الجمعة، 6 مارس 2015

حدث في الخامس عشر من جمادى الأولى

في الخامس عشر من جمادى الأولى من سنة 72 قتل، عن قرابة 40 سنة، مُصعب بن الزبير بن العوام، الفارس الشجاع وأمير العراقيين الوسيم السخي، وذلك في معركة مع جيش الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في دير الجاثليق قرب بغداد، وبمقتله انتهت في العراق دولة أخيه عبد الله بن الزبير، وتمهد الطريق لعبد الملك بن مروان لهزيمة عبد الله بعدها بسنة في مكة المكرمة.
ولد مصعب في سنة 32 أي قبل 4 سنوات من مقتل والده الزبير في سنة 36، وأمه الرباب بنت أنيف بن عبيد الكلبي، كان أبوها سيد العرب من أهل الضواحي، وللزبير منها ولدان حمزة ورملة، وللزبير رضي الله عنه من الوالد 11 ولداً و9 بنات.
ويغلب الظن أن مصعباً نشأ في حجر أخيه عبد الله الذي يكبره بحوالي 30 عاماً، ولا تفيدنا المصادر كثيراً عن نشأته، ولكنه كان من وجهاء قومه وعلمائهم، فقد كان من أقران عبد الملك بن مروان وأخيه عروة وكانا من العلماء، وكان يصاحب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ويروى أنه اجتمع في حِجر إسماعيل في فناء الكعبة عبد الله بن الزبير وأخواه مصعب وعروة، وعبد الله بن عمر، فقال: تمنوا، فقال ابن الزبير: أتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين. فقال ابن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.
وفي سنة 64 مات يزيد بن معاوية، وكان الحجاز قد تمرد على يزيد فأرسل قبل وفاته جيشاً فتك بأهل المدينة في موقعة الحَرّة، ثم اتجه ليحاصر عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة، وكان إذ ذاك يسمي نفسه العائذ ببيت الله، ولم يطلب من الناس مبايعته، فلما بلغت الجيشَ وفاةُ يزيد انسحبوا، واضطرب أمر مروان بن الحكم اضطراباً شديداً في بدايته، ولم يبق معه إلا الشام فسار بجيش إلى مصر وأعادها للحكم الأموي، وانتهز ذلك عبد الله بن الزبير فأرسل أخاه مصعباً إلى فلسطين على رأس جيش، وكان مروان قد عاد من مصر واستقرت أحواله، فأرسل إليه جيشاً يقوده عمرو بن سعيد بن العاص، المسمى عمرو الأشدق،  فاستقبله قبل أن يدخل بلاد الشام وهزمه.
وفي رمضان من سنة 65 توفي في دمشق مروان بن الحكم بعد أن تولى الخلافة الأموية قرابة سنة، وتولى بعده بعهد منه ابنه عبد الملك، المولود سنة 26، وكان فقيهاً راوياً، متنسكاً قبل أن يلي الحكم حتى دعي حمامة المسجد، واستعمله معاوية على المدينة وهو ابن ست عشرة سنة.
ودخلت الدولة الأموية مع تولى عبد الملك في طور جديد من الاستقرار والبناء، وكان أول عمل لعبد الملك هو استعادة السيطرة على الحجاز من ابن الزبير، فأرسل فور توليه في رمضان إلى المدينة المنورة جيشاً من سبعة آلاف يقوده حُبيش بن دُلجة القَيسيّ فاستولى على المدينة ثم خرج إلى الرَبَذة يريد العراق، فكتب ابن الزبير إلى العباس بن سهل الساعديّ بالمدينة أن يسير إليه فسار حتى لقيه بالربذة، وبعث عامل ابن الزبير على البصرة الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة 900 من أهل البصرة مدداً إلى العباس بن سهل، والتقى الجيشان فدارت الدائرة على جيش عبد الملك، وقتل حُبيش، وتحصن 500 من جيشه بجبل الربذة، وطلبوا الأمان، فقال لهم العباس بن سهل: انزلوا على حُكمي. ففعلوا فضرب أَعناقَهم أجمعين.
وفي نفس السنة ولى عبد الله بن الزبير أخاه مصعباً على المدينة المنورة بعد أن عزل عنها أخاه عبيدة بن الزبير، وكان سبب عزله أنه خطب الناس فقال لهم: قد رأيتم ما صُنِع بقوم في ناقة قيمتها خمسمئة درهم، فسمي مقوِّمَ الناقة؛ وبلغ ذلك ابن الزبير فقال: إن هذا لهو التكلف.
وبدأ المختار بن أبي عبيد الثقفي في الكوفة يتطلع للاستقلال عن عبد الله بن الزبير وبدأ في شق الجبهة المعارضة للأمويين باستمالة أولاد علي رضي الله عنه، فأصبح يشكل تهديداً سياسياً لدولة عبد الله بن الزبير، وادعى مع ذلك النبوة فصار يشكل تهديداً للعقيدة الإسلامية، ولأهمية الأحداث التي كان محورها المختار، كان لا بد أن نتوقف للحديث عنه مستقين مما أورده الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء.
كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود الثقفي قد أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تُعلم له صحبة، واستعمله عمر بن الخطاب على جيش غزا العراق واستشهد فيه، وتزوج عبد الله بن عمر ابنته، ونشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي والفصاحة والشجاعة والدهاء، وكان قد طُرِد لشره إلى الطائف، فسار بعد مصرع الحسين إلى مكة، فأتى ابن الزبير، فأظهر المناصحة، وتردد إلى ابن الإمام علي؛ محمد بن الحنفية، وكان قد أبى بيعة ابن الزبير هو وعبد الله بن عباس وجماعة من بنى هاشم.
ولما مات يزيد سنة 64، استأذن المختارُ ابنَ الزبير في الرواح إلى العراق، فركن إليه، وأذن له، وكتب إلى نائبه بالعراق عبد الله بن مطيع يوصيه به، فكان يختلف إلى ابن مطيع، ثم أخذ يعيب في الباطن ابن الزبير، ويثني على ابن الحنفية، ويدعو إليه، وأخذ يشغب على ابن مطيع، ويمكر ويكذب، فاستغوى جماعة، والتفت عليه الشيعة، فخافه ابن مطيع، وفر من الكوفة، وأصبح المختار أميرها الفعلي، وكان عبد الله بن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية في خمسة عشر من بني هاشم، فتبنى المختار قضيتهم لإضعاف ابن الزبير وشق الصف عليه، وكانت الشيعة قد هاجت لطلب ثأر الحسين، فأخذ المختار يفسدهم، ويقول: إني جئت من قبل المهدي ابن الوصي، يريد ابن الحنفية، فتبعه خلق، بل إنه أرسل 4.000 فارس إلى مكة فأخرجوا محمد بن الحنيفة من الشِعب، ولم يقدر ابن الزبير على منعهم، وأقاموا في خدمة محمد ثمانية أشهر، حتى قُتِل المختار، وسار محمد بن الحنفية إلى عبد الملك بن مروان بالشام، فلما علم أنه سيُكرِهُه على بيعته عاد إلى الحجاز واحتمى بابن عباس في الطائف.
وكانت قد سرت في العراق حركة قادها سليمان بن صرد سميت بالتوابين لأنها ضمت من شعروا بالندم على خذلان الحسين بن علي رضي الله عنهما، وخرج هؤلاء في ربيع الآخر من سنة 65 إلى لقاء الجيش الأموي الذي يقوده عبيد الله بن زياد، وهو قائد الجيش الذي قتل الحسين بن علي رضي الله عنه في سنة 61، فوقفوا على قبر الحسين ونادوا: يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ولم يُعِد هؤلاء للأمر عدته ولم يسمعوا نصح الناصحين، فهزموا في موقعة عين الوردة بالميادين وقُتِل ابن صرد وعامة التوابين.
وخلا الجو للمختار بمقتل هذه العصبة الصادقة، فغلب على الكوفة، وقتل جماعة ممن قاتلوا الحسين مثل شمر بن ذى الجوشن الذى باشر قتل الحسين، وخولي بن يزيد الذى سار برأسه إلى الكوفة، وعمر بن سعد بن أبى وقاص أمير الجيش الذى حاربه، وقال: إن جبريل ينزل علي بالوحي، واختلق كتابا عن ابن الحنفية إليه يأمره بنصر الشيعة، وانضم إليه إبراهيم بن الأشتر النخعي في عشيرته فقوي به وتمكن، والأشتر النخعي كان من رؤوس التمرد على عثمان رضي الله عنه.
وأخذ المختار في العدل، وحسن السيرة، ووجد في بيت المال سبعة آلاف ألف درهم، فأنفق في جيشه، وكتب إلى ابن الزبير: إني رأيت عاملك مداهنا لبني أمية، فلم يسعني أن أقره. فانخدع له ابن الزبير، أو أظهر ذلك، وكتب إليه بولاية الكوفة، وبعث معه على خراج الكوفة إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، الذي تزوج بعد وفاة الحسن زوجتَه فاطمة بنت الحسين بن علي.
وفي آخر سنة 66 أرسل المختار  جيشاً من ثمانية آلاف لملاقاة عبيد الله بن زياد الذي كان قد حاصر الموصل على رأس جيش من ستين ألف مقاتل، وجعل عليه إبراهيم بن الأشتر النخعي، وأرسل المختار مع الجيش كرسياً على بغل أشهب، زعم أنه آية كما كان التابوت لبني إسرائيل، فتألم ابن الأشتر، وقال: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا؛ سنة بني إسرائيل إذ عكفوا على العجل.
والتقى الجيشان على نهر الخازر بأرض الموصل في المحرم من سنة 67، وكان الظفر لإبراهيم بن الأشتر، وقُتل عبيد الله بن زياد، وحصين بن نمير السكوني الذي حاصر ابن الزبير، وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأرسل المختار رأس ابن زياد إلى علي بن الحسين رضي الله عنه في المدينة، وجعل يتتبع قتلة الحسين بن علي ومن خذله ويقتلهم، وأراد بذلك أن يَستأصل وجوه الناس ومن تخشى معارضته، ثم أخرج من الكوفة عبد الله بن مطيع عامل عبد الله بن الزبير، وادّعى أنّ جبريل ينزل عليه ويَأتيه بالوحي من الله، وكتب إلى أهل البصرة: بلغني أنكم تُكَذبونني وتكذبون رُسلي، وقد كُذبت الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. قيل لعبد الله بن عمر: إن المختار ليزعم أنه يوحَى إليه. قال: صَدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم. وثار على المختار أهل الكوفة فقاتلهم وظفر بهم.
وإزاء هذه الأحداث عزل عبد الله بن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عن العراق، وكانت ولايته عليها سنة، واستعمل مكانه أخاه مصعب بن الزبير، فقدم البصرة متلثما حتى أناخ على باب المسجد ثم دخل فصعد المنبر فقال الناس: أميرٌ أمير! وجاء الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، فسَفَر مصعب فعرفوه، وقالوا: مصعب بن الزبير، فقال للحارث اظهر اظهر فصعد حتى جلس تحته من المنبر درجة، ثم قام مصعب فحمد الله وأثنى عليه، ثم تلى الآيات من أول سورة القصص: ﴿طسم، تِلْكَ آيَات الكتابِ المُبين، نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَبأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرْض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَستَحِيْي نِسَاءَهُمْ إنَّه كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ، وأشار بيده نحو الشام، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الأرْض وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينِ، وأشار نحو الحجاز، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ، وأشار بيده نحو الشام.
وتهيأ مصعب للخروج إلى المختار ابن أبي عبيد في الكوفة، ثم التقى معه فهزمه، وتحصن أصحاب المختار في قصر الإمارة، فحصرهم مصعب فيه، وكان المختار يبرز في فرسانه، ويقاتل حتى قُتل في رمضان سنة 67، وكان عمره 67 ستة، ثم إن مصعبا أساء التصرف؛ أعطى الأمان لمن كان بقصر الإمارة، ولما خرجوا قتلهم غدراً، وكانوا زهاء 7000 رجل، ونزل في ذلك على رغبة الثأر الجامحة لدى أصحابه الموتورين، وأخذ زوجة المختار؛ عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنهما، فقال لها: ما تقولين في المختار بن أبي عبيد؟ قالت: أقول إنه كان تقيا، نقيا صواما. قال: يا عدوة الله أنت ممن يزكيه! فأمر بها فضرب عنقها، فأنكر الناس ذلك وأعظموه جداً لأنه أتى من حيث المبدأ ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر نساء المشركين،  ومن ناحية أخرى لمكانة والدها وجدها وخالها عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، فقال في ذلك عمرُ بن أبي ربيعة المخزومي:
إنَّ من أعظمِ المصائب عندي ... قَتْل حَوْراءَ غادةٍ عَيْطَبول
قُتلت باطلاً على غير ذنب ... إن لله دَرَّها من قَتيل
كُتب القَتل والقِتال علينا ... وعلى الغانيات جَرُ الذيول
قيل إن مصعبا لقي عبد الله بن عمر فسلم عليه وقال له: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير. قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. فقال: أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة؟! فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عِدَتهم غَنَماً من ميراث أبيك لكان ذلك سرفاً! أما كان فيهم مستَكْره يُراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته؟
ولما قَتل مصعبٌ المختارَ بن أبي عُبيد ودانت له العراق كلها: الكوفة والبصرة، قال شاعره عبيدُ اللهّ بن قيس الرّقيات يحرضه على المسير إلى الشام:
كيف نَوْمي على الفِراش ولما ... تَشْمَل الشامَ غارةٌ شَعواءُ
تُذْهلُ الشيخَ عن بنيه وتُبدي ... عن خِدام العَقِيلةُ العَذْرَاء
إنما مصعبٌ شهاب من الله تجلّت عن وَجْهه الظلْماء
ملكه ملك عزة ليس فيها ... جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أفلح من كان همه الاتقاء
ولسبب يختلف المؤرخون فيه عزل عبد الله بن الزبير مصعباً عن الولاية وجعل مكانه ابنَه حمزة بن عبد الله عاملاً على البصرة، فظهرت منه بالبصرة خفة وضعف، فكتب الأحنف إلى ابن الزبير بذلك وسأله أن يعيد مصعبا، فأعاده ولما رجع قال: يا أهل البصرة، بلغني أنه لا يَقْدَم عليكم أمير إلا لَقّبتموه، إني ألقَب لكم نفسي: أنا القصَّاب.
وفي سنة 70 حاول عبد الملك الاستيلاء على البصرة فيما يشبه العمليات الخاصة اليوم، فقد أرسل إليها خالد بن عبد الله بن خالد بن أُسيد في عدد قليل من مواليه وخاصته، فنزل على أحد قرابته، وكان مصعب خارج البصرة فاشتبك معهم الزبيرية في مكان يدعى الجفرة في قتال فاتر دام 24 يوماً وانتهى بمنحهم الأمان لينسحبوا، ولما جاء مصعب غضب غضباً شديداً وعاقب خليفته عقوبة مهينة، وكان يقول عن مثل هذه الحال: إذا رأيت يد الدهر قد لطمتْ عدوك فبادره برجلك، فإنْ سلم من الدهر لم يسلم منك.
ولم يفت الروم البيزنطيون الاستفادة من هذه النزاعات التي استنزفت المسلمين وقضت على مقاتلتهم، فاستجاشوا على من بالشام وحشدوا الحشود في سنة 70، فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدى إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على الشام.
واستفاد كذلك من هذه الحروب الخوارج، فاستولى نجدة بن عامر الحروري على الأحساء، وفي سنة 66 خرج زعيمهم المشهور قطري بن الفجاءة، وبقي عشرين سنة يقاتل ويُسلم عليه بالخلافة، وكان الحجاج بن يوسف الثقفي يُسيّر إليه جيشا بعد جيش وهو يستظهر عليهم، وبسببهم لم يكن مع مصعب بن الزبير أكثر قواده حكمة وحنكة، وهو المهلب بن أبي صفرة، فقد ولاه الموصل وجعله على قتال الخوارج.
وفي أول سنة 71 خرج مصعب من العراق في جيش يريد حرب عبد الملك بن مروان في الشام، ولكنه وهو في الطريق بلغه أن بذرة تمرد من بعض بطون القبائل قد بدأت على أخيه ولا بد من حسمها قبل أن تتفاقم، فعاد إلى البصرة وقاتلهم حتى هزمهم.
وكان مصعب غاية في السخاء على نقيض من أخيه عبد الله، وكان يسمى من سخائه آنية النحل، كان إذا كتب أخوه عبد الله لأحد بجائزة ألف درهم، جعلها مصعب مائة ألف، ووجد بعض عماله كنزاً في فارس فيه نخلة مصوغة من ذهب، عليها أنواع الجواهر منظومة بين السعف على مثال البسر والتمر، قومت بألفي ألف دينار، فسأل جلساءه: من ترونه أهلاً لها؟ قالوا: دعها لولدك، فقال: لا، بل أدفعها إلى رجل قدَّم عندنا يدا، وأولانا جميلا، وهو أنفع لنا منهم. فدعا عبد الله ابن أبي فروة، وكان ساعده الأيمن وكتوم أسراره، وقتل معه فيما بعد، فأعطاها له.
وفي سنة 71 حج مصعب بن الزبير وجاء إلى أخيه عبد الله ومعه وجوه أهل العراق، وقال لأخيه: يا أمير المؤمنين، قد جئتُك بوجوه أهل العراق، ولم أدعْ لهم بها نظيراً، فأعطِهم من المال. فقال عبد الله وكان معروفاً بالبخل: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم من مال الله، وددتُ أنّ لي بكل عشرْة منهم رجلاً من أهل الشام؛ صَرْفَ الدينار بالدرهم. فلما انصرف مُصعب ومعه الوفدُ من أهل العراق، وقد حرمهم عبدُ الله بن الزبير ما عنده، أبغضوه وفسدت قلوبهم، فراسلوا عبد الملك بن مروان.
وأعد عبد الملك جيشاً ليأخذ به العراق من مصعب بن الزبير، فلما كان من دمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشق وخالف عليه، فقيل لعبد الملك: ما تصنعِ، أتريد العراق وتَدع دمشق؟ أهلُ الشام أشدّ عليك من أهل العراق؟ فرجع مكانه، فحاصر أهلٍ دمشق حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفةُ بعدَه، وأن له مع كل عامل عاملا. ففَتح له دمشق، ثم بعد أيام استدعاه إليه بحجة المشورة وقتله بيده، وهرب ابنه يحيى بن سعيد فلحق بمصعب بن الزبير، وجعل عبدُ الملك الحجاجَ على نفير أهل الشام، وخرج في جيشه حتى دنا من العراق، وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة، فالتقوا بين الشام والعراق.
وقد كان عبد الملك كتب كُتباً إلى وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نفسه ويجعل لهم الأموال، على أن يخذلوا مُصعبا إذا التقوا، وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك، فكلهم أخفى كتابه، إلا ابن الأشتر فإنه أحضر كتابه مختوما إلى مصعب، فقرأه فإذا عبد الملك يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق. فقال له مصعب: أتدري ما فيه؟ قال: لا، قال: إنه يعرض عليك كذا وكذا، وإن هذا لما يرغب فيه. فقال إبراهيم: ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة، والله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بأيأس منه منى، ولقد كتب إلى جميع أصحابك مثل الذي كتب إلي، فادعُهم الساعةَ فاضرب أعناقَهم. قال: أقتُلُهم على ظن ظننتُه! ما كنت لأفعل ذلك حتى يَستبين لي أمرهم. قال: فأخرى. قال: ما هي؟ قال: احبِسْهم حتى يَستبين لك ذلك. قال: إذا تفسد قلوب عشائرهم، ويقول الناس: عبث مصعب بأصحابه. قال: دَعْني أدعو أهلَ الكوفة بما شرطه الله. فقال: لا واللّه، قتلتهُم أمس وأستنصر بهم اليوم! قال: فعليك السلام، وِالله لا تَراني بعدُ في مجلسك هذا أبداً.
وكان سُوَيد بن منجوف قد كتب إلى مُصعب بن الزبير:
فأبْلغْ مُصْعَباً عني رسولاً ... وهل يُلفَى النصيحُ بكل وادِ
أتعلمُ أنّ أكثرَ مَن تواخي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي
ويبدو أن مصعب بن الزبير اغتر بشجاعته ودفعه إقدامه إلى المعركة دون التأمل فيها والإعداد لها، أُخبِرَ عبدُ الله بن خازم السلمي أمير خراسان، وكان من الأبطال والفرسان المعدودين المشهورين، بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله التيمي؟ قيل: لا، ذاك استعمله على فارس. قال أفمعه المهلب بن أبي صفرة؟ قيل: لا، ولاه الموصل. قال: أمعه عباد بن حصين؟ قيل: استعمله على البصرة. فقال: وأنا هنا؟! ثم تمثل بقول الشاعر:
خذيني وجريني ضِباع وأبشري ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
ولما التقى الجيشان قرب دير الجاثليق في أرض يقال لها مَسكَن، انسحب المتآمرون وصاروا إلى عبد الملك، وهجم ابن الأشتر بمقدم الجيش على مقدمة الشام وأميرها أخي عبد الملك؛ محمد بن مروان بن الحكم، فأزاله، فأردفه عبد الملك بعبد الله بن يزيد بن معاوية، فحملوا على ابن الأشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الأشتر رحمه الله، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم، فلا يتحرك أحد.
وأرسل عبد الملك أخاه محمداً إلى مصعب فناداه: فداك أبي وأمي، إن القوم خاذلوك ولك الأمان، انصرف ولك ولاية العراق ما عشت. فأبى قبول ذلك وقال: مثلي لا ينصرف عن هذا المقام إلا غالبا أو مغلوبا. فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى بن مصعب، فقال له أبوه: انظر ما يريد محمد، فدنا منه فقال له: إني لكم ناصح؛ إن القوم خاذلوكم ولك ولأبيك الأمان، وناشده. فرجع إلى أبيه فأخبره، فقال: إني أظن القوم سيفون، فإن أحببت أن تأتيهم فأتـِهِم، فقال: والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك، قال: فتقدم حتى أحتسبك، فتقدم وتقدم ناس معه فقُتل وقُتلوا، وترك أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة، وسمعه أحد أصحابه يتمثل بهذه الأبيات:
ونحن أناس لا نرى القتل سُبَّة ... على أحد يحمي الذمار ويمنعُ
بنو الحرب أرضعنا به، غير فُحَش ، ... ولا نحن مما جرَّت الحرب نفزع
جِلاد على ريب الحوادث لا تُرى ... على هالك عينٌ لنا الدهر تدمع
وجاء عُبيد الله بن زياد بن ظَبيان، وكان من جنده، وكان مصعب قد قتل أخاه في قود، فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع عُبيد الله السيفَ ليضرب مصعبا، فبدره مصعب فضربه بالسيف على الخوذة، فنَشِب السيفُ فيها، فجاء غلامٌ لعُبيد الله فضرب مُصعبا بالسيف فقَتله، ثم جاء عُبيد الله برأسه إلى عبد الملك، فلما نظر إلى رأس مُصعب خَر ساجداً. فقال عُبيد الله وكان من فُتّاك العرب: ما ندمتُ على شيء قطُّ ندَمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيتُه برأس مُصعب فخر ساجداً أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قَتلت مَلِكي العرب في يوم واحد!
وكان عبد الملك بن مروان قبل هذا صديقاً لمصعب بن الزبير، فلما أُتي برأسه نظر إليه مليّاً، ثم قال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل السيف بيننا، ولكن المُلك عقيم، ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب؟ ثم أمر بمواراته ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في أُوانى بالقرب من الكوفة.
قال التابعي الجليل عبد الملك بن عمير، قاضي الكوفة، المتوفى سنة 136 عن 103 سنين: كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه، فرآني قد ارتعت، فقال لي: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بين يديه في هذا المكان، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت رأس المختار فيه بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك. قال: فقام عبد الملك من موضعه، وأمر بهدم ذلك الطاق الذي كنا فيه.
ودخل عبد الملك بن مروان الكوفة، فصعد المنبر فخطب وقال: أيها الناس، إن الحرب صعبة مرة، وإن السلم أمن ومسرة؛ وقد زبنتنا الحرب وزبناها، فعرفناها وألفناها، فنحن بنوها وهى أمنا. أيها الناس، فاستقيموا على سبل الهدى، ودعوا الأهواء المردية؛ وتجنبوا فراق جماعات المسلمين، ولا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين، وأنتم لا تعملون أعمالهم؛ ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا شراً، ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة؛ فمن شاء منكم أن يعود بعد لمثلها فليعد، فإنما مثلى ومثلكم كما قال قيس بن رفاعة:
أنا النذير لكم منى مجاهرةً ... كى لا ألام على نهىٍ وإنذار
ولما قتل مصعب بن الزبير رحمه الله بلغ خبره أخاه عبد الله وهو بمكة، فصعد المنبرفجلس عليه، ثم سكت، فجعل لونُه يحمر مرة ويصفرّ مرة، ثم قال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي المُلك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء. ألا وإنه لم يذلل الله من الحق معه، وإن كان فرداً، ولم يعزز الله من أولياء الشيطان وحزبه، وإن كان الأنام معه طُرَّاً. إنه أتانا خبرٌ من العراق فأحزننا وأفرحنا: قَتْلُ مصعب رحمة الله عليه، فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذوو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، وأما الذي أفرحنا فإن قتله له شهادة ولنا وله خِيَرة، أسلمه الطغام والصلْم الآذان؛ أهلُ العراق، وباعوه بأقل الثمن، فإن يُقتَل فقد قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه، وكانوا الخيارَ الصالحين. أما والله لا نموت حتف أُنوفنا، كما يموت بنو مروان، ولكن قَعْصاً بالرماح وموتاً تحت ظلالِ السيوف، فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها مأخذَ الأشرِ البَطِر، وإن تدْبر عني لم أبْك عليها بُكاء الخَرِف الزائل العَقْل.
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعب بن الزبير:
لقد أورثَ المِصرين حزناً وذِلةً ... قتيلٌ بدير الجاثليق مُقيم
فما قاتلتْ في الله بكر بن وائلٍ ... ولا صدقت عند اللقاء تميمُ
فلو كان في قيسٍ تعطّفَ حولَه ... كتائبُ يغلي حميُها ويدومُ
ولكنه ضاع الذمامُ ولم يكن ... بها مضريّ يوم ذاك كريمُ
جزى الله كوفياً بذاك ملامةً ... وبصريّهم إن الكريم كريمُ
وإن بني العَلاَّت أخلَوا ظهورَنا ... ونحن صريح بينهم وصميم
فإن نفن لا يبقي أولئك بعدنا ... لذي حرمة في المسلمين حريم
وكانت أولى نتائج مقتل مصعب واستيلاء عبد الملك على العراق، أن قام في آخر سنة 72 قاضي المدينة المنورة طارق بن عمرو الأموي، مولى عثمان بن عفان، فأعلن عصيانه على ابن الزبير وأخرج واليه طلحة بن عبد الله بن عوف، وأرسل إليه عبد الملك بتعيينه والياً على المدينة المنورة، ثم أرسل عبد الملك الحجاج بن يوسف الثقفي فحاصر ابن الزبير بمكة قرابة سبعة أشهر حتى ظفر به وقتله في جمادى الأولى من  سنة 73، وأصبحت الدولة الأموية دون منافس، إلا ما كان يبدر من أمراء الأطراف البعيدة.
تزوج مصعب بن الزبير لما ملك العراق عَقيلتا قريش: عائشة بنت طلحة، وسُكَينةُ بنت الحسين.
وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، كان أبوها طلحة من أجمل قريش، وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وقبل مصعب تزوجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. ثم خلف عليها مصعب، وكان يقال: لم يُر أزواجٌ قطّ أحسن من ثلاثة: عائشة بنت طلحة ومصعب بن الزبير، ولبابة بنت عبد الله والوليد بن عتبة، وجعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عُمَيس. ولما قُتل مصعب تزوجها ابن عمها عمر بن عبيد الله بن معمر بن عثمان التيمي.
وسُكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، أمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي، وقبل مصعب تزوجها ابن عمها عبد الله بن الحسن بن علي، وتزوجت بعد مصعب عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وتوفيت سنة 125، وكان اسمها أميمة ولقبتها أمها بسُكينة لخفة روحها. ولما قُتل مُصعب خرجت سُكينة بنت الحسين تُريد المدينة، فأطاف بها أهل العراق، وقالوا: أحسنَ اللهُ صحابتَك يا ابنةَ رسول الله. فقالت: لا جزاكم الله عني خيراً، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد، قتلتم أبي وجَدي وعمّي وزَوْجي، أيتمتموني صغيرة وأرملتموني كبيرة. وقالت سكينة ترثيه:
فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي ... يرى الموت إلا بالسيوف حراما
وقبلَك ما خاض الحسينُ منية ... إلى القوم حتى أوردوه حِمَاما
ولئن تزوج مصعب بن الزبير جميلتا قريش فقد كان هو من أجمل الرجال، قال الشاعر جرير: ما رأيته إلا غرت منه على عزة، ومرة كان مصعب جالساً بفنائه بالبصرة إذ وقفت عليه امرأة من طيء تنظر إليه فقال: ما وقوفك عافاك الله؟ فقالت: طفئ مصباحنا فجئنا نقتبس من وجهك مصباحاً.
أما مروءته فقد شهد له بذلك عبد الملك بن مروان، قال له قائل متقرباً إليه: إن مصعب بن الزبير يشرب الطلاء - أي النبيذ المباح - فقال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه! وكان مصعب يقول: نحن نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية؛ لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس مَن دل على شيء فأخبر به كمَن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان في قوله صادقًا كان في صدقه لئيمًا، حيث لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة.
وعلى الرغم من سفكه دماء جماعة المختار الثقفي، إلا أنه كان في مواطن أخرى صاحب حلم وتريث وخشوع، أتي بقوم، وهو أمير الكوفة، فأمر بضرب أعناقهم، فأخذوا ليقتلوا، وكان الشعبي في مجلسه فقال له: أيها الأمير، إن أول من اتخذ السجن كان حكيماً، وأنت على العقوبة، أقدر منك على نزعها. فأمر مصعب بحبس القوم، ثم نظر في أمرهم بعده فوجدهم برآء، فأطلقهم. ولما كان في المدينة بلغه شئ عن عريف من عرفاء الأنصار، فهمَّ به، فأتاه أنس بن مالك رضي الله فقال: أُنشدك الله ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار قال: وما أوصى به فيهم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: استوصوا بالأنصار خيرا، اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. فألقى مصعب نفسه عن السرير وألصق خده بالأرض وقال: سمعاً وطاعة لله ورسوله. وكان مصعب يقول: ادفعْ سطوة الله بسرعة النزوع وحسن الرجوع.
ومصعب بن الزبير هو أول من ضرب الدنانير والدراهم بالعراق، فعل ذلك على ضرب الأكاسرة في سنة 70 بأمر أخيه عبد الله لما ولى بالحجاز، وكتب عليها في أحد الوجهين: بركة، وفي الآخر:من الله. ثم غيرها الحجاج يعد ذلك بسنة وكتب عليها: بسم الله - الحجاج.
روي عن عبد الملك بن مروان أنه قال يوما لجلسائه: من أشجع العرب؟ قالوا: ابن فلان شبيبٌ فلان. فقال عبد الملك: أشجع العرب مصعب بن الزبير؛ جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأَمَة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وأمه الرباب بنت أنيف الكلبي سيد ضاحية العرب، وولاه أخوه عبد الله العراقين، فسار إليه، وقام به خمس سنين فأصاب ألف ألف وألف ألف وألف ألف، فبذلتُ له الأمان والحباء والولاية والعفو عما خلص في يده، فأبى قبول ذلك، وطرح كل ما كان مشغوفاً به وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قرماً يقاتل وما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريماً.
ولم تمنع هذه الدماء أن تنشأ القربى من جديد بين آل الزبير وبني أمية، ففي سنة 73 وبعد مقتل عبد الله بن الزبير تزوج خالد بن يزيد بن معاوية أخته رملة بنت الزبير، وهي أخت مصعب لأبيه وأمه، وكانت معروفة بالجزالة والعقل والفضل، وعاتبه الحجاج على ذلك، وقال له: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني، ولا كنت أراك تخطب إليهم وليسوا لك بأكفاء، وقد قاتلوا أباك على الخلافة ورموه بكل قبيح! فأجابه خالد: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أشاورك في خطبة النساء! هي قريش تقارع بعضها بعضا حتى إذا أقر الله الأمر مقره عادت إلى أحلامها وفضلها.
ومن الطريف المحزن أنه في سنة 389 تمادى الشيعة في الكرخ ببغداد عمل عاشوراء باللطم والعويل، وفي يوم الغدير بنصب القباب والزينة، فقابل جهال السنة من أهل باب البصرة هذه البدع ببدع مثلها، جعلوا مقابل يوم الغدير؛ يومَ الغار، وجعلوه في 26 من ذي الحجة بعد ثمانية أيام من يوم الغدير، وزعموا جهلاً وغلطاً أنه يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار، وجعلوا بإزاء عاشوراء وبعده بثمانية أيام، يوم مصرع مصعب بن الزبير، وزاروا قبره، وبكوا عليه، وجعلوه نظير الحسين لكونه صبر وقاتل حتى قتل، ولأن أباه ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وحواريّه وفارس الإسلام، كما أن أبا الحسين، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وفارس الإسلام.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer