الجمعة، 3 يناير 2014

حدث في الثاني من ربيع الأول

 
في الثاني من ربيع الأول من عام 897 =1492م غادر غرناطة الملك أبو عبد الله محمد بن علي بن سعد النصري، المعروف بأبي عبد الله الصغير وسلمها إلى ملكي قشتالة فرديناند الثاني وإيزابيلا الأولى، وانتهى عملياً الوجود الإسلامي في الأندلس. قال الأمير شكيب أرسلان في كتابه خلاصة تاريخ الأندلس إلى سقوط غرناطة: انصرم حبل الإسلام في بلاد الأندلس، بعد أن استتبت دولته فيها منذ 787، منذ انهزم لذريق على ضفاف الوادي الكبير إلى تسليم غرناطة.
جاء سقوط غرناطة في يد دولة مركزية قوية يوحدها الدين الكاثوليكي وتعضدها سلطة البابا الروحية والمادية، نتيجة طبيعية لحكم مسلم دام قروناً وكان قوامه دويلات اتسم حكمها بالتشرذم والخلافات والحروب والتنافس، وانصرف ملوكها عن بناء الدولة وانغمسوا في الترف واللهو والجور والظلم، فكرهتهم الرعية وناءت بتصرفاتهم البلاد والعباد، وقد كانت هناك مراحل قوة وبناء، ولكنها كانت متقطعة متباعدة، فكان المسار المنحدر واضحاً وإن تخلله بعض الصعود أو الاستقرار.
وخير من يحدثنا عن هذا الأمر مؤرخ الأندلس المرحوم الأستاذ محمد عبد الله عنان، المولود سنة 1315= 1898، والمتوفى سنة 1408= 1988، وذلك في مقالات له في مجلة الرسالة بعنوان: أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس، أنقلها ببعض التصرف :
لبث الإسلام في أسبانيا يغالب النصرانية وتغالبه، والإسلام مذ انهار صرح الدولة الأموية دائم الخلاف والتفرق، سائر أبداً في طريق الضعف والانحلال؛ والنصرانية تجتمع دائماً على غزوه ونضاله، وتنتزع منه تباعاً قواعده وثغوره، حتى إذا جاء القرن الثامن لم يبق من دولة الإسلام الشامخة بالأندلس سوى مملكة غرناطة الصغيرة، تواجه وحدها داخل الجزيرة عدوها القوي، وسطعت هذه الأندلس الصغيرة مدى حين، ولكنها لم تنج من خطر التفرق؛ وأسبانيا النصرانية أثناء ذلك متربصة بها تكاد تلتهمها من وقت إلى آخر، لولا أن كانت صولة الإسلام في الضفة الأخرى من البحر - في المغرب الأقصى - تروعها وتردها، وكانت مملكة غرناطة كلما تبينت شبح الخطر الداهم تستغيث بجارتها المسلمة القوية فيما وراء البحر، دولة بني مرين، ولكن بني مرين لم يستجيبوا دائما إلى دعوة الإسلام المحتضر بالأندلس، وكانت لهم أحياناً مطامع ومشروعات في الأندلس ذاتها.
وكانت أسبانيا النصرانية كلما استيقنت تصرم العلائق بين الشقيقتين انقضت على الأندلس فاقتطعت منها ثغراً أو قاعدة جديدة. وكان رجالات الأندلس يستشفون من وراء ذلك خطر الفناء المحقق، بل لقد استشعر به ابن الخطيب وزير الأندلس وكاتبها الكبير قبل تحققه بأكثر من قرن، وصرح به في إحدى رسائله إلى ملك فاس إذ يدعوه إلى غوث الأندلس ونجدتها ويقول: ولا شك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم أو أعرضتم عن ذلك الوطن استولت عليه يد عدوه. وهكذا نرى الأندلس منذ أوائل القرن التاسع الهجري تسير بسرعة في طريق الانحلال والفناء، حتى إذا كانت أواخر هذا القرن لم يبق للإسلام في أسبانيا سوى مملكة غرناطة الصغيرة وفيها مدن وثغور قلائل تتربص بها النصرانية وتعد العدة لسحقها.
وكان على عرش غرناطة يومئذ السلطان الغالب بالله أبو الحسن علي بن سعد النصري الأحمري، ولي الملك سنة 871، ولكنه لم يستخلص الملك لنفسه إلا بعد نضال عنيف بينه وبين منافسيه وعلى رأسهم أبوه ثم أخوه أبو عبد الله المعروف بالزَغَل.
فلما استقر أبو الحسن في عرشه، أبدى همة فائقة في تحصين المملكة وتنظيم شئونها، وبث فيها روحاً جديداً من البأس والطمأنينة، واستطاع أن يسترد عدة من الحصون والقواعد التي افتتحها النصارى، ولاح للنصرانية أن الأندلس المحتضرة تكاد تبدأ حياة جديدة. بيد أن هذا البعث الخُلَب لم يطل أمده، ذلك أن عوامل الخلاف الخالدة عادت تعمل عملها، وبذر أبو الحسن حوله بذور السخط والغضب بما ارتكبه في حق الأكابر والقادة من العسف والشدة، وبما أغرق فيه من صنوف اللهو والعبث. وكان أبو الحسن قد اقترن بالأميرة عائشة ابنة عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر، ورزق منها ولدين هما محمد ويوسف. ولكنه عاد فاقترن بنصرانية رائعة الحسن تعرف في الرواية العربية بثريا الرومية، وتقول الرواية الأسبانية أن ثريا هذه كانت ابنة عظيم من عظماء أسبانيا، أخذت أسيرة في بعض المعارك وهي صبية فتية، وألحقت وصيفة بقصر الحمراء، فهام أبو الحسن بجمالها حباً، ولم يلبث أن تزوجها واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة المعروفة بالحُرَّة تمييزاً لها من الجارية الرومية أو إشادة بعفتها وطهرها.
ولم يكن اقتران السلطان بنصرانية بدعة، ولكنه تقليد قديم في قصور الأندلس، وقد ولد كثير من خلفاء الأندلس وأمرائها العظام من أمهات من النصارى مثل عبد الرحمن الناصر وحفيده هشام المؤيد، وكان لهذا التقليد أثره السيئ في انحلال عصبية الدولة الإسلامية، بيد أنه كان أشد خطرا وقت الانحلال العام، وكان وجود أميرة أجنبية في قصر غرناطة تستأثر بالسلطان والنفوذ في هذا الظرف العصيب، عاملا جديدا في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس. ذلك لأن ثريا أعقبت من السلطان أبي الحسن ولدين، وأرادت أن يكون العرش لأحدهما، وبذلت كل ما استطاعت من الإغراء والدس لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق في الملك، وكان أكبرهما محمد ولقبه أبو عبد الله ولي العهد المرشح للعرش، فنزل أبو الحسن عند سعي حظيته، وأقصى عائشة وولديها عن عطفه ورعايته، ولا زالت ثريا في سعيها ودسها حتى اعتقلهم أبو الحسن في أحد أبراج الحمراء وضيق عليهم وأخذ يعاملهم بمنتهى الشدة والقسوة، فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وانقسم القصر وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتد السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ.
وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة فلم تستسلم إلى ما حل بها، بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وأخذت تدبر معهم وسائل الفرار والمقاومة، وفي ذات ليلة استطاعت أن تفر من برج الحمراء الشاهق مع ولديها محمد ويوسف في جوف الليل بمعاونة بعض الأصدقاء المخلصين ، وأبدت في ذلك من الجرأة والشجاعة ما يخلق بأبطال الرجال، وكان ذلك في ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة 887.
واختفى الفارون حيناً حتى قويت دعوتهم وظاهرهم فريق كبير من أهل غرناطة، وظهر الأمير الفتى محمد أبو عبد الله في وادي آش Guadix حيث مجمع عصبته وأنصاره، ونشبت الثورة وانقضت العاصفة على أبي الحسن، وكانت عصبته أقلية ففر إلى مالقة وكان بها وقتئذ أخوه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد المعروف بالزغل يدافع عنها جيشا جرارا من النصارى سيره ملك قشتالة فرديناند الخامس لافتتاحها.
وجلس أبو عبد الله محمد بن السلطان أبي الحسن مكان أبيه أواخر سنة 887، وأطاعته غرناطة ووادي آش وأعمالهما وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه، وكان أبو عبد الله يومئذ فتى في نحو الخامسة والعشرين، و ويسميه الأسبان Boabdil ويعرف كذلك بالصغير تمييزاً له من عمه أبي عبد الله الزغل.
وكان ملك قشتالة يرقب سير الحوادث في مملكة غرناطة بمنتهى الاهتمام، فلما اضطرمت بنار الحرب الأهلية ولاحت له فرصة الغزو والفتح، سير جيشه إلى مالقة لافتتاحها ولكن المسلمين تأهبوا لرد النصارى بعزم وقوة وهزموهم في عدة مواقع فيما بين مالقة وبلش Velez Malaga، وهزم النصارى في ظاهر مالقة هزيمة ساحقة وقتل وأسر منهم عدة آلاف بينهم عدة من الزعماء والأكابر في صفر 888، وكان منظم هذا الدفاع الباهر الأمير أبو عبد الله الزغل، فانتعشت آمال المسلمين نوعاً، وسرت الحماسة إلى غرناطة، واعتزم ملكها الفتى أن يحذو حذو عمه الباسل في الجهاد والغزو، وأن ينتهز فرصة اضطراب النصارى عقب الهزيمة، فخرج في قواته بعد شهر متجهاً نحو حصن قرطبة شمال شرقي غرناطة؛ واجتاح في طريقه عدداً من الحصون والضياع، ومزق النصارى في عدة معارك محلية، ثم ارتد مثقلاً بالغنائم يريد العودة فأدركه النصارى في ظاهر قلعة كان يزمع حصارها، ونشبت بين الجيشين معركة هائلة هُزم فيها المسلمون هزيمة شديدة، وقتل وأسر كثير من قادتهم وفرسانهم، وكان بين الأسرى السلطان أبو عبد الله محمد نفسه، عرفه الجند النصارى من الأسرى أو عرفهم بنفسه خشية الاعتداء عليه وأخذوه إلى قائدهم الكونت كابرا، فاستقبله بحفاوة وأدب وأنزله بأحد الحصون القريبة تحت رقابة حرس قوي، وأخطر في الحال ملكي قشتالة بالنبأ السعيد؛ وعاد المسلمون إلى غرناطة دون ملكهم، فارتاعت غرناطة للنكبة واضطرب الشعب؛ واجتمع الكبراء والقادة وقرروا استدعاء أبي الحسن السلطان المخلوع ليجلس على العرش، ولكن أبا الحسن كان قد هده الإعياء والمرض وفقد بصره ولم يستطع أن يضطلع طويلاً بأعباء الحكم، فنزل عن العرش لأخيه محمد أبي عبد الله الزغل حاكم مالقة وارتد إلى بلدة المنكب Almunecar فأقام بها حينا حتى توفي، وجلس الزغل على العرش يدير شئون المملكة وينظم الدفاع عن أطرافها.
أما السلطان أبو عبد الله بن أبي الحسن فلبث يرسف في أسره عند النصارى وأدرك ملك قشتالة في الحال ما للأمير الأسير من الأهمية، وأخذ يدبر أفضل الوسائل للاستعانة به في تحقيق مآربه في مملكة غرناطة، وبذل أبو الحسن في الفترة القصيرة التي عاد فيها إلى العرش مجهوداً لافتداء ولده، لا حباً فيه وشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده ويأمن بذلك شره ومنافسته، وعرض على فرديناند نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة وأن يطلق عدداً من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرديناند وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين.
وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهوداً آخر لإنقاذ ولدها بمؤازرة الحزب الذي يناصره، واقترحت على ملك قشتالة معاهدة خلاصتها أن يتولى أبو عبد الله الملك في طاعة ملك قشتالة، وأن يدفع له جزية سنوية، وأن يطلق كل عام عدداً معينا من النصارى، وأن يدفع مقابل إطلاقه فدية كبيرة وأن يفرج في الحال عن أربعمئة من أسرى النصارى يختارهم ملكهم، وأن يقدم المعاونة العسكرية كلما طلبت منه، وأن يقدم ابنه الوحيد كفالة مع عدد من أبناء الأسر الكبيرة.
ومع أن عقد هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة في سبيل القضاء على مملكة غرناطة، فإن فرديناند رأى قبل عقدها أن يستغل أسر ملك غرناطة وأن يستعين به على تنفيذ برنامجه الحربي، وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإرادة، قليل الحزم والخبرة، كثير المطامع والأهواء، ولم يكن يتمتع بشيء من تلك الخلال الباهرة التي امتاز به أسلافه وأجداده العظام بنو الأحمر، وكان الملك والحكم غايته يبتغيها بأي الأثمان والوسائل، وقد ألفى ملك قشتالة القوي في ذلك الأمير الضعيف المستهتر بحقوق أمته ودينه، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه في غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى، وانتهز ملك قشتالة في الوقت نفسه الاضطراب العام في أنحاء مملكة غرناطة فسير قواته لتنتزع ما يمكن انتزاعه من القواعد والحصون الإسلامية، فاستولت على عدة منها.
ونشبت من جهة أخرى في غرناطة حرب أهلية لم تكن بعيدة عن وحي أبي عبد الله وحزبه، وقامت البيازين Albazyn ضاحية غرناطة بدعوته، وشُغِلَ ملك غرناطة أبو عبد الله الزغل بإخماد الثورة عن مقاتلة النصارى، وفي هذه الظروف العصيبة أطلق فرديناند سراح أبي عبد الله بعد أن وقع المعاهدة التي عرضها عليه مع تعديل يسير في بعض نصوصها، والتقى الملكان في قرطبة وأعلن فيه أبو عبد الله خضوعه وطاعته لملك قشتالة، واتفقا أن تكون الهدنة لعامين وأن تطبق في جميع الأنحاء التي تدين بالطاعة لأبي عبد الله.
وظهر أبو عبد الله يبث دعوته في الأنحاء الشرقية والحرب الأهلية قائمة في غرناطة أوائل سنة 891، وبدأت المفاوضة بينه وبين عمه ملك غرناطة في الصلح، ولكن حدث أثناء ذلك أن هاجم النصارى مدينة لوشة Loja جنوب غربي غرناطة واستولوا عليها في جمادى الأولى سنة 891، وكان موقف أبي عبد الله أثناء هذه الحوادث مريباً؛ وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، ويشيد بمزايا الصلح المعقود معه، ولم يكن خافياً أنه يستظل بمظاهرة النصارى.
وفي شوال سنة 891 ظهر أبو عبد الله في البيازين فجأة واجتمع حوله أنصاره، وأعلن الثورة على عمه؛ ونشبت بينهما الحرب في ظاهر غرناطة، وأمد فرديناند حليفه أبا عبد الله بالجند والذخائر والمؤن. واستمر القتال بينهما مدى أشهر، وفي ربيع الثاني سنة 892 سير فرديناند قواته إلى بلش مالقة ليفتتحها تمهيداً للاستيلاء على ثغر مالقة، وأدرك أبو عبد الله الزغل أهمية بلش الحربية فهرع إلى الدفاع عنها مع بعض قواته، وترك البعض الآخر لقتال أبي عبد الله وأهل البيازين، ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته لم تغن شيئاً، وسقطت بلش في يد النصارى في جمادى الأولى 892.
وعاد الزغل بجنده ميمماً صوب غرناطة، ولكنه علم أثناء مسيره أن غرناطة قامت أثناء غيابه بدعوة أبي عبد الله، وأنه دخلها وتبوأ العرش مكانه في جمادى الأولى، فارتد إلى وادي أش وامتنع بها، وانقسمت بذلك مملكة غرناطة الصغيرة إلى شطرين يتربص كل منهما بالآخر: غرناطة وأعمالها ويحكمها أبو عبد الله محمد، ووادي آش وأعمالها ويحكمها عمه أبو عبد الله الزغل، وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة من تمزيق شمل البقية الباقية من دولة الإسلام بالأندلس تمهيداً للقضاء عليها.
تبوأ أبو عبد الله عرش غرناطة للمرة الثانية بعد أن قضى في أسر ملك قشتالة زهاء ثلاثة أعوام، وكانت الخطوب والفتن التي توالت على مملكة غرناطة قد مزقتها حسبما بينا، فلم يبق منها بيد الإسلام سوى بضع مدن وقواعد متناثرة مختلفة الرأي والكلمة ينضوي بعضها تحت لواء أبي عبد الله والبعض الآخر تحت لواء عمه محمد بن علي الزغل، وكان واضحاً أن مصير غرناطة يهتز بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، ولم يكن الملك الصغير أبو عبد الله وفقاً للمعاهدة التي عقدها مع فرديناند سوى تابع لمملكة قشتالة، يدين لها بالخضوع والطاعة، وكان ملك قشتالة يحرص من جهة أخرى على المضي في تحقيق خطته لسحق البقية الباقية من دولة الإسلام في الأندلس قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديداً من العزم والمقاومة، فبدأ بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التي يسيطر عليها مولاي الزغل لأنه كان في صلح مع غرناطة يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، ولأنه أراد أولاً أن يعزل غرناطة، وأن يطوقها من كل صوب.
وزحف فرديناند بادئ بدء على مالقة أمنع ثغور الأندلس وعِقد صلتها بالمغرب، وطوقها بقوات كثيفة من البر والبحر، وسقطت مالقة رغم دفاعها المجيد في شعبان سنة 892، ثم استولى فرديناند على المنكب والمرية أواخر سنة 894، ثم قصد إلى وادي آش آخر معقل لمولاي الزغل، ورأى الزغل رغم شجاعته وبسالته أنه يغالب المستحيل وأن جيوش النصرانية تحيط به من كل صوب، فانتهى إلى الإذعان والتسليم، واستولى  فرديناند على وادي آش في صفر سنة 895.
واتفق بادئ بدء أن يستمر الزغل في حكم قواعده باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، وأن يلقب بملك اندرش، وأن يمنح دخلاً سنوياً كبيراً، ولكنه لم يلبث أن رأى انه يستحيل عليه الاستمرار في ذلك الوضع الشاذ، فباع حقوقه لفرديناند مقابل مبلغ كبير، وجاز البحر إلى المغرب واستقر في تلمسان يقضي بها بقية حياته في غمر من الحسرات والعدم، وجاز معه كثيرون من الكبراء الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام بالأندلس قد غدت قضاء محتوما.
ثم جاء دور غرناطة آخر معقل للإسلام بالأندلس، وكانت جميع قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة وعين لها حكام من النصارى، وتدجن أهلها أو غدوا مدجنين يدينون بطاعة ملك النصارى، وذاعت بها الدعوة النصرانية فارتد كثير من المسلمين عن دينهم حرصاً على أوطانهم ومصالحهم، وخشية الريب والمطاردة؛ وجازت ألوف أخرى ممن خشوا على أنفسهم ودينهم إلى المغرب وتفرقوا في ثغوره، وهرعت ألوف أخرى إلى غرناطة تلوذ بها حتى غدت المدينة تموج بسكانها الجدد.
وكان سلطان غرناطة أبو عبد الله يرقب هذه الحوادث جزعاً ويشعر أنها تسير إلى نتيجة محتومة هي سقوط غرناطة في يد العدو الظافر، وكان قد تخلص بانسحاب عمه الزغل من الميدان من منافسه القوي، ولكنه فقد في نفس الوقت أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه في الدفاع والمقاومة، وسرعان ما بدت طوالع الخطر الداهم، وبعث فرديناند إلى أبي عبد الله يطلب إليه تسليم الحمراء والبقاء في غرناطة في طاعته وتحت حمايته مثلما وقع لعمه الزغل؛ فثار أبو عبد الله لذلك الغدر، وأدرك - وربما لأول مرة - فداحة خطأه في محالفة الملك الغادر؛ وجمع الكبراء والقادة، فأجمعوا على الرفض والدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم؛ ودوت في غرناطة صيحة الحرب؛ وحمل أبو عبد الله بعزم شعبه على القتال والجهاد، وخرج في قواته يحاول استرداد القواعد والحصون المسلمة المجاورة؛ وثار أهل البشرات Albujarras وما حولها على النصارى؛ ووقعت بين المسلمين والنصارى عدة مواقع ثبت فيها المسلمون، واستردوا كثيراً من الحصون والقرى في تلك المنطقة أواخر سنة 895، وعاد أبو عبد الله إلى غرناطة ظافرا، وانتعشت قلوب الغرناطيين نوعاً بذلك النصر الخلب، وأخذوا يتأهبون للدفاع بعزم. وغضب فرديناند لتلك المفاجأة التي لم يكن يتوقعها واعتزم أن يقوم بضربته الحاسمة في الحال؛ فخرج في ربيع عام 896 في جيش ضخم مزود بالمدافع والذخائر الوفيرة؛ وسار تواً إلى غرناطة ونزل بمرجها الجنوبي وأنشأ لجيشه في بلك البقعة مدينة صغيرة مشهورة سميت سانتا في Santa Fe أو الإيمان المقدس رمزاً للحرب الدينية، وهي تقوم حتى اليوم وبدأ حصار غرناطة في جمادى الآخرة سنة 896.
ولسنا نقف طويلاً عند حوادث هذا الصراع الأخير بين الإسلام والنصرانية في الأندلس؛ فهي تملأ فصولاً طويلة مؤثرة في الروايات العربية والإفرنجية؛ ويكفي أن نقول أن غرناطة دافعت عن نفسها دفاعاً مجيداً، ولم تدخر لاجتناب قدرها جهداً بشرياً؛ وأن فروسيتها الشهيرة بذلت بقيادة زعيمها موسى ابن أبي الغسان أشجع فرسان عصره، ضروباً رائعة من البسالة، وخرج المسلمون من مدينتهم المحصورة غير مرة وأثخنوا في النصارى، ولكن الضيق كان يشتد بالمدينة المحصورة يوماً فيوماً، وتقل مؤنها شيئاً فشيئاً، ويتساقط جندها تباعاً، وكانت مدى الربيع والصيف تستمد بعض المؤن من جهة البشرات من طريق جبل شلير فلما دخل الشتاء غطت هذه السهول والشعاب بالثلج الكثيف؛ وازدادت غرناطة ضيقا، واشتد بأهلها الجوع والمرض، وهمَّ أبو عبد الله بمفاوضة فرديناند في التسليم غير مرة لو أن كان يمنعه موسى بن أبي الغسان وتحمله الحماسة العامة
ولما اشتد الخطب تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك، وقرر أن المؤن تكاد تنفد، وأن الجوع أخذ يعصف بالشعب، وأن الدفاع عبث لا يجدي؛ واتفقت كلمة الزعماء والقادة على التسليم؛ وتم الاتفاق على أن تسلم غرناطة بشروط كثيرة أهمها أن يؤمن المسلمون على أنفسهم ودينهم وأموالهم، وأن لا تمس مساجدهم وشعائرهم وشرائعهم وتقاليدهم؛ وأن يجوز منهم إلى المغرب من شاء وهكذا أذعنت غرناطة وسلمت، وانتهت دولة الإسلام بالأندلس وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة الرائعة من تاريخ الإسلام، وقُضي على تلك الحضارة الأندلسية الشامخة وآدابها وعلومها وفنونها وكل ذلك التراث الباهر بالفناء والمحو، ودخل النصارى غرناطة واحتلوا حمراءها وباقي قصورها وحصونها وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المنهار في الثاني من ربيع الأول من سنة 897.
أما الملك التعس أبو عبد الله فقد قضت معاهدة التسليم أن يغادر غرناطة مع أسرته إلى البشرات وأن يحكم هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وفي طاعته وأن يكون مقره في قرية اندرش، ولما ذاعت أنباء التسليم اضطرم الشعب غضباً وسخطاً على أبي عبد الله واعتبره مصدر كل مصائبه ومحنه؛ فبادر أبو عبد الله بالأهبة للسفر مع أسرته وخاصته وحشمه، وبعث بأمواله ونفيس متاعه إلى مقره الجديد في اندرش Andarax، وفي نفس اليوم الذي دخل النصارى فيه غرناطة، غادر أبو عبد الله قصره وموطن عزه ومجد إلى آبائه الأبد؛ وخرج للقاء عدوه الظافر في سرية من الفرسان والخاصة، فاستقبله فرديناند في محلته على ضفة شنيل، وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرديناند إلى حيث كانت الملكة إيزابيلا فقدم إليها تحياته وخضوعه، ثم انحدر إلى طريق البشرات ليلحق بأسرته وخاصته.
وهنا تقول الرواية إن أبا عبد الله اشرف أثناء مسيره في شِعب تل البذول على منظر غرناطة فوقف يسرح بصره لآخر مرة في هاتيك الربوع العزيزة التي ترعرع فيها، وشهدت مواطن عزه وسلطانه؛ فانهمر في الحال دمعه وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمه عائشة:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا ... لم تحافظ عليه مثل الرجال.
وتعرف الرواية الأسبانية تلك الأكمة التي كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعري مؤثر هو: زفرة العربي الأخيرة، el último suspiro del Moro، وما تزال قائمة حتى اليوم يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجول، ثم تقول الرواية أيضاً إن باب غرناطة الذي خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة قد سُدَّ عقب خروجه برجاء منه إلى ملك قشتالة وبني مكانه حتى لا يجوزه من بعده إنسان.
لم يطل مكث أبي عبد الله بمقره الجديد في اندرش، ولم تمض أشهر قلائل حتى أدرك كما أدرك عمه من قبل أنه يستحيل عليه البقاء في هذا الوضع الشاذ كعامل لملك قشتالة، وكان فرديناند من جانبه ينظر إلى وجوده بعين الريب ويخشى مثار الفتنة؛ فعول أبو عبد الله أن يحذو حذو عمه في الجواز إلى أفريقية، ونزل لفرديناند عن حقوقه نظير مبلغ كبير، ثم جاز بأسرته وماله ومتاعه من ثغر المرية إلى المغرب الأقصى في سفن أعدت له، ونزل أولاً بمليلة، ثم قصد إلى فاس واستقر بها، وتقدم إلى ملكها السلطان محمد شيخ بني وطاس الذين خلفوا بني مرين في الملك، مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتذراً عما أصاب الإسلام في الأندلس على يده، متبرئاً مما نسب إليه، وذلك في كتاب طويل مؤثر كتبه عن لسان كاتبه ووزيره محمد بن عبد الله العربي العقيلي، وسماه الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس، وقد افتتحه بعد الديباجة بقصيدة رائعة هذا مطلعها:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعياً لما مثله يرعى من الذمم
بك استجرنا ونعم الجار أنت ... لمن جار الزمان عليه جور منتقم
حتى غدا ملكه بالرغم مستلب ... وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم
حُكمٌ من الله حتمٌ لا مرد له ... وهل مرد لحكم منه منحتم
كنا ملوكاً لنا في أرضنا دول ... نمنا بها تحت أفنان من النعم
فأيقظتنا سهام للردى صبت ... يُرمي بأفجع حتف من بهن رمى
فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا ... وأي ملك بظل الملك لم ينم
ويشير أبو عبد الله بعد ذلك إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن نكبته؛ ويعترف بخطئه، ومن قوله في ذلك: اللهم لا بريءٌ فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، ولكني مستقيل، مستنيل، مستغيث، مستغفر؛ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمَّارة بالسوء. بيد أنه يدفع عن نفسه تهم الزيغ والتفريط والخيانة بشدة، ويقول: ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه المؤكد فيه خطه بإيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها؛ فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصفر، ولا سوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر، ما وجدنا على ذلك مندوحة ولو شاسعة. ثم يرثي ملكه بعبارات مؤثرة منها: ثم عزاء حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض ورثها من شاء من عباده معقباً لهم ومديلاً، وسادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً، سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
واستقر أبو عبد الله في فاس في ظل بني وطاس، وقضى أعواماً طوالاً في غمر الحسرات والذكريات المفجعة، وتوفي سنة 940 ودفن بفاس، وشيد بها قصوراً على طراز الأندلس رآها وتجول فيها المَقَرِّي مؤرخ الأندلس بعد ذلك بنحو قرن 1037، وترك ولدين هما يوسف وأحمد، واستمر عقبه متصلاً معروفاً بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة، ويذكر لنا المقري أنه رآهم سنة 1037هـ فقراء معدمين يعيشون من أموال الصدقات.
هذه قصة مصرع الأندلس، وقصة آخر ملوكها
وصار ما كان من مُلك ومن مَلِك ... كما حكى عن خيال الطيف وسنان
ونقض الملكان عهودهم التي قطعوها للمسلمين عند تسليم غرناطة باحترام دينهم وشرائعهم، وتأمين أشخاصهم وأعراضهم وأموالهم وحرياتهم، وبعد سبع سنوات من سقوط غرناطة، قرر مجلس الدولة في سنة 904 أن يفرض التنصير على المسلمين، ولقطعهم عن منابع دينهم أصدر الكاردينال خيمنزJimenez de Cinsnero أمره في سنة 916=1511م فأحرقت في ساحات غرناطة الكتب العربية، ثم ما لبث ديوان التفتيش بعد قرابة 50 أن قضى على أية بقية للعرب والمسلمين في الأندلس.
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer