الأحد، 14 يوليو 2013

حدث في الخامس من رمضان


في الخامس من رمضان من سنة 223 وصلت طلائع جيش المعتصم إلى عمورية، وفيما يلي عرض لمقدمات المعركة ونهايتها، أغلبه مأخوذ من ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية:

وفي هذه السنة أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل Theophilus بأهل مَلَطْية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يُحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات، ومثّل بمن وقع في أسره من المسلمين، فقطع آذانهم وأنوفهم، وسمل أعينهم، قبحه الله.

وكان سبب ذلك أن بابك الخرمي لما أُحيط به في مدينة البَذّ واستوسقت الجيوش حوله، كتب إلى ملك الروم يقول له: إن ملك العرب قد جهز إليَّ جمهور جيشه، ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظها، فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعا إلى ما حولك من بلاده فخذها فإنك لا تجد أحداً يمانعك عنها.

فركب توفيل بمئة ألف، وانضاف إليه المُجَمِّرة - قومٌ يصبرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أَحداً ولا ينضمون إِلى أَحد - الذين كانوا قد خرجوا في الجبال وقاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فلم يقدر عليهم لأنهم تحصنوا بتلك الجبال، فلما قدم ملك الروم صاروا معه على المسلمين، فبلغ زِبَطْرة فقتل من بها من الرجال، وسبى الذرية والنساء، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين، وسبى المسلمات، ومثّل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم، وقطع أنوفهم وآذانهم، فضج الناس في الأمصار واستغاثوا في المساجد والديار، ودخل إبراهيم بن المهدي على المعتصم فأنشده قصيدة طويلة منها:

يا غيرة الله قد عاينت فانتقمي ... تلك النساء وما منهن يرتكب
هَبِ الرجالُ على إجرامها قُتلت ... ما بال أطفالها بالذبح تنُتهب

فانزعج المعتصم لذلك جداً،  وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم: وامعتصماه!! فأجابها - وهو على سريره - لبيك لبيك، وصرخ في قصره بالنفير، ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش، واستدعى القاضي والشهود فأشهدهم أن ما يملكه من الضياع ثلثه صدقة وثلثه لولده وثلثه لمواليه.

وخرج من بغداد وقد تعمم بعمامة الغُزَاة فعسكر غربي دجلة يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الاولى ووجه بين يديه عجيفاً وطائفة من الأمراء ومعهم خلق من الجيش إعانة لأهل زبطرة، فأسرعوا السير فوجدوا ملك الروم قد فعل ما فعل وانشمر راجعا إلى بلاده، وتفارط الحال ولم يمكن الاستدراك فيه، فرجعوا إلى الخليفة لإعلامه بما وقع من الأمر، فقال للأمراء: أي بلاد الروم أمنع؟ قالوا: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية. وعمورية اليوم هي حصاركوي Hisarkoy قرب بلدة إميرداغ Emirdag في محافظة Afionkarahisar.

ولما تفرغ المعتصم من بابك وقتله وأخذ بلاده استدعى بالجيوش إلى بين يديه وتجهز جَهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله، وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وبعث الأفشين حيدر بن كاوس من ناحية سَرُوج، وعبأ جيوشه تعبئة لم يسمع بمثلها، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب، فانتهى في سيره إلى نهر اللمس وهو قريب من طرسوس، وذلك في رجب من سنة 223.

وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ، ودخل الأفشين بلاد الروم من ناحية أخرى، فجاؤوا في أثره وضاق ذرعه فهو إن هو ناجز الخليفة جاءه الأفشين من خلفه فالتقيا عليه فيهلك، وإن اشتغل بأحدهما وترك الآخر أخذه من خلفه.

وفرق المعتصم جيشه ثلاث فرق فالميمنة عليها الافشين، والميسرة عليها أشناس، والمعتصم في القلب، وبين كل عسكرين فرسخان، وأمر كل أمير من الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوه وخربوه وأسروا وغنموا، وسار بهم كذلك قاصدا إلى عمورية، وكان بينها وبين مدينة أنقرة سبع مراحل، فأول من وصل إليها من الجيش أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة، فدار حولها دورة ثم نزل على ميلين منها، ثم قدم المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده، فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها، وقد تحصن أهلها تحصناً شديداً وملأوا أبراجها بالرجال والسلاح، وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة، وأميرها مناطس نائب الملك.

وقسم المعتصم الأبراج على الأمراء، فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين، وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام، وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء ضعيفاً بلا أساس، فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئا، وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ، فضاقت الروم ذرعا بذلك، وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب.

ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غَنَما كثيراً جداً ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأساً ويجئ بملء جلده ترابا فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طُرح فيه من الأغنام ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك.

وبينما الناس في الجسر المردوم، إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة، فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور. ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا.

وقوي الحصار وقد وكّلت الرومُ بكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه، فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، فذهب إلى مناطس فسأله نجدة، فامتنع أحدٌ من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون في حفظه.

فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به، فلما وصل إليه أمَرَ المعتصمُ المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثُغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهراً وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه مناطس في حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن، فناداه المنادي: ويحك يا مناطس! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك. فقالوا: ليس بمناطس ههنا، مرتين. فغضب المعتصم من ذلك وولى، فنادى مناطس: هذا مناطس! هذا مناطس! فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له: ويحك انزل على حكم أمير المؤمنين، فتمنع ثم نزل متقلدا سيفاً فوضع السيف في عنقه، ثم جئ به حتى أوقف بين يدي المعتصم، فضربه بالسوط على رأسه، ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهاناً إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل، فأوثق هناك، وأخذه المعتصم معه أسيراً فاعتقله بسامراء حتى مات سنة 224.

وأخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف، فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المنجانيقات والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شئ من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة، وكانت إقامته على عمورية خمسة وعشرين يوماً، وكان على باب مدينتها باب عظيم الحجم  له مصراعان من الحديد مفرطا الطول والعرض، فأحضره إلى بغداد، وهو الآن على أحد أبواب دار الخلافة يسمى باب العامة، وكان قد صحبه أبو تمام الطائي فمدحه بقصيدته البائية التي أولها:

السيف أصدق أنباءً من الكتب... في حده الحد بين الجد واللعب

وفيها يقول للمعتصم، وكان عمره يومها 45 عاماً وتوفي بعدها بثلاث سنين:

خليفة الله! جازى الله سعيك عن... جرثومة الدين والإسلام والحسب
بصُرتَ بالراحةِ الكبرى فلم ترها... تنال إلا على جسرٍ من التعب
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer