الجمعة، 13 ديسمبر 2013

حدث في العاشر من صفر

 
في العاشر من صفر من عام 648 تمت سلطنة شجرة الدر على مملكة الأيوبيين في مصر، لتكون أول ملكة في التاريخ الإسلامي، في وقت كان الخطر الصليبي يتهدد مصر من خارجها، وخلافات المماليك تعصف بها من داخلها، وهي سلطنة لم تمتد أكثر من 3 أشهر.
ولا تعطينا المصادر أية معلومات عن مكان ولادة أو نشأة شجرة الدر، بل ما نعرفه أنها جارية تركية الأصل، بديعة الجمال، كاتبة قارئة، تزوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن محمد الملك الكامل بن أخي صلاح الدين محمد الملك العادل بن أيوب، والمولود بالقاهرة سنة 603 والمتوفى سنة 647، وقد يساعدنا في تحديد سنها التقريبي ما يذكره المؤرخون من أنه تزوجها في أيام والده أي قبل سنة 635، وإذا اعتبرنا السن التي كان الأمراء يتزوجون عندها وفارق السن التقليدي آنذاك، فإني أرجح أن تكون من مواليد سنة 610 أو بعدها.
وتسلم الملك الصالح أيوب أول منصب رسمي له سنة 625 عندما أراد والده الخروج من القاهرة للشام فلقبه بالملك الصالح وخرج هو إلى الشام، ولكن الملك الشاب انصرف للهو ولم يحسن إدارة البلاد فعاد والده ونزع منه السلطنة في سنة 627 وأرسله للشرق دون أي منصب رسمي، وفي سنة 630 شارك الملك الصالح أيوب في حملة شنها والده على المناطق الواقعة اليوم في جنوبي تركية، وضمها إلى ممالكه الشامية والمصرية، وجعله والده أميراً على حصن كيفا، ثم ضم إليه في سنة 633 آمد وحران والرها، ونصيبين والخابور، ورأس عين والرقة، وأقام الصالح في سنجار.
وفي سنة 635 توفي والده وخلفه ابنه الملك العادل، ورفض ذلك الملك الصالح لكونه أكبر من أخيه، وجرت له بسبب ذلك مع أخيه أحداث كر وفر، أُخذ فيها إلى المنفى في الكرك، وهنا نجد أول ذكر لشجرة الدر التي كانت حاملاً فأسقطت أثناء الاعتقال، ومكث الملك الصالح في الاعتقال قرابة 7 أشهر قبل أن يفرج عنه، فعاد إلى نابلس، وما لبث الأمراء بعد شهرين أن خلعوا أخاه الملك العادل ونادوا به ملكاً على مصر، وفي أواخر سنة 637 ولدت له شجرة الدر ولداً سمي خليلاً ما لبث أن مات بعد مدة يسيرة. وقد مرَّ الملك الصالح بأهوال ومحن غير التي ذكرنا، وقفت شجرة الدر فيها إلى جانبه تشد من عضده، وتمده بالرأي والتدبير، فأحبها الملك الصالح حباً عظيماً، وزادت مكانتها في إمارته ثم دولته على الدور المألوف لزوجة الملك، حيث كان الملك الصالح يعتمد على رأيها السديد في كثير من الأمور، وصار إليها تدبير شؤون الدولة وتوجيه الأمراء والحشم، وأبدت في ذلك من العقل والدهاء مع دين وشهامة وسيرة حسنة، ما حاز إعجاب الأمراء ورجال القصر.
وفي أوائل سنة 647 انطلقت من عكا حملة فرنسية بحرية يقودها الملك لويس التاسع وهاجمت ثغر دمياط في مصر واحتلته، وكان الجيش الغازي يضم 9.500 فارس و130.000 راجل عدا الخدم والمرافقين، وكان الملك الصالح آنذاك يحاصر مدينة حمص لضمها إلى مملكته، فلما جاءه الخبر رحل عن حمص وسار مسرعاً إلى مصر، ودب المرض فيه وهو في الطريق من جراء التهاب جرح أصابه وتحول إلى غرغرينا انتشرت في أطرافه وأماتتها،  فعاد إلى القاهرة محمولاً في محفة، وخرج بعساكره إلى المنصورة، ونزل بها، وأرسل إلى دمياط جماعة من الأمراء قاتلوا الفرنسيين قتالاً شديداً، ولكن أمراء الكنانيين المكلفين بالدفاع عن دمياط أخلوها، فاستولى عليها الفرنسيون في 23 صفر، فاغتاظ السلطان لهذا التصرف الجبان، وكان قد جعل عندهم من الميرة ما يكفيهم زمناً طويلاً، فشنق نيفاً وخمسين أميراً لانسحابهم وتسليمهم الثغر.
وبقي الملك الصالح مرابطاً أمام الفرنسيين في المنصورة حتى توفي في 15 شعبان، وهنا تبرز كفاءة شجرة الدر، فقد تفاهمت مع المقربين من رجال الحاشية أن يخفوا وفاة السلطان حتى لا يزعزع ذلك معنويات الجيش المسلم، وأرسلوا وراء ابنه الملك المعظم توران شاه، وكان في حصن كيفا في جنوبي تركية اليوم، وأظهروا أن السلطان أمر بأخذ البيعة له، وحلّفوا الأمراء على ذلك، وصارت شجرة الدر توقع بخطها مثل توقيع الملك الصالح، وتقول: السلطان ما هو طيب. وتمنع الناس من الدخول إليه.
واختاروا الفارس أقطاي رسولاً إلى الملك المعظم، وبسبب الخلافات بين ملوك الأيوبيين في المدن الشامية، سلك أقطاي طريق البادية بما يحفه من مخاطر، حتى وصل إليه، وعاد به إلى مصر عن طريق دمشق.
ونقف هنا لنتحدث عن زوج شجرة الدر الملك الصالح نجم الدين أيوب، والذي يذكر المؤرخون المعاصرون أنه كان مهيباً عزيز النفس، لا يرى الهزل ولا العبث، شديد الوقار كثير الصمت، يحب العزلة والانفراد، وكان لا يستقبل أحداً من أرباب دولته بأمر بل يراجعون القصص مع الخدام، فيوقع عليها بما يعتمده كتاب الإنشاء.
اشترى الملك الصالح من المماليك الأتراك ما لم يشتره أحد من أهل بيته حتى صاروا معظم عسكره، ورجحهم على عصبته من الأكراد وأمّرهم، وجعلهم بطانته والمحيطين به، وأطلق عليهم اسم المماليك البحرية، لأنه أسكنهم بقلعة البحر بجزيرة الروضة في القاهرة، وكانوا مع فرط جبروتهم وسطوتهم أبلغ من يعظم هيبته؛ كان إذا خرج وشاهدوه يرعدون خوفاً منه، وقال جماعة من أمرائه: والله ما نقعد على بابه إلا ونقول من هاهنا نحمل إلى الحبوس! وكان إذا حبس إنساناً نسيه، ولا يتجاسر أحد أن يخاطبه فيه، وكان لا يمكِّن القويَّ من الضعيف، وينصف المشروف من الشريف.
وكان الملك الصالح صاحب سياسة حسنة وسعة صدر في إعطاء العساكر والإنفاق في مهمات الدولة، لا يتردد فيما ينفقه في هذا السبيل، وكانت همته عالية جداً، وآماله بعيدة، ونفسه تحدثه بالاستيلاء على الدنيا بأسرها والتغلب عليها، وانتزاعها من يد ملوكها، حتى لقد حدثته نفسه بالاستيلاء على بغداد والعراق.
وكان عفيفاً طاهر اللسان والذيل، ولم تقع منه في حال غضبه كلمة قبيحة قط، أكثر ما يقول إذا شتم: يا متخلف!  ولم يكن عنده في آخر وقت غير زوجتين: إحداهما شجرة الدر، والأخرى بنت العالمة، تزوجها بعد مملوكه الجوكندار.
وأرسلت شجرة الدر جثمان الملك الصالح في زورق إلى القاهرة فجعل بقلعة الروضة حتى سنة 649 حين نقلوه في مراسم رسمية إلى تربة بنتها له شجرة الدر في حي بين القصرين بالقاهرة، وأوقفت عليه الأوقاف، ووضعت عند القبر سناجق السلطان وبقجته وتركاشه وقوسه، ورُتِّب عنده القرّاء على ما شرطت شجرة الدرّ في كتاب وقفها.
نعود إلى توران شاه الذي وصل أواخر ذي القعدة من عام 647، وحارب المسلمون بقيادته الفرنسيين حرباً شعواء في البحر والبر، واستولوا على مراكب كثيرة لهم وأضعفوا شوكتهم وقطعوا ما كان يأتيهم من طعام في البحر، حتى يأس الفرنسيون من تحقيق أي تقدم، وكان في عسكر المسلمين الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان دعاؤه المستجاب أحد أسباب النصر، ولما قام الجيش الفرنسي في 3 المحرم من سنة 648 بالانسحاب من مواقعه إلى مدينة دمياط، شن المسلمون وكمائنهم عليه هجمة قوية فتكت بأغلب جنوده، واستسلم لويس التاسع وأخوه وأحضروا إلى المنصورة، وجعل في الدار التي كان ينزلها كاتب الإنشاء، فخر الدين بن لقمان، ووكل به الطواشي صبيح المعظمي، وأرسلوا خوذة لويس التاسع بالبشائر إلى دمشق، ورحل الملك المعظم بالعساكر من المنصورة ونزل بفارسكور، ونُصِبَ له بها برج خشب، قبل أن يلاقي منيته ويفتك به الأمراء.
وكان سبب ذلك أن توران شاه، وإن كان شجاعاً مقداماً، كان خفيف الرأي أهوج التصرف، لا يصلح للملك، وكان بعض الأمراء يقول لأبيه الملك الصالح نجم الدين أيوب: ما تنفذ تحضره إلى هاهنا! فيقول: دعوني من هذا. فألحوا عليه يوماً، فقال: أجيبه إلى هاهنا أقتله؟! وكان كذلك يفتقر للمعارف والأنصار من المماليك والمصريين على السواء، لأنه قضى معظم حياته في حصن كيفا، فكانت سلطنته سطحية عابرة.
وأساء توران شاه إلى زوجة أبيه شجرة الدر ولم يشكر لها ما فعلته من إخفاء موت والده وقيامها بتدبير المملكة أتم قيام حتى حضر إلى المنصورة وجلس في دست السلطنة، ولم تدع أحداً يطمع في الملك لعظمتها في النفوس، فترك توران شاه ذلك كله، وطالبها بالأموال وهددها بالمصادرة والتعذيب لاستخراج ما لديها.
وأساء توران شاه التصرف مع أمراء أبيه ومماليكه، وبلغهم عنه من التهديد والوعيد ما نفر قلوبهم منه، واحتجب عن الناس أكثرَ من أبيه، وأنفق الأموال على بطانته التي جاءت معه من حصن كيفا، وكانوا أطرافاً أراذل، وأخلف وعوده لأمراء أبيه بالتقريب والترقيات، ووعد الفارس أقطاي أن يؤمره ولم يف له، فاستوحش منه، وكان يشرب الخمر فإذا سكر يجمع الشموع ويضرب رؤوسها بالسيف فيقطعها ويقول: كذا أفعل بالبحرية! ثم يسمي مماليك أبيه بأسمائهم.
واستاء الأمراء من هذه التصرفات فوثبوا عليه وجرحوه فهرب منهم إلى البرج فأطلقوا فيه النار والنفط فنزل إلى ظهر خيمة فرموه بالنشاب، فصار يصيح: ما لي حاجة بالملك! دعوني أتوجه إلى الحصن! فلم يتركوه وضربه الأمير عز الدين أيبك بالسيف ثم تلاه باقي الأمراء إلى أن مات، وكانت مدة سلطنته نحو 40 يوما لم يدخل فيها القاهرة ولم يجلس على سرير الملك بقلعة الجبل، وبمقتله بدأت دولة المماليك وانقرضت دولة بني أيوب بمصر، ومدتها نحو 86 سنة، وقال الصاحب جمال الدين ابن مطروح يرثيه:
يا بعيد الليل من سحره ... دائماً يبكي على قمره
خلّ ذا واندب معي ملكاً ... ولت الدنيا على أثره
كانت الدنيا تطيب لنا ... بين باديه ومحتضره
سلبته الملك أسرته ... واستووا غدراً على سُرره
حسدوه حين فاتهم ... في الشباب الغضّ من عمره
واتفق الأمراء فيما بينهم على إقامة شجر الدر ملكة، وذلك لحسن سيرتها وغزير عقلها وجودة تدبيرها، ولم يكن ذلك بسعي منها تذكره كتب التاريخ، بل اتفقوا ثم أخبروها فقبلت ذلك، ولم تتم لها بيعة كالمعتاد، بل حُلِف لها، ثم استحلفوا جميع العساكر الشامية والمصرية، وكانت المراسيم والتعليمات السلطانية تخرج باسمها، وكان توقيعها: والدة خليل. ويكتب الموقِّع: خرج الأمر العالي المولوي السلطاني الخاتوني الصالحي، الجلالي العصمي الرحيمي زاده الله شرفاً ونفاذا. وخُطِبَ باسمها على المنابر، وكان الخطباء يقولون على المنبر بعد الدعاء للخليفة العباسي في بغداد: واحفظ اللهم الجهة الصالحية ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح. وعين الأمراء الأمير عز الدين أيبك التركماني الصالحي أتابكاً لها، ثم اتفق المسلمون مع الفرنسيين على إطلاق سراح الملك لويس التاسع مقابل فدية مالية، وأن تعود الحملة من حيث أتت، فتسلم المسلمون دمياط بعد أن بقيت في يد الفرنسيين قرابة 11 شهراً.
وكان وجود امرأة في سدة الحكم أمراً غريباً لا سابقة له في تاريخ الإسلام، ولئن كان مقبولاً عند أمراء المماليك القريبين منها، فما كان مقبولاً عند غيرهم من أمراء الشام، فضلاً عن علماء الشرع، وأرسل الخليفة من بغداد يعيب على الأمراء توليتها، ويقول: إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسير لكم رجلا! ولم يوافق أهل الشام على سلطنتها، وطلبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب فسار إلى في دمشق وملكها، وحدثته نفسه بأخذ مصر، وبدأ يعد العدة لذلك، وكان نتيجة ذلك أن اتفق الأمراء على تولية رجل مكان شجرة الدر.
وطمع في السلطنة مجموعة من كبار الأمراء المتنافسين، والمعروفين بالشدة والطموح، فمالت نفوس عامة الأمراء إلى تولية الأمير عز الدين أيبك، ولم يكن من أعيانهم، غير أنه كان معروفا بالسداد وملازمة الصلاة، ولا يشرب الخمر، وعنده كرم وسعة صدر ولين جانب، وقالوا أيضا: هذا متى أردنا صرفه أمكننا ذلك لعدم شوكته، وكونه من أوسط الأمراء. فخلعت شجرة الدر نفسها من الملك، وسلمت السلطنة إليه، وتلقب بالملك المعز، وتزوجته شجرة الدر، وكان ذلك في آخر ربيع الثاني من عام 648.
وتلافياً لأن يستقل ملوك الأيوبيين في الشام كلٌ بمدينته، قرر الأمراء بعد 5 أيام أن يقيموا ملكاً من الأيوبيين، واختاروا صبياً في الثامنة من عمره هو الملك الأشرف الأيوبي مظفر الدين موسى بن الملك الناصر يوسف، ويكون الملك المعز أيبك أتابكه، وكانت حجتهم أن قالوا: لا بد لنا من سلطان يكون من بني أيوب يجتمع الكل على طاعته. وفي الحقيقة اختاروا صبياً يدبرونه كيف شاؤوا ويأكلون الدنيا به.
وفي ذي القعدة من عام 648 جاء الملك الناصر بجيشه من الشام إلى مصر، وهزموا جيش المعز في البداية، واندفع جنود الشام ينهبون معسكر المصريين وأحمالهم، وبقي الملك الناصر في شرذمة قليلة من عسكره، فلما رآه كذلك المعز وأمراؤه المنسحبون كروا عليه وهزموه شر هزيمة، وأسروا عدداً من أقاربه وأمرائه، ثم عادوا إلى القاهرة فصبوا غضبهم وانتقامهم على أهاليها قتلاً ونهباً، ذلك أنهم أبدوا فرحهم وابتهاجهم لما سمعوا بانتصار الجيش الشامي الأيوبي في البداية، وفي سنة 651 اتفق المعز مع الملك الناصر أن تكون للمعز الديار المصرية والقدس وغزة، وتكون باقي بلاد الشام للملك الناصر.
وفي سنة 649 قام المعز بخلع الصبي الملك الأشرف، واستقل بالسلطنة، وبخلعه انتهت الدولة الأيوبية من مصر، بعد أن دامت فيها 82 سنة، واتسمت سلطنة المعز بفرض كثير من الضرائب الجائرة الباهظة، حتى أخذوا مال الأوقاف ومال الأيتام على نية القرض، ومن أرباب الصنائع كالأطباء والشهود، وسماها وزيره هبة الله الفائزي الحقوق السلطانية.
وفي سنة 652 دبرت شجرة الدر مع زوجها قتل الفارس أقطاي، الذي كان قد ذهب رسولاً لإحضار توران شاه، والذي جعله المعز نائب المملكة، فقد كان أقطاي بطلا شجاعا جوادا، ولكنه كان طياشا ظلوما، يطمح للسلطنة، ولا يأبه للملك المعز، ويأخذ ما شاء من الخزائن، حتى إنه لما خطب ابنة صاحب حماة قال: أخلوا لي القلعة حتى أعمل العرس بها! فهيأ له المعز قتلة على يد مملوكه الأمير سيف الدين قُطُز، الذي سيصبح ملك مصر فيما بعد، فهاج مماليك أقطاي وكانوا نحو 700 مملوك، وساروا إلى القلعة، فألقي إليهم رأسه فانخذلوا وانفضوا.
وفي سنة 655 بلغ شجرة الدر أن زوجها الملك المعز يريد أن يتزوج بنت الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وأنه أرسل يخطبها، فاعتقدت أنه قد عزم على إبعادها أو قتلها، لأنه سئم من حَجرها عليه، وقررت أن تسبقه بالتدبير وعزمت على الفتك به وإقامة غيره في الملك، وبعثت أحد مماليكها بهدية إلى الملك الناصر يوسف في سورية، وأعلمته أنها قد عزمت على قتل المعز، والتزوج به وتمليكه مصر. فخشي الملك الناصر يوسف أن يكون هذا خديعة، فلم يجبها بشيء.
وبعث بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يحذر الملك المعز من شجر الدر وأنها تتآمر مع الملك الناصر يوسف، فزاد هذا من وحشة ما بينهما، وعزم الملك المعز على إنزالها من القلعة إلى دار الوزارة، وكانت شجر الدر قد استبدت بأمور المملكة ولا تطلعه عليها، وليس له كلام في أمور الدولة، ومنعته من الاجتماع بأم ابنه منصور وألزمته بطلاقها، ولم تطلعه على ذخائر الملك الصالح.
وطلبت شجرة الدر صفي الدين إبراهيم بن مرزوق، وكان من كبار التجار والوجهاء، فاستشارته في قتل الملك المعز ووعدته بالوزارة، فأنكر عليها ونهاها عن ذلك فلم تصغ إلى قوله، واتفقت مع عدد من المماليك وخدم القصر على أن يقتلوه، ومنَّتهم الأماني، وكان المعز قد ترك البيات في القلعة خوفاً منها، فدعته إلى القصر وحلفت عليه، فجاءها بعد لعب الكرة، ودخل الحمام ليزيل غبار اللعب، وكانت قد أرصدت لها خمسة من خدامها الأقوياء، فهاجموه وفقتله سنجر الجوجري في 23 ربيع الأول من سنة 655.
وأرسلت شجرة الدر في تلك الليلة إصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير، وطلبت منه أن يقوم بالأمر، فلم يجسر على ذلك، ولما ظهر الخبر، أراد مماليك المعز أيبك قتل شجرة الدر، فحماها مماليك زوجها السابق الملك الصالح، ونقلت شجرة الدر من دار السلطنة إلى حبس في البرج الأحمر مع بعض جواريها، وصلبوا الخدم الذين اتفقوا معها على قتل المعز أيبك، وهرب سنجر الجوجري، ثم ظفروا به وصلبوه، واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن محمد المعروف بابن حنَّا، لكونه وزير شجرة الدر، وافتك نفسه بتعهده دفع 60.000 دينار، مع أنه لم يكن له يدٌ أو علم بالأمر.
واتفق المماليك على تنصيب نور الدين عليّ ابن الملك المقتول، وعمره يومئذ 15 سنة، ولقبوه الملك المنصور، وجعلوا أتابكه الأمير علم الدين سنجر الحلبي، فحدثته نفسه بالوثوب على الأمر، فقام الأمراء بقيادة سيف الدين قطز بالقبض عليه وجعلوا محله الأمير أقطاي المستعرب الصالحي.
واستمرت شجرة الدر بالبرج الأحمر بقلعة الجبل، والملك المنصور علي ووالدته يحرضان مماليك المعز على قتلها، ومماليك الملك الصالح تمنعهم عنها، لكونها جارية أستاذهم، فلما صار المنصور في دَست الملك أمر بها فحملت إلى والدته فأمرت جواريها فضربنها بالقباقيب إلى أن ماتت، وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سراويل وقميص، فبقيت في الخندق أياماً، ثم دفنت بعد أيام  بتربتها قريب المشهد النفيسي، وكانت شجرة الدر لما تيقنت أنها مقتولة أودعت جملة من المال والجواهر عند بعض الناس فضاعت، وجاءت بجواهرها النفيسة فسحقتها في الهاون لئلا يأخذها الملك المنصور وأمه.
وتتابعت هذه الأحداث في مصر، والمغول على أبواب المشرق العربي يهددون العراق، وكان الخليفة المستنصر، المولود سنة 588 والمتوفى سنة 640، عاقلاً مدبراً تحسب لهجومهم فاستكثر من الجند جداً، فمال المغول إلى مهادنته فهادنهم وراضاهم، فلما خلفه ابنه المستعصم، المولود سنة 609، كان خلياً من الرأي والتدبير، غافلاً عن تآمر الوزير العلقمي مع المغول، فأخذ برأيه في تسريح أغلب الجند، فأصبحت تكلفة احتلال العراق رخيصة على المغول الذين وعدوا الوزير الخائن أن يكون نائبهم على العراق.
واستولى المغول بقيادة هولاكو على بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم سنة 656، ثم ملكوا حلب والشام واتجهوا إلى مصر، فجمع الأمير قطز  القضاة وأعيان الدولة في أواخر سنة 657، واتفقوا على أن الملك المنصور صبي لا يصلح للملك إزاء الخطر المغولي الداهم الذي يتهدد مصر، والذي يقتضي وجود ملك يقود الجهاد ويصد العدوان، فأجمعوا على خلعوه ونادوا بقطز ملكاً على الديار المصرية وتسمى بالملك المظفر، وسيكتب له في رمضان من عام 658 النصر على المغول في عين جالوت.
كانت شجرة الدر سيدة مسلمة صالحة أوقفت عديداً من المدارس والأوقاف، وتناول حياةَ وشخصيةَ شجرة الدر عدد من مؤلفي القصة والمسرحية النثرية والشعرية، ولا عجب في ذلك فحياتها كما رأينا ملأى بالأحداث الجسام والتحولات العظام، وشخصيتها تجمع المتناقضات من الحكمة والأناة وحسن التدبير إلى الغيرة الشديدة والقتل، ولله في خلقه شؤون.
رحمها الله وغفر لها.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer