الجمعة، 20 سبتمبر 2013

حدث في الثالث عشر من ذي القعدة

في الثالث عشر من ذي القعدة من عام 345 توفى في بغداد، عن 84 عاماً، الإمام اللغوي، أبو عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم الباوردي الزاهد، المعروف بغلام ثعلب، والمنسوب إلى باورد، وهي أبيورد بخراسان شمالي شرقي إيران واليوم في تركمنستان، ومنها أصل عائلته.
ولد أبو عمر الزاهد في بغداد سنة 261، ولا نعلم كثيراً عن أسرته، سوى أن له خالاً شيعياً، أمضى معه سنين طوال يريده أن يتشيع وأبو عمر يريده أن يتسنن، وينبغي أن نشير هنا أن ابن الجزري رحمه الله قد وهم في كتابه طبقات القراء فقال في آخر ترجمته للإمام القارئ عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم: وهو والد أبي عمر الزاهد غلام ثعلب. وهذا لا يستقيم، لأنه ذكر أن وفاة عبد الواحد بن عمر بن أبي هاشم كانت في سنة 349 وقد جاوز السبعين، فهو أصغر من ابنه المفترض: غلام ثعلب، وجاء الوهم لتشابه الاسم  واسمي الأب والجد.
تعلم أبو عمر صنعة التطريز، ولذلك كان أيضاً يقال له المطرِّز، وحضر مجالس الإمام الكبير المحدث اللغوي إبراهيم الحربي، المولود سنة 198 والمتوفى سنة 285،  ودرس اللغة على الإمام ثعلب، أحمد بن يحيى الشيباني الكوفي، المولود سنة 200 والمتوفى سنة 291، وكان إمام مدرسة الكوفة في النحو واللغة، كان راوية للشعر، محدثا، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة، ثقة حجة، وصاحبه أبو عمر مدة طويلة حتى عُرِف به، فقيل له: غلام ثعلب، وهو من أهم رواة كنب ثعلب، وله عليها شروح ومستدركات. وأخذ عن إمام آخر كان بينه وبين ثعلب ما يكون أحياناً بين علماء الفن الواحد من تنافس وخصومة، وذلكم هو إمام اللغة والنحو أبي العباس المبرد، محمد بن يزيد المبرد البصري، المولود سنة 207 والمتوفى سنة 285.
وأخذ أبو عمر كذلك عن أبي موسى الحامض، سليمان بن محمد بن أحمد، المتوفى سنة 305، والذي صحب ثعلباً أربعين سنة، وجلس موضعه بعد موته، كان ديناً صالحاً وكان أوحد الناس فِي البيان واللغة والشعر، وقيل له الحامض لشراسة أخلاقه.
وسمع أبو عمر الزاهد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محدثي عصره، ورواه عنهم، وهو ثقة عند المحدثين، وقد روى عنه ابن مندة والحاكم. ولم تقتصر مشاركة أبي عمر في علوم الدين على رواية الحديث النبوي، بل كان المرجع في بيان معاني كثير من كلمات القرآن الكريم والحديث الشريف، ولهذا أهميته الكبرى في التفسير والفقه.
وكان أبو عمر الزاهد مغالياً في حب معاوية، وعنده جزء حديثي في فضائله، أكثره مناكير وموضعات، والآفة فيها من غيره، وكان الأشراف والكتاب يحضرون عنده ليسمعوا منه كتب ثعلب وغيرها، فكان لا يترك واحدا منهم يقرأ عليه شيئا إلا إذا بقرأ ذلك الجزء.
وأصبح أبو عمر من كبار علماء العربية واللغة في عصره، وأخذ عنه كثير من اللغويين والأدباء، ومنهم أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي، المتوفى سنة 388، وأحد الأعلام المشاهير المطلعين المكثرين، وصاحب الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المنتبي وساقط شعره. وقد ذكر الحاتمي قصة تدل على تواضع أبي عمر الزاهد وعلى تباسطه مع تلاميذه، قال الحاتمي إنه اعتل فتأخر عن مجلس أبي عمر الزاهد، قال: فسأل عني لما تراخت الأيام. فقيل له: إنه كان عليلاً، فجاءني من الغد يعودني فاتفق أن كنت قد خرجت من داري إلى الحمام فكتب بخطه على بابي بإسفيداج بيتاً نظمه في الحال:
وأعجَبُ شيء سمعنا به ... عليلٌ يعاد فلا يوجد
ومنهم الإمام العلامة المفيد المحدث الرحال، أبو سليمان الخطابي، حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البُستي، المتوفى سنة 388 ببُست، صاحب التصانيف المشهورة مثل شرح البخاري ومعالم السنن وغريب الحديث.
ومنهم ابن خالويه، الحسين بن أحمد الهمذاني، المتوفى بحلب سنة 370، صاحب سيف الدولة، ووقع بينه وبين المتنبي منازعات، ومصنفُ كتاب الاشتقاق، وشارح مقصورة ابن دريد، دخل بغداد سنة 314 وأخذ اللغة عن أبي عمر.
وأخذ عن غلام ثعلب أبو علي القالي، إسماعيل بن القاسم، المولود في منازجرد بأرمينية سنة 288 والمتوفى بقرطبة سنة 356، والذي دخل بغداد سنة 303 قبل أن يرحل إلى الأندلس سنة 328. وقد روى عنه كثيراً في كتابه الأمالي.
ودرس على أبي عمر الزاهد أبو منصور ابن حمشاد، محمد بن عبد الله النيسابوري، الأديب الرحالة الزاهد، المولود سنة 316 والمتوفى سنة 388، والذي له أكثر من 300 مصنف، وقال عنه: لم تر عيناي مثله. وذكر ابن حمشاد أنه سأل أبا عمر عن تفسير بعض كلمات اللغة التي أُخذت على الشافعي، مثل قوله في تفسير قوله تعالى في سورة النساء ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا، أب لا يكثر من تعولون. فقال لي: كلام الشافعي صحيح، سمعت أبا العباس ثعلبا يقول: تأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة، يجب أن يؤخذ عنه.
ودرس على أبي عمر أبو عبد الله العكبري، عبيد الله بن محمد المعروف بابن بطة، والمولود سنة 304 والمتوفى سنة 387،  وهو محدث، فقيه من كبار الحنابلة، لزم بيته أربعين سنة، فصنف أكثر من 100 كتاب.
وكان من أصحابه إبراهيم بن أحمد بن محمد، توزون الطبري النحوي، من أهل الفضل والأدب، أخذ الأدب عن أبي عمر الزاهد وبرع فيه، وكان صحيح النقل جيد الخط والضبط، وهو الذي كتب كتاب الياقوتة، وعلى النسخة التي بخطه الاعتماد، وتوفي سنة 355.
وذكر القاضي التنوخي، المحسن بن علي بن محمد، المولود سنة 327 والمتوفى سنة 384،  في كتابه الفرج بعد الشدة قال بعد قصة رواها: وقد لقيت أبا عمر، وحملت منه شيئاً من علومه ورواياته، وأجاز لي كل ما صح منها، فدخل هذا في إجازته.
وأثنى على أبي عمر العلامة، شيخ العربية، أبو القاسم ابن برهان، عبد الواحد بن علي الحنبلي، المتوفى سنة 456 عن أكثر من 80 عاماً فقال: لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأزلين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر الزاهد، وله كتاب غريب الحديث صنفه على مسند أحمد بن حنبل. وكان ابن برهان صاحب أنس كبير بالحديث، فكان يستحسن جدا كتاب أبي عمر.
وأثنى على أبي عمر إمام العربية والأدب أبو منصور الأزهري، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، المولود بهراة سنة 282 والمتوفى سنة 370، قال في خاتمة كتابه تهذيب اللغة: وأما النوادر التى رواها أبو عمر الزاهد وأودعها كتابه فانى تأملتها، ولم أعثر منها على كلمة مصحفة، ولا لفظة مزالة عن وجهها، أو محرفة عن معناها، ووجدت معظم ما روى لابن الأعرابي وأبى عمر والشيبانى وأبى زيد وأبى عبيدة والأصمعى معروفا في الكتب التى رواها الثقات عنهم والنوادر المحفوظة لهم، ولا يخفى ذلك على من درس كتبهم وعنى بحفظها والتفقد لها.
ومع جلالة قدره وسعة علمه، كان أبو عمر الزاهد لا يتردد في الاستفادة من طلابه بما لا يعلم، ومن كتبه كتاب العشرات، وهو يتضمن الكلمات التي لها عشرة معان مختلفة، ومنها كلمة "حرد"، قال ابن خالويه: قلت له: وقد قيل في قوله عز وجل في سورة القلم ﴿وغدوا على حرد قادرين: اسم للقرية. فكتبها أبو عمر عني وأملاها في الياقوته.
بل كان أبو عمر يسأل عن معاني الكلمات بعيداً عن اللغة العربية، فقد روى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى في الكتب القديمة: أحمد ومحمد والماحي والمقفي ونبي الملاحم وحمطايا وفارقليطا وماذماذ. قال أبو عمر الزاهد: سألت بعض من أسلم من اليهود عن معنى حمطايا، فقال: معناه يحمي الحرم ويمنع الحرام.
ولهذه وأمثالها أحبه طلبة العلم، ولذا جاءه أبو العباس اليشكري، أحمد بن منصور، المتوفى نحو سنة 370، إلى مجلسه فأنشده قصيدة يمدحه فيها، منها:
أبو عمر يسمو من العلم مرتقى ... يزل مُساميه ويردى مُطاوِله
فلو أنني أقسمت ما كنت حانثاً ... بأن لم ير الراءون حبراً يعادله
هو الشخت جسماً والسمين فضيلة ... فأعجِب بمهزول سمان فضائله
تدفق بحراً بالمسائل زاخراً ... تغيب على من لجَّ فيه سواحله
إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجر حتى قلت هذي أوائله
عاش غلام ثعلب حياة تقشف وبساطة متفرغاً للعلم، وكان بتكسب من مقابلة الكتب بأصولها بعد أن يكتبها النساخ، فيصحح أغلاطها وسهوها، وقد ذكر ابن النديم في الفهرست أنه رأى بعض الكتب بخط عتيق بإصلاح أبي عمر الزاهد. وقد راجع أبو عمر تفسير ابن جرير الطبري، محمد بن جرير المولود سنة 225 والمتوفى سنة 310، فما وجد فيه خطأً، قال أبو عمر: أتيت أبا جعفر لأسأله عن تفسير آية، وقلت له: قابلت هذا الكتاب من أوله إلى آخره، فما وجدت فيه حرفاً واحداً خطأ في نحو ولا لغة. قال أبو جعفر: استخرت الله في عمل كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.
وكان إبراهيم بن أيوب بن ماسي، وهو والد أحد طلبة العلم ممن أخذ عن أبي عمر، ينفذ إلى أبي عمر وقتا بعد وقت شيئاً من النفقة تكفيه على تقشفه، فقطع ذلك عنه مدة لعذر، ثم أنفذ إليه كل ما كان في تأخر في إرساله، وكتب إليه يعتذر، فرد أبو عمر المال، وأمر أن يكتب على ظهر رقعته: أكرمتنا فملكتنا، ثم أعرضت عنا، فأرحتنا. وعلق الإمام الذهبي في السير على هذه القصة فقال: هو كما قال أبو عمر، لكنه لم يجمل في الرد، فإن كان قد ملكه بإحسانه القديم، فالتملك بحاله، وجبر التأخير بمجيئه جملة وباعتذاره، ولو أنه قال: وتركتنا فأعتقتنا، لكان أليق.
وكان أبو عمر الزاهد واسع الحفظ، حاضر الذاكرة، لم يُرَ أحفظ منه، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة، وجميع كتبه أملاها من حفظه، ولما كان هذا شيئاً أشبه بالخيال، فقد اتهمه بعض الناس بالكذب، وأنه ينشئ ما يقوله في الحال، وكانوا يقولون:  إن أبا عمر كان لو طار طائر لقال حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئاً. ولكن هذا الإمام الجليل كان بعيداً عن الكذب، وما له به حاجة؛ أما المجد فقد حاز مجد الدنيا في علمه، وأما المال فقد كان قانعاً زاهداً، وكيف يتردد في قول: لا أدري وقد روى عن شيخه ثعلب القصة التالية، قال رحمه الله: : كنت في مجلس أبي العباس ثعلب فسأله سائل عن شيء، فقال: لا أدري. فقال له: أتقول لا أدري، وإليك تضرب أكباد الإبل وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال أبو العباس: لو كان لأمك بعدد لا أدري بعرٌ لاستغنت.
وكثيراً ما كان بعض العلماء يتعجلون فيتهمون أبا عمر بالكذب ثم يتبين لهم أن ما قاله الصواب، وكان أبو عمر في شبيبته يؤدب ولد القاضي أبي عمر، محمد بن يوسف، فأملى يوماً على الغلام ثلاثين مسألة بشواهدها وأدلتها من لغة العرب، واستشهد على بعضها ببيتين غريبين جدا.
فحضر ابن دريد وأبو بكر ابن الأنباري وأبو بكر بن مقسم عند القاضي، وكلهم من أئمة اللغة، فعرض عليهم المسائل، فلم يعرفوا منها شيئا، وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي يطلب منهم مراجعتها: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن. وقال ابن مقسم: وأنا مشغول بالقراءات. وكان ابن دريد يشنأ أبا عمر الزاهد ويتعرض له بلسانه، فقال: هذه المسائل مما وضعه أبو عمر من عنده، ولا أصل لشئ منها في اللغة.
فلما جاء أبو عمر ذكر له القاضي ما قال ابن دريد عنه، فسأل القاضيَ إحضارَ دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم له، ففتح خزائنه، وأخرج تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر يعمد إلى كل مسألة، ويخرج لها شاهدا، ويعرضه على القاضي حتى تممها، ثم قال: والبيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبهما القاضي على ظهر الكتاب الفلاني، فأحضر القاضي الكتاب، فوجدهما، وانتهى الخبر إلى ابن دريد، فكف لسانه عن أبي عمر الزاهد وما ذكره بلفظة حتى مات.
وكان بعض طلبة العلم يحاول الإيقاع بأبي عمر الزاهد فيخترع لفظة ويسأله عنها فيجيب، ثم يسأله غيره بعد سنة، فيجيب بذات الجواب. قال بعض طلبة العلم في بغداد: كنا نجتاز على قنطرة الصراة نمضي إليه مع جماعة فتذاكروا كذبه، فقال بعضهم: أنا أصحف له القنطرة وأسأله عنها، فلما صرنا بين يديه قال له: أيها الشيخ، ما القبطرة عند العرب؟ فقال: كذا، وذكر شيئاً قد أُنسيته أنا، قال: فتضاحكنا وأتممنا المجلس وانصرفنا، فلما كان بعد أشهر ذكرنا الحديث فوضعنا رجلاً غير ذلك فسأله فقال، ما القبطرة فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا شهراً فقلت هي كذا؟ قال: فما درينا في أي الأمرين نعجب: في ذكائه إن كان علماً فهو اتساع ظريف، وإن كان كذباً عمله في الحال، ثم قد حفظه، فلما سئل عنه ذكر الوقت والمسألة فأجاب بذلك الجواب فهو أظرف.
وعيَّن معز الدولة البويهي مملوكاً تركياً يعرف بخواجا  على شرطة بغداد، فبلغ أبا عمر الخبر، وكان يُملي كتابه الياقوتة فلما جاءوه قال: اكتبوا ياقوتة: خواجا، الخواج في اللغة الجوع، ثم فرَّع على هذا باباً فأملاه، فاستعظم الناس ذلك، وتتبعوه، فقال أبو علي الحاتمي: أخرجنا في أمالي الحامض عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج الجوع.
ذكرنا قبل قليل أبا بكر ابن الأنباري، محمد بن القاسم، المولود سنة 371 والمتوفى سنة 328، وكان عالماً جليلاً متواضعاً زاهداً، وهو كذلك من تلاميذ ثعلب، قال مرة في اسم الشمس: "بوح" بالباء بنقطة من تحت، فرد عليه أبو عمر الزاهد، وقال: إنما هو "يوح" بالياء المعجمة بنقطتين من تحت، كذلك سمعته من أبي العباس ثعلب! فأبى أن يقبل منه، ثم أخرجا كتاب الشمس والقمر لأَبي حاتم السِّجستانيّ، فإذا الصحيح بنقطتين كما قال أبو عمر، والعالم من عدت سقطاته.
قال الوزير الكبير رئيس الرؤساء على بن الحسن المعروف بابن المسلمة، المولود سنة 397 والمتوفى سنة 450، وكان عالماً بالحديث واللغة: قد رأيت أشياء مما أنكروا على أبي عمر الزاهد مدونة في كتب أهل العلم.
ترك أبو عمر الزاهد كثيراً من المصنفات في اللغة والعربية، واستدرك على كتاب الفصيح لأستاذه ثعلب جزءاً لطيفاً، وكذلك على كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي المولود سنة 100 والمتوفى سنة 170،  وكتاب الجمهرة لمعاصره محمد بن الحسن ابن دريد، المولود سنة 223 والمتوفى سنة 321.  وعن كتبه ينقل كثير من أئمة اللغة في معاجمهم ومصنفاتهم.
وأشهر مصنفات أبي عمر كتاب الياقوت في اللغة، وأسماه كذلك لأن كل فائدة فيه بمثابة ياقوتة، وابتدأ بإملاء هذا الكتاب في أول سنة 326 بجامع المدينة ببغداد من غير كتاب أو أوراق، وراجع أبو عمر هذا الكتاب وأضاف إليه يواقيت ست مرات، فكأن له ست طبعات باصطلاحنا اليوم، وللطبعة الأخيرة قصة ينبغي إيرادها لبيان الضبط والتثبت لدى العلماء الأثبات: ذكر أبو الفتح عبيد الله بن أحمد المعروف بجخجخ، المولود سنة 286 والمتوفى سنة 358، وكان ثقة بحاثة منقباً صحيح الكتاب: كان أبو عمر محمد بن عبد الواحد، صاحب أبى العباس ثعلب، ابتدأ بإملاء هذا الكتاب، كتاب الياقوت، يوم الخميس لليلة بقيت من المحرم سنة 326 في جامع المدينة، مدينة أبى جعفر، ارتجالا من غير كتاب ولا دستور، فمضى في الإملاء مجلسا مجلسا إلى أن انتهى إلى آخره، وكتبتُ ما أملاه مجلسا مجلسا.
ثم رأى أبو عمر أن يزيد فيه، فزاد فيه أضعاف ما أملى، وارتجل يواقيت أُخر، واختص بهذه الزيادة أبو محمد الصفار، لملازمة وتكرير قراءته لهذا الكتاب على أبى عمر، فأُخِذت الزيادات منه، ثم جُمِعَ الناسُ على قراءة أبى إسحاق الطبري له، فسمى هذه القراءة: الفذلكة، فقرأ عليه وسمعه الناس، ثم زاد فيه بعد ذلك فجمعتُ أنا في كتابي الزيادات كلها، وبدأتُ بقراءة الكتاب عليه يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذى القعدة سنة 329، إلى ان فرغت منه في شهر ربيع الآخر سنة 331. وحضرت النسخ كلها عند قراءتي؛ نسخة أبي إسحاق الطبري ونسخة أبى محمد بن سعد القطربلى ونسخة أبى محمد الصفار، ثم ارتجل أبو عمر بعد ذلك يواقيت أخر وزيادات في أضعاف الكتاب، واختص بهذه الزيادة أبو محمد وهب لملازمته، ثم جمع الناس ووعدهم بعرض أبى إسحاق الطبري عليه هذا الكتاب، وتكون آخر عرضة يتقرر عليه الكتاب، فلا يكون بعدها زيادة.
واجتمع الناس يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الاولى من سنة 331 في منزله بحضرة سكة ابى العنبر، فأملى على الناس ما نسخته: قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد: هذه العرضة هي التى تفرد بها أبو إسحاق الطبري، آخر عرضة أسمعها بعده، فمن روى عنى في هذه النسخة هذه العرضة حرفا واحدا ليس من قولى فهو كذاب على، وهى من الساعة إلى الساعة من قراءة أبى إسحاق على سائر الناس، وأنا أسمعها حرفا حرفا.
ومن الطريف أنه لما انتهى من كتابه ختمه بقوله:
لما فرغت من نظام الجوهرة ... أعورت العين ومات الجمهرة
ووقف الفصيح عند القنطرة
وهو هنا يشير إلى تفوق كتابه على كتاب العين للخليل بن أحمد،  والجمهرة لابن دريد، وكتاب الفصيح لأستاذه ثعلب.
كان يقول: ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضاء حقوقهم رِفعة، فاحمدوا الله على ذلك وسارعوا في قضاء حوائجهم ومسارِّهم؛ تُكافأوا عليه.
وكان ينشد:
لن يبلغ العز أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويُشتَموا فترى الألوان مشرقة ... لا عفو ذل ولكن عفو أحلام
كان أبو عمر الزاهد متواضعاً للطلبة والفقراء، يرد التحية بأحسن منها، قال رجلٌ له: أنت والله عين الدّنيا، فقال: وأنت بؤبؤ تلك العين. ودخل عليه أحدهم فقام له، ثم  أنشأ يقول:
لا تراني أبداً أكرم ذا مال لماله
لا ولا يزري بمن ... يعقل عندي سوءُ حاله
إنما أقضي على ذاك وهذا بفعاله
وكان أبو عمر الزاهد إذا رأى من تلميذ هفوة عالجها بالتلميح اللطيف، ومن أدب المجالس ألا يبادر الإنسان بالجواب إذا سئل غيره، قال ابن بطة العكبري: كنت عند أبي عمر الزاهد فسئل عن مسألة، فبادرت أنا فأجبت السائل، فالتفت إليّ فقال لي: تعرف الفضوليات المنتقبات؟ يعني: أنت فضولي فأخجلني.
كان أبو عمر الزاهد على صلة دائمة بربه، اعتل مرة ليلة واحدة ثم أبل من مرضه، فسأله تلامذته عن مرضه القصير، فقال: عرف الله ضعفي فرفق بي. ونختم هنا بأبيات نظمها أبو عمر رحمه الله في اللجوء لله وسؤاله الهداية والوقاية، وألا يتكل الإنسان على نفسه ورأيه وحيلته:
إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا رأي وعقل وبصر
وحيلة يفعلها في دفع ما ... يأتي به محتوم أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله ... وسل منه ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر
أين المعتبر؟
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer