الجمعة، 27 سبتمبر 2013

حدث في العشرين من ذي القعدة

 
في العشرين من ذي القعدة من عام 728 توفي في دمشق، عن 67 عاماً، شيخ الإسلام ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني الدمشقي، وجاء لقب ابن تيمية نسبة إلى جده الأكبر، قيل إنه حج على درب تيماء، فرأى هناك طفلة فلما رجع، وجد امرأته قد ولدت له بنتا، فقال: يا تيمية! يا تيمية! فلقب بذلك.
ولد ابن تيمية سنة 661 في حَرَّان، وهي اليوم جنوب أورفة في تركية، لأسرة عرفت بالعلم والدين كابراً عن كابر، وكان منها وجوه البلد، وكان جده مجد السلام عبد السلام المولود في حدود 590 والمتوفى سنة 651، إماماً حجَّة بارعاً في الفقه والحديث والتفسير والأصول والمذاهب، ذا ذكاء مفرط،  وله مصنَّفات فقهية نافعة انتشرت. وقال  ابن تيمية: وكانت في جدّنا حِدّة.
وكان والده عبد الحليم، المولود سنة 627 والمتوفى بدمشق سنة 682، فقيهاً عالماً ديناً خيراً، تفقه عليه ولداه الشيخ تقي الدين وأخوه، وباشر بدمشق مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين، وبها كان يسكن، وهي مدرسة وفقها  الرئيس شرف الدين ابن السكري لأهل العلم والحديث، وقد دَرَست كما قال الأستاذ محمد كرد علي، وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه يوم الجمعة، ولما توفي خلفه فيها ابن تيمية. وما أجمل ما قال الذهبي رحمه الله عنه: وكان الشيخ شهاب الدين من أنجم الهدى، وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس! يشير إلى أبيه وابنه.
وكان خال ابن تيمية، علي بن عبد الرحمن ابن الحلاوي، المتوفى سنة 697، صوفياً سائحاً زاهداً، صحب المشايخ وسافر، ولقي الكبار، وحفظ عنهم كثيرا من أخبار الصوفية وآدابهم، و وتجرد وأنفق ماله في وجوه الخير.
وفي سنة 667 ارتحل آل ابن تيمية بأكملهم إلى الشام هرباً من الخطر المغولى الذي كان يتهدد حران، وتذكر بعض المصادر القديمة ومتابعتها من المعاصرة أن ذلك جاء بعد احتلال المغول لها، ولكن الواقع أن حران كانت تحت سيطرة الدولة المملوكية، وإن شعّث المغول سورها قبل سنوات.
أخذ ابن تيمية الحديث عن فخر الدين البخاري، علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي، المولود سنة 575 والمتوفى سنة ، وكان ابن تيمية يقول: ينشرح صدري إذا أدخلت ابن البخاري بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث.
ودرس ابن تيمية على الفقيه الأصولي، المفسر النحوي زين الدين ابن المنَّجى، المنجى بن عثمان، المولود سنة 631 والمتوفى سنة 695، وعالم دمشق في زمانه، متسماً بالزهد والصلاح، حسن الأخلاق، معروفاً بالذكاء، وصحة الذهن، وجودة المناظرة، وطول النفس في البحث، وله شرح لكتاب المقنع في الفقه الحنبلي. وصار ابنه محمد المولود سنة 575 والمتوفى سنة 724، من خواص أصحاب الشيخ ابن تيمية، وملازميه حضراً وسفراً.
وإلى جانب ذلك درس ابن تيمية اللغة العربية والنحو والفرائض والحساب والكلام والفلسفة.
وبعد وفاة والده بشهور قام ابن تيمية بخلافته في درسه بالسكرية في أول سنة 683، وحضر درسه قاضي القضاة وكبار مشايخ دمشق، وكان موضوع الدرس: البسملة. فأعجب به المشايخ وأثنوا عليه ثناءً كثيراً، وبعدها بشهور قليلة جلس مكان والده بالجامع الأموي على منبر أيام الجمع، لتفسير القرآن العظيم، وشرع من أول القرآن. فكان يورد من حفظه في المجلس نحو كراسين أو أكثر، وبقي يفسر في سورة نوح، عدة سنين، وكان رحمه متميزاً في درس التفسير، يحضره تحضيراً جيداً، قال لتلميذه ابن كثير: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم فهمني.
وفي سنة 693 تعرض نصراني بالسويداء في حوران للنبي صلى الله عليه وسلم، فأجاره الأمير عساف بن الأمير أحمد بن حجي، فطلع الشيخان زين الدين الفارقي، وتقي الدين ابن تيمية في جمع كبير من الصلحاء والعامة إلى نائب السلطنة بدمشق عز الدين أيبك الحموي، وكلماه في القضية فأمر بإحضاره، فرأى الناس عساف، فكلموه في أمره، وكان معه بدوي، فقال: إنه خير منكم. فرجموه بالحجارة، وهرب عساف، فبلغ ذلك نائب السلطنة، فغضب خشية أن يكون ذلك بداية فتنة، فطلب الشيخين وأنبهما، وضربا بين يديه، وحبسا بالمدرسة العذراوية، وانتهى الأمر بأن أثبتوا عداوة بين النصراني وبين الذين شهدوا عليه من السويداء، وأسلم النصراني فأطلق سراحه، ثم أحضر النائبُ الشيخَ ابن تيمية فطيب خاطره، وأطلقه والجماعة بعد أن اعتقلوه عدة أيام، وعلى إثرها صنف ابن تيمية كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول.
وفي سنة 695 تولى ابن تيمية التدريس بالمدرسة الحنبلية محل شيخه ابن المنَّجى الذي توفي، وبقي محل إعجاب العلماء في دمشق، وفي سنة 698 واجه ابن تيمية أول ما سيكون سلسلة من النزاعات مع بعض علماء عصره، فقد أجاب على سؤال أتاه من حماة يتعلق بصفات الله عزوجل، ما يمكن تفسيره بإضفاء بعض صفات المخلوق على الخالق، فقد كان ابن تيمية يرى إثبات صفات الله الواردة في القرآن والحديث الصحيح، كاليد مثلاً، على حقيقتها، وكان غيره يرون أنها جاءت على سبيل المجاز لا الحقيقة، كما هو مألوف في الأساليب البلاغية، واتهموه بالتجسيم، وانتهت الجولة حين قبِلَ قاضي القضاة إمام الدين الحنفي تفسير ابن تيمية لما كتبه، وأخمد هجوم المعارضين. وابن تيمية وإن كان يرى أن هذه الصفات حقيقية إلا أنه يقول إن: صفات الله توجب مباينته لمخلوقاته، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، قال تعالى: ﴿قل هو الله أحد﴾، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعاً.
وقد عزا الإمام الذهبي ما جرى إلى أنه: كان قد لحقهم حسد للشيخ، وتألموا منه بسبب ما هو المعهود من تغليظه وفظاظته وفجاجة عبارته، وتوبيخه الأليم المبكي المنكي المثير النفوس، ولو سلم من ذلك لكان أنفع للمخالفين.
ومثال هذا الأسلوب الشديد الذي كان يبدر أحياناً من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ما جرى بينه وبين أبي حيان الجياني، محمد بن يوسف بن حيان الغرناطي الأندلسي، المولود بالأندلس سنة 654 والمتوفى بالقاهرة سنة 745،  وكان إمام زمانه في علم النحو، إماماً في اللغة عارفاً بالقراءات والحديث، شاعراً مُجيداً، شافعياً لكنه يميل إلى الظاهر، فقد التقى مع ابن تيمية في زيارته الأولى للقاهرة سنة 700، وأُعجب به وقال عنه: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل! ثم مدحه بأبيات نظمها على البديهة منها:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فرد ماله وَزر
كنا نحدث عن حبر يجيء بها ... أنت الإمام الذي قد كان ينتظر
ثم دارت بينهما مناظرة في شيء من العربية، فقال له أبو حيان: كذا قال سيبويه، فقال ابن تيمية: يفشر سيبويه! ما كان نبي النحو ولا كان معصوماً، بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعاً، ما تفهمها أنت! فنافره أبو حيان وقاطعه ثم ذمَّه وصير ذلك ذنباً لا يغفر.
ولعل تفسير هذا يكمن في أن ابن تيمية رحمه الله كان ذا دربة بالمناظرة ومحاججة الخصوم، فإذا انعقدت المناظرة واحتدم النزاع استخدم كلَّ ما في كنانته من سهام دون أن تأخذه رأفة فيمن أمامه، فيضيّق ما كان واسعاً، فإذا ابتعد عن أجواء المناظرة والتحدي كاد أن يكون شخصاً آخر في توسطه واعتداله ومراعاته للأحوال والظروف، وقد يفسر هذا ما ذكره بعض المؤرخين من تراجعه عن أفكاره أو فتاواه في بعض الأحيان، فهو لم يتخل عنها، ولكنه يستجيب لمناشدة العلماء والصلحاء ويأخذ برأيهم في المصلحة القائمة، وإن كان إلى حين، وقد قال الإمام الذهبي في هذا الصدد: فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية ... وله حدة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنه ليث حرب ... وفيه قلة مداراة، وعدم تؤدة غالباً - والله يغفر له - وله إقدام وشهامة، وقوة نفس توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه ... وقد يعظِّم جليسَه مرة، ويهينه في المحاورة مرات.
وفي أوائل سنة 699 عبر المغول نهر الفرات قاصدين الشام يقودهم ملكهم قازان الذين كان قد أسلم سنة 694 على يد الشيخ المحدث بدر الدّين ابن حمويه الجويني، فاضطربت بلاد الشام ودب الخوف بأهليها، وكان بعض كبار أمراء المماليك يرأسهم قبجق المنصوري قد انضموا لقازان قبل سنة بعد أن خافوا على أنفسهم من نائب السلطنة، فشجعوا قازان على الاستيلاء على الشام، وبخاصة أن الملك الناصر صغير لما يبلغ 15 عاماً.
وجاء الملك الناصر على رأس جيشه من مصر للدفاع عن الشام، والتقى الجيشان عند وادي الخزندار قرب حمص، وانجلت المعركة عن انكسار الجيش المملوكي إزاء جيش المغول الذي فاقه ثلاثة أمثال، وانسحب الجيش المملوكي إلى مصر تاركاً دمشق مكشوفة أمام العسكر المغولي.
وبدأ القادرون من أهل الشام في الرحيل عنها، واضطربت الأمور فيها، وجاء مع اليأس التفاؤل، فقد قال الناس: إن قازان ملك المغول مسلم، وقد اتبع الحكم الشرعي فلم يتبع جيشه المنهزمين، ولم يقتلوا أحداً بعد انقضاء المعركة، بل من وجدوه أخذوا فرسه وسلاحه وأطلقوه.
واتفق رأي وجهاء دمشق على إرسال وفد لقازان الذي عسكر في النبك شمالي دمشق، يطلب منه الأمان لأهل دمشق، فخرج منهم نحو 200 شخص فيهم القاضي وكبار العلماء وعلى رأسهم ابن تيمية، والتقى الوفد بقازان، وكلمه الشيخ كلاما قويا كانت فيه مصلحة للمسلمين، فقد قال لترجمانه قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم، ومعك مؤذنون وقاض وإمام وشيخ على ما بلغنا، فغزوتنا وبلغت بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين وما غزوا بلاد الإسلام، بل عاهدوا قومنا، وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت.
وطلب قازان من ابن تيمية الدعاء فقال في دعائه: اللهم إن كان هذا عبدك محمود إنما يقاتل لتكون كلمتك هي العليا وليكون الدين كله لك، فانصره وأيده وملِّكه البلاد والعباد، وإن كان إنما قام رياء وسمعة وطلبا للدنيا، ولتكون كلمته هي العليا وليذل الاسلام وأهله، فاخذله وزلزله ودمره وأقطع دابره. وقازان يؤمن على دعائه، ويرفع يديه.
وأخبر قازان الوفد أنه قد أمّن أهل دمشق وأرسل عليهم والياً من أقاربه اسمه إسماعيل، ويعاونه الأمير قبجق، فعادوا واطمأن الناس بعض الشيء،  بيد أن قلعة دمشق لم تستسلم للمغول، وكان قائدها الأمير علم الدين أرجواش المنصوري، صاحب عزيمة صلبة، فرفض تسليمها ودافع بجرأة وإقدام عنها طوال وجود المغول في دمشق، وكان ابن تيمية قد أرسل إليه يقول: لو لم يبق فيها إلا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك إن استطعت.
ولكن الجنود في جيوش ذلك الزمان وبخاصة جيوش المغول كانوا يتعيشون من السلب الذي يحصلون عليه عقب المعارك، وكانت العادة أن يباح لهم نهب البلد ثلاثة أيام، ولذلك لم يلتفتوا لفرمان قازان بالأمان، بل بدأوا في نهب المناطق التي خارج السور مثل الصالحية والمزة وداريا، وسبوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا، ونهبوا كتباً كثيرة من الأربطة والمساجد، وصار الخوف أن يمتد ذلك إلى دمشق البلد، وبخاصة أن الجيش ضم عدداً من الأرمن والكرج ذوي دوافع دينية للتنكيل بالمسلمين، وخرج الشيخ ابن تيمية مع جماعة إلى قازان ليشكوا له الأمر، ولكن الحاشية أدخلتهم عليه للدعاء له فقط، وأشارت ألا يشكوا إليه شيئاً خشية أن يقتل بعض أمراء المغول فيزداد حنقهم على أهل دمشق، ووعدوا بأن يقوموا هم بإصلاح الأمر، وأشاروا أنه لا بد من إرضاء الجيش المغولي، فإن منهم جماعة كبيرة لم يحصل لهم شيء إلى الآن.
وجرى تفادي استباحة دمشق مقابل ثمن باهظ، فقد فُرِض على أهل دمشق مبالغ يؤدونها للجيش المغولى، وبلغ ما حُمِل إلى خزانة قازان 3.600.000 درهم، سوى الرشاوى والمبالغ التي استخلصها لأنفسهم أمراء الجيش وأعوان قازان. قال الإمام الذهبي في تاريخه: واشتد البلاء وهلك ناس كثير في هذه المصادرة، وافتقروا، وإلى اليوم.
ثم قرر قازان العودة إلى العراق بعد قرابة 3 أشهر من استيلائه على دمشق، وترك قوة قرب دمشق بقيادة الأمير خطلوشاه، وكان الوقت شتاءً، فوعد أن يعود في الخريف للاستيلاء على مصر، ومضت أيام قلائل لم يعد للمغول بعدها أثر في دمشق، وعادت إلى السلطنة المملوكية، وقبل ذلك خرج ابن تيمية والتقى بخطلوشاه وحدثه في مصالح الناس فما وجد منه سوى الإعراض والتنمر.
وكان المغول في فترة استيلائهم على دمشق قد سمحوا بدور الخمر والفحشاء، فما أن خرجوا منها حتى دار ابن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهلها، ففرح الناس بذلك، وكان أهل جبال الجرد وكسروان قد خرجوا على عسكر المسلمين لما انهزم من أمام المغول في وادي الخزندار ووثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرا منهم، فخرج في آخر سنة 699 نائب السلطنة الأمير جمال الدين الأفرم ومعه الشيخ ابن تيمية وخلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتالهم، بسبب فساد نيتهم وضلالهم، فلما وصلوا إليهم جاء رؤساؤهم إليه فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين.
وبقي شبح المغول يتهدد الشام وفي أول سنة 700 وردت الأخبار بقصدهم بلاد الشام ومصر كما توعدوا من قبل، فانزعج الناس وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرعوا في الهرب من دمشق، ولكن ابن تيمية حضهم على البقاء والثبات في درسه في الجامع، ورغبهم في إنفاق الاموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وجاءت الأخبار بخروج السلطان من القاهرة إلى الشام فهدأت الناس، ثم جاءت الأخبار بأن السلطان رجع عائدا إلى مصر، ولما تأخر السلطان واقترب العدو، خرج ابن تيمية رحمه الله تعالى ليستحث السلطان على القدوم، وركب على خيل البريد إلى مصر، فلم يدرك السلطان إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال، واستحث ابن تيمية السلطان والأمراء على إنقاذ الشام إن كان لهم به حاجة، وقال لهم فيما قال: إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله، والذبِّ عنهم، فإن الله تعالى يقيم لهمِ من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم. وتلا قوله تعالى في سورة محمد: ﴿وَإنْ تتولوا يَسْتَبْدِل قوماً غيرَكْم ثُمَ لاَ يكُونُوا أمْثَالَكم﴾ وقوله تعالى في سورة التوبة: ﴿إلا تَنْفرُوا يُعَذِّبْكم عَذَاباً ألِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيرَكم وَلاَ تَضُروهُ شيئا﴾، وقال لهم: لو قُدِّر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم!
وأفلحت جهود ابن تيمية وبدأ السلطان والأمراء في تجهيز الجيش، وعاد هو إلى الشام بعد 8 أيام، ثم جاءت الأخبار بأن المغول قد عادوا إلى العراق بسبب الأمطار الشديدة والثلوج التي هطلت فجعلت القتال صعباً والعلف نادراً، فتراجعت أنفس الناس إليهم، وعادوا إلى أوطانهم، وبقي الخطر المغولي بعيداً في سنة 701 بسبب وقوع كارثة طبيعية هي الجراد الذي اجتاح البلاد وأكل الزرع والثمار وجرد الأشجار حتى صارت مثل العصي، فتعذر على الجيش الغازي توفر الأعلاف.
وفي سنة 702 واجه ابن تيمية محنة أخرى فقد وقع بيد نائب السلطنة كتاب يدعي أن الشيخ ابن تيمية والقاضي يناصحون المغول ويكاتبوهم، وأدرك نائب السلطنة أن الكتاب مزور، فبحث حتى توصل لكاتبه فإذا هو أحد مدعي التصوف، فأعدمه.
وفي منتصف سنة 702 تأكد عبور المغول فعاد الخوف والقلق إلى الناس، وبخاصة لما تأخر مجئ العسكر المصري، ثم كان أول انتصار للجيش المملوكي في وقعة عَرَض حين التقى 1500 فارس مع 7000 آلاف مغولى وانتصروا عليهم، فارتفعت الروح المعنوية في الشام، ثم وصلت طلائع الجيش المصري فازداد الناس استبشاراً، ولكن انسحاب جيشي حلب وحماة إلى حمص، جعلهم في شك عظيم من الانتصار، وكثرت الأراجيف والإشاعات.
واجتمع أمراء الشام وتحالفوا على لقاء العدو، وكان الشيخ ابن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرَّة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله! فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقا. ولما تساءل الناس كيف يقاتلون المغول وهم مسلمون، وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه. قال الشيخ ابن تيمية: هؤلاء مثل الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالامر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة. فتفطن العلماء والناس لهذه المسألة، وقويت قلوبهم ونياتهم.
وكان المغول قد أعرضوا عن احتلال دمشق، و قالوا: إن غلَبنا فإن البلد لنا، وإن غُلِبنا فلا حاجة لنا به، والتقى الجيشان المغولي والمملوكي في وقعة شقحب أو مرج الصفر في الثاني من رمضان وكانت الغلبة للجيش المملوكي في معركة كانت بداية النهاية للنفوذ المغولي في المشرق بل في الشرق كله، وهرب خطلوشاه إلى العراق ليلقى حتفه في إحدى المعارك سنة 707.
وشارك ابن تيمية في المعركة، وسأله السلطان أن يقف معه، فقال له الشيخ: السُّنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم. وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر، وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا.
وعادت قضية صفات الله عزوجل تلاحق ابن تيمية، فقد كان ابن تيمية قد كتب رسالة في العقيدة بطلب من الشيخ القاضي رضي الدين الواسطي الشافعي الذي قدم دمشق حاجاً وشكا إلى ابن تيمية ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة المغول من غلبة الجهل والظلم واضمحلال الدين والعلم، وسأله أن يكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فكتب له هذه الرسالة في جلسة واحدة بعد العصر، وهي المسماة بالواسطية.
وأثار بعضُ العلماء السلطانَ في القاهرة بحجة أن العقيدة تتضمن وصف الله عز وجل بالتجسيم، فأرسل إلى نائبه بدمشق في سنة 705 أن يحقق مع ابن تيمية في ذلك بحضور العلماء، فأرسل نائب السلطنة وراء الشيخ وجمع القضاة والعلماء، وقرؤوا العقيدة الواسطية وانفض الجمع على أنها لا تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.
وبعد هذا وقعت واقعة أخرى عقدت الأمور وذلك أن الحافظ المزي، أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المولود بحلب سنة 654 والمتوفى بدمشق سنة 742، قرأ كتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وفيه فصل في الرد على الجهمية، فغضب بعض العلماء وقالوا نحن المقصودون بهذا، فبلغ ذلك القاضي فأمر بسجن الحافظ المزي، فتوجه ابن تيمية وأخرجه من السجن فغضب نائب السلطان بدمشق لهذا التجاوز على سلطته فأعيد ثم أفرج عنه، وأمر نائب السلطان أن ينادى في دمشق بأن من يتكلم في العقائد يقتل!
ولكن لم تكن هذه نهاية الموضوع، فقد استمر هؤلاء في تحريك السلطان حتى أرسل يطلب الشيخ ابن تيمية إلى القاهرة، وعُقِدَ له مجلس دعوى لا مجلس مناظرة، وانفض المجلس بأن حبس ابن تيمية وأخوه الشيخ شرف الدين، وبقيا في السجن إلى أوائل سنة 707 حين دخل مهنا بن عيسى أمير العرب إلى مصر، وحضر بنفسه إلى السجن، وأخرج الشيخ منه، بعد أن استأذن في ذلك.
وفي هذه الفترة يرسل ابن تيمية رسالة لوالدته في دمشق، تبين كثيراً من جوانب شخصيته، نوردها مع الاختصار:
من أحمد بن تيمية إلى الوالدة السعيدة، أقر الله عينيها بنعمه وأسبغ عليها جزيل كرمه وجعلها من خيار إمائه وخدمه. سلام الله عليكم. ورحمة الله وبركاته.  فإنا نحمد إليكم الله ... وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا، ولسنا والله مختارين للبعد عنكم ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم ... ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا بل كل يوم نستخير الله لنا ولكم، وادعوا لنا بالخيرة ... ونحن في كل وقت مهمومون بالسفر، مستخيرون الله سبحانه وتعالى، فلا يظن الظانُّ أنا نؤثر على قربكم شيئا من أمور الدنيا قط، بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه، ولكن ثَم أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ... والتاجر يكون مسافرا فيخاف ضياع بعض ماله فيحتاج أن يقيم حتى يستوفيه، وما نحن فيه أمر يجل عن الوصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كثيرا كثيرا وعلى سائر من في البيت من الكبار والصغار وسائر الجيران والأهل والأصحاب واحدا واحدا والحمد لله رب العالمين.
وأقام الشيخ في القاهرة يدرس وأقبل عليه كثير من طلبة العلم، وما مضت 6 أشهر حتى قامت جماعة من الصوفية على رأسهم نصر بن سلمان المنبجي، المولود سنة 638 بمنبج والمتوفى بالقاهرة سنة 719، والشيخ الإمام ابن عطاء الله السكندري، أحمد بن محمد، المتوفى سنة 709، برفع دعوى على ابن تيمية عند القاضي لأنه يحط من قدر أعلام التصوف، من امثال محيي الدين ابن عربي، المولود سنة 560 بمرسية في الأندلس، والمتوفى بدمشق سنة 638، وانتهت الدعوى بأن صدر أمر السلطان المظفر بيبرس الجاشنكير بسجنه، فسجن في القاهرة، يدخل عليه أصحابه، ويقصده الناس ويفتي سائليه، فتضايق شانؤه من ذلك، وعملوا على نقله إلى الإسكندرية، حيث حبس في برج حسن مضيء متسع، يدخل عليه من شاء، ويمنع هو من شاء، ويخرج إلى الحمام إذا شاء.
وبقي على هذه الحال مدة سنتين إلى أن قُتِلَ المظفر بيبرس وعاد الملك الناصر إلى الحكم في أواخر سنة 709، فأفرج عن ابن تيمية وقربه منه، واستفتاه في في قتل بعض القضاة بسبب فتاوى بعضهم في عزله من الملك، وكونهم قاموا على ابن تيمية وآذوه أيضا، ففهم الشيخُ مقصد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء، وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم، فقال: له إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا، فقال الشيخ من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي. وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
وبقي ابن تيمية في القاهرة يدرس ويعظ الناس، ومن الطريف أن بعض مؤرخيه المعاصرين ذكر أنه لم يزل العوام بمصر يعظمونه إلى أن أخذ في القول على السيدة نفيسة فأعرضوا عنه.
والحقيقة أن ابن تيمية لم يكن معادياً للتصوف على إطلاقه، وكان يود كثيراً من المتصوفة، وكان بين أصحابه شيوخ متصوفون، فقد ذكر الحسيني في ذيل تاريخ الذهبي في وفيات سنة 741: ومات الشيخ الزاهد خالد المجاور لدار الطعام، ودفن بداريا. صحب الشيخ تقي الدين بن تيمية، وله حال، وكشف، وكلمة نافذة.
بل كان ابن تيمية ينكر على بعض المتصوفة اعتقاداتهم الفاسدة، وسلوكهم المنحرف، ومظاهرهم الشاذة التي ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يتسامح ولا يقبل بتأويل أقوالهم، ولذا هاجم اين سبعين والشيخ محي الدين ابن العربي وأبا حامد الغزالي، ولأهمية الموضوع نورد ما قاله رحمه الله عن الصوفية بشيء من الاختصار مع تصرف تقتضيه سباكة الكلام: لفظ الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة وإنما اشتُهِرَ التكلم به بعد ذلك ... ويُذكَر عن أمثال هؤلاء من الزهد والورع والعبادة  من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم وعلى ما سنَّه الرسول ... والصواب للمسلم أن يعلَمَ أن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويعلَمَ أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم  ... وأن كثيرا من المؤمنين المتقين أولياء الله قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة ... فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع.
وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصِدِّيق، وأفضلُ الخلق بعد الأنبياء الصديقون، كما قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا﴾، ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة قالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، وطائفة ادعوا أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه.
ثم إنه صارت الصوفية ثلاثة أصناف: صوفية الحقائق، وصوفية الأرزاق، وصوفية الرسم. فأما صوفية الحقائق فهم الذين وصفناهم، وأما صوفية الأرزاق فهم الذين وُقِفت عليهم الأوقاف،  ويشترط فيهم العدالة الشرعية والآداب الشرعية وأن لا يكون أحدهم متمسكا بفضول الدنيا، وأما صوفية الرسم فهمُّهم في اللباس والآداب الوضعية، فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع ما من أقوالهم وأعمالهم، بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.
وفي سنة 712 قام السلطان الملك الناصر بتجريد حملة إلى بلاد الشام للقضاء على الوجود المغولي في المشرق العربي، فخرج معه ابن تيمية وإخوته بنية الجهاد، ودخل دمشق بعد غيبة 7 سنين، وسُرَّ الناس بمقدمه، وعاد إلى ما كان عليه أولاً من إقراء العلم، وتدريسه وإفتاء الناس ونفعهم.
جاء ابن تيمية بعد قرابة 450 سنة من وفاة الإمام أحمد رحمه الله آخر الأئمة الأربعة، واستقرت الفتوى في البلاد الإسلامية على القول الراجح في هذا المذهب أو ذاك، ولكنه خلافاً لأغلب علماء عصره لم يلتزم بمذهب، بل تصرف تصرف من أدرك مرتبة الاجتهاد المطلق، وهي مرتبة أغلق العلماء بابها من زمن طويل، وقد أثار هذا عليه العلماء والفقهاء، وبخاصة أن أسلوبه اتسم بالمواجهة ونقد الآراء الأخرى، ولكن فتاواه هذه ما كانت تخرج عن فتاوى مرجوحة لبعض الصحابة أو التابعين أو المذاهب الأربعة. قال الإمام الذهبي: وقد انفرد بفتاوى نيِلَ من عِرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه، فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكل أحد من الامة فيؤخذ من قوله ويترك.
وأبرز مثال على ذلك أن ابن تيمية أفتي أن من حلف بالطلاق على أمر، وهو لا يقصد الطلاق بل يقصد الحض على شيء أو منعه، فإن الطلاق لا يقع، بل يكفِّر كفارة يمين، وأما إن كان الحالف يقصد شرطاً وجزاءاً فإنَّ الطلاق يقع. ولما كان ذلك يخالف ما استقر عليه العمل في المذاهب الأربعة، فقد نصحه علماء دمشق بالكف عن هذه الفتيا، وقبل ابن تيمية نصيحتهم في البداية، قال الذهبي: أفتى بالكفارة شيخنا ابن تيمية مدة أشهر، ثم حرَّم الفتوى بها على نفسه من أجل تكلم الفقهاء في عرضه. ثم عاد ابن تيمية ليفتي بذلك، وورد كتاب من السلطان في سنة 718 بمنعه من الفتوى في هذه المسألة، ولكنه استمر يفتي بها، فعاد السلطان وأصدر أمراً ثانياً في سنة 720 بمنعه من ذلك، ثم ما لبث أن سجنه قرابة 5 أشهر لاستمراره في الإفتاء بها.
وكان ابن تيمية يرى أنه لا يجوز  شد الرحال والسفر لزيارة القبور بما فيها قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تشد الرحال لزيارة المسجد النبوي كما هو في الحديث، ويزار قبر الرسول تبعاً لهذه الزيارة، إلى جانب تحريمه على النساء زيارة القبور، وأثارت هذه الفتوى عليه حفيظة كثير من العلماء، وأفتوا بوجوب حبسه لأن في ذلك تنقصاً من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فحبس بقلعة دمشق في شعبان من سنة 826 وبقى فيها قرابة سنتين و4 أشهر حتى توفي رحمه الله تعالى، وقبل وفاته بخمسة أشهر مُنِعَ من الكتب والمطالعة، و أخذ ما كان عنده من الكتب والأوراق والدواة والقلم، وكانت نحو ستين مجلداً.
ورغم شدته على مخالفيه كان بعيداً عن التكفير وبخاصة في غير أجواء المناظرة والخصومة،  وقد قال عنه الذهبي: كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الامة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن. فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم.
ويتضح هذا المنهج مع تواضع ابن تيمية وصفائه مع كل مسلم في رسالة أرسلها ابن تيمية من حبسه إلى أنصاره حضهم على اجتماع الكلمة وتأليف القلوب، قال فيها: وتعلمون من القواعد العظيمة، التي هي من جماع الدين تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين ... وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلق بي، فتعلمون - رضي الله عنكم- أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين بشيء أصلاً، لا باطناً، ولا ظاهراً، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه، ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد فمعفو عنه، مغفور له، والثالث: فالله يغفر لنا وله، ولسائر المؤمنين... فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ... وقد عفا الله عما سلف ... فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي، أو ظلمه وعدوانه فإني قد أحللت كل مسلم. وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي. والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي.
ولما توفى الشيخ بعض مرض ألم به قرابة 3 أسابيع، ذكر ذلك مؤذن القلعة على منارة الجامع، فتسامع الناس بذلك، واجتمع عند الشيخ في القلعة خلق كثير من أصحابه، يبكون ويثنون، وأخبرهم أخوه زين الدين عبد الرحمن: أنه ختم هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة، وشرعا في الحادية والثمانين، فانتهيا إلى قوله تعالى في آخر سورة القمر﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾، فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزرعي الضرير - وكان الشيخ يحب قراءتهما فقرأا من سورة الرحمن حتى ختما القرآن، وخرج الرجال، ودخل النساء من أقارب الشيخ، فشاهدوه ثم خرجوا، وغسله جماعة من أكابر الصالحين وأهل العلم، وصلي عليه في الجامع الأموي بعد صلاة الظهر، ثم ساروا به إلى المقبرة ودفن وقت العصر أو قبلها بيسير إلى جانب أخيه شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية، وحُزر الرجال: بستين ألفٍ وأكثر، والنساء بخمسة عشر ألف.
ولأن البيئة وعاداتها أغلب وأقوى، رأينا في وفاة ابن تيمية مخالفات صريحة لما كان يدعو إليه رحمه الله وبخاصة في مسألة التبرك، فمن ذلك أن بعض الناس شرب الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، ودُفِعَ خمسمئة درهم في الطاقية التي كانت على رأسه.
وقد يطيب لبعض المؤرخين أن يذكر أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله قد جاء على فترة من الفقهاء والعلماء، وهذا مجانب للصواب، فقد كان عصره يزخر بأئمة كبار في مختلف العلوم وبخاصة الفقه، ولكن ابن تيمية امتاز عنهم باجتهاداته خارج المذاهب الأربعة، فمنهم من قبل منه ومنهم من أنكر عليه وبقي كليهما على وفاق معه،  ومنهم من أنكر عليه وخاصمه وسعى في سجنه وعقابه، وأغلب هؤلاء من صغار المشايخ وطلبة العلم.
ولأهمية الموضوع في استكمال الصورة نذكر هنا بعضاً من معاصري ابن تيمية، فمنهم الشيخ برهان الدين ابن الفركاح، إبراهيم بن عبد الرحمن الفزاري الصعيدي الأصل الدمشقي الشافعي، المولود سنة 660 والمتوفى سنة 729، وكان من كبار فقهاء عصره مع تواضع وتقوى وتبتل، وكان يخالف الشيخ تقي الدين في مسائل ومع ذلك فما تهاجرا ولا تقاطعا بل كان كل منهما يحترم الآخر، ولما توفي ابن تيمية استرجع وشيع جنازته وقعد لعزائه وأثنى عليه.
ومن كبار فقهاء عصر ابن تيمية: علاء الدين القونوي الشافعي، علي بن إسماعيل، المولود سنة 668 بقونية في الأناضول، والذي قدم دمشق سنة 693 ثم القاهرة ودرس فيهما على كبار العلماء، وبرز في التفسير والفقه والأصول، وكان محكِما للعربية قوي الكتابة له يد طُولى في الأدب، وكان عابداً زاهداً متصوفاً، وولاه الملك قضاء دمشق في سنة 727، فباشره أحسن مباشرة مع صلابة في الحق، ولم يغير عمامته الصوفية، واحضر صحبته من الكتب ما حمل على نحو عشرين فرسا، ولما استقر في القضاء بدمشق اخرج من وسطه كيسا فيه ألف دينار بحضرة الفخر المصري وابن جملة وقال: هذه حضرت معي من القاهرة.
وكان القونوى يعظم الشيخ تقي الدين ابن تيمية ويذب عنه مع مخالفته له في أشياء وتخطئته له، وحضر عنده القاضي يوسف بن إبراهيم ابن جملة، وكان ممن يجهر بالعداء لابن تيمية، فحطًّ على ابن تيمية فقال القونوي بالتركي: هذا ما يفهم كلام الشيخ تقي الدين.  ولما خرج ابن قيم الجوزية من القلعة أتاه القونوي فبش به وأكرمه ووصله وكان يثني على بحوثه، وكان يتفق مع ابن تيمية في أن كلام محي الدين ابن العربي في الفصوص غير مقبول في ميزان الشرع، فقد روى الذهبي عن ابن كثير أنه حضر مع المزي عند القونوي فجرى ذكر الفصوص فقال القونوي: لا ريب أن الكلام الذي فيه كفر وضلال، فقال له بعض أصحابه: أفلا يتأوله مولانا؟ فقال: لا، إنما يُتأول كلام المعصوم.
ومن علماء ذلك الزمان العلامة شمس الدين الأصفهاني، محمود بن عبد الرحمن، المولود في أصفهان سنة 694، والمتوفى بالفاهرة سنة 649، وكان عالم تبريز، ثم قدم دمشق سنة 625 والتقى بابن تيمية الذي أعجب به ويالغ في تعظيمه، وقال مرة: اسكتوا حتى نسمع كلام هذا الفاضل الذي ما دخل البلاد مثله.
ومن معاصري ابن تيمية علاء الدين الباجي الشافعي، علي بن محمد، المولود سنة 631، والمتوفى سنة  714،  وكان ابن تيمية يجله ويقدر علمه ويعود إلى رأيه، قال الباجي: لما دخل ابن تيمية القاهرة حضرت في المجلس الذي عقدوه له، فلما رآني قال: هذا شيخ البلاد، فقلت: لا تُطرِني، ما ها هنا إلا الحق! وحاققته على أربعة عشر موضعا فغيَّر ما كان كتب به خطه.
ومن معاصريه كذلك الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، محمد بن عمر المولود في دمياط سنة 665 والمتوفى بالقاهرة سنة 716، وكان من أذكياء زمانه فصيحاً مناظراً لم يكن أحد من الشافعية يقوم بمناظرة الشيخ تقي الدين ابن تيمية غيره، جرت بينهما مناظرات عديدة،  ناظره يوماً فأخذ ابن تيمية يستشهد ببعض الحاضرين وقال له: هذا الذي أقوله، ما هو الصواب؟ فأنشده صدر الدين:
إن انتصارك بالأجفان من عجبٍ ... وهل رأى الناس منصوراً بمنكسر
وقال الشيخ ابن تيمية لما بلغته وفاته: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين.
وممن رد على ابن تيمية الإمام الحافظ القاضي تقي الدين السُبكي، علي بن عبد الكافي الخزرجي الأنصاري السبكي المصري ثم الدمشقي الشافعي، المولود سنة 683 والمتوفى سنة 657، والذي قدم الشام سنة 707، وصار قاضيها سنة 639، فقد صنف كتاب التحقيق في مسألة التعليق، يرد على ابن تيمية في مسألة الطلاق، وكتاب شفاء السقام في زيارة خير الأنام، يرد عليه في مسألة الزيارة. وقد أثنى ابن تيمية على رد السبكي، وقال: ما رد علي فقيه غير السبكي.
كان ابن تيمية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في ما نسميه اليوم الصالح العام، وفي سنة 704 خرج وأصحابه ومعهم  إلى مسجد النارنج بظاهر دمشق، وكانت بقربه صخرة تدّعي الجهلة أن بها قدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتزار وينذر لها، فقطعها وأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما.
ومثلَه مثلُ الفقهاء الكبار كان ابن تيمية يقول إن المواقف والأحكام تتغير بتغير المكان والزمان، وقد كان السلف الصالح يهربون من تولي القضاء ويقدحون في عدالة من تولاه، ولكن ابن تيمية وقف موقفاً مغايراً لإدراكه أهمية القضاء في عصر عم فيه الجهل والطمع وفسدت الأنفس، فقد توفي سنة 715 القاضي تقي الدين ابن قدامة، سليمان بن حمزة المولود سنة 628، وأراد السلطان تعيين الشيخ الفقيه محمد بن مسلَّم الحنبلي، المولود سنة 662 والمتوفى سنة 726، وكان متسماً بالعلم والعبادة والوقار، ولم يدخل في وظيفة من قبل، فتوقف عن القبول، فجاء إليه ابن تيمية ولامه على رفضه المنصب، وقوى عزمه، فأجاب بشروط أن لا يركب بغلة ولا يحضر الموكب فأجيب إلى ذلك، فباشر القضاء أحسن مباشرة وعمّر الأوقاف، وضرب المثال في العدل والورع والتحري رحمه الله تعالى. وهو الذي حكم على ابن تيمية بمنعه من الفتيا بمسائل الطلاق وغيرها مما يخالف المذهب.
وينبغي الإشارة هنا أن ابن تيمية ذكر أنه عُرِض عليه القضاء فرفضه، ولعل ذلك لانشغاله بالعلم أو لأنه رأى أن طباعه قد لا تصلح للقضاء.
وكان ابن تيمية شديداً كذلك على محترفي التصوف الذين لا يلتزمون بآداب الإسلام، وكان من هؤلاء شخص يدعى المجاهد إبراهيم القطان، لا يحلق شعر رأسه وشواربه، ولا يقلم أظافره، ويلبس فراء واسعاً جداً، فأتي به الشيخ فأمر بحلق رأسه وتقلم أظافره وحف شاربه، وقطع فروته، واستتابه من كلام الفحش وأكل ما يغير العقل من الحشيشة وما لا يجوز من المحرمات وغيرها، وبعده استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضا عن أكل المحرمات وأخذ عليه أن لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بما لا علم له به.
وكان ابن تيمية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر الأمراء والكبراء، وكان من أكبر الأمراء قطلو بك المنصوري الكبير، كان أميراً مهاباً متكبراً، وكان ظالماً متعدياً لا يدفع لأحد ثمن ما يشتريه منه إلا بعسر، فدخل ابن تيمية عليه مع تاجر يشفع له في قضاء حقه فقال له قطلو بك يعرض به لوقوفه على بابه: إذا رأيتَ الأمير بباب الفقير فنِعمَ الأمير ونِعمَ الفقير، وإذا رأيت الفقيرَ بباب الأمير، فبئس الأمير وبئس الفقير! فقال له ابن تيمية: كان فرعون أنحس منك ابن تيمية وموسى خيرا مني ابن تيمية وكان يأتي بابه كل يوم يأمره بالإيمان ابن تيمية وأنا آمرك أن تدفع لهذا حقه! فلم يسعه إلا امتثال أمره ووفى الرجل حقه.
وهو الذي توجه للناصر في العسكر المجهز من الافرم محاربة إلى الناصر بالكرك فمال مع الناصر وأحضره من الكرك إلى الشام وقام له بشعار المملكة فلما قدم مصر أعطاه نيابة صفد في جمادى الأولى سنة 711 وحمل منها إلى الكرك فسجن بها فلم يزل في السجن إلى أن قتل في سنة 716
وكان لابن تيمية مناظرات مع غير المسلمين مثل اليهود والنصارى، ومع الفرق الإسلامية كالشيعة، تتم في إطار المنطق والحجة دون استعلاء أو تكبر، وقد أسلم على يديه عدد من غير المسلمين، وقد ضمَّن هذه المناظرات في بعض مؤلفاته وأفرد بعضها بالتأليف.
عاش ابن تيمية متفرغاً للعلم والدعوة، فلم يتزوج ولا تسرى ولا تملك مالا ولا عقارا. ولم يهتم بأمور الدنيا قط، وكان أخوه شرف الدين هو الذي كان يقوم بمصالحه.
كان ابن تيمية عجيب الحافظة، سيال الفكر، إذا تكلم أغمض عينيه وازدحمت العبارة على لسانه، ويماثل ذلك غزارة في التصنيف، وقد بلغت مصنفاته ثلاثمئة مصنف، وأغلبها يدور حول محورين، الأول: العقيدة من حيث تصحيحها أو المناظرة مع الأديان والمذاهب غير الإسلامية، والثاني: الفقه والاجتهاد فيه على ضوء فهمه للكتاب والسنة، إلى جانب ما كتبه في التفسير وأصول الفقه. وكان لابن تيمية كاتب، أشبه شيء بالمحرر في عصرنا، هو الشيخ عبد الله بن رشيق المغربي، المتوفى سنة 749، كان يكتب مصنفات ابن تيمية، وكان أبصر بخط الشيخ منه، إذا عزب شئ منه على الشيخ استخرجه هو.
ولا يكتمل الحديث عن ابن تيمية دون الحديث عن أهم تلاميذه، وأولهم الإمام ابن القيم، محمد بن أبي بكر المولود سنة 691 والمتوفى سنة 751، والذي غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه، واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة، وأفرج عنه بعد وفاته بشهر.
وثانيهم الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي، محمد بن أحمد، المولود سنة 673 والمتوفى سنة 748، وكان أكثر أهل عصره تصنيفا، ويكفي الإشارة إلى كتابيه العظيمين في التاربخ والتراجم: العبر في خبر من عبر، وسير أعلام النبلاء،
وثالث هؤلاء الإمام عماد الدين ابن كثير، إسماعيل بن عمر بن كثير، المولود سنة 701 ببُصرى الشام والمتوفى سنة  774، وهو صاحب التفسير المشهور وكتاب البداية والنهاية في التاريخ، قال ابن حجر عنه: أخذ عن ابن تيمية، ففُتِنَ بحبه وامتُحِنَ بسببه.
أطلنا الحديث في ترجمة هذا الإمام الكبيرلأهميته عند قطاع كبير من المسلمين الملتزمين وطلبة العلم، ونختم بقول تلميذه ابن كثير: وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطأه أيضا مغفور له.
 
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer