الجمعة، 27 مارس 2015

حدث في الخامس من جمادى الآخرة

في الخامس من جمادى الآخرة من سنة 1286، الموافق 12 أيلول/سبتمبر 1869، ولد في روما المستشرق الإيطالي لْيونِهْ كايتاني، أو كيتاني، Leone Caetani، مؤسس المدرسة الاستشراقية الجديدة في إيطاليا، وأحد المؤلفين المكثرين في التاريخ الإسلامي وبخاصة باللغة الإيطالية. ومعنى لْيونِهْ بالإيطالية: الأسد.
ولد كايتاني لعائلة من أعرق العائلات الإيطالية النبيلة الثرية، ويعود أصل العائلة واسمها إلى بلدة جاييتا Gaeta الواقعة على البحر المتوسط شمال نابولي، وينتمي إلى عائلته اثنان من من البابوات السابقين، هما البابا جيلاسيوس الثاني الذي تولى البابوية فترة شهور قصيرة قبل موته في سنة 512=1119م، والبابا بونيفاسه الثامن، واسمه بندكيت كايتاني، الذي تولى البابوية من سنة 693=1294 إلى موته في سنة 703=1303، وكان له دور في توطيد مكانة العائلة وثروتها، فقد كان البابا في تلك الحقبة ملكاً دنيوياً وزعيماً روحياً، فعين أفراد عائلته في الجيش وبعض مناصب الدولة، ومنحهم من الإقطاعات ما ينتاسب مع هذه المناصب، كما تسنم بعدها عدد من أفراد الأسرة مناصب هامة في روما والدولة الإيطالية في القرنين الماضيين، وعُرفوا برعايتهم للأدب والفن، وكانت عمته إرسيليا أول امرأة تنال عضوية الأكاديمية الإيطالية، وللعائلة عدة مؤسسات ثقافية في إيطاليا إلى يومنا هذا منها قلعة من القرون الوسطى وحديقة تخلب الألباب.
وكان والده أُنوراتو، المولود في سنة 1842 والمتوفى سنة 1917، يلقب بأمير تيانو الرابع ودوق سيرمونيتا الرابع عشر، وكان وزير خارجية إيطاليا وعضواً في مجلس النواب الإيطالي وانتخب كذلك عمدة لروما، وكان الرئيس الثاني للجمعية الجغرافية الإيطالية، أما أمه فهي ابنة أسرة إنجليزية نبيلة تزوجها والده أثناء إقامة طويلة له في إنجلترا، وكان ليونه أول أولاد خمسة لوالده، فورث عنه اسم الأمير ولقبه الرسمي: دوق سيرمونيتا، وصار أخوه ليفيو سفير إيطاليا في إيران وأخوه جيلازيو سفيرها في أمريكا.
توجه كايتاني لدراسة اللغات الشرقية في سن الخامسة عشرة، ثم تابع ذلك في قسم الآداب من جامعة روما فدرس العربية والعبرية والفارسية والسنسكريتية والسريانية، على يد شيخ المستشرقين المعمَّر إغنازيو جويدي، المولود سنة 1260= 1844 والمتوفى سنة 1354=1935،  وتخرج من قسم الآداب من جامعة روما في سنة 1891، وقام وهو لا يزال طالباً بأولى رحلاته فزار في سنة 1889- 1889 مصر واتجه جنوباً حتى خزانات النيل ثم دخل شبه جزيرة سيناء وزار دير القديسة كاترينا، وعرج في عودته على إزمير فاستانبول فاليونان، وكتب عن رحلته إليها كتاباً صغيراً نشره في سنة 1891 بعنوان: في صحراء سيناء، ثم قام برحلة في آخر سنة 1889 إلى الجزائر وتونس وزار فيها مع دليلين مسلمين من البربر وهران وتلمسان ودخل الصحراء الجزائرية حتى وصل بسكرة وتقرت، ومنها إلى تونس وطرابلس، وفي سنة 1894 قام برحلة ثالثة بدأت من القاهرة فالقدس ثم شكّل قافلته الصغيرة فسافر من القدس إلى دمشق فتدمر فدير الزور، ثم زار اليزيدين في جبل سنجار قرب الموصل ثم عرج على النجف وكربلاء، ثم تابع إلى إيران فزار أهم المدن الإيرانية، ومنها عبر إلى روسيا وعاد منها براً إلى إيطاليا. وفي سنتي 1899-1900 قام كايتاني برحلة في الهند دامت 6 أشهر زار فيها مدنها ومعالمها الإسلامية، وشارك في الصيد بالفهود التي كانت لا تزال باقية في بعض المناطق، وفيها رأى لأول مرة من يفوقه في طوله البالغ 194سم، وفي سنة 1908 قام برحلة إلى مصر والشام دامت بضعة أسابيع زار فيها مواقع المعارك الإسلامية الفاصلة مثل المتعلقة بفتوح مصر والشام مثل أجنادين واليرموك ودمشق.
تزوج كايتاني في سنة 1901 من السيدة فيكتوريا كولونّا التي تنتمي لأسرة رومانية عريقة أخرى، ولكن الزواج لم يكن ناجحاً لاختلاف المزاج بين الباحث المحب للوحدة والذي يدفن نفسه في مكتبته ويأنس بكتبه وأبحاثه، وبين سيدة المجتمع المرموقة التي لا تتخلف عن الحفلات والمناسبات الاجتماعية، ولم ينجبا إلا ولداً وحيداً ذا إعاقة فكرية أرسل إلى مدرسة داخلية في سويسرا ثم توفي بعد العاشرة، ولذا أخفق هذا الزواج، وعاشر كايتاني امرأة أخرى هي أوفيليا فابياني،  وجاءته منها في سنة 1917 ابنته التي أسماها ﺳْﭭْﻴﭭا، وكان من المستحيل آنذاك أن يطلق كايتاني زوجته ويتزوج أوفيليا، كما كان من المستحيل أن تحمل ابنته اسم عائلته، فقد كان المجتمع الإيطالي ملتزماً أشد الالتزام بالتعاليم الكاثوليكية التي تحرم الطلاق، وقد قال عن ذلك كايتاني فيما بعد في رسالة أرسلها إلى صديقه ديلافيدا فقال: لقد اخترت زوجة ليس لديها أية اهتمام بدراساتي التي هي محور تفكيري، ولذا لم تقدم لي من الحياة سوى الحزن والصعوبات. وانتقد النظام الاجتماعي فقال: ولدت بنيتي في ظروف بتعامل معها قانون الأسرة بنفاق شديد القسوة.
وسار كايتاني على نهج أسرته فخاض غمار السياسة وانتمى للحزب الديمقراطي الدستوري، وانتخب نائباً عن روما في البرلمان الإيطالي في سنوات 1909-1913،  وتبدت ميوله الحرة، والتي نبزت بالاشتراكية آنذاك، عندما قامت حكومة رئيس الوزراء جيوليتي بغزو ليبيا في سنة 1911، فقد كان أحد نائبين عبرا عن معارضتهما الصريحة للحرب، ورغم أن إحدى نظريات كايتاني كانت نظرية تقوم على أن الإسلام كان الرد الآسيوي على هيمنة الحضارة الأوربية القائمة على أسس إغريقية رومانية، إلا أنه كان يرى أنه يجب إقامة علاقة حسنة مع العالم الإسلامي، وأن تطور العالم الإسلامي ينبغي أن يكون تطوراً ذاتياً غير مفروض عليه.
واعتبرت الطبقات العريقة تشبيه كايتاني لغزو ليبيا باللصوصية المسلحة خيانة للوطن وعاراً عليها، وتهكم عليه بعض السفهاء من السياسيين فنبزوه بأنه النائب التركي في البرلمان الإيطالي، وبسبب ذلك لم ينجح في انتخابات البرلمان في الدورة التالية، ولم يمنع هذا كايتاني من التطوع في الجيش عندما دخلت إيطاليا الحرب العالمية الأولى في سنة 1915، وخدم في سلاح المدفعية على الجبهة النمساوية في جبال الدولوميت حتى وضعت الحرب أوزارها في سنة 1918.
كان كايتاني عالماً ذا همة عالية ودأب لا ينقطع، موسوعياً مولعاً بالمشاريع الضخمة، وقد خلد ذكره كتابه العظيم: حوليات الإسلام، Annali dell' Islam، الذي صدرت منه 10 مجلدات تغطي السيرة وحياة الخلفاء الراشدين مرتبة على السنوات من السنة الأولى للهجرة إلى سنة 40 للهجرة، وتعد قرابة 5000 صفحة، وكان في مخططه أن يستمر فيها حتى انتهاء الحقبة الأموية في سنة 132، وقدر أن تبلغ 25 مجلداً، والكتاب مزين بالرسوم والخرائط، واستقصى فيه كايتاني ما توفر لديه من المصادر العربية وقارنها بما وصل إليه من المصادر اللاتينية والسريانية، ليصل وفق اجتهاده إلى الحقائق التاريخية أو يقترب منها، وكان يرسل مسودات الطبع إلى عدد من المختصين بالتاريخ ليتفضلوا عليه باقتراحاتهم وملاحظاتهم، وهو في هذا كله ينفق من ماله الخاص، وقد صدر الجزء الأول من الحوليات في سنة 1904، وطبع منه 300 نسخة فقط، وصدر العاشر في سنة 1926، ولكن كايتاني ألفها كلها قبل سنة 1915.
ويبدو أن فكرة تصنيف هذا الكتاب راودت كايتاني منذ سن الدراسة، فجمع منذ ذلك الوقت مكتبة واسعة حول تاريخ الإسلام، وكان في رحلاته يتوخى الوقوف على المواقع التاريخية، فهو مثلاً قد زار مكان موقعتي اليرموك وأجنادين، وتولى كايتاني العمل في كتابه بمفرده في البداية ثم استعان بثلاثة من أمهر دارسي العربية والذين أصبحوا فيما بعد من كبار المستشرقين الإيطاليين، وهم: ميكلنجلو جويدي، المولود سنة 1886 والمتوفى سنة 1940، وجورجيو ليفي دلافيدا، المولود سنة 1886 والمتوفى سنة 1967، وجوزبّه جابريلّي، المولود سنة 1872 والمتوفى سنة 1942، وكلفهم بترجمة بعض المصادر العربية التي احتاج إليها في تآليفه، ولم يكن لهم أي دور في تحرير كتابه.
ولما صدر الكتاب وأحدث وقعاً كبيراً في إيطاليا وخارجها، روج بعض المغرضين إشاعة أن الكتاب من تأليف هؤلاء المساكين الذين استغلهم الأمير الثري ثم وضع اسمه على الكتاب، ولعل للأيدي الفاشية دوراً في ذلك، فقام كايتاني برفع الأمر للقضاء، فشهد هؤلاء الثلاثة أنهم لم يكتبوا كلمة واحدة في تحرير الكتاب، وأن عملهم اقتصر على ترجمة ما كلفهم به كايتاني من نصوص من العربية إلى الإيطالية، وصدر حكم القضاء مؤكداً أن الكتاب من تأليف كايتاني فهو وحده الذي قام بنقد المصادر التاريخية وتصوير الأحداث وتحقيق الوثائق وتحليل المواقف.
وهنا ننقل بتصرف عن كتاب موسوعة المستشرقين للمرحوم الدكتور عبد الرحمن بدوي، المولود سنة 1335=1917 والمتوفى سنة 1323=2002، تقييمه لهذا الكتاب الضخم، يقول: ينزع كايتاني نزعة نقدية مفرطة تتسم بالشك المبالغ فيه أحياناً في قبول وثائق التاريخ الإسلامي، ويهمل الجانب الديني تماماً مع إبراز العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، ولم يحسب أي حساب لتأثير الإيمان بالدين الجديد في نفوس العرب الفاتحين، ولا في تفسير نفوذه أولاً في الجزيرة العربية نفسها.
ثم يقول الدكتور بدوى مبيناً ميزة الكتاب الكبيرة في حينها والنقلة الكبيرة التي أحدثها في منهج دراسة وكتابة التاريخ الإسلامي لدى المستشرقين، وأنه يمثل من أحد جوانبه رد الاعتبار للدين الإسلامي ورسوله، بعد قرون من استصغار الإسلام والتهجم على رسوله الكريم،: والروح النقدية التي سادت نظرة كايتاني إلى السيرة النبوية وأولية الإسلام لم تصدر عن تحامل على الإسلام كما هو الحال عند كثير من المستشرقين، بل عن نزعة وضعية في معالجة أحداث التاريخ على النحو الذي صار شائعاً عند المؤرخين ذوي النزعة العلمية الوضعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ونورد مثالاً على النزعة الوضعية ما كتبه في تحليله لحركة الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صنف القبائل العربية من حيث علاقتها بالردة إلى خمسة أصناف، فوضع في الصنف الأول القبائل التي أسلمت منذ مدة طويلة وخضعت لسلطة المدينة خضوعاً تاماً، ووضع في الصنف الثاني القبائل التي تعاقدت مع الرسول واشتركت في المدة الأخيرة في حروبه وقد كان فيها على إسلامها أقلية مختلفة تنتهز الفرص للتملص من سلطة المدينة، ووضع في الصنف الثالث القبائل الساكنة على حدود المملكة الإسلامية، فخضعت هذه القبائل سياسياً لسلطة المدينة، ودفعت الصدقات إلى الرسول، وفيها أكثرية تتحين الفرص للرجوع إلى حالتها القديمة، ووضع في الصنف الرابع القبائل التي لم تخضع لسلطة المدينة، بل اكتفت بإرسال الوفود إلى الرسول وتظاهرت بالخضوع له، وفيها أقلية مسلمة ضئيلة تستند إلى قوة المسلمين في المدينة للاحتفاظ بمنزلتها، وأوفد الرسول إليها عمالاً ليمثلوا الإسلام، وليعلموا المسلمين أمور الدين، ويمثلها بنو حنيفة وعبد القيس وأزد عمان وأكثر قبائل حضرموت واليمن، أما القبائل التي وضعها في الصنف الخامس فهي القبائل التي لم تسلم وكانت نصرانية أو مشركة.
قال المرحوم الفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراقي، بعد أن أورد ما سبق: ولكني لا أجاري المؤرخ الطلياني في تصنيفه هذا؛ فلم يكن تأثير الردة في القبائل على نمط واحد، بل كان الأثر يختلف باختلاف العوامل، والواقع أن الرسول لم يمت إلا وقد ظهرت حركة الردة في القبائل، فمنها من طلب إعفاءه من إعطاء الزكاة، ومنها من امتنع من إعطائها، ومنها من قدّم رِجْلاً وأخّر أخرى في ذلك فأمسك عن الصدقة، وأخيراً منها من ارتد وطرد عمال الرسول أو قتل المسلمين ومثل بهم.
وكان المشروع الثاني لكايتاني هو كتابة تاريخ موجز للإسلام منذ السنة الأولى للهجرة وحتى سنة 922 التي استولى فيها الأتراك العثمانيون على مصر، ولكن لم تظهر منه غير ست كراسات تبدأ في سنة الهجرة وتنتهي في سنة 144.
والمشروع الثالث لكايتاني كان تصنيف معجم الأعلام العربية، وهو معجم أبجدي لأسماء الأشخاص والأماكن المذكورة في كتب التاريخ والتراجم والبلدان، وقد عاونه في هذا العمل المستشرق جوزيِه جابريلّي، ولم يصدر منه سوى مجلدين: المقدمة بقلم جابريلّي ومجلد فيه قسمين من حرف الألف.
والمشروع الرابع لكايتاني خارج عن نطاق الإسلام والعالم الإسلامي وكان يهدف إلى وضع معجم شامل للمؤلفين الإيطاليين ومؤلفاتهم، ولم يصدر منه إلا مجلد واحد وصل فيه إلى أول حرف الباء.
وإلى جانب هذه المشاريع نشر الأمير كايتاني جزءاً من كتاب تجارب الأمم لمسكويه، في شكل صور عن المخطوطة الموجودة في حوزته، ولكنه صدّره بمقدمات مفيدة وذيله بفهرس واسع وهو أمر لم يكن مألوفا في ذلك الوقت، ونشرت الكتاب مبرة جيب الخيرية في سنة 1910 التي أنشأتها والدة المستشرق إلياس جيب تخليداً لذكرى ابنها المتوفى سنة 1901 عن 44 سنة.
جمع كايتاني مكتبة زاخرة بالكتب النفيسة وبالمخطوطات ومصوراتها النادرة، وأضاف إليها ما استنسخه من مكتبة المستشرق الأسباني الأب آسين بلاثيوس، ويذكر الأستاذ الزركلي عدداً من المخطوطات التي حوتها، ولا أدري هل زار مؤسسة كايتاني التي تحويها واطلع عليها، أم نقل ذلك عن غيره، وقد زار كايتاني في سنة 1913 الأستاذ محمد كرد علي ومكث في ضيافته بضعة أيام وضع الأمير تحت تصرفه مكتبته ولم يمنعه من تصوير أو استنساخ ما يريد من كتاب أو مخطوط، وقال عنها في المقتبس: فمن زار هذه المكتبة فكأنه زار مكاتب العالم أجمع واطلع على ما فيها من المواد التاريخية والجغرافية في هذا الباب.
ويقول الأستاذ محمد كرد علي عن كايتاني: والأمير على ما رزق من الشهرة العلمية لجمعه بين المجد التالد والطارف رقيق الحاشية يغلب عليه عدم التكلف، ولما قابلته لأول مرة حاملا إليه من صديقه أحمد زكي باشا العالم المصري كتاب توصية ليقبلني للبحث في مكتبته، اعتذر عن كونه قابلني بثياب عمله، وقال إن عنده شيئا من المخطوطات العربية أخذت بالتصوير الشمسي ولا يدري إن كان فيها حاجتي، على أنه تفضل ودلني على مظانها، وما برح اليوم بعد الأخر يشير علي بالرجوع إلى كتاب كذا ففيه كذا وهو يبش، ويقول في الأحايين إنه مسرور لعثوري على شذرات تهمني، كل هذا وهو لا يضيع دقيقة من وقته الثمين.
وفي آخر سنة 1922 جرت الانتخابات في إيطاليا وأتت نتائجها بموسوليني ليصبح وهو في التاسعة والثلاثين أصغر رئيس وزراء عرفته لحينها إيطاليا، واستغل موسوليني شعبيته العارمة فوطد نزعته الدكتاتورية بتمرير قوانين تمنحه صلاحيات واسعة وتحد من الحريات العامة، وأطلق العنان لسفهاء حزبه لإرهاب معارضيه، ثم أجرى في سنة 1924 انتخابات ثانية سادها التزوير فصار الحاكم الأوحد الذي لا يجرؤ على معارضته أحد.
وحيث كان كايتاني من أعداء النظام الفاشستي الذين جاهروه بعدائهم، فقد قلق كايتاني على مصيره ومصير مكتبته الغنية إزاء نظام تقوده القسوة الغوغائية والحقد على الأحرار، وكانت الأكاديمية الإيطالية، وتدعى أكاديمية لنشاي Academia dei Lincei، قد اختارته عضوا مراسلاً لها في سنة 1911 ثم عضواً كاملاً في سنة 1919، ولذا ارتأى كايتاني أن ينقذ مكتبته بإهدائها للأكاديمية لتكون نواة لمؤسسة كايتاني للدراسات الإسلامية، وأوقف على المؤسسة من أمواله لتؤسس في الوقت المواتي، ولا تزال قائمة في روما إلى يومنا هذا ضمن الأكاديمية، وهنا ينبغي أن نذكر للطرافة أن اسم الأكاديمية مشتق من حيوان الوَشَق، وقد أطلق عليها هذا الاسم عند تأسيسها في سنة 1603إذ توسم مؤسسوها أن يكون أعضاؤها حديدي البصر مثل ما يعرف عن هذا الحيوان.
وكانت هذه القشة التي قصمت ظهر صبر كايتاني، فقد كان مهموماً أن تنشئة بنيته في وسط علية القوم ستعرضها للغيبة والازدراء والنظرات الساخرة، وأنها لن تحمل اسم كايتاني، ولذا قرر كايتاني في سنة 1927 أن يهاجر إلى كندا التي كان قد زارها في سنة 1890، فباع حصته من أملاك العائلة في إيطاليا، واشترى مزرعة في بليدة فرنون الصغيرة في غربي كندا في مقاطعة بريتش كولومبيا، ولعله اختارها لأن تضاريسها الجبلية تشبه أملاك العائلة في إيطاليا، وعاش فيها مع زوجته الثانية وابنته، ويبدو أن ذلك كانت نهاية النشاط العلمي الاستشراقي للأمير كايتاني، فلم يصدر له بعدها أي كتاب، وترك جزازاته الهائلة لدى الأكاديمية، وبقيت فيها دون تصنيف حتى سنة 2004 عندما قامت باحثة إيطالية بتصنيفها تحت إشراف المستشرقة فالنتينا ساجاري روسّي في كتاب يقارب 600 صفحة، وكانت له مساهمات في مجلات أدبية إيطالية تحت اسم مستعار، كان آخرها على مايبدو في سنة 1929.
وانقطعت صلة كايتاني بالوسط الثقافي في إيطاليا إلا قليلاً منهم صديقه جورجيو ديلافيدا الذي عانى كذلك من النظام الفاشي لكونه يهودياً، وقد أرسل ديلافيدا رسالة لكايتاني أجابه عليها برسالة مطولة نادرة قال فيها:  إنه بعد أن عمل في الزراعة وجد أنها لا تناسبه فاتجه لبيع الحطب من الأحراش الواسعة، ثم يقول بعاطفة الأب الحنون: إنه قد نذر نفسه لابنته المفعمة بالحيوية والبالغة الذكاء، وإن سعادتها تعوضه عن كل ما خسره في تركه إيطاليا، ثم قال إن مكسبه الكبير بعد ابنته هو في الوحدة والتأمل وقربه من الطبيعة، ثم ينعي على البشرية وبخاصة مثقفيها لأنهم لم يتطوروا من حالة الإنسان البدائي، ويتحدث عن حنينه لإيطاليا التي لن يراها إذ لا تزال الفاشية في إيطاليا تريد من المثقف أن يكون عبداً مسخراً لها، ولكن يأبى المثقف ألا أن يتمرد ليبقى حراً، ويضرب على هذا بعض الأمثلة منها النزاعات الدموية التي دامت قرناً بين الحنابلة في بغداد وبين ما أسماه المدارس الأكثر تقدمية.
ولما حصل كايتاني على الجنسية الكندية في سنة 1935، واتت الفرصة الحكومة الفاشية في إيطاليا، فجردته من جنسيته الإيطالية وفصلته من الأكاديمية الإبطالية، ولكنه ما لبث أن توفي بالسرطان في مدينة فانكوفر في 25 كانون الأول/ديسمبر 1935، وأقامت ابنته الرسامة والشاعرة، التي توفيت سنة 1977، في المزرعة مؤسسة ثقافية خيرية في فيرنون لا تزال إلى اليوم تحمل اسم العائلة، وفي مقبرة فرنون يوجد قبر بسيط يحمل ثلاثة بلاطات متوسطة من الرخام تشير إلى أنه يضم الأم والأب والبنت.
وينبغي أن نذكر هنا أن الأستاذ الزركلي في الأعلام ذكر أن وفاة كايتاني كانت في روما في سنة 1926، وهو في ذلك ناقل عن نجيب العقيقي في كتابه المستشرقون، ولكن الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه موسوعة المستشرقين يورد الترجمة حياته بتفاصيل دقيقة وصحيحة تؤكدها المصادر الإيطالية والأفرنجية.
وجاء بعد كايتاني فوج من المستشرقين الإيطاليين الذين ساهموا في التحقيق والأبحاث التاريخية والأثرية، وساعد في ذلك احتلال إيطاليا لليبيا ومحاولة استعمارها، وكذلك العلاقات التجارية الوثيقة بين مصر وإيطاليا والتي زادتها قوة العلاقة الشخصية بين حكام مصر من أسرة محمد علي مع ملوك إيطاليا، ولما تخلت إيطاليا عن أطماعها الاستعمارية وكادت علاقاتها مع العالم العربي تقتصر على التجارة، وزاد اهتمامها بمحيطها الأوربي، كان من المحتم أن تتأثر الدراسات الاستشراقية فيها كماً وكيفاً، وأصبح وزنها أخف بكثير مما كانت عليه في السابق، رغم المجموعات التراثية الهامة التي تحويها مكتبات الفاتيكان والأمبروزيانا والبندقية وفلورنسا.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer