الجمعة، 7 فبراير 2014

حدث في السادس من ربيع الآخر


في السادس من ربيع الآخر من عام 1255، الموافق 18 حزيران/يونيو 1839 عقدت بريطانية اتفاقاً مع سلطان لحج في جنوبي اليمن، السلطان محسن بن فضل العبدلي، ظاهره الحفاظ على الأمن والسلام في أراضيه، وباطنه الاعتراف الضمني باحتلال عدن واقتطاعها من أراضي السلطان، ووقع الاتفاق الكابتن ستافورد هينز  Stafford Hainesالمندوب السياسي في عدن نيابة عن حكومة شركة الهند الشرقية، وهذا نص الاتفاقية كما ورد في كتاب المعاهدات والاتفاقات التجارية البريطانية الذي ألفه أمين الوثائق في الخارجية البريطانية، والمطبوع في لندن سنة 1856، وكذلك في كتاب هدية الزمن في تاريخ اليمن الذي ألفه الأمير أحمد فضل بن علي بن محسن العبدلي المتوفى سنة 1362=1943:

1.    تعهد السلطان محسن فضل وأولاده أحمد وعلي وعبد الله وفضل بأن تبقى منطقتهم وطرقهم في سلام وأمان ليتمكن الفقير والضعيف من السفر والاتصال، وأنه مسؤول على أي قبيح يرتكبه أصحابه في الطرق، وسيحافظ السلطان على السلام والصداقة مع الحكومة البريطانية، حيث إن مصلحة الطرفين تلتقي في امتلاك بريطانية لعدن امتلاكاً دائماً.

2.    وافق الكابتن هينز أن يدفع المعاشات التي كان السلطان محسن اللحجي يدفعها لقبائل الفضلي واليافعي والحوشبي والأمير.

3.    وافق الكابتن هينز أن يدفع إلى السلطان محسن وأولاده وذريته معاشاً قدره 6500 ريال سنوياً ابتداء من شهر القعدة الحرام سنة 1254.

4.    الأرض من المجراد إلى لحج وإلى جميع حدود قبيلة العبادل المعروفة تحت سيطرة السلطان.

5.     عند حدوث أي هجوم على لحج أو على قبائل العبادل أو على عدن أو على عساكر بريطانيا فالسلطان محسن والدولة البريطانية يكونوا يداً واحدة.

6.     من دخل من رعايا السلطان عدن فسيكون خاضعاً للقوانين البريطانية ما دام فيها، ومن دخل لحج من رعايا الدولة البريطانية فسيكون خاضعاً لأحكام السلطان ما دام فيها.

7.     كل ما يخص السلطان وأولاده معفى من الرسوم الجمركية في ورده أو صدوره عن عدن.
وجاء هذا الاتفاق بين بريطانية وبين سلطان لحج، بعد احتلال بريطانية لعدن قبل 6 شهور تحقيقاً لحاجة استراتيجية لإيجاد ميناء على طريق بريطانية - الهند البحري، ترسو فيه السفن وتتزود فيه بالوقود والمياه والطعام، وأسس الاتفاق لوجود بريطاني في عدن ثم في جتوب اليمن دام قرابة 140 عاماً، والريال الذي ذكره الاتفاق فيه هو الريال الفضي الأسباني الذي كان العملة الشائعة في بحر العرب.
وكانت بريطانية قد وقعت معاهدة قبل 20 سنة، في سنة 1236، مع إمام اليمن في صنعاء ولكن الإمام، كعادة أئمة اليمن، تلكأ وماطل في المفاوضات فأهملتها بريطانية وبخاصة أن المناطق الواقعة تحت سيطرته لم تكن لها أية أهمية تجارية أو استراتيجية.
ويعود أول اتصال عملي بين عدن وبين حكومة أو شركة الهند الشرقية إلى عام 1243=1827، فقد كانت الشركة قد استغنت عن السفن الشراعية وجعلت أسطولها كله من السفن البخارية، ويجدر أن نذكر أن إبحار أول سفينة بخارية كان في سنة 1807، ومكنت السفن البخارية الشركة من اختصار زمن الرحلة اختصاراً شديداً، وكان للشركة مندوب مقيم في ميناء مَخا على البحر الأحمر يدير أعمالها ويشرف على مستودعاتها يدعى الكولونيل مايك باجنولد، فمر بعدن وهو في طريقه مسافراً إلى بومباي، فاستضافه السلطان محسن الذي كان قد تولى الحكم مؤخراً، وكان يتوق إلى إحياء عدن كمركز تجاري، وأبدى له ترحيبه بوجوده في عدن إن أحب الانتقال إليها من مخا، وتشجع الكولونيل للفكرة وعرضها على شركة الهند الشرقية فلم تلق لديها القبول فقد كانت تحبذ ترك هذا الأمر لتقرره البيوتات التجارية لكونها صاحبة الشأن والمصلحة في الأمر.
وأرسل السلطان محسن مع الكولونيل رسالة إلى حاكم بومباي يعلمه فيها رغبته في شراء 4 مدافع وقنابلها، فرفض الطلب إذ كانت سياسة بريطانية ألا تقدم أي عون عسكري لأي زعيم في الجزيرة العربية، ولكن السلطان لم يقبل بالرفض، وصادف أن جاء حاكم جديد لبومباي فكرر السلطان طلبه، وأيده الكولونيل باجنولد، فكان أن أرسلت المدافع في سنة 1244/1828 هدية للسلطان.
وفي سنة 1245/ 1829قررت الشركة افتتاح خط ملاحي يصل بومباي بالبحر الأحمر، ووفرت الفحم اللازم للسفن ووضعته في جزيرة صخرية صغيرة خارج عدن تدعى جزيرة صيرة، ولكن لما جاءت السفينة هيو لنزي لتدشن الخط واحهت صعوبة في نقل الفحم من الجزيرة إلى المرسى بعدن لعدم توفر اليد العاملة، وأدى ذلك أن يفكر البريطانيون في موانئ وسيطة أخرى، فاتجهوا للمكلا فلم تكن لتصلح، فحاولوا شراء جزيرة سقطرة ولم ينجحوا فقد رفض سلطان المهرة بيعها، فاختاروا جزيرة قمران شمال غربي الحديدة، وكتب حاكم بومباي إلى محمد علي باشا الكبير في مصر يطلب منه الإذن بإنشاء مستودع للفحم على الجزيرة، فوافق محمد على دون تردد، إذ كان في حرب توسعية مع السلطان العثمانين وكان يرغب في التودد لبريطانية وكسب تأييدها، ولكن عدن وليس قمران صارت في النهاية محط مستودعات الفحم!
ففي 12 ذي القعدة من عام 1252، الموافق 18 شباط/فبراير 1837، غرقت السفينة داريا دولت أمام الساحل العدني، وكانت السفينة التي تحمل العلم البريطاني قد أبحرت من مدراس في شرق الهند تقصد جدة وتحمل الحجاج والبضائع، فقام الرعاع بالركوب في زوارقهم ونهبوا ما استطاعوا من بضائع السفينة الغارقة، واحتجزوا من نجا من الركاب وابتزوهم حتى خلصهم الشريف العيدروسي من عدن.
ولم تكن هذه أول مرة تنتهب فيها سفينة غارقة، وكان الإجراء المعهود هو المطالبة بتعويض قيمة البضائع، ولكن البريطانيين اتخذوا ذلك ذريعة لاحتلال عدن، التي كانت لموقعها في منتصف الطريق بين الهند ومصر أفضل من جزيرة قمران، ولكن كان وراء القرار هدف استراتيجي أهم يتعلق بالتنافس القائم بين بريطانية وبين فرنسة.
فقد كان محمد علي قد أعلن نفسه قبل بضع سنوات حاكماً على مصر والسودان ونجد والحجاز واليمن، وكانت علاقاته مع فرنسة جد وثيقة، ولذلك خشي البريطانيون أن يقوم وحده أو بالتعاون مع الفرنسيين بالاستيلاء على عدن وتهديد التجارة الهندية، وكانت بريطانية تعتقد أن فرنسة قد تحاول الكرة في احتلال مصر بعد وفاة محمد علي، ولذا فإن موقع عدن كان مناسباً لمراقبة التحركات الفرنسية أو لمواجهة الفرنسيين إن هم عادوا لاحتلال مصر.
ومن طرف آخر كانت هناك المنافسة بين بريطانية وبين أمريكا في اليمن السعيد على تجارة القطن والبن، فقد توصل تجار القطن الأمريكان لاتفاق مع إمام اليمن بدخول بضائعهم ميناء مخا برسم جمركي قدره 3% وكان البريطانيون يدفعون 7%، إضافة إلى أن الأمريكان استطاعوا إزاحة البريطانيين واحتكار تجارة البن اليمني، ولذا قررت حكومة شركة الهند الشرقية أن تحتل عدن وتحولها إلى مركز تجاري رئيس وتسحب البساط من تحت أرجل الأمريكان.
وعندما غرقت السفينة داريا كان الكابتن هينز في مخا في مهمة  عمل خرائط ملاحية للبحر الأحمر، فلما سمع بغرقها ذهب إلى عدن ليستكشف الأمر فوجد أن القبطان التجاري، المسؤول عن البضائع التجارية وبيعها، قد ذهب بثلث الحمولة، والباقي يباع باسم سلطان لحج في سوق عدن بثمن بخس، فطلب من السلطان أن يتحفظ على ما بقي من الحمولة ريثما يتلقى تعليماته من إدارة الشركة في الهند.
وكانت حكومة بومباي قد رحبت في الباطن بما حدث للسفينة داريا، فقد منحها ذريعة للضغط على السلطان ليتخلى عن عدن وفق شروطها هي، فأرسلت الكابتن هينز في السفينة كووت التي كانت تحمل 20 مدفعاً ليطالب بتعويض قيمة البضائع، ويتخذ من ذلك مدخلاً للتفاوض على تمليك عدن لبريطانية، والتقى هينز مع السلطان بُعيد عيد الفطر سنة 1253، وطالبه بمبلغ 12.000 ريال، ولم يكن لدى السلطان هذا المبلغ، فأعطاه 7.809 ريال وسند دين بالباقي، وبعد ذلك أرسل هينز مسودة معاهدة إلى السلطان لشراء عدن منه، وتضمنت المعاهدة احترام الدين الإسلامي وضمان استقلال السلطان وأعطته الحق في الإقامة في عدن وملكية بيتيه فيها، وحماية سفنه التجارية مع السماح لها بحمل الراية البريطانية، وما على السلطان إلا أن يحدد ثمن البيع.
والتقى هينز مع السلطان مرة أخرى وظن أنه قد نال مراده، ووعده السلطان أن يرسل رسالة إلى حاكم بومباي يحدد فيها ثمن عدن، وأرسل السلطان محسن الرسالة كما وعد ولكنه بدلاً من تحديد الثمن قال في رسالته إنه يفضل الموت على أن يبيع أي قطعة من بلاده، وأنه لا مانع لديه من منح البريطانيين مستودعاً في عدن مقابل حلف عسكري بين الطرفين.
ولم يثن هذا الموقف الكابتن هينز وبقي من على ظهر سفينته يتفاوض مع السلطان ويلاحقه لهذا الغرض، فلجأ السلطان إلى المماطلة والطلبات التعجيزية، فطلب 50.000 ريال سنوياً، ولما قيل له إنه مبلغ غير معقول، أبدى السلطان استعداده لمنح البريطانيين تسهيلات في عدن ولكن على أن تبقى تحت سلطانه، وهو شرط يتعارض مع النوايا البريطانية، واستمر الأخذ والرد حتى تلقى هينز جواباً من السلطان بموافقته على مبلغ 8700 جنيه سنوياً، وقصد هينز البر لتوقيع الاتفاق ولكنه ما إن أرسى على الشاطئ حتى جاءه تحذير أن في الأمر مكيدة يقصد منها أسره وربما قتله، فعاد أدراجه إلى السفينة وأبحر قافلاً إلى بومباي دون أن ينجز مهمته.
والحاجة أم الاختراع، ولأن عدن أصبحت ضرورية لأسطولها التجاري فقد أفتت حكومة بومباي أن الاتفاق قد تم ولكن التآمر حال دون مراسيم توقيعه، ولذا أرسلت بعد 10 شهور الكابتن هينز في السفينة كووت ليكمل توقيع الاتفاقية وأرسلت معه 30 جندياً بريطانياً، وكانت تعليماتها لهينز ألا مانع من زيادة مبلغ 8700 ريال إن كان من شأن ذلك أن يتفادى اللجوء للقوة.
وألقى هينز مراسيه مقابل عدن وكتب للسلطان برغبته في إنجاز الاتفاق، فأجابه أنه قد فوض ابنه الأكبر أحمد بمتابعة المفاوضات، فأرسل هينز الاتفاق لأحمد وأنقص المبلغ إلى 8000 ريال بدلاً من أن يزيدها كما قيل له، ولم ير أحمد أية فائدة من توقيع الاتفاق، وأنهى المفاوضات، وأبلغ البريطانيين بالرحيل ومنع تزويدهم بالماء والمؤن من عدن، ورد هينز على ذلك بحصار الميناء، وقام السلطان الفضلي، جارُ العبدلي وعدُوّه، بتزويدهم بالمؤن والمياه.
ومضت 3 أسابيع على هذه الحال، ثم أطلق بعض أتباع السلطان النار على زورق يسير بين السفينة وبين الشاطئ فاعتبر هينز ذلك عملاً عدوانياً وأطلقت مدافعه بعض القنابل في استعراض للقوة على قلعة صيرة فقتلت ثلاثين من جنودها، وأدرك السلطان ضعف موقفه وتفوق البريطانيين، فطلب هدنة مدتها 10 أيام، ولكن هينز رفض قائلاً إنه لن يتخلى عن موقفه إلا إن وقع السلطان اتفاق سلام دائم بعد أن يتخلى عن عدن، وأنه لن تكون هناك أية مفاوضات سلمية قبل أن يعتذر السلطان عن إطلاق النار.
وأرسل السلطان رسولاً إلى الفضليين يدعوهم للانضمام إليه في مواجهة هينز، ولكنهم رفضوا ولعلهم وجدوا في ذلك فرصة لإضعاف وإذلال العبدليين، ولما وجد السلطان نفسه وحيداً أرسل اعتذاراً فاتراً كان من الطبيعي ألا يقبله الكابتن هينز الذي كان قد أرسل لبومباي أن السلطان يرفض تسليم عدن ولكنه سيعود إلى رشده لو رأى جنود بريطانية، وأرسلت حكومة بومباي 3 مراكب حربية تحمل 350 جندي بريطاني و400 جندي هندي،  وما أن وصل المدد في 1ذي القعدة سنة 1254 حتى أنذر هينز السلطان بالاستسلام قبل مغيب شمس اليوم وأن يرسل 3 رهائن ضماناً لذلك ومعهم كذلك الاعتذار المطلوب.
وطلب السلطان مهلة أسبوع ليفكر في الأمر، وكان في الواقع يريد كسب الوقت ليحشد مقاتليه ويجهز مدافعه، ولكن بعد ثلاثة أيام وفي 4 ذي القعدة 1254الموافق 19 كانون الثاني/يناير 1839 هاجم هينز عدن بالمدافع ثم أنزل جنوده واحتلوها، وسقط من المدافعين عنها 150 قتيل وجريح، وكانت خسائر البريطانيين 15  قتيلاً، وانسحب السلطان وعائلته وأعيان البلد إلى لحج، وكان سقوط عدن أول بلد تستولي عليه بريطانية في عهد الملكة فكتوريا التي كانت تسنمت العرش قبل سنة ونصف.
وبعد قرابة 5 أشهر وقع السلطان محسن مذعناً الاتفاق الذي أوردناه في البداية، ولم يستسلم العبادل للاحتلال بل حاولوا إخراجه من عدن فاتفقوا مع الفضليين وحشدوا قوة تقارب 5000 مقاتل وهاجموا عدن بعد 3 أشهر من الاتفاق، في رمضان من سنة 1255، ولكن شجاعتهم وبنادقهم لم تكن كفؤاً للمدافع البريطانية، فانهزموا بعد أن حلت بهم خسائر جسيمة، ويعلق أحد المؤرخين على هذه الموقعة فيقول: لو أنهم كانوا اتحدوا وحشدوا هذه القوات في أول الأمر فلربما كان النصر حليفهم، ولكنهم هاجموا بعد أن حصن البريطانيون مواقعهم وجلبوا أحدث ما لديهم من سلاح.
وعاود السلطان وجنوده الكرة في ربيع الأول ثم في جمادى الأولى من سنة 1256، وكانوا كل مرة يرجعون مهزومين خائبين، ثم حاولوا أن يمنعوا المؤن عن البريطانيين دون نجاح يذكر،  وفي النهاية سلم السلطان بالأمر الواقع وعاد راغباً في الصلح ووقع في أول سنة 1259=1843 اتفاقية أخرى لا تخرج في مجملها عن الاتفاقية السابقة، إلا أن الفقرة الخامسة المتعلقة بالدفاع المشترك قد اختفت، بيد أن الاتفاقية اعترفت بحق السلطان في فرض رسوم مرور معتدلة على البضائع المارة في أراضيه، وكان البريطانيون قد أوقفوا المرتبات السلطانية بعد الهجمات، فتعهدوا بدفعها مع ما تراكم من حساب الشهور الماضية.
وكان هينز مدركاً أن العبادل رغم إذعانهم لم يقبلوا بالاحتلال البريطاني الأجنبي في قرارة أنفسهم، وتحسباً من أن يفاجئوه قام بعدة إجراءات منها زيادة عدد قواته إلى 1050 جندياً، وترميم الجدران والمواقع الدفاعية التي تمركزت قواته فيها، وأنشأ شبكة واسعة من الجواسيس لتطلعه على ما يدور من حوله في القبائل المختلفة، ورغم أن شبكته ضمت مخبرين عرب إلا أن  هينز اعتبرهم غير موثوقين لميلهم للمبالغة، وكان جل اعتماده على مخبرين يهود كان أغلبهم يعمل خازناً أو محاسباً لدى أمراء القبائل، وكانت أسرهم تقيم في عدن، فقد منحتهم مهنتهم الاطلاع على دقائق الأمور، كما كانت زياراتهم المتكررة لعدن لا تثير الاشتباه.
وليضمن ألا يهاجمه السلطان محسن ماطل هينز في دفع المرتبات السلطانية فما كان من السلطان محسن إلا أن ماطل هو أيضاً في تنفيذ الاتفاق، رغم أن تعليمات بومباي كانت تنص على تجنب إثارة السلطان والتعامل معه بالحسنى وعدم التدخل بينه وبين رعيته، ولما طالت فترة التوتر خشي هينز أن ينقلب الأمر إلى تمرد مكشوف فأطلق الدفعات وزال التوتر القائم بسببها.
وبدأت عدن في الازدهار فقد كانت التجارة من الهند والصين إلى أوروبا وبالعكس تجارة مزدهرة يسيطر عليها البريطانيون، ويدعمهم أحدث أسطول بحري وأكبره، وصادف أيضاً أن ميناء بربرة على الساحل الصومالي بدأ في الانحدار بسبب الخلافات بين القبائل المحيطة به، وكان هو من قبل ميناء المنطقة الرئيس، وكانت له مواسم يأتيه فيها البائعون و المشترون فيتداولون البن والصمغ العربي واللبان وغيرها، فكانت مصائب بربرة فوائد عند عدن التي استفادت كذلك من التنظيم البريطاني لأمور التجارة والتخزين والشحن، فأصبحت في غضون سنوات قليلة ميناء المنطقة الأول.
وفي شعبان من سنة 1262=1846 وصل إلى لحج الشريف إسماعيل بن حسن قادماً من مكة على رأس جيش من الأعراب ومن أهل عسير عدده حوالي 3000 شخص، وقد أعلن الجهاد لطرد الإنكليز من عدن، وكان الشريف يقول إن لديه علم الحساب، وأنه عرف منه أن النصر له على الإنكليز، وأن مدافعهم إذا واجهته سيطفئ الله شرارها ويدفع عن المجاهدين أشرارها، ومنَى أتباعه بالنصر والغنيمة، وحاول الشريف أن يحمل السلطان محسن على مشاركته في الهجوم فاعتذر ، وأرسل بخبره إلى عدن، فأجابه البريطانيون أنهم على تمام الاستعداد لصده عن عدن، وفرض الشريف على السلطان كمية من القوت لجنوده فأعطاها له، وسمح لجنوده بالتخييم في أراضيه، وأعطاه الشريف فرماناً مما جاء فيه: إن الله عز وجل قدَّر المقادير حتى ساقنا من أقصى البلاد إلى هذه البلد بقدرة العزيز القدير، فوجب علينا أن نقر أولي الفضل والرياسة في أحكامهم المعلومة من غير بخس ولا خساسة، وهو فخر الأمراء المكرمين، وارث العز خلفاً بعد سلفه الأولين السلطان محسن بن فضل... وختمه بوصفه نفسه: الشريف الإمام، العارف بالله، فرع الشجرة الزكية، وسلالة السلسلة المصطفوية، الغوث الجامع والغيث الهامع، معصب لشريعة جده: مولانا الشريف إسماعيل ابن مولانا الشريف الحسن...
وانضم للشريف آل فضل وما أن وصلوا إلى ظاهر عدن حتى أطلق البريطانيون عليهم مدافعهم فانهزموا، ثم أعادوا هجومهم بعد أسبوع يوماً بعد يوم، ولكنهم هزموا وتفرقوا  شذر مذر، ولم تقم لهم بعدها قائمة.
وعاقب البريطانيون كل القبائل التي شاركت في الهجوم، وقاموا بحصار بحري لموانئها فتوترت علاقاتهم مع كل السكان، واعتبر البريطانيون السلطان محسن متواطئاً مع الشريف ومشاركاً في الهجوم على عدن، وأنه بذلك أخل باتفاقه معهم، فقطعوا الراتب عنه، وتغافلوا أنه ما كان ليستطيع مقاومة الشريف دون مساعدتهم، ولكنهم اهتموا بأنفسهم وتركوه وحده، فلم يكن لديه إلا أن يداريه من أجل سلامة بلاده وصالح رعيته، ثم مالبثت المصالح أن تغلبت شيئاً فشيئاً على مواقف الأطراف المختلفة التي تبادلت اللوم على انسياقها وراء أوهام العظمة ممن يؤمنون بالتنجيم ويعولون على الأحلام .
وما لبث السلطان محسن أن توفي في آخر سنة 1263=1847، وخلفه ابنه أحمد فسار على نهجه، ولم تطل أيامه فتوفي سنة 1265 وخلفه أخوه علي الذي دام في الحكم حتى وفاته سنة 1279، وعقد معاهدة مع البريطانيين أشبه بمعاهدات الحماية، أما عدن فبقيت مستعمرة بريطانية تديرها شركة الهند الشرقية، ولما افتتحت قناة السويس سنة 1869 أصبحت بالغة الأهمية لبريطانية فقد أصبح هذا الطريق الرئيس لتجارتها مع الهند والصين، ولما تحولت شركة الهند الشرقية إلى حكومة الهند في سنة 1917 بقيت عدن تابعة لها، ثم فصلت عنها وأُعلنت في سنة 1937 مستعمرة تابعة للتاج البريطاني تديرها وزارة الخارجية في لندن، ثم جعلت ولاية ذات حكم ذاتي في سنة  1963.
وينبغي الإشارة أن لحج بقيت سلطنة مستقلة يحكمها العبادلة حتى سنة 1373=1959 عندما جعلتها بريطانية العضو السابع في اتحاد إمارات الجنوب العربي، وجعلت سلطانها وزير الدفاع في حكومة الاتحاد، ثم في عام 1382= 1963 دمجت بريطانية عدن في الاتحاد وأسمته اتحاد الجنوب العربي، الذي نال في سنة 1387=1967 استقلاله عن بريطانية باسم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وانتهى بذلك الوجود البريطاني في تلك الديار.
ونعود إلى الكابتن هينز الذي انتهت علاقته بعدن في سنة 1270=1854 حين كشف مدققو الحسابات الرسميون الذين أرسلتهم شركة الهند الشرقية عن وجود نقص مالي مقداره 28.000 جنيه، فاستدعي إلى بومباي وحوكم بتهمة الاحتيال والاختلاس، وبرأته المحكمة من المسؤولية الجنائية، وبقي عليه أن يسدد المبلغ الناقص، وأبى حاكم الشركة العفو عنه، فلبث في السجن 6 سنين حتى رثى له حاكم بومباي الجديد السير جورج كلارك وأمر بإطلاق سراحه، ولكنه مات بعد أسبوع من إطلاق سراحه وهو على متن سفينة توشك أن تبحر من ميناء بومباي إلى إنكلترا.
وستافورد هينز أنموذج لنوعية من الرجال الذين بنوا الإمبراطورية البريطانية بالانضباط والولاء والدأب والإخلاص لوطنهم، مستعينين في ذلك بالتخطيط والإصرار والمال والخديعة والسلاح، وكان أغلب جنودهم وأعوانهم من المستعمرات البريطانية، يضربون إحداها بالأخرى، ونشير أنه كان المندوب السياسي في عدن طيلة 15 سنة، لم يأخذ فيها إجازة واحدة، وكان يدير أموره مع قلة مساعديه حتى أنه كان يكتب رسائله بنفسه، وقد أثمرت جهوده في استيلاء بريطانية على عدن التي ازدهرت في سبع سنوات من قرية بائسة يسكنها 600 شخص إلى ميناء تجاري حر  عدد سكانه 25.000 نسمة، أصبح محور التجارة في جنوب الجزيرة العربية وشرق أفريقية.
                                                                                                                                        
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer