الأربعاء، 10 يوليو 2013

حدث في الأول من رمضان


في يوم السبت الأول من رمضان عام 245 باشرت أم البنين فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهرية القيروانية، المتوفاة حوالي سنة 265، في تأسيس جامع القَرويين بفاس، فشرعت في حفر أساسه، وحفرت فيه بئراً لا تزال إلى الآن.

وكان طول المسجد من حائطه الغربي إلى الحائط الشرقي 150 شبرا - نحو 35 مترا - ثم إنه زيد في بنائه فيما بعد على أيدي الملوك المتعاقبين، وبني المسجد في عهد الملك يحيى الإدريسي، يحيى بن محمد بن إدريس بن إدريس الحسني المتوفى سنة 250، وكان محبا للعمران، بنى بفاس حمامات وفنادق وأقبل أهلها على البناء في عهده، وقصدت من الأندلس وإفريقية وسائر بلاد المغرب، فضاقت بسكانها، فبنيت الأرباض - الضواحي - بخارجها.

وكانت فاطمة رحمها الله قد انتقلت قبل سنوات إلى فاس في المغرب من القيروان في تونس، وسكنت مع أبيها وأخوات لها في عُدْوة القرويين، قرب أرض بيضاء كان يصنع بها الجص، ثم ورثت من أبيها أو من زوجها وأخت لها مالاً، فاشترت هذه الأرض لبناء مسجد عليها،  وظلت صائمة طول المدة التي قضتها في بناء الجامع.

ونُقلت إلى القرويين الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته، وتعاقبت أعمال التوسعة والتجديد على الجامع، فاختط بعد ذلك أمير فاس أحمد بن سعيد بن أبى بكر اليَفْرني صومعته سنة 345 على رأس مئة سنة من اختطاط الجامع، حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها، ثم أوسع في خطته أمير الأندلس المنصور بن أبى عامر وجلب إليه الماء وأعد له سقاية متقنة البناء ملاصقة له، ماؤها من الوادي، وجلب لها ماء عين هو في أيام الحر في نهاية البرد، وفي أيام البرد فيه بعض الحرارة، وكذلك صنع بجوفيّ جامع القرويين سقاية متقنة البناء ومياه جارية مع عتبة الباب الجوفي، ونافورة مرتفعة نصف قامة داخل الصحن، وبقيت ملوك المغرب تتعهد الجامع بالتوسعة والخدمة إلى يومنا هذا.

وكانت للجامع في القرن الثامن ثُريا تحتوي على نحو ألف كاس من زجاج، وكان الشيخ عبد الرحمن بن حسن القروي الفاسي مع أبي القاسم الزياني بجامع القرويين ليلة سبع وعشرين من رمضان، فدخل عليهم ابن عبدون المكناسي، فتلقاه الزياني وتأيَّده، وتوجهوا إلى الثريا بالقرويين وقد أوقدت، وهي تحتوي على نحو ألف كاس من الزجاج، فأنشد الزياني:

أنظر إلى نارية نورها             يصدع بالألإ حجب الغسق
فقال ابن عبدون:
كأنها في شكلها زهرة           انتظم النور بها فاتسق
وحُكِيت القصةُ للأديب الشهير أبي الحكم مالك بن المرحل، فقال: لو حضرت أنا لقلت:
أعيذها من شر ما يتقى                       من فجأة العين برب الفلق

ويعد جامع القرويّين من أقدم الجامعات في العالم، وله تقاليد عريقة في قبول الطلبة وترقية المدرسين، وتخرج منه آلاف مؤلفة من علماء وفضلاء المغرب، وظلت هذه الجامعة تقوم بدورها التعليمي منذ إنشائها إلى زماننا هذا، وهي من أهم محاضن الفقه المالكي، وتحتوي على مكتبة ثرية من المخطوطات القيمة النادرة وقفها عليها ملوك المغرب ومحسنيه، بل جلبوا بعضها من الأندلس، كما فعل المولى إسماعيل الذي أرسل وزيره محمد بن عبد الوهاب الغساني الأندلسي الفاسي سنة 1102 في سفارة إلى ملك إسبانية كارلوس الثاني لغايتين: تخليص الأسرى المسلمين الذين كانوا لدى الأسبان، وجلب ما بقي في الأندلس من الكتب العربية، وأقام الغساني ثمانية أشهر وضع على أثرها كتابه رحلة الوزير في افتكاك الأسير. وفي خزانة جامع القرويين بمدينة فاس مجموعة ثمينة من المخطوطات العربية الإسلامية.

وللقرويين تاريخ مشرف في إرساء التقاليد الإسلامية في المغرب وفي مقاومة الاستعمار الفرنسي، ومن خريجيها محمد بن عبد الكريم الريفي الخطابي زعيم الثورة الريفية المعروفة باسمه في شمالي المغرب، وانطلقت منها سنة 1934 م أكبر التظاهرات ضد مخططات فرنسا لفصل البربر عن الإسلام من خلال الظهير البربري، الذي نصّ على أن يتقاضوا وفقاً لتقاليدهم بدلاً عن الشريعة الإسلامية.

أما مدينة فاس فبُنيت سنة 192 في ولاية المولى إدريس بن إدريس، المتوفى سنة 213 عن 38 عاماً، عندما اختط عدوةَ الأندلسيين في شرقها وأنزل بها من هاجر من قرطبة من العلماء وأهل هرباً من تنكيل الحكم بن هشام الأموي الأندلسي، ثم اختط في العام التالي عدوة القرويين في الغرب لإقامته مع مهاجرين من أهل القيروان، سموا بالقَرويين ميلاً للتخفيف.

اتخذ إدريس فاس عاصمة له، وازدهرت في عهد حفيده يحيى الإدريسي (234- 250) وكان محباً للعمران، فبنى بفاس حمامات وفنادق للتجار، وأقبل أهلها على البناء في عهده، وقُصدت من الأندلس وإفريقية وسائر بلاد المغرب، فضاقت بسكانها، فبنيت الأرباض (الضواحي) بخارجها، وبقيت فاس عاصمة المغرب وأجل مُدُنه حتى احتل الفرنسيون المغرب في عام 1912م، وهي اليوم ثالث مدن المغرب.

قال الجغرافيون العرب عن فاس:
فاس مختطة بين ثنيتين عظيمتين، وهي مدينتان مفترقتان مسورتان: عدوة القَرويين وعدوة الأندلسيين، بينهما نهر كبير يسمى وادي فاس، يأتي من عيون تسمى عيون صنهاجة، وفي كل زقاق ساقية يجرونها متى شاءوا، وفي كل دار صغيرة كانت أو كبيرة ساقية ماء، وبالمدينتين اكثر من ثلاثمئة رحىً وبها نحو عشرين حماماً وهي أكثر بلاد المغرب يهوداً يختلفون منها إلى جميع الآفاق، ويسكن حولها قبائل من البربر، لكنهم يتكلمون بالعربية، وإليها تشد الركائب وتقصد القوافل، وتجلب إلى حضرتها كل غريبة من الثياب والبضائع والأمتعة، وأهلها مياسير ولها من كل شيء حسن أوفر حظ.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer