ذلك خوفاً من خطر العاقبة، إلى أن قال له فخر الدولة: ما عندك في هذا الأمر ؟ فشجعه على ذلك لسنوح الفرصة وحسن الطالع، فتجهز فخر الدولة وسار من الري إلى همذان، وأرسل الصاحب ليسبقه، فلما سار الصاحب وسوس بعض الحاشية لفخر الدولة وقالوا له ربما استماله أولاد عضد الدولة. فأرسل وراءه وأعاده، وأخذه معه إلى الأهواز فملكها، وأساء السيرة مع جندها، وضيق عليهم، ولم يبذل المال، فخابت ظنون الناس فيه، وتخوف منه أيضاً عسكره، وقالوا: هكذا يفعل بنا إذا تمكن من إرادته، فتخاذلوا، وكان الصاحب قد أمسك عن ممارسة الوظيفة ممارسة فعلية تأثراً بما قيل عنه من اتهامه، وصارت إشارته في الأمور سكوتاً عما يراه، واستبد فخر الدولة برأيه في إدارة الأمور وخوض المعارك، فكان أن وقعت به الهزيمة وعاد مخذولا خائباً إلى الري.
وفي الأهواز التقى الصاحب بالإمام المحدث الأديب العلامة، أبو أحمد العسكري، الحسن بن عبد الله، المولود سنة 293 والمتوفى سنة 382، والعسكري نسبة لإقامته في عسكر مكرم، وكان من الأئمة المذكورين بالتصرف في أنواع العلوم، والتبحر في الفنون، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف، ولما قدم الصاحب بن عباد بلدة أبي أحمد العسكري توقع أن يزوره أبو أحمد، ولكنه كان قد أسن  فلم يزره، فبعث إليه الصاحب ورقة فيها هذه الأبيات:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخَدَان
أتيناكم من بُعد أرض نزوركم ... فكم من منزل بِكر لنا وعَوان
نناشدكم هل من قِرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان
وكتب مع هذه الأبيات شيئاً من النثر، فلما قرأ أبو أحمد الكتاب أقعد تلميذاً فأملى عليه الجواب، عن النثر نثراً، وختمه عن النظم نظماً، وهو:
أروم نهوضاً ثم يَثْنِي عزيمتي ... تعوُّصُ أعضائي من الرَّجفان
فضمَّنتُ بيتَ ابن الشَّريد كأنما ... تعمد تشبيهي به وعناني
أهُم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العَير والنزوان
فلما وقف الصاحب على الجواب، عجب من اتفاق هذا البيت له، وقال: والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت، لما كتبت إليه على هذا الروي. والوخدان: المشي السريع.
فلما قرأه استحسنه، وقال: لو خطر ببالي هذا المثل، ما أرسلت ذلك الشعر، لكني ذهلت عنه. ثم أن العسكري قصده بجمع غفير من تلامذته، فبادر له الخدم، وحملوه حتى جلس عنده، فأقبل عليه، ورفعه إلى أرفع مجلس، ثم تحادث معه، وسأله عن مسألة، فقال له: الخبيرَ صادفت. فقال له: مازلت تغرب في كل شيء حتى المثل السائر. فقال: تفاءلت عن السقوط للحضرة. فأدرَّ عليه وعلى من معه بصلات كانوا يأخذونها إلى أن توفي، ولما توفي رثاه الصاحب إسماعيل بن عباد، فقال:
قالوا مضى الشيخ أبو أحمد ... وقد رثوه بضروب النَّدْبِ
فقلت ما ذا فقد شيخ مضى ... لكنه فقد فنون الأدبِ
كان الصاحب بن عباد محجة الأدباء والشعراء والفضلاء في زمانه، ولا يتسع المقام لذكر من قصدوه، أو اتصلوا به ونالهم فضلُه وإحسانه، ويكفي أن نذكر أنه كان يبعث في كل سنة إلى بغداد بخمسة آلاف دينار لتصرف على أهل العلم، وجرت بينه وبين أدباء عصره مراسلات بديعة ضمتها كتب الأدب وأفرد بعضها في رسائل مستقلة.
وإذا ذكر الصاحب فلا بد أن يذكر معه أبو الطيب المتنبي، أحمد بن الحسين، المولود سنة 303 والمقتول سنة 354، فقد زار مالئ الدنيا وشاغل الناس بلاد فارس، والتقى بابن العميد وكانت له معه مساجلات، ولقي  من عضد الدولة البويهي من الصلات والأموال والوعود ما قرت به عينه وأنساه سيف الدولة الحمداني وكافوراً الإخشيدي، وجرى ذلك كله قبل أن يتولى الصاحب أول وزارة له سنة 360، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يحاول استمالة أبي الطيب ليقصده ويمدحه فيمن مدح من الرؤساء، وكثير منهم لا يَفضُلون الصاحبَ ابن عباد بعلم أو أدب، وباع الصاحب داراً له بخمسين ألف درهم وأرصدها للمتنبي إن جاء إليه ومدحه، فقد كان المتنبي شاعراً مدَّاحاً ممتاحاً، فكتب يلاطفه في استدعائه، ويخبره ما أرصد له من ماله، فلم يقم له المتنبي وزناً، ولم يجبه عن كتابه، وقيل إن المتنبي قال لأصحابه: إن غليما معطاء بالري يريد أن أزوره وأمدحه؟! فلما بلغ الصاحب ما قاله المتنبي أعرض عنه وتتبع شعره وأملي رسالةً في ذم شعره، بعد أن كان قد جمع لمليكه فخر الدولة نخبة من أمثال المتنبي وحكمه، فصنف كتابه الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، ومما جاء فيه تعليقاً على قول أبي الطيب:
فقلقلتُ بالهم الذي قلقلَ الحشا ... قلاقلَ عيسٍ كلهنَّ قلاقلُ
فقال الصاحب: ما له قلقل الله أحشاءه، وهذه القافات الباردة!؟
وعند قول أبي الطيب:
وللضعفَ حتى يبلغ الضعف ضعفهُ ... ولا ضعفَ ضعفِ الضعفِ بل مثله ألفُ
قال الصاحب: هذا البيت يصلح أن يكون مسلة في كتاب ديوفيطس.
ولا بد أن نعرج على أبي حيان التوحيدي، علي بن محمد، المتوفى سنة 400 عن نيف وثمانين عاماً، والذي ألف في ذم الصاحب ابن عباد وأستاذه ابن العميد كتابه الذي أسماه أخلاق الوزيرين، ولم يوفر فيه قبيحاً إلا ألصقه بهما، ونسبه إليهما، ونجد الخبر اليقين عند ياقوت الحموي في معجم الأدباء، قال رحمه الله في ترجمة التوحيدي الذي ينسب للزندقة كذلك: سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شانه، والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك يشتكي صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه. ثم إن أبا حيان، كان قصد ابن عباد إلى الري، فلم يرزق منه، فرجع عنه ذاما له، وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام، فاجتهد في الغض من ابن عباد، وكانت فضائل ابن عباد تأبى إلا أن تسوقه إلى المدح، وإيضاح مكارمه، فصار ذمه له مدحا.
ولا ينبغي أن يفوتنا ذكر الشاعر المشهور أبي بكر الخوارزمي، جمال الدين محمد بن العباس، المولود سنة 316 والمتوفى سنة 383، وهو ابن أخت الإمام أبي جعفر الطبري صاحب التفسير والتاريخ، ويحكى أنه قصد الصاحب ابن عباد فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب: على الباب أحد الأدباء وهو يستأذن في الدخول. فدخل الحاجب فأعلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب. فخرج إليه الحاجب وأعلمه، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي، فأذن له في الدخول. فدخل عليه فعرفه وانبسط له. ويبدو أنه فيما بعد ساءت علاقته مع أبي بكر الخوارزمي، رغم أن الصاحب أغدق عليه الصلات، فلم تكن كما أمل، فهجاه على منهج الشعراء، فقال:
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود سحاً يخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع، لا بخلاً ولا كرما
فلما مات أبو بكر، وجاء خبر وفاته للصاحب أنشد:
سألت بريداً من خراسان مقبلاً ... أمات خوارزميكم؟ قال لي: نعم
فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره ...ألا لعن الرحمن من كفر النعم
وللصاحب أشعار حسنة في الغزل والوصف والحكم والأمثال، ومن أمثاله السائرة قوله:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت: دعيني على غصتي ... فإن الهموم بقدر الهمم
ومن لطيف شعره:
لقد قلتُ لما أتوا بالطبيبِ ... وصادفني في أحرِّ اللهيبِ
وداواني فلم أنتفعْ بالدواءِ ... دعوني فإن طبيبي حبيبي
ولست أريد طبيبَ الجُسومِ ... ولكنْ أريدُ طبيب القلوبِ
وليس يزيلُ سَقامي سوى ... حضورِ الحبيب وبُعْدِ الرقيب
أما نثره في أقواله ورسائله مما تناقلته الأدباء وتعجبت منه البلغاء، وبتشبيهاته يضرب المثل، ومن أقواله:
من غرته أيام السلامة، حدثته ألسنة الندامة.
من لم يتحرز من المكايد قبل هجومها، لم يغنه الأسف عند وقوعها.
من عرف المفاخر، عرف المعاير
رب اجتهاد، أبلغ من جهاد، ومكايد دقيقة المسارب، أنكى من حداد صقيلة المضارب، ولطائف أقوال، تنوب عن وظائف الأموال، وثبات عقول وعقود، أوقع من ثبات جيوش وجنود.
الآمال ممدودة، والأنفاس معدودة.
كفران النعم، عنوان النقم. وجحد الصنائع، داعية القوارع، وتلقي الإحسان بالجحود، تعريض النعم للشرود.
إن السنين تغير السنن.
الضمائر الصحاح، أبلغ من الألسنة الفصاح
وكتب الصاحب بن عباد إلى والي قزوين، حين صادر مجوسياً على مال وتظلم منه المجوسي: غرك بعدُنا منك، وإمهالُنا فيك، فاحذر يوم المحاسبة وخزي المعاقبة، وقد جف ريقك على لسانك، وشهد قبح آثارك بسوء فعالك، وردَّ إلى هذا المجوسي ماله، فإن تلك الدراهم عقارب وأراقم، إن غنمتها في يوم غرمتها لغد. والسلام.
ومن كلام الصاحب بن عباد تهنئةً ببنت: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، وأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوةٍ يتنافسون، ونجباء يتلاحقون.
قال الثعالبي في يتيمة الدهر، وهو معاصره إذ ولد عام 350 وتوفى سنة 429:
ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب، وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه، ولكني أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن لا حرج في مدحه بكل ما يمدح به مخلوق، ولولاه ما قامت للفضل في دهرنا سوق ... وهمته في مجد يشيده، وإنعام يجدده، وفاضل يصطنعه، وكلام حسن يصنعه أو يسمعه... وصارت حضرته مشرعاً لروائع الكلام، وبدائع الأفهام، وثمار الخواطر، ومجلسه مجمعاً لصوب العقول، وذوب العلوم، ودرر القرائح.
وللصاحب توقيعات بديعة على ما يعرض عليها من قضايا وقصص، ورفع إليه بعض ناقلي الأخبار أن رجلاً غريب الوجه يدخل داره ويتلطف لاستراق السمع، فوقع تحتها: دارنا هذه خان، يدخلها من وفى ومن خان. ورفع إنسان رقعة إلى الصاحب يزين له فيها أخذ مال يتيم، وكان مالاً كثيراً، فكتب على ظهرها: النميمة قبيحة، وإن كانت صحيحة، والميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمَّره الله، والساعي لعنه الله.
ولم يقتصر فضل الصاحب ابن عباد وعلمه على قول الشعر وتدبيج النثر، بل كان عالماً في اللغة والأدب وغيرها من العلوم، ومع تقلده لأمور الدولة وإدارة المملكة، فإنه خصص من وقته للتأليف، فصنف في اللغة كتاباً سماه المحيط وهو في سبع مجلدات، رتبه على حروف المعجم، كثَّر فيه الألفاظ وقلَّل الشواهد فاشتمل من اللغة على جزء متوفر، وكتاب الإقناع في العَروض، وكتاب الكافي في الرسائل، وكتاب الأعياد وفضائل النيروز، وكتاب أخبار الوزراء، وكتاب الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، وكتاب الإمامة يذكر فيه فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويثبت إمامة من تقدمه، وكان الصاحب شيعياً بمفهوم ذلك الزمان، إذ كان حنفياً في الفقه، وكتاب أسماء الله تعالى وصفاته، وكان الصاحب من المعتزلة، وقد قرب إليه بعض الأدباء، أو تقربوا إليه، بالاعتزال، منهم الشاعر  الفاضل المتورع أبو الحسن التهامي، علي بن محمد بن فهد، المقتول بمصر سنة 416، وصاحب المرثية الرائية الشهيرة.
ومن نباهة الصاحب وحسه النقدي أنه لما سمع بكتاب العقد الفريد الذي صنف ابن عبد ربه، أحمد بن محمد المولود سنة 246 والمتوفى سنة 328، حرص حتى حصل نسخة منه، فلما تأمله، قال: هذه بضاعتنا رُدت إلينا! ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو مشتمل على أخبار بلادنا،لا حاجة لنا فيه. فردَّه. ومن هذا الباب أن الصاحب قال لو أدركت الهمذاني لأمرت بقطع يده ولسانه! فسئل عن السبب فقال: لأنه جمع في أوراق يسيرة شذور العربية الجزلة المعروفة، فأضاعها في أفواه صبيان المكاتب، ورفع عن المتأدبين تعب الدرس والحفظ والمطالعة. والهمذاني هو عبد الرحمن بن عيسى المتوفى نحو سنة 320، وكان من كبار الكتاب في عصره، وكتابه هو: ألفاظ الكتَّاب.
وكان من محدثي زمانه أبو بكر بن المقرئ، محمد ابن إبراهيم، المولود سنة 285 والمتوفى سنة 381، وكان صديقاً لوالده، وكان الصاحب يوده كثيراً، واستعمله خازناً لكتبه، فقيل للصاحب: إنك رجل معتزلي، وأبو بكر بن المقرئ رجل صاحب حديث، وتحبه أنت؛ لماذا؟ فقال: لمسألتين اثنتين؛ كان أبو بكر بن المقرئ صديق والدي، وقيل: مودة الآباء قرابة الأبناء، ولمسألة أخرى: أني كنت نائما فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: أنت نائم، وولي من أولياء الله على بابك؟! فانتبهت ودعوت البواب وقلت: من بالباب؟ قال: أبو بكر بن المقرئ بالباب.
ولم يقتصر إنصاف الصاحب على أبي بكر صاحب والده، بل امتد إلى غيره، فقد اشتُهر في عصره ثلاثة من المشايخ الشافعية بنصر مذهب الحديث والسنة فى المسائل الكلامية، وهو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى، وهم الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايينى، إبراهيم بن محمد، والمتوفى سنة 418، والقاضى أبو بكر الباقلانى، محمد بن الطيب، المولود سنة 338 والمتوفى 403، والإمام أبو بكر بن فورك، محمد بن الحسن بن فورك، المتوفى سنة 403، وكان الصاحب بن عباد يثنى عليهم الثناء الحسن، مع أنه معتزلى مخالف لهم، لكنه أنصفهم، وكان إذا جاء ذكرهم يقول: ابن الباقلاني بحر مُغرِق، وابن فورك صِلٌّ مطرِق، والاسفراييني نار تُحرق. قال الحافظ ابن عساكر: وكأن روح القدس نفث في روعه، حيث أخبر عن هؤلاء الثلاثة بما هو حقيقة الحال فيهم.
ورجلٌ هذا شأنه في العلم والفضل والوزارة لا بد أن تكون لديه مكتبة واسعة، كتب إليه نوح بن منصور الساماني، يستدعيه في السر ليجعله وزيره ويفوض إليه تدبير أمر مملكته، فاعتذر إليه الصاحب وقال له: كيف يحسن لي مفارقة قوم بهم ارتفع قدري، وشاع بين الأنام ذكري، ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي؟ وعندي من كتب العلم خاصة، ما يحمل على أربعمئة جمل أو أكثر. وحكي عن الصاحب أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه، استغناءً به عنها. وبسببه عرفنا عدد كتب مكتبة الصاحب إذ قال: لقد اشتملت خزانتي على مئتي ألف مجلد وسبعة عشر ألف مجلد ما منها ما هو سميري غيره، ولا راقني منها سواه. ووقف الصاحب دار كتب بالري على طلبة العلم، كانت موجودة عامرة بعد قرابة 150 سنة من وفاته، ولكن السلطان محمود بن سبكتكين، المولود سنة 361 والمتوفى سنة 421، لما ورد إلى الري سنة 389، قيل له: إن هذه الكتب؛ كتب الروافض وأهل البدع، فاستخرج منها كل ما كان في علم الكلام، وأمر بحرقه.
وكان الصاحب قد سمع من المشايخ الأحاديث الجياد العوالي الإسناد، فلم يرغب أن يتخلف عن نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،وكان يقول: من لم يكتب الحديث لم يعرف حلاوة الإسلام، ولما كان الأصل في المحدثين التقوى وخوف الله عز وجل، وعماد ذلك الرزق الحلال، اتخذ الصاحب بناء في داره سماه بيت التوبة، واختلى فيه أسبوعاً ثم خرج وقد لبس زي الفقهاء، وأشهد على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السلطان، وذكر للناس أنه كان يأكل من حين نشأ إلى يومه هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم، ولكن كان يخالط السلطان وهو تائب مما يمارسونه، ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته، وحين حدث حضرت جموع غفيرة، واحتاج الأمر إلى ستة مستملين كل يبلغ صاحبه، فما بقي في المجلس أحد من أهل العلم إلا وقد كتب حتى القاضي عبد الجبار قاضي القضاة بالري.
تتابعت الأمراض على الصاحب في آخر حياته، وتحدث الناس بوفاته أكثر من مرة، وابتلي مرة بالإسهال، فكان كلما قام عن المطهرة وضع عندها عشر دنانير لئلا يتبرم به الفراشون، فكانوا يتمنون لو طالت علته، ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره، وكان فيها ما يساوي نحوا من خمسين ألف دينار من الذهب، وبلغته عن بعض أصحابه شماتة فقال:
وكم شامت بي بعد موتي جاهلاً ... بظلمي يسلُّ السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الظلم بعدي مات قبل مماتي
ووجد في بعض أيام مرضته التي توفي فيها خفة، فأذن للناس، وحل وعقد وأمر ونهى، وأملى كتباً تعجب الحاضرون من حسنها، وفرط بلاغتها، وقال:
كلامنا من غُرَرِ ... وعيشنا من غَرر
إني وحقِّ خالقي ... على جناح السفر
وكانت خاتمتها عندما أصيب بشلل في لسانه ودماغه توفي على إثره في اليوم التالي، فأغلقت مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضرها الملك فخر الدولة، وسائر القواد، وقد غيروا لباسهم.
ولما حضرت ابن عباد الوفاة جاءه الملك فخر الدولة بن مؤيد الدولة يعوده ليوصيه في أموره فقال له: إني موصيك أن تستمر في الأمور على ما تركتها عليه، ولا تغيرها، فإنك إن استمريت بها نُسبت إليك من أول الأمر إلى آخره، وإن غيرتها وسلكت غيرها نسب الخير المتقدم إليّ لا إليك، وكنت أنا المشكور، وقدح ذلك في دولتك.  وكانت نتيجة هذا النصح المحض، أنه لما توفي أنفذ فخر الدولة من احتاط على ماله وداره، ونقل جميع ما فيها إليه!
ولم يظهر للصاحب من المال ما توقعه فخر الدولة ومن حوله من شياطين الأنس، بل وجدت له أموال لا تزال على ختم آل بويه، فما كان الرجل خائناً وما كان ممسكاً بل منفقاً متلفاً، وأشار إلى ذلك من رثاه فقال الشريف الرضي:
إن المشمر ذيله لك خفية ... أرخى وجرر بعدك الأذيالا
طلبوا التراث فلم يروا من بعده ... إلا علاً وفضائلاً وجلالا
هيهات فاتهم تراث مخاطر ... جمع الثناء وضيع الأموالا
قد كان أعرف بالزمان وصرفه ... من أن يثمر أو يجمع مالا
مفتاح كل ندى، ورُبَّ معاشر ... كانوا على أموالهم أقفالا
كان الغريبة في الزمان فأصبحوا ... من بعد غارب نجمه أمثالا
مَن فاعلٌ من بعده كفعاله ... أو قائلٌ مِن بعده ما قالا؟!
وقال أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الحسن الأصبهاني، يشير لكره الوزير للسعاية:
قام السُعاة وكان الخوف أقعدهم ... فاستيقظوا بعد ما متَّ الملاعينُ
لا يَعجَب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحلَّ الشياطين
واستوزر فخر الدولة بعد الصاحب أبا علي الحسن وأبا العباس الضبي معا، فكان يدعى أبو علي الأستاذ الجليل وأبو العباس الأستاذ الرئيس، فقال بعض بني المنجم:
والله والله لا أفلحتم أبدا ... بعد الوزير ابن عباد ابن عباس
إن جاء منكم جليلٌ، فاجلبوا أجلى ... أو جاء منكم رئيسٌ فاقطعوا رأسي
وظهر بعد وفاته موقف ينم عن قلة الوفاء ومراعاة للحق ورعاية الحقوق، وذلك من صنيعته القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الشافعي المعتزلي، المولود سنة 323 والمتوفى سنة 414، فقد قال القاضي لما مات الصاحب: أنا لا أترحم عليه، لأنه لم يظهر توبته! فمقته الناس لهذا التشدد مع كثرة إحسان الصاحب إليه، وتقريبه له، وهو الذي ولاه منصب قاضي القضاة بالري، وكتب له بخطه عهداً حافل الثناء بهي الشكل، كان تحفة فنية في ورقه وخطه وزخرفته وتجليده، وكان القاضي عبد الجبار ذاته قد جمع الأموال واشترى الأطيان وسار على خطى قارون، وما لبث أن عزله فخر الدولة عن قضاء الري بعد موت الصاحب، وقبض عليه وصادره على ثلاثة آلاف ألف درهم، ويقال إنه باع في مصادرته ألف طيلسان مصري، وولى مكانه القاضي العلامة أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، صاحب الأبيات المشهورة التي أولها:
يقولون لي فيك انقباض، وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
تناولت حياة الصاحب عديد من المؤلفات المتأخرة، ولم أطلع عليها، فقد كتب الشيخ محمد حسن آل ياسين كتاباً في حياته ونشر عدداً من آثاره وديوانه، وحقق الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور شوقي ضيف مجموعة من رسائله.
ختاماً فلنقل مع الصاحب:
كم نعمةٍ عندك موفورة ... لله فاشكرْ يا ابن عباد
قمْ فالتمس زادك وهو التقى ... لن تسلك الطرق بلا زاد
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer