الجمعة، 21 فبراير 2014

حدث في العشرين من ربيع الآخر

 
في العشرين من ربيع الآخر من السنة الخامسة للهجرة عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من حملته على منطقة دَُومة الجَندل شمال المدينة المنورة، ودامت الحملة 25 يوماً لم يهاجم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلدة دومة الجندل، ولم يكن فيها قتال، وسميت بغزوة دومة الجندل.
والدوم شجرة، والجندل الحجر بحجم رأس الإنسان، فكأن الاسم جاء من وجود شجر ملتف في أرض ملأى بالحجارة، وقيل سميت كذلك لأن سورها كان مبنياً بالجندل، وأن ملكها الأكيدر كان منزله أولاً مكان بالحيرة من العراق يدعى دومة الحيرة، وأنه كان في زيارة لأخواله فوجد البلدة متهدمة فأعاد بناءها وغرس فيها الزيتون، وسموها دومة الجندل تفرقة بينها وبين دومة الحيرة، والدومة بالفتح أو الضم.
أما موقع دومة الجندل اليوم، فقال الأستاذ المحقق عاتق بن غيث البلادي في كتابه المعالم الجغرافية الواردة في السيرة النبوية: دَومة الجندل، بالفتح، قرية في الجوف، يشرف عليها حصن مارد، حصن أكيدر الكِندي، والجوف: منطقة زراعية شمال تيماء على قرابة 450 كيلا، تصلها طريق معبدة بكل من تيماء فالمدينة المنورة.
جاءت هذه الغزوة والرسول لا يزال يواجه قريشاً المتربصة به والتي تؤلب عليه القبائل وتحشد له الأحلاف، ولكن رسول الله كان يراقب خطراً آخراً يتهدده من شمال الجزيرة العربية؛ من الروم البيزنطيين في الشام والقبائل العربية التي تدين لهم بالولاء وتخضع لسلطانهم.
وكانت دومة الجندل أحد مراكز الروم البيزنطيين على حدود الجزيرة العربية، مدينة عليها سور، ولها حصن مشهور، وتقع على مفترق طريق القوافل الذاهبة من جزيرة العرب إلى العراق والشام وبالعكس، وهي أرض نخل وزرع، يسقي أهلها على النواضح، وحولها عيون قليلة، وزرعهم الشعير، وكانت مركزاً تجارياً يعقد فيها سوقٌ سنوي عظيمٌ في ربيع الأول، ويُدفع لرئيسها عُشر قيمة البضائع، وهي موطن قبيلة كلب العربية، وفيها صنم وَدّ المذكور في سورة الحج، وكان عامل هرقل عليها الملك الأكيدر بن عبد الملك الكِندي، وكان على النصرانية، وكان يسيئ معاملة التجار والسابلة المارين ببلاده ويفرض عليهم المكوس، وكان تجار العرب شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلم الأكيدر، ثم بلغه أنه قد جمع جمعاً كبيراً، وانضم إليه قوم كثير من العرب من قضاعة وغسان، ويريدون أن يهاجموا المدينة.
فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، واستخلف على المدينة سِباع بن عُرفُطة الغِفاري، وخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عُذرة يقال له مذكور، فلما دنا رسول الله من دومة الجندل مسيرة يوم، قال له الدليل: يا رسول الله، إن سوائمهم ترعى فأقم لي حتى أطلع لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج العذرى طليعةً حتى وجد آثار النعم والشاء وهم مغربون، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره وقد عرف مواضعهم، فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى هجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يجد بها أحدا، فأقام بها أياما وبث السرايا وفرقها، حتى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه ولم يصادفوا منهم أحدا، إلا أن محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري رضي الله عنه أخذ منهم رجلاً، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نَعمهم. فعرض عليه الإسلام فأسلم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وكان سعد بن عبادة رضي الله عنه من المشاركين في تلك الغزوة، فتوفيت أمه عمرة بنت مسعود بالمدينة وهو غائب، وكانت من أهل بيعة العقبة، فلما عاد الرسول وصحبه إلى المدينة قال له سعد: إن أم سعد ماتت، وإني أحب أن تصلي عليها. فجاء قبرها فصلى عليها.
وفي غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، بَنَتْ أمُ سلمة حجرتها بلبِن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبِن، فدخل عليها أول نسائه، فقال: ما هذا البناء ؟ فقالت: أردت يا رسول الله أن أكفَّ أبصار الناس، فقال: يا أم سلمة، إن شرَّ ما ذهب فيه مال المسلمين البنيان.
وعاد رسول الله في السنة القادمة في شعبان من السنة السادسة للهجرة، فأرسل عبد الرحمن ين عوف على رأس سرية إلى دومة الجندل، فدعاه وقال له: تجهز فإني باعثك في سريةٍ من يومك هذا، أو من غدٍ إن شاء الله. قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي العداة، فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف.
قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر، وعمر، وناس من المهاجرين، فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: ما خلفك عن أصحابك؟ وكان قد مضى أصحابه في السحر، وعسكروا بالجرف على بعد ثلاثة أميال من المدينة، وكانوا سبعمئة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعلي ثياب سفري. وعبد الرحمن بن عوف متوشح سيفه وعليه عمامةٌ كرابيس سوداء قد لفها على رأسه ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه فأرسل بها من خلفه أربع أصابع أو نحواً من ذلك، ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف، فإنه أحسن وأعرف! ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذه يا ابن عوف،  اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تنكثوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله وسنة نبيكم فيكم.
قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: يا أيها الناس، اتقوا خمساً قبل أن يحل بكم؛ ما نقص مكيال قومٍ إلا أخذهم الله بالسنين ونقصٍ من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قومٌ عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قومٌ الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قومٍ إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قومٌ بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض.
فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها مكث بها ثلاثة أيامٍ يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أبوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، فكتب عبد الرحمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، وبعث رافع بن مكيث الجهني، وكتب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنة الأصبغ واسمها تُماضِر، فتزوجها عبد الرحمن، ولما قدم بها المدينة رغب القرشيون في جمالها، فجعلوا يسترشدونها، فترشدهم إلى بنات أخواتها وبنات إخوتها.
ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عندما أرسله: إن أطاعوا فتزوج ابنة ملكهم. وكانت قريش لا تتزوج من كلب، أنفة وكبرياء، فأبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تماضر بنت الأصبغ أول كلبية تزوجها قرشي،  ولها ولد وحيد هو الفقيه الجليل أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، واسمه كنيته، المتوفى سنة 94 عن 72 سنة.
وفي رجب من السنة التاسعة للهجرة بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن الروم البيزنطيين تجمعوا في الشام، فخرج إلى تبوك، في غزوة العسرة، يترقب جيش الروم، وأقام صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة دون أن يلقى عدواً ثم عاد إلى المدينة، وخشية من أن يكون الروم قد حركوا أعوانهم على أطراف الجزيرة بدلاً من أن يهجموا بأنفسهم، أرسل رسول الله من تبوك خالد بن الوليد إلى الأكيدر في دومة الجندل، وأمره أن يعتقله ولا يقتله، ويأتي به إليه فيجدد العهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله على رأس سرية قوامها 420 فارساً، فلما عهد إليه عهده، قال خالد: يا رسول الله كيف بدومة الجندل وفيها أكيدر، وإنما نأتيها في عصابة من المسلمين، فقال لخالد: لعل الله يلقيك أكيدر فستجده يصيد بقر الوحش، فخذوه أخذاً فابعثوا به إلي ولا تقتلوه.
فخرج خالد حتى رابط خارج الحصن على مرأى منه في ليلة مقمرة صائفة، والأكيدر على سطح له ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله! قالت: فمن يترك هذه؟! قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأُسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأسر أكيدر وامتنع أخوه حسان فقاتل حتى قتل.
وقال خالد لأكيدر: أرأيتك إن أجَرتُك تفتح لي دومة قال: نعم. فانطلق حتى دنا منها، فثار أهلها وأرادوا أن يفتحوا له فأبى عليهم أخوه، فلما رأى ذلك قال لخالد: أيها الرجل، خلني فلك الله لأفتحنها لك، إن أخي لا يفتحها لي ما علم أني في وثاقك. فأرسله خالد ففتحها له، فلما دخل أوثق أخاه وفتحها لخالد، ثم قال: اصنع ما شئت، فدخل خالد وأصحابه فذكر خالد رضي الله عنه له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أمره، فقال له أكيدر: والله ما رأيتها قط جاءتنا إلا البارحة، يريد البقر، ولقد كنت أضمر لها إذا أردت أخذها، فأركب لها اليوم واليومين، ولكن هذا القَدَر! ثم قال: يا خالد، إن شئتَ حكمّتُك، وإن شئتَ حكمّتني. فقال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت، فأعطاهم ألفي بعير، وثمانمئة فرس، وأربعمئة درع، وأربعمئة رمح.
وأقبل خالد رضي الله عنه بأكيدر وهو يحمل هدايا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها بغلة وثياب حرير فقبلها منه، واستعمل رسول الله صلى الله البغلة، وأعطى ثوب حرير علياً رضي الله عنه ليوزعه على نساء بني هاشم، وقال له: شقِّقهُ خُمُراً بين الفواطم. يقصد فاطمة الزهراء، وفاطمة بنت أسد أم علي، وفاطمة بنت حمزة. وكان في هدايا الأكيدر جرةٌ فيها المَنُّ، وبالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته يومئذ إليها حاجة، فلما قضى الصلاة أمر طائفا فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيستخرج فيأكل، فأتى على خالد بن الوليد فأدخل يده، فقال: يا رسول الله، أخذ القوم مرة، وأخذتُ مرتين فقال:  كل وأطعم أهلك. وكذلك أعطى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قطعة ثم إنه رجع إليه فأعطاه قطعة أخرى، فقال: إنك قد أعطيتني مرة، قال: هذا لبنات عبد الله. وكان والده قد استشهد في أحد وخلف 7 بنات.
وكتب له الرسول معاهدة، ختمها بظفره إذ لم يكن معه خاتمه، والكتاب على بساطته يوضح الملكية العامة في الفقرة الأولى وهي ما كان من الأراضي خارج السور أو لم يكن مستصلحاً أو له مالك، ثم يمنحهم حق الرعي فلا تُصرفُ سارحة ماشيتهم عن مَرْعى تُريده، ثم حظر عليهم التسلح والتحصن في الفقرة الثانية ليأمن غدرهم، ثم بين لهم حقوقهم وطمأنهم أن لا عُشر في البتات وهو المتاع الذي لا يكون للتجارة، ونص الكتاب هو:
من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها: إن لنا الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمَعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تُعدُّ فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عُشرٌ البَتَات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
وكان على الأخ القتيل حسان قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا؟ فو الذي نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا.
وقال بَجير بن بجرة الطائي يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر. وما صنع البقر تلك الليلة بباب الحصن، تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أُمِرنا بالجهاد
فقال له رسول الله: لا يفضض الله فاك. فعاش 90 سنة ما تحركت له سن ولا ضرس، لبركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، واستشهد في القادسية.
وجاء بعض أهل دومة الجندل مسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، منهم حارثة بن قّطَن، وحمل بن سعدانة، وتذكر كتب السيرة أن الرسول أعطى حارثة كتاباً يطابق ما أعطاه للأكيدر، فلعله كان نسخة وتأكيداً لذلك، وعقد الرسول بيده لحمل لواءً يحمله، وفي هذا إكرام متميز من رسول الله لهذا الصحابي الشجاع رضوان الله عليه، وشهد حمل مع خالد بن الوليد مشاهده، ومن رجزه الذي تمثل به شجعان العرب:
لَبِّثْ قليلاً يلحقِ الهيجا حَمَلْ
ما أحسنَ الموتَ إذا حانَ الأجلْ
وكان من نتائج هذه السرية الناجحة أن خشي زعماء العرب ممن يدينون بالولاء للدولة البيزنطية أن يصييهم ما أصاب الأكيدر من أسر وصَغار، فقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم عدد منهم، من أبرزهم يوحنا بن رؤبة ملك أيلة، وهي اليوم العقبة، فصالحه وكتب له كتابا هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا أمَنَة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة وأهل أيلة، لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله، وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معهم من أهل الشأم وأهل اليمن وأهل البحر، ومن أحدث حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيبة لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يُمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر وبحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.
ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرايا أخرى لغير الأكيدر فخشي أن تكون إليه فجاء إلى رسول الله مستأمناً، فقد ذكر أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل خيلاً فسمع بها الأكيدر، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغنا أن خيلا انطلقت، وأني خفت على أرضي ومالي، فاكتب لي كتابا لا يعرِضوا من شئ لي، فإني مقر بالذي علي من الحق. فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن أكيدر أخرج قباء من ديباج منسوج مما كان كسرى يكسوهم، فقال: يا رسول الله اقبل عني هذا فإني أهديته لك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترجع بقباك فإنه ليس يلبس هذا في الدنيا إلا حُرِمَه في الآخرة. فرجع به حتى أتى منزله، ووجد في نفسه أن يرد عليه رسول الله هديته، فقال: يا رسول الله، إنا أهل بيت يشقُّ علينا رد هديتنا، فاقبل مني هديتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فادفعه إلى عمر بن الخطاب. وكان عمر قد سمع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه وظن أنه قد لحقه شئ، فانطلق فقال: يا رسول الله أحدث فيَّ أمر؟ قلتَ في هذا القباء ما قلت ثم بعثتَ به إليّ؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضع يده أو ثوبه على فيه ثم قال: ما بعثت به إليك لتلبسه، ولكن تبيعه وتستعين بثمنه.
ويختلف المؤرخون إن كان الأكيدر قد أسلم أم بقي على النصرانية مع ولائه لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتذكر بعض الروايات مشاهدته في المدينة مرتدياً الحرير وعليه صليب من ذهب، وعلى كل حال فلا يختلف المؤرخون أن ذلك لم يكن آخر العهد بدومة الجندل، فبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقض الأكيدر العهد، أو ارتد في رأي من يرون أنه أسلم، وحشد الحشود من قبائل كلب وغسان، وكان ممن عاضده جبلة بن الأيهم، فأرسل أبو بكر الصديق في السنة الثانية عشرة للهجرة خالد بن الوليد على رأس جيش فقمع تمرده وقتله، وثبت أخوه حريث بن عبد الملك على الإسلام، وتزوج يزيد بن معاوية ابنته.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer