الجمعة، 10 يناير 2014

حدث في التاسع من ربيع الأول


في التاسع من ربيع الأول من عام 1327 الموافق 31/3/1909، قامت حامية استانبول العسكرية بحركة تمرد، عضدتها مظاهرات شعبية، تندد بالدستور وتطالب بإلغائه وإحياء العمل بأحكام الشريعة، وجاءت الحركة بعد قرابة 7 شهور من إصدار السلطان عبد الحميد الثاني أمره بإعادة العمل بالدستور، وأدت هذه الحركة إلى تدخل الجيش وخلع السلطان عبد الحميد وتنصيب أخيه السلطان محمد رشاد في السادس من ربيع الثاني سنة 1327، وذلك فيما سمي بالانقلاب العثماني.
تسنم السلطان عبد الحميد، المولود سنة 1258=1842، العرش في شعبان سنة 1293، الموافق 31 آب 1876، بعد عزل أخيه السلطان مراد بسبب اختلال عقله، وقد جاء السلطان عبد الحميد إلى الحكم بموجب اتفاق مع جمعية تركية الفتاة التي كان يتزعمها الصدر الأعظم مدحت باشا، المولود سنة 1238=1822 والمتوفى سنة 1301=1883، وتضمن الإتفاق أن يعلن السلطان القانون الأساسي، أي الدستور، واستشارة الوزراء وجعلهم مسؤولين وحدهم في أمور الدولة، وتعيين عدد من رجالات الجمعية الحريصين على تنفيذ أحكام القانون الأساسي.
وأخذ كثير من رجال القصر الفاسدين يسعون لتجاوز أو تأجيل القانون الأساسي، وحجتهم في ذلك عدم الحاجة إليه بوجود السلطان الحالي! ولكن مدحت باشا وجماعته تعاضدهم بعض الصحف الشائعة تابعوا الطلب حتى أصدر السلطان في 6 ذي الحجة من سنة 1293، الموافق 23 كانون الأول/ديسمبر 1876، فرماناً سلطانياً أعلن فيه النظام الأساسي، ويتكون من 119 مادة، وكان أول دستور يتم إقراره في دولة مسلمة، وضمن لجميع رعايا الدولة الحرية والمساواة أمام القانون، وأباح حرية التعليم مع جعله إجباريا، وحرية المطبوعات، وبيَّنَ اختصاصات مجلس المبعوثين المنتخب، ومجلس الأعيان المعين، وكيفية انتخاب مجلس المبعوثين، الذي يماثل مجلس النواب، ومن يجوز أن يَنتخِب أو يُنتخَب، وأن الدين الرسمي هو دين الإسلام، واللغة الرسمية اللغة التركية، وأن الدولة جسم واحد لا يمكن تفريقه أو تجزئته.
وجاء في المقدمة التي صاحبت النظام الأساسي اعتراف السلطان بأهمية الإصلاحات الداخلية حين قال: إن التدنيات العارضة منذ أزمان على قوة دولتنا العَلِيّة قد نشأت من الانحراف عن الطريق المستقيم في إدارة الأمور الداخلية أكثر مما نشأت من الغوائل الخارجية. ومع كون النظام الأساسي خطوة إصلاحية كبيرة في حينها، ينبغي أن نذكر أنه لم يجعل الدولة العثمانية ملكية دستورية مثل بريطانية، بل ملكية يتخللها شيء من التقييد مثل قيصر النمسا، فقد ربط أغلب الإجراءات والتعيينات بالسلطان ذاته، دون رقابة أو مساءلة تذكر، ولكنه أضفى كثيراً من الشفافية والقواعد على ميزانية الدولة وإدارتها.
وماطل رجال البلاط السلطاني في عقد مجلس المبعوثين، وذلك بغرض أن يخففوا من وجود أنصار ومشايعي جماعة تركية الفتاة فيه، وجرت محاولات لإبعاد رجالات مدحت باشا بتعيينهم في مناصب مغرية، فضاق صدر مدحت باشا من التأخير والمحاولة، وكتب إلى السلطان عبد الحميد مباشرة: لم يكن غرضنا من إعلان القانون الأساسي إلا محو الاستبداد، وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق، وما عليكم من الواجبات، وتعيين وظائف الوزراء ومسؤوليتهم، وتأمين جميع الناس على حريتهم، حتى ترتقي البلاد في معارج الارتقاء. وختم رسالته بقوله: وإني لكثير الاحترام لشخص جلالتكم، ولكن الشرع الشريف يوجب علي أن لا أطيع أوامركم، إذا لم تكن موافقة لمنافع الأمة.
وإزاء هذا الموقف الصلب أصدر السلطان عبد الحميد أمره بعزل مدحت باشا، ونفيه إلى إيطاليا، ثم عينه بعد سنوات والياً على الشام، حيث بنى فيها سوق مدحت باشا الشهير، ثم اتهم مع جماعة بقتل السلطان عبد العزيز، وحكم عليه بالإعدام ثم عفي عنه ونفي إلى الطائف حيث لاقى منيته سنة 1301=1883، وتقول بعض الروايات المعتبرة أنه قتل بأمر من السلطان عبد الحميد.
وكانت الدول الأوربية تترقب الإصلاحات السياسية، لأنها كانت ستفيد كثيراً مسيحيي الدولة العثمانية والذي جعلت هذه الدول من أنفسها حامية لهم وراعية لمصالحهم، وكانت بريطانية حريصة على بقاء الدولة العثمانية حاجزاً في وجه روسية القيصرية، فتابعت الضغط باتجاه الإصلاحات السياسية التي توفر الحد الأدنى من الاستقرار والاستمرار للدولة العثمانية.
وإزاء هذه الضغوط مضى السلطان عبد الحميد قُدُما في تشكيل مجلس المبعوثين، الذي تكون من 115 عضواً، منهم 46 من غير المسلمين، وانعقدت أول جلساته في 4 ربيع الأول سنة 1294، الموافق 19 آذار/مارس 1877، في قصر دولمه بغجة، وافتتحها السلطان عبد الحميد بخطبة مطولة راجع فيها الأحداث التاريخية القريبة، فتناول الامتيازات التي مُنحت للعناصر غير المسلمة، ثم القروض التي استدانتها الدولة بسبب حرب القرم، ثم العجز المالي الذي حدث أثناء حكم السلطان عبد العزيز بسبب عصيان البوسنة والهرسك، ثم انتهى إلى وجوب إعلان الدستور إذا كان للدولة أن تنجو من الاضمحلال والانقراض، ثم قال: عليكم أيها الأعضاء هذه السنة أن تضعوا الأنظمة الداخلية للمجلس، وقانون الانتخاب، وقوانين إدارة الولايات والنواحي، وقانون البلدية، وأصول المحاكمات المدنية، وقانون ترقية الموظفين، وقانون المطبوعات، وديوان المحاسبات وتدقيق الميزانية.
وفي نيسان/أبريل سنة 1877 اندلعت الحرب الروسية العثمانية واستمرت 8 أشهر إلى كانون الأول/ديسمبر سنة 1877، وكان سببها تدخل روسيا وصربيا إلى جانب البوسنة وبلغارية في تمردها الاستقلالي على الدولة العثمانية، وأظهر الجيش العثماني في هذه الحرب أمثلة رائعة من الشجاعة والصبر والثبات والقوة، ولكن نقصان التجهيزات العسكرية وسوء الإدارة كانا سبباً في انتصار الروس، ووقعت روسيا والدولة العثمانية اتفاقية سان ستيفانو في أول سنة 1878، والتي اعترفت باستقلال رومانيا وصربيا والجبل الأسود ومنحت الحكم الذاتي للبوسنة والهرسك، ومنحت كذلك الحكم الذاتي لبلغاريا تحت الحماية الروسية، ولم يقدر لهذه الاتفاقية أن تنفذ، فقد أثارت المكاسب الروسية خوف بريطانية ودولة النمسة، فبعثت إنكلترا أسطولها إلى بحر مرمرة في أوائل سنة 1878، وعقدت الدول الأوربية مؤتمراً في برلين في منتصف السنة انتزع من روسيا أغلب مكاسبها العسكرية والسياسية.
وكان مجلس المبعوثين قد توقف انعقاده بسبب الحرب، فلما وضعت أوزارها انعقد ثانية في ذي الحجة من سنة 1294، كانون الأول/ديسمبر 1877، وأبدى المجلس استقلالاً غير متوقع ونشاطاً متميزاً في محاسبة الحكومة ومناقشة الهزائم التي حاقت بالدولة، والفساد المالي والإداري، وأخذ في استجواب أعضاء الحكومة، وطالب أعضاؤه بمحاسبة الفاسدين في الجيش وإقالة القادة المسؤولين عن الهزيمة.
وفي أثناء ذلك قام السلطان عبد الحميد بإلغاء منصب الصدر الأعظم وجعل محله منصب رئيس الوكلاء، معبراً عن رغبته في إدارة البلاد إدارة مباشرة ليس إلا لحرصه على سلامة الدولة وترقيها، وأثار هذا التصرف غير الدستوري حفيظة كثير من أعضاء مجلس المبعوثين وقال أحد أعضائه: إن المجلس له الحق وحده ومن شأنه خاصة إحداث تغيير عظيم مثل هذا التغيير، تقولون دائما: إنكم تريدون المحافظة على القانون الأساسي، إذا فاحترموا صلاحياتنا؛ لأننا نحن الذين نمثل القانون الأساسي، ونحافظ على أحكامه، وأنتم الذين تحاولون نقضه وإبطاله! ولم يطل الأمر حتى أصدر السلطان عبد الحميد أمره في 11 صفر 1295، الموافق 14 شباط/فبراير سنة 1878، بتعطيل مجلس المبعوثين إلى أجل غير مسمى، وعاد لممارسة الحكم على نهج أجداده دون مساءلة أو مراقبة، ويخمن أحد المؤرخين أنه فعل ذلك متأثراً بقيصر روسيا المنتصرة الذي كان يتمتع بسلطات مطلقة في حكم بلاده.
ولم تكن ردة الفعل على تعطيل مجلس المبعوثين كبيرة، وقد ذكر سبب ذلك السيد رشيد رضا فقال: إن ذلك المجلس لم يكن بسعي الأمة ولا برأيها، ولم تكن عالمة به ولا مستعدة له، وإنما هو من صنع مدحت باشا، أبي الحرية، وبعض إخوانه الوزراء والكبراء، فهم الذين وضعوا القانون الأساسي، وبسعيهم ألزموا السلطان بقبوله، فأظهر القَبُول وأمرت الوزارة بانتخاب المبعوثين فانتخبوا واجتمعوا، ولما تفرق شمل هذه الوزارة حل السلطان ما كان منعقدا، وفرق ما كان مجتمعا، فكان إبطال مجلس المبعوثين أسهل عليه من إبطال نابليون لمجلس النواب؛ إذ لم يكن له من الأمة عضد يؤيده، ولا من الجيش نصير يحفظه ويعضده ... هددت الشرطة المبعوثين ذوي الجرأة، وأنذرتهم البطش بهم إذا لم يسرعوا بالسفر من الآستانة، فذهبوا مسرعين، ذلك بأن الاستبداد خاف من بقائهم أن يحدثوا هنالك تأليباً للناس ويحملوهم على المطالبة ببقاء مجلس الأمة والمحافظة على القانون الأساسي، على أن الأمة نفسها لم تكن تحفل بذلك ولا تعرف قيمته، ولذلك لم يظهر منها أدنى اهتمام في مكان ما.
واستمر السلطان عبد الحميد يحكم البلاد حكماً مطلقاً دون وجود مجلس شوروي مدة 30 سنة إلى منتصف سنة 1326، حين اندلعت في 3 ربيع الآخر، الموافق 3 تموز/يوليو 1908، شرارة تمرد خطير من سالونيك قاده الضابط أحمد نيازي من الفيلق الثالث، سرعان ما امتد إلى أنحاء البلاد.
وكان تقييم السلطان عبد الحميد للأمور صحيحاً وسريعاً، فقد أدرك صعوبة مواجهة المدِّ الثوري وهو في أوجه، كما أدرك أن القوات في استانبول قد تخذله إن هو قرر مواجهة المتمردين، وكذلك لكراهيته سفك الدماء في مواجهة هو الخاسر فيها حتى لو ربحها، فأعلن في 23 ربيع الآخر، الموافق 23 تموز/يوليو، إعادة العمل بالدستور وعقد مجلس المبعوثين في أقرب فرصة ممكنة.
وانعقد مجلس المبعوثين في 24 ذي القعدة 1326، الموافق 18 كانون الأول/ديسمبر 1908،وتليت فيه كلمة السلطان، ومما جاء فيها: بسبب الصعاب التي قامت في وجه إنفاذ الدستور الذي وضعتُه موضع الإجراء عند ارتقائي العرش، أُوقفَ هذا القانون يومئذ للاضطرار الذي أشار إليه كبار الحكومة، وأُجِّلَ إنفاذ القانون وأرجئ عقد المجلس إلى وقت يصل فيه الشعب إلى الدرجة المرومة من التقدم بواسطة نشر التعليم العام.
وقفتُ عنايتي على إيجاد الرقي في جميع أنحاء بلادي، وبفضل نشر التعليم العام ارتقت درجة أفهام جميع طبقات شعبنا وبناءً على الرغبة التي أعلنت ولأن هذه الرغبة تضمن في الحاضر والمستقبل خير بلادنا لم نتردد - رغم الذين كانوا على رأي مخالف - في إعلان الدستور ثانية، وأمرنا بإجراء انتخابات جديدة، ودعونا مجلس المبعوثين للاجتماع ... وإنا نود من صميم الفؤاد تنظيم المالية، وتسوية موازنة الميزانية، ومواصلة تحسين حالة سلطنتنا، وزيادة عدد المدارس لزيادة نشر التعليم العام، وإيصال جيشنا وبَحْرِّيتنا درجة الكمال، وكذلك تنظيم الدوائر المختلفة التي وضعت مشروعات قوانين شتّى ستعرض على مجلس المبعوثين ومجلس الأعيان لإقرارها، ومنتهى متمنانا سعادة الأمة ونجاحها، وأقصى رغبتنا وآكدها وعزيمتنا الثابتة التي لا تتغير أن تكون إدارة البلاد مطابقة للدستور.
وفي الواقع العملي أصبحت البلاد تحت سيطرة جمعية تركية الفتاة التي اتخذت اسم الاتحاد والترقي، وهنا نعود القهقرى للحديث عن  الجمعيات الإصلاحية التي نشأت في عصر أفول الدولة العثمانية، وخير من يحدثنا عن ذلك المرحوم الأستاذ روحي محمد الخالدي المقدسي المولود سنة 1281=1864 والمتوفى سنة 1331=1913، المختص في الفلسفة والعلوم السياسية، والقنصل العثماني في مدينة بوردو بفرنسة، ونائب القدس الذي انتخبه أهلها ليمثلهم في مجلس المبعوثين، وله رسالة في هذا الموضوع عنوانها أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة، استفدت منها كثيراً.
يذكر الخالدي أن جذور تركية الفتاة تعود إلى حفيد محمد علي باشا الكبير الأمير مصطفى فاضل باشا بن إبراهيم باشا المصري، المولود في القاهرة سنة 1830، والذي عينه السلطان عبد العزيز في سنة 1862 ناظراً للمعارف ثم للمالية، وكانت الديون قد بلغت عنان السماء وأثقلت كاهل الأمة، فأدخل على المالية كثيراً من الإصلاحات المفيدة في تجرد ونظافة يد، ثم عين السلطان رئيساً جديداً للوزراء لم يكن على وفاق مع مصطفى فاضل فضيق عليه حتى ترك الوزارة بعد أن قدم للسلطان عبد العزيز مذكرة بيّن أسباب الضعف والانحطاط والفساد، وشدد فيها النكير على الاستبداد، بصراحة لم يسبقه إليها أحد، ثم هاجر إلى باريس سنة 1865، ولحقت به فئة من الشبان، فأكرم مثواهم، وأنفق على تعليمهم ونبغ منهم كثيرون في الأدب والكتابة والسياسة، ثم رعاهم من بعده صهره خليل شريف باشا، الذي جاء من مصر إلى الآستانة، وصار سفير الدولة العثمانية في باريس ثم ناظراً للخارجية، وكانت زوجته الأميرة الشهيرة نازلي خانم، كبرى بنات مصطفى فاضل باشا، قد اقتفت أثر والدها وزوجها الأول في تعضيد حزب تركيا الفتاة، وساعدته بالمال والجاه، هي وشقيقها الأمير محمد علي باشا.
أما في داخل الدولة العثمانية فكانت جمعية تركية الفتاة في حقيقتها تجمعاً لفئة قليلة من صغار الموظفين وضباط العساكر والمتعلمين في المدارس الجديدة، والذين درسوا شيئًا من اللسان الفرنسي أو الإنكليزي، أو الذين أصلهم من الأوربيين الذين أسلموا ودخلوا في وظائف الدولة، أو الذين تزوجوا بنسوة أوربيات وربوا أولادهم تربية إفرنجية، فكانت هذه الفئة متحدة بالفكر في إعجابها بالمدنية الأوربية وميلها إليها، ولم تكن لهم جمعية ولا رابطة غير الرابطة المعنوية الفكرية.
ونمت هذه المجموعات وتنظمت في جمعية الاتحاد والترقي، وكانت سنة 1894 معلماً هاماً في تاريخها، إذ أرسلت إلى باريس فريقاً من شبابها، أكثرهم من دارسي الطب، ليؤسسوا فيها فرعاً للجمعية ويقوموا بنشر الجرائد والرسائل، وكان في باريس إذ ذاك عدد ليس بالقليل من الشبان العثمانيين من دارسين وناشطين وكان أبرزهم أحمد رضا بك،  ابن إنكلز علي بك من أم مجريِّة، وسُميّ إنكلز لتعلمه الإنكليزية، وإلا فهو من الأتراك المسلمين، ومن كبار الموظفين، وتخرج أحمد رضا من كليات استانبول وعمل في التدريس ثم رحل إلى باريس سنة 1890 حيث شكل جماعة النظام والترقي، القائمة على التفاني في حب الوطن وخدمة الجماعة، والحفاظ على المال العام وحقوق المواطن، وكان رضا ذا عزم صادق، وإخلاص فريد، رفض كثيراً من المغريات والمناصب مقابل تخليه عن نشر تعاليمه وأفكاره، وله رسالة بالفرنسية عنوانها التساهل الديني، رد فيها على الذين يتهمون المسلمين بالتعصب، واستدل بكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مما دل على غزارة علمه، وانضم أحمد رضا بك إلى الجمعية، وصار رئيسا لفرع باريس، ونشر جريدة مشورت بالتركية والفرنساوية ناطقة بمقاصد الجمعية ومحورها العمل بالدستور وإصلاح النظام الإداري والاقتصادي.
ولم يكن رضا الزعيم الوحيد للإصلاحيين بل كان هناك زوج أخت السلطان الأمير محمود جلال الدين وابناه صباح الدين ولطف الله، وكانت دعوتهم تقوم على تنظيم البلاد على أساس فدرالي أسموه باللامركزية، وكانوا يتعاونون في هذا مع العناصر العثمانية غير التركية، وكانت لجماعتهم شعبية أكثر من من جمعية الاتحاد والترقي التي تقاربوا معها وتباعدوا مراراً، ولكن سيطرة التيار المتشدد على جمعية تركية الفتاة وتطرفها في مطالبها جعل التأييد لها يزداد وبخاصة في صفوف الجيش الذي كان يتكون من عنصري الترك والمسلمين من عرب وغيرهم.
نعود إلى إعلان السلطان عبد الحميد للدستور وعقد مجلس المبعوثين، وما تلى ذلك من استرجاع لكثير من الحريات المكبوتة لاسيما في مجال الرقابة على الإعلام وقوامه آنذاك الصحف والمجلات، فقد كان لهذا الحدث وقع كبير في أنحاء السلطنة احتفل له الناس واستبشروا بكونه بداية نهضة حقيقة للأمة العثمانية لتستعيد مكانتها بين الأمم، ويكفي أن نشير إلى قصيدة أحمد شوقي الشهيرة التي رحبت بذلك:


 بشرى البرية قاصيها ودانيها ... حاط الخلافة بالدستور حاميها

لما رآها بلا ركن تداركها ... بعد الخليفة بالشورى وناديها
أسدى إلينا أمير المؤمنين يداً ... جلت كما جل في الأملاك مسديها
بيضاء ما شابها للأبرياء دم ... ولا تكدر بالآثام صافيها
وإنما هي شورى الله جاء بها ... كتابه الحق يعليها ويغليها
أما ترى الملك في عرس وفي فرح ... بدولة الرأي والشورى وأهليها
ورغم الدستور وانعقاد مجلس المبعوثين فإن الحكم أصبح عملياً في يد العسكريين من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي، والذين لم يعودوا إلى معسكراتهم، وسرعان ما اتضحت معالم سياستهم الاستبدادية وبان سوء نياتهم تجاه وجود حكومة قوية مستقلة، فقد انطلقوا يتحكمون في إدارة البلاد ويتسلطون على الوزراء والقضاة، ويزيحون كل من ناوءهم أو اعترض عليهم ولو بالقتل، وعن ذلك كتب السيد محمد رشيد رضا في مجلته المنار، وهو ممن ليسوا على وفاق مع السلطان عبد الحميد، فعدد المآخذ عليها، ونورد بعض ما قال:

1.    إن سلوك الجمعية مع أعوان الاستبداد، لم يكن سلوك من يريد القضاء على الاستبداد بإزالة نفوذ أهله وإخضاعهم للدستور، بل سلوك من اغتنم الفرصة للاستفادة منهم، فقد كانت تأخذ المبالغ الكبيرة منهم، وتدعهم وشأنهم أو تضمهم إليها

2.    إنها لم تحسن في انتقاء العمال والحكام، فقد ساعدت كثيرين من أعوان الاستبداد حتى على الترقي في الوظائف، وأهملت شأن كثير من الأحرار والمجربين

3.    إنها لم تحسن الانتقاء والاختيار في تأليف شعبها ولجانها، فأدخلت فيها كثيرا من المتقهقرين أو الرجعيين، وعادت آخرين، وظهر في بعض لجانها التعصب للجنس التركي، حتى كأن يكون الأعضاء من الترك هم أصحاب الشأن، ومن معهم من غيرهم كالآلات

4.    حملت الضباط في جميع البلاد على الاشتغال بالسياسة، وجعلن نفوذهم هو الأعلى في لجان الجمعية، وهذا خطر على الدولة... يجب انصراف الضباط إلى العمل العسكري المحض الذي لا شائبة فيه للسياسة... لا يختلف عاقلان من علماء الاجتماع في وجوب منع الضباط من الاشتغال بالسياسة والإدارة، حتى إذا أبوا أخرجوا من الجيش.

5.    سيرتها في حمل الناس على انتخاب مبعوثين بأعيانهم

6.    طريقة تأييد نفوذ الجمعية في مجلس المبعوثين بما كاد يكون مهددًا لسائر الأعضاء، سالبا لاستقلالهم

7.    والعبث باستقلال الوزارة، بحيث منعت من وجود وزارة مستقلة مسئولة أمام مجلس الأمة وحده عن عملها

8.    الجهل بمداراة الشعور الديني في الأمة، قد أظهر بعض أعضائها المشهورين أمورا منكرة في نظر الدين

9.    ظهورها بمظهر السلطة المستبدة غير المسئولة، حتى صرت تسمع من العثماني الحر والمتقهقر، ومن الأجنبي المتطرف والمعتدل: إن جمعية الاتحاد والترقي قد أزالت استبداد البلاط، وأدالت منه استبدادها هي، وتفرع عن هذه الكلمة كلام كثير منه قول الكثيرين: إن استبداد السلطان ابن السلطان ابن السلطان أهون علينا من استبداد أوشاب من الناس، لا يُعرفون، فإن السلطان أشرف منهم، والذل له أقل عارًا من الذل لهم، وإرضاءه أسهل من إرضائهم؛ لأنه شخص واحد يمكن أن يُعرف ما يرضيه، ولا يُعرف ما يرضي هؤلاء الكثيرين.
وتابع السيد محمد رشيد رضا يقول: ولم تلبث الجمعية أن أسقطت كامل باشا من كرسي الصدارة وغيرت وزارته؛ لأنه كان معارضاً لنفوذها الفعلي في الحكومة، فانتقد ساسة أوربا هذا العمل، وعدوه استبداداً من الجمعية في الحكومة، وقال بمثل قولهم كثير في الدولة؛ لأنهم لم يصدقوا أنه كان معادياً للدستور كما ادعت. ثم قُتل غيلة حسن بك فهمي رئيس تحرير جريدة الحرية، ففهم السواد الأعظم في الآستانة وغيرها أن الجمعية هي التي قتلته؛ لأنه كان ينتقد أعمالها، فامتد السخط عليها وانفجر بركانه...
لا بد من بقاء الجمعية، ولا بد من بقاء صلتها بالجيش. ولكن لا يجوز بحال أن تتداخل في أعمال الحكومة، ولا أن تعبث بحرية المجلس، ولا أن تدع ضباط الجيش يشتغلون بالسياسة، ولا أن تقاوم من يخالفها في الرأي بالقوة، ولا حاجة بها إلى ذلك في حماية الدستور. ولكن قد يشتهيه رجال من الجمعية؛ لأنه من تمتع القادر المنصور.
ثم تألف حزب في الآستانة سمي بحزب الأحرار على رأي صباح الدين أفندي سبط آل عثمان الشهير فيما يعبر عنه باللامركزية ... ولكن جمعية الاتحاد والترقي تشتد في مقاومة هذا الحزب، حتى إنها اتهمته بقتل محرر جريدة الحرية كما علمت، وذلك كله  كان من أسباب الفتنة الحاضرة.
وإزاء هذه التصرفات التي صورها السيد محمد رشيد رضا تصويراً دقيقاً، زادت النقمة على الاتحاديين وبدأ الرأي العام يحن إلى الأيام الخوالي على ما فيها من استبداد ومحسوبية، وشكل بعض رجال السلطان جمعية دعوها الجمعية المحمدية غرضها خلع ربقة جمعية الاتحاد والترقي والمطالبة بالحكم بالشريعة وتطبيق القوانين عليها، ولقيت هذه المطالبة صدى لدى كثير من الناس، وانضم إليها زعيم سابق من الاتحاديين هو مراد بك الداغستاني، وانضمت إليها حامية استانبول العسكرية وضباط الأسطول، بل استمالت القوات التي أرسلها الاتحاديون من سالونيك، وهاجموا مقر مجلس المبعوثين وقتلوا على بابه نائب اللاذقية محمد أرسلان، وبات مصير الاتحاديين في مهب الرياح، وفرَّ زعماؤهم والموت يطاردهم من استانبول إلى سالونيك مركز قوتهم.
ومن سالونيك انطلق إلى العاصمة الفيلق الثالث يقوده الفريق محمود شوكت العمري، المولود في بغداد سنة 1275=1858، فدخلها عنوة بعد يومين، وخلع السلطان عبد الحميد، وولى محمد رشاد، وفي هذا قال شوقي:


عبد الحميد حساب مثلك ... في يد الله القدير
سدت الثلاثين الطوال ... ولسن بالحكم القصير
تنهى وتأمر ما بدا ... لك في الصغير وفي الكبير
لا تستشير وفي الحمى ... عدد الكواكب من مشير
كم سبحوا لك في الرواح وألهوك لدى البكور
ماذا دهاك من الأمور وأنت داهبة الأمور
أين الروية والأناة وحكمة الشيخ الخبير
دخلوا السرير عليك ... يحتكمون في رب السرير
أسد هصور أنشب ... الأظفار في أسد هصور
قالوا اعتزل قلتَ اعتزلتُ. الحكمُ لله القدير
وتألفت وزارة كان محمود شوكت وزير الحربية فيها، ولم يكن من الاتحاديين، ورغم انسحاب عدد من مناوئيها من الساحة السياسية وتخلصها من عدد آخر، إلا أن وضع الاتحاديين أصبح ضعيفاً بسبب سلسلة من الأخطاء التي ارتكبوها على صعيد السياسة الخارجية أدت إلى كوارث كادت أن تطيح بالدولة من أساسها، وألبت عليهم الرأي العام.
فقد كانت النمسا قد أعلنت في أكتوبر 1908 ضم البوسنة والهرسك إليها نهائيا، وتبعتها بلغاريا فأعلنت استقلالها، وجرى ذلك قبل الانقلاب العثماني، وبينما كان الرأي العام يتوقع من الثوار استعادة شيء من هذه الخسائر إذ بإيطاليا تغزو ليبية في أيلول/سبتمبر 1911، ثم أنشأت دول البلقان، بلغارية وصربية واليونان والجبل الأسود، العصبة البلقانية وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية في تشرين الأول/أكتوبر 1912، واستطاعت جيوشها أن تنزل  الهزيمة بجيش الاتحاديين، لولا أن انقسمت على نفسها وقامت الحرب بينها، فأنتهز الأتراك الفرصة واسترجعوا بعض أراضيهم في شرق ووسط تراقيا فخلص هذا النصر شرف العثمانيين.
وإزاء هذه التطورات قام جماعة من المخلصين من عرب وأتراك بتشكيل حزب مناوئ للاتحاد والترقي، أسموه حزب الحرية والائتلاف، وأسقطوا وزارة الاتحاديين في تموز/يوليو 1912، وشكلوا وزارة من أهل التجارب والثقة برئاسة أحمد مختار باشا الغازي، ولكن الاتحاديين لم يمهلوها طويلاً فقاموا بانقلاب عسكري دموي عليها في كانون الثاني/يناير 1913، قاده أنور باشا وقتل فيه عدداً من المسؤولين والضباط وأجبروا تحت تهديد السلاح كامل باشا رئيس الوزراء على التنحي، واستصدروا من السلطان مرسوماً بتعيين محمود شوكت رئيساً للوزراء.
وفي أوقات الأزمات رفع الاتحاديون شعارات الوحدة الإسلامية التي كانت ركناً ركيناً في سياسات السلطان عبد الحميد، ولكنهم ما أن تجاوزا الأزمات حتى كشروا عن أنيابهم، وجاهروا بسياسة تتريك العناصر، ولم يكن محمود شوكت، وهو جركسي الأصل، عربي المنبت، من أنصارهم في تلك السياسة، فلقي مصرعه غيلة أمام نظارة الحربية في منتصف سنة 1331=1913، وانتهز الإتحاديون مصرعه للتنكيل بكل خصومهم السياسيين، فأحالهم محافظ العاصمة جمال باشا، الذي سيعرف بالسفاح فيما بعد، إلى مجلس عرفي أصدر أحكامه بالإعدام والسجن والنفي على مئات من المعارضين، وجرى إعدام عدد منهم وهرب من لم يدركوه إلى خارج البلاد، وخلا لهم بذلك وجه البلاد والعباد، فتابعوا سياساتهم في التغريب والتتريك، حتى انتهت بإلغاء الخلافة على يد أتاتورك في 11 من ربيع الأول من عام 1341 الموافق 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1922.
هذا جانب من تاريخ الإسلام في عهد السلطان عبد الحميد رحمه الله، لا يعرفه كثيرون، تكررت مشاهده في حقب سابقة ولاحقة في أغلب بلاد الإسلام، من خُلف وخلاف، وأثرة وتنافس، دون مراعاة لمصالح البلاد والعباد، مما لا نزال نرى بعضها اليوم في هذا البلد أو ذاك، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer