الخميس، 12 سبتمبر 2013

حدث في السادس من ذي القعدة

 
في السادس من ذي القعدة من عام 891 توفي في مكة المكرمة، عن 66 عاماً، الفقيه الشافعي عالم الحجاز برهان الدين ابن ظَهيرة، إبراهيم بن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن علي بن أحمد بن عطية بن ظهيرة، القرشي المخزومي المكي، سليل أسرة علمية عريقة وعديدة عُرِفَ علماؤها من قبله وبعده كذلك بابن ظهيرة، قال الزبيدي في تاج العروس: وبنو ظهيرة قبيلة بمكة منهم حفاظ وعلماء ومحدثون، وقد تكفل لبيان أحوالهم كتاب البدور المنيرة في السادة بني ظهيرة.
ولد برهان الدين في ليلة 15 جمادى الأولى سنة 825 بمكة، ووالده علي الملقب بنور الدين ولد سنة 801 بمكة ونشأ وتعلم بها، وناب في القضاء بمكة، وتوفى سنة 841، وكان سمحاً كريماً مفضالاً، وإن كان في خلقه حدة.
وأمه أم الخير ابنة القاضي عز الدين محمد بن أحمد النويري، المولود في المدينة سنة 775 والمتوفى بمكة سنة 820، وكان عالماً مفتياً محدثاً، درس على علماء آل ظهيرة وتزوج ابنتهم، وكانت عائلة النويري كذلك عائلة معروفة بالعلم والقضاء، وبين النويرين وبين الظهيرين ما يكون بين الأقران من التنافس والتشاحن.نشأ برهان الدين في مكة المكرمة وحفظ القرآن وصلى به التراويح بالمسجد الحرام، وحفظ المتون في النحو ومصطلح الحديث، وسمع الحديث وأخذ الإجازات من علماء البيت الحرام، وعلى رأسهم عمه جلال الدين محمد، المولود سنة 795 والمتوفى سنة 861، ثم رحل في طلب العلم والإجازة إلى الديار المصرية مرتين، الأولى في سنة 851، والثانية في سنة 853 وأقام في كل مرة منهما سنة، وأخذ الحديث وعلومه عن مشايخ مصر، ومن أبرز من أخذ عنهم القاضي الفقيه شرف الدين المناوي الشافعي، يحيى بن محمد المولود سنة 798 والمتوفى سنة 871، وهو جد المحقق محمد عبد الرؤوف.
واستفاد برهان الدين من قدوم علماء البلاد الإسلامية إلى الحرمين للحج أو العمرة أو المجاورة، فأخذ عنهم ودرس على يديهم، فدرس على بدر الدين الأهدل، حسين بن عبد الرحمن الأهدل اليماني، المولود قرابة سنة 779 والمتوفى سنة 855، وذلك حين جاور بالحرم سنة 846، و أخذ النحو عن الشيخ الإمام برهان إبراهيم بن أبي يزيد الهندي، والمتوفى بالقاهرة سنة 852، عندما قدم إلى مكة للحج، ودرس على شمس الدين البلاطُنُسُي ثم الدمشقي، محمد بن عبد الله بن خليل، المولود سنة 798 والمتوفى سنة 863،  حين جاور سنة 857، وأخذ عن والد الإمام جلال الدين السيوطي؛ كمال الدين السيوطي، أبي بكر بن محمد بن أبي بكر، المولود سنة 804 والمتوفى سنة 855، حين جاور سنة 842، وأخذ كثيراً عن الفقيه الرحالة أبي الفضل البجائي، محمد بن محمد الزواوي المغربي المالكي، المولود ببجاية سنة 822 والمتوفى بعينتاب سنة 864، وذلك حين جاور الحرم سنة 850، وأخذ أصول الفقه عن الإمام الحنفي الكبير الكمال بن الهمام، محمد بن عبد الواحد السيواسي ثم الإسكندري، المولود سنة 790 والمتوفى سنة 861، وقرأ عليه كتابه التحرير أثناء مجاورته سنتي 858-859، وأخذ كذلك عن الإمام ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي المولود بالقاهرة سنة 773 والمتوفى بها سنة 852، وكان أول لقاء لبرهان الدين مع ابن حجر بحضور بدر الدين ابن قاضي شهبة، محمد بن الإمام أبي بكر، المولود سنة 798 والمتوفى سنة 874، فناظره ابن قاضي شهبة في بعض المسائل فبحثها معه برهان الدين بتؤدة ومتانة، ونبه على مكان نقلها، وأُحضِر الكتاب المعزو إليه فوجِدَ كما قال، وأن الصواب مع ابن ظهيرة، فصار ابن حجر يكثر التعجب من حجازي نسيب بهذه المثابة من متانة العقل وسعة البحث وكثرة الأدب والاستحضار، مع حسن المظهر والسمت، ولذا أثنى عليه في إجازته له، ووصفه فيها بالشيخ الإمام البارع المفنن المقتن العلامة وقال: إنه أبان حال قراءته عن يد في الفهم طُولى، وأثار فوائد كل ما أطربت السامع فائدة منها قالت له أختها وللآخرة خير لك من الأولى.
وأجازه بقية العلماء ونورد بعض من ثنائهم عليه في إجازاتهم، مع ملاحظة أن الإجازة وإن كانت في الغالب موضع ثناء، إلا أنه لا يتعدى إلى وصف المجاز بما هو بعيد عنه، وقد وصفه المناوي بالشيخ الإمام العلامة الحبر، وأنه رآه زاحم العلماء بالركب، وتمسك من العلوم النقلية والعقلية بأوثق سبب، ثم قال: فاستفدت منه وأفدته فوائد فرائد، وخلت أن فضل الله تعالى فيه متزايد. ووصفه البلاطُنُسُي بالشيخ العالم العلامة مفتي المسلمين ومفيد الطالبين، خطيب الحرم الشريف المكي، وقال إنه ذاكره في مواضع كثيرة فوجده عالماً في المذهب، فاق كثيراً من أهل زمانه وعرف بالصيانة والديانة...
أما إجازة الكمال بن الهمام فيبدو فيها تواضع العلماء ومكانة برهان الدين بن ظهيرة الذي وصفه ابن الهمام بالشيخ الإمام المتقن المحقق الجامع لأشتات العلوم، الطبيب لما يعرض لها من الكلوم، وأنه أظهر من الأبحاث الصحيحة، والآراء الرجيحة، ما استفدنا به أنه في التحقيقات النظرية أيَّ عريق، وأنه لمرتادها لعمري نعم الرفيق، ارتشفنا من زلال كلماته ما تُسرُّ به النفوس، وحلا لأسماعنا من أبكار أفكاره الصحيحة كل عروس، فتح من قواطعه ما لا طاقة به لذوي الجلال، وحلى جيد الزمان العاطل بجود سحره الحلال، فابتهجت به مجالسنا أي ابتهاج، وحرك من سواكن هممنا أقداح زنده بيننا وأهاج، أبقاه الله تعالى لمشكلة يحلها ومنزلة عالية يحلها. ثم قال: ولقد أحزنتني فرقته بعد أن أحاطت بي علقته:
قدحت زفيري فاعتصرت مدامعي ... لو لم يؤل جزعي إلى السلوان
وقال بعد أن أورد إذنه له بالرواية عنه: مع أنه هو الذي أفاد، لكن على ظن أنه استفاد، والله تعالى هو المسؤول أن يجعل الوجود بوجوده، ويديم حسن النظر إليه بمعنى لطفه وجوده.
وبدأ برهان الدين ابن ظهيرة التدريس بالمسجد الحرام في حياة جمهور شيوخه، وهذا دليل على تقدمه على أقرانه، ولم يكن في الأول يجلس في مكان معين، ثم في أوائل سنة 853 تقيد بالجلوس أمام باب الصفا بعد صلاة الظهر، وكانت خطابة الحرم شراكة بين أخوين من علماء مكة هما أبو القاسم شرف الدين النويري محمد بن محمد بن أحمد، المولود سنة 812 والمتوفى سنة 875، وأبو الفضل كمال الدين النويري، واسمه كذلك محمد بن محمد بن أحمد، والمولود سنة 827 والمتوفى بالقاهرة سنة 873، ثم جاء أمر السلطان بإسناد خطابة المسجد الحرام لبرهان الدين ابن نظيرة، وباشر أول خطبة له في 19 رمضان  من سنة 855، فقال أحد الشعراء بهذه المناسبة:
إن الزمان استبشرت أيامُه ... والمنبر استولى عليه إمامه
وتبسم البيت العتيق مسرة ... لما رآك مصلياً ومقامه
وغدوت يا برهانه في مستوى ... من مجده منشورة أعلامه
فالبس جلابيب المسرة والهنا ... فالجمع مشمول لديك نظامه
وفي سنة 857 أعيد النويريان إلى الخطابة واستمرا بها إلى أوائل سنة 866 حين عادت لبرهان الدين ثانية، ثم أعيدا إليها سنة 868 لشهر واحد قبل أن يتم تعيين برهان الدين للمرة الثالثة، ثم أعيدا إليها بعد سنة ونيف، وبقيا فيها.
وفي أوائل سنة 859 أسند إليه أحد المحسنين النظر على مدرسة أسسها مع أوقافها، ثم أضيفت إليه مشيختها، ثم في أواخر السنة ولى نظر المسجد الحرام، وفي سنة 859 توفي والي مكة الشريف بركات بن حسن بن عجلان وتلاه ابنه محمد، المولود سنة 840 والمتوفى سنة 905، وكان على شئ من العلم، وفيه فضائل، بنى بمكة عمارات لم يسبق إلى مثلها، وكثرت أتباعه وأراضيه وأمواله، واطمأن الناس في أيامه كثيراً، لأنه وبتوجيه من برهان الدين كان عفيفاً عن اموال الرعية لايتلفت إلى ما بأيدي التجار، بل إذا أخذ منهم شيئاً يكون قرضاً.
وفي أواخر سنة 862 أسند له السلطان الملك الأشرف إينال قضاء الشافعية في مكة المكرمة عوضاً عن ابن عمه محب الدين  أبي السعادات، فباشر ذلك بعفة ونزاهة، وهمة ووجاهة، وحرمة وافرة وديانة، وضبط وأمانة، واجتهاد تام في مصالح المسجد الحرام، ومبالغة في حفظ أموال الأيتام والغائبين، وحرص على كف الفُسَّاد والمعتدين، فوقف الناس عند مرتبتهم، وخف الكرب في تعدي الجَرَأة على ضَعَفتهم، وبقي على قناعته واقتصاده في معيشته، وعدم توسعه وتقلله من الدنيا وترك تطفله على أهلها في جميع الأشياء، حتى قيل فيه:
لقد زين البرهان بطحاء مكة ... وألبس من في أخشبيها تيمنا
واستمر برهان الدين ابن ظهيرة في القضاء قرابة 13 سنة إلى سنة 875، حين عين السلطان الملك الأشرف قايتباي قاضياً ابنَ عمه محب الدين ابن ظهيرة، أحمد بن محمد بن محمد بن محمد، المولود سنة 825 والمتوفى سنة 885، وكان ذلك بمسعى من وكيل السلطان وتاجره الخواجا شمس الدين محمد بن عمر الشهير بابن الزمن، المولود بدمشق سنة 824 والمتوفى بالقاهرة سنة 896، وكان قد أوكل إليه بناء بعض المنشآت الخيرية في الحرمين، وأراد ابن الزمن إنشاء رباط بالمسعى، فعارضه برهان الدين ومنع العمال من الحفر لكونه في المسعى، وساعده من كان هناك من علماء المجاورين ونحوهم، فعمل الخواجا على عزله من القضاء.
ولما ورد قرار العزل، أحضر برهان الدين بحضور القضاة والأمراء والعلماء والتجار وسائر الأعيان من مناصريه وخصومه ما كان تحت يده للأيتام والغائبين، وهو نحو ستة عشر ألف دينار ذهباً، لم يخصم منه نفقة ولا كسوة ولا زكاة ونحوها من المصارف الضرورية، لكونه كان ينميها لهم بالمضاربة وبغيرها، بحيث تكون جميع المصارف المشار إليها من الربح، بل ربما يفضل منه ما يضاف إلى الأصل، وأراد تسليمها للقاضي الجديد، فلم يوافق على ذلك أمير الحاج بل ولا ابن الزمن الساعي في عزله، والتمسوا منه إبقاءها تحت يده حتى يراجَع السلطانُ فامتنع، فلم يوافقا فتركت تحت يده، ولما علم السلطان بذلك كله، أقره على المال واستثماره إلى استقلال الأيتام وحضور الغائبين، وأظهرت هذه الواقعة مقدار أمانة وحرص برهان الدين ابن ظهيرة، حتى إنه كان يرسل التجار إلى الهند وسواحل عمان لقبض تركات لمتوفين بصفته وصياً على القصر من ورثتهم، فزاد الثناء عليه والإعجاب به والتألم لعزله، فكأن ذلك أوغر صدر أعدائه لمزيد التشفي فسعوا حتى صدر الأمر بصرفه عن نظر المسجد الحرام في أوائل سنة 876.
ووجد برهان الدين في هذا العزل فرصة للاشتغال بالعلم فعكف عليه الطلبة البادي منهم والمقيم، وصار له درس في الفقه الشافعي موضوعه شروح كتاب الحاوي الصغير في الفروع الذي ألفه الشيخ نجم الدين عبد الغفار بن عبد الكريم القزويني الشافعي، المتوفى سنة 665، وهو من الكتب المعتبرة بين الشافعية، فدرس كتاب شرح البهجة الوردية، والبهجة الوردية منظومة من 5000 بيت نظمها زين الدين عمر بن مظفر الوردي الشافعي المتوفى سنة 749، وتضم محتوى كتاب الحاوي الصغير، ودرس كذلك شرح الحاوي للشيخ علاء الدين القونوي، علي بن إسماعيل،  المتوفى سنة 729، وكتب عليه كراريس، وكان برهان الدين يستعين بمن حوله من شباب العلماء، فقد أشار إلى شهاب الدين المنوفي، أحمد بن محمد المعروف بقاضي منوف، والمولود سنة 847 والمتوفى سنة 927، أن يجمع بعض فتاويه، وكان يستعين في تحرير الفتاوى ومباحثها بمُعَمَّر بن يحيى بن محمد بن عبد القوي المكي المالكي، المولود سنة 848 والمتوفى سنة 897، وكان متميزاً في الفقه والمنطق والعربية.
وكان إلى جانب برهان الدين في كل هذه التقلبات أخوه الكبير دين أبو البركات، محمد بن علي المولود سنة 822، والمتوفى سنة 882، والذي كان من الفقهاء على نهج بني ظهيرة، وتعين قاضياً لجدة قرابة 30 سنة، وكان قريباً من أمراء الحجاز ويكثر الترداد إلى القاهرة لتوطيد الصلة مع السلطان وحاشيته لما يهمه ويخص أخاه برهان الدين، فكفاه مؤونة السلطان ومن حوله من أهل الحل والعقد، ونافح عنه كيد الحاسدين وما أكثرهم في القاهرة والحجاز، فتأيد كل منهما بالاخر.
وفي سنة 877 أرسل السلطان قايتباي مع أمير الحاج المصري يطلب برهان الدين ابن ظهيرة للديار المصرية، فعاد معهم بعد انتهاء الحج بصحبة الشريف بركات بن حسن بن عجلان بن رميثة أمير الحجاز، وفي جمع كبير ضم أخويه وابنه وبعض أبناء عمه وأقربائه وغيرهم، ووصل إلى القاهرة فلاقوا حفاوة بالغة من السلطان والأمراء بتلقيهم وإكرامهم ونزلوا في ضيافته مدة إقامتهم، وأصدر السلطان أمره بعد قرابة شهر بإعادته للقضاء والنظر على المسجد الحرام، ولكن ابن ظهيرة بقي إلى آخر العام حيث عاد وصحبه مع حاج سنة 878، وقد عظمت مكانته وارتفعت وجاهته، ومما يذكر من وفور عقله وكياسته أنه امتنع عن الإقراء والإفتاء طيلة إقامته بمصر، احتراماً لعلمائها الأصلاء وتقديراً لمكانتهم العالية.
ثم حج السلطان قايتباي سنة 884، وهو الوحيد الذي حج من سلاطين المماليك الشراكسة، وكان حجه بعد إنجاز مدرسة أمر ببنائها في مكة المكرمة، فكان برهان الدين هو الذي صاحبه في الطواف والسعي ونحوهما، وتبعه السلطان في أداء المناسك واسترشد بتعليمه، ثم جعله السلطان شيخاً لمدرسته الجديدة، وحضر أول درس له بها، وجمع بذلك بين شرفي العلم والمنصب.
وكان من حلفائه بين علماء مكة النجم بن فهد الهاشمي، نجم الدين عمر بن محمد، المولود سنة 812 والمتوفى سنة 885، المؤرخ المكي صاحب كتاب إتحاف الورى بأخبار أم القرى، والذي ألف كتاباً أسماه المشارق المنيرة في ذكر بني ظهيرة. وكان النجم كثير الرحلة في طلب الرواية يتردد إلى مصر كثيراً ويخالط علماءها، فكان يقف معه قولاً وفعلاً في المواطن التي يجبن بها غيره ويكتب لأصحابه المصريين وغيرهم بما يزداد به برهان الدين قوة ووجاهة، ولاقي في هذا أذى ونكاية صبر عليها لما يعتبره فيه من الصفات والمزايا، ووصف ابن فهد برهان الدين ابن ظهيرة فقال: إمام علامة مفتن، حسن التدريس والتقرير، قليل التكلف، قوي الفهم، جيد الفطنة، متواضع محتشم، كثير الإنصاف، مع صيانة ومعرفة بالأحكام ودربة في القضاء، ووضاءة ومروءة تامة وفضل جزيل، لا سيما لأصحابه والغرباء، وحسن محاضرة واستحضار لجملة من المتون والتواريخ والفضائل والأخبار والنوادر والوقائع، بل هو نادرة الوقت علماً وفصاحة ووقاراً وبهاء وتواضعاً وادباً وديانة وليس في أبناء جنسه مثله.
بقي برهان الدين على مكانته وجلالته ولكنه كان مغناطيساً للحساد والمنافرين، فعاش مع لا تحتمله الجبال، ثم توفي في السادس من ذي القعدة بعد مرض استمر قرابة أسبوعين، فتوجع الناس لذلك توجعاً شديداً وجهز في ليلته وصلى عليه ولده جمال الدين عند الحجر الأسود على عادة بني مخزوم ونودي للصلاة عليه فوق قبة زمزم، ووصفه بأبي الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، فازداد الناس نحيباً لذلك، ولم ير بمكة أعظم من جنازته، ولم يتخلف عنها إلا من شذ، حتى إن صاحب الحجاز لم يكن بمكة وقت مماته، وإنما كان في البر بالقرب من مكة، فلما بلغه الخبر جاء هو وعياله وبناته من ليلته، وحضر الجنازة وأولاده مشاة، بل وعادوا مع أبناء ابن ظهيرة لبيته، واستمر بعد ذلك يحضر الربعة في المسجد والمعلاة صباحاً وعشاء، وقيلت فيه المراثي في الحجاز وغيره.
خلّف برهان الدين 13ولداً، وكان قد تزوج في سنة 858 بزينب ابنة عمه وشيخه جلال الدين محمد، وجاءه منها ابنه جمال الدين أبو السعود المولود سنة 859، وهو الذي خلفه في القضاء وسائر مناصبه.
ذكرنا من قبل في شيوخ ابن ظهيرة أن منهم كمال الدين السيوطي والد الإمام جلال الدين السيوطي، والتقى الابن جلال الدين بابن ظهيرة كثيراً، والابن مولود سنة 849 وتوفي سنة 911، وترجم له في كتابه نظم العقيان في أعيان الأعيان، وهذه الترجمة هي مصدري الثاني بعد الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع الذي صنفه الإمام السخاوي المولود سنة 831 والمتوفى سنة 902، فهما معاصران له أجمعا على فضله، وقد أجازه السخاوي وقال في ترجمته:
ولذا وصفته بسيدنا ومولانا، بل أعلمنا وأولانا، قاضي القضاة، والراضي بما قدره الله وقضاه، شيخ الإسلام، علامة الأئمة الأعلام، بركة الأنام والمحيي لما لعله اندرس من العلوم بتوالي الليالي والأيام، مفخر أهل العصر، والغرة المشرقة في جبهة الدهر، مجمع المحاسن الوافرة، ومشرع القاصدين لعلوم الدنيا والآخرة، الفائق في سياسته ودِرْبته، والسابق بمداراته ورحمته، مسعد الأيتام والأرامل ... من انعقد الإجماع على رياسته، وانفرد بدون نزاع بوجاهته، وجلالته فالنفوس المطمئنة لا تركن لغير كلامه، والرؤوس اللينة لا تطمئن إلا في ائتمامه، لإشاراته تصغي الملوك، وبسفاراته يرتقي الغني فضلاً عن الصعلوك، المعرب فعله عن صفات بالعطف تمييزها تأكد، والمُغْرِب بما انفرد به عن الكافة مما استرق به الأحرار واستعبد، مجالسه محتفة بالفضلاء من سائر المذاهب، ومدارسته مشرفة بالنبلاء من أهل المشارق والمغارب، ممن يقصد الاستمداد منه، ويتعبد بالاستعداد للأخذ عنه...
أما السخاوي رحمه الله فقد تحدث في نظم العقيان عن أن العلاقة بينه وبين برهان الدين ابن ظهيرة شابها بعض الفتور والنفور، ثم عالجها بروح العالم الأصيل، وأوردها هنا مترحماً على تلك النفوس الزكية، قال السخاوي:
ولما جاورت بمكة المشرفة اتفقت لي معه قضية أوجبت بعض النفور، لما كنت أرى أنه لا يصدر منه ذلك، لأنه نشو والدي، وغرس نعمته، وتربية بيته، لأنه كان في أول أمره فقيراً مملقاً خاملاً، فكان والدي هو الذي يؤويه ويقوم بمؤنته، ويعلمه العلم، ويعرف به الأكابر، ويسعى له بالمرتبات. فلما صار إلى ما صار إليه، ورحت إلى هناك رام أن أكون في كنفه وتحت لوائه، كما كان هو عند والدي، وكما يكون أهل مصر عنده، رغبة في ماله، وأنا لست هناك، إنما أراه واحداً من جماعة أبي كان يحملني وأنا صغير على كتفه، فلم يبلغ مني ما رامه، فكان لا يزال يعتبني على ذلك، ويرسل إلي من يعتبني، فلا أزداد إلا شهامة، ثم إني حضرت عنده ختم البخاري، فأخذ يتكلم في فضل التواضع وذم المتكبرين خصوصاً في الحرم، ففطنت أنه يُعرِّض بي، فالتفتُّ إليه وأوردت عليه عدة أسئلة في الحديث الذي كان يتكلم فيه، فأجاب عنها بما لا يُرضي، فبحثت معه إلى أن انقطع، واعترف بالاستفادة مني، ونقلت له نقلاً عن كتاب الارتشاف فأنكره، ثم أرسل أحضره من البيت، فوجد النقل فيه كما ذكرت، فخضع وصار في نفسه ما فيها، ثم مشت الأعداء، واشتد الشقاق، بحيث خرجت من مكة ولم أودعه.
ثم قدم القاهرة بعد سنين، فسألني بعض الأمراء أن يجمع بيني وبينه للصلح، فما أجبت، ثم بعد سنين أخرى أرسل إلى الشيخ عبد القادر بن شعبان الفرضي، وهو رفيقه في القراءة على والدي، كتاباً يسأله فيه أن يجيء إلي ويقرأني السلام ويطلب له مني عدة كتب من تصانيفي ليستنسخها له، فجاءني وذكر لي ذلك فأجبته إلى ما سأل، وأعطيته الكتب التي سألها، وهي: الإتقان، والأشباه والنظائر، وتكملة تفسير الجلال المحلي، وشرح ألفية الحديث، وشرح ألفية بن مالك، والجزء الأول من الدر المنثور في التفسير المأثور. ثم كتبت له كتاباً بالصفاء، وهذه صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
كل نهر فيه ماء قد جرى ... فإليه الماء يوماً سيعود
يبدي محبة كانت في نهر العروق جارية، ومودةً كانت في الأباء ثابتة، وإن كان عطَّلها بعض الكدر، فهي الآن في الأبناء واهية. على أنه والله شهيد ليس كل ما نُقِلَ إلى المسامع الكريمة من تلك الأكدار بصحيح، وإن كان بعضه قد وقع فقد استدرك بالمحو ولم يقف عليه أعجمي ولا فصيح، ومن نقل ما نقل إنما اعتمد على التوهم، وقصد بذلك أغراضا أدناها التوسم، ولست كواحد من هؤلاء، فإن الواحد منهم عَبدُ بطنه، إن أعطي مدح وأثنى، وإن مُنِعَ ذمَّ وهجا، وأما أنا فإني أصحب الإنسان على الحالين حق الصحبة، وأحفظ له في حضوره وغيبته رفيع الرتبة، لكن مع حفظ الأدب، والوقوف عند الحق المحض الخالص من شبه الريب، وقد كان لكم في قلبي من قبل أن أحج الحجة الأولى وقبل أن أراكم من المحبة ما لا يقدر قدرها، ولا يستطاع حصرها، وكنت أضمر للمخدوم في قلبي أن أكون له من الناصرين، وعلى أعدائه من الثائرين، فلما حصل الاجتماع بالمخدوم رأيته يراني بغير العين التي أراه، ويسوقني مساق الطغام الجفاة، وربما قَدَّم علي من ليس كشكلي، ولست ممن يرضى بالذل، ولا يرضى بذلك من كان مثلي :
ولا ألين لغير الحق أساله ... حتى يلين لضرس الماضغ الحجر
فهنالك حصل ما حصل، وفرح به العدو وافترى فيما نقل، وعلى كل تقدير فقد زال الجفا، وحصل الصفا، ومحي ما كتب كما أشرتم في سنة ثلاث وسبعين، وبدل بغاية الإحسان. وكتبت لكم التراجم الفائقة، في أعيان العصر فإنكم للأعيان أعيان، مع أن الأصول بحمد الله تعالى لم تزل محفوظة، والأحساب بعين التعظيم والتبجيل ملحوظة، وما زلت أعرف لكم حقكم، ومقامكم بذلك حقيق، فمتى يسمح الزمان برئيس يكون له في الرياسة أصل عريق، ويتمسك من العلم بحبل وثيق. وانتم بحمد الله تعالى في رؤساء عصركم كالشامة، لِما اجتمع لكم من الصفات العلية؛ فحسيب، ورئيس، وعالم، وعلامة.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer