الجمعة، 25 أكتوبر 2013

حدث في التاسع عشر من ذي الحجة

 

في التاسع عشر من ذي الحجة من عام 35 بويع الإمام علي رضي الله عنه بالخلافة في المدينة المنورة، بعد مقتل عثمان رضي الله في اليوم السابق، فصار رابع الخلفاء الراشدين، وفيما يلي استعراض لما جرى عند بيعته وما بعدها.

قامت حركة التمرد في مصر والعراق على عثمان رضي الله عنه بأسباب واهية تافهة، وكان يمكن القضاء عليها قبل استفحالها لولا أن عثمان رضي الله عنه ما كان يحسب أن تغتاله الشائعات، وهو من هو في سابقته في الإسلام وقربه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل المتمردون وفداً للمدينة قابل عثمان الذي بين لهم ما جهلوه وكشف لهم ما ظنوه، وأبدى لهم عذره فيما آخذوه، ولكنهم ومَن وراءهم أصروا على أن يترك الخلافة، ولكنه رضي الله عنه أبى أن يخلع قميصاً ألبسه الله إياه، وأبى كذلك أن يقاتل الصحابة من أهل المدينة المتمردين لئلا يسفك دم بسببه، ولعله ما كان يحسب أن تؤول الحال بهذه العصبة الفاجرة أن تعتدي عليه وتقتله في بيته في الثامن عشر من ذي الحجة من عام 35.
وتختلف الروايات اختلافاً كبيراً في تاريخ هذه الواقعة وملابساتها، فمنها من يؤرخها بالخامس والعشرين من ذي الحجة، وأنا أورد هنا ما جمعته من الروايات، وتمهيداً لذلك أقول أنه مما لا شك فيه أن طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام كانا في المدينة ولم يكونا يرغبان في بيعة علي رضي الله عنه، وأن ابن عباس وغيره نصحوا علياً بما يجب عليه فعله مع أمراء الأمصار فلم يأخذ برأيهم، إضافة إلى موقف معاوية وهو عامل عثمان على الشام.
ولأهمية مواقف هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، ينبغي أن نتناول باختصار شيئاً عن حياة كل منهم، مشيرين إلى أعمارهم، لعلاقة ذلك بجانب من جوانب أهليتهم واستحقاقهم للولاية، وذلك لأن المجتمعات الإنسانية كانت إلى عهد قريب، معتادة على أن تقدِّم الكبير في الولاية والقيادة، وتنظر باستغراب لولاية الصغير:
ونبدأ بأكبرهم سناً وهو طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي، المولود سنة 28 قبل الهجرة، وهو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين، وأحد الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه ليكونوا أصحاب الشورى فيمن يليه. كان تاجراً ثرياً شديد الكرم، ولذا لقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة بطلحة الجود، وطلحة الخير، ودعاه مرة الصبيح المليح الفصيح. شهد طلحة أُحدا وثبت مع رسول الله، وبايعه على الموت، فأصيب بجراح كثيرة، وسلم، فشهد الخندق وسائر المشاهد. وكان أهل الكوفة يناصرون طلحة ويودون لو أنه صار الخليفة بعد عثمان، رضي الله عن الجميع.
ويليه في السن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، المولود سنة 28 قبل الهجرة، وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم وله 12 سنة، وهو أحد العشرة المبشرين، وأول من سل سيفه في الإسلام، وشهد بدرا وأُحدا وسائر المشاهد، وجعله عمر في من يصلح للخلافة بعده، وكان موسرا، كثير المتاجر، خلف أملاكا بيعت بنحو أربعين مليون درهم. وكان أهل البصرة يناصرون الزبير ويودون لو أنه صار الخليفة بعد عثمان رضي الله عن الجميع.
وقتل طلحة في معركة الجمل سنة 36، وقتل ابن الزبير عقبها غيلة بوادي السباع قرب البصرة.
وأما علي رضي الله عنه، فولد سنة 23 قبل الهجرة، وسابقته في الإسلام وسيرته مع رسول الله أشهر من أن تذكر هنا، ويكفي أن نذكر في قضية الخلافة ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت بين يدي أبي جالسا ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخيين فذكروا خلافة أبي بكر، وخلافة عمر بن الخطاب، وخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنهم فأكثروا، وذكروا خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزادوا فطالوا، فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء قد أكثرتم القول في عليٍّ والخلافة، على أنَّ الخلافة لم تزين عليا بل عليٌ زيَّنها!
وأما معاوية فهو أصغرهم، فقد ولد في سنة 20 قبل الهجرة، وأسلم يوم الفتح سنة 8، وتعلم الكتابة والحساب، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه، وولاه أبو بكر قيادة جيش تحت إمرة أخيه يزيد بن أبى سفيان، فكان على مقدمته في فتح مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وجعله عمر واليا على الأردن، ثم ولاه دمشق بعد موت أميرها يزيد أخيه، وجاء عثمان فجمع له الديار الشامية كلها وجعل ولاة أمصارها تابعين له. وتوفي معاوية سنة 60 بعد أن صار خليفة المسلمين سنة 41.
نعود إلى بيعة علي رضي الله عنه، وأغلب ما نورده عماده ما أورده الإمام ابن جرير الطبري في تاريخه عمن شهدوا الواقعة ومنهم ابن الإمام علي محمد بن الحنفية.
لما قُتَل عثمانُ رضي الله عنه، أراد المتمردون ألا يولوا علياً ولا طلحة ولا الزبير، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيما سوى ذلك، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقّاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إليهم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثّل:
لا تخلطنَّ خبيثات بطيِّبة ... واخلع ثيابك منها وانج عريانا
فقال أهل مصر لأهل المدينة: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلاً تنصّبونه، ونحن لكم تبع. وهدد المتمردون أهل المدينة: دونكم يا أهل المدينة فقد أجّلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ غداً عليّاً وطلحة والزّبير وأُناساً كثيراً. وذكر المتمردون هؤلاء لأنهم المرشحون لخلافة عثمان، وإن كان المعروف عن علي أنه عازف عن هذه الخلافة، وأن طلحة والزبير يتطلعان لها.
ذهب الناس إلى علي ليكون خليفة المسلمين واتّبعوه، فدخل بستان بني عمرو بن مبذول، وقال لصاحبه: أغلق الباب، فجاء الناس فقرعوا الباب ودخلوا، فقالوا: إنّ هذا الرّجل قد قُتِل، ولا بدّ الناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ يا أبا الحسن؛ هلمّ نبايعك، فقد ترى ما نزل بالإسلام؛ وما ابتلينا به من ذوي القربى. فقال: لا تفعلوا، دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً؛ أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به. فقالوا: ننشدك الله ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف الله! لا، والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
فقال علي رضي الله عنه: قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإنّي قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلاّ فلا حاجة لي فيه، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلاّ أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم. قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلاّ عن رضا المسلمين. وقد علق على ذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه؛ وأبى هو إلا المسجد. ثمّ افترقوا على ذلك واتّعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت.
وخرج عليٌّ إلى المسجد وعليه إزار وطاق وعمامة خزّ، ونعلاه في يده، متوكئاً على قوس؛ فصعد المنبر فقال: ياأيها الناس، عن ملإ وإذن، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرّتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا أجِدُ على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. فقال علي رضي الله عنه: إني قد كنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم؛ ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، إلاّ أن مفاتيح ما لكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهمّ اشهد عليهم، ثمّ بايعهم على ذلك.
وتلكأ بعض كبار الصحابة في البيعة لعلي منهم الزبير وطلحة، ويبدو أن أنصار علي قد ذهبوا إلى هؤلاء فأحضروهم إذ تتحدث الروايات عن تلكؤ طلحة في المبايعة وأن مالك بن الأشتر سلَّ سيفه وقال: والله لتبايعنّ أو لأربنّ به ما بين عينيك، فقال طلحة: وأين المهرب عنه! فبايعه. وكان بطلحة شلل في كفه من غزوة أحد حين اتقى بها سهماً رمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الناس رجل يتعاطى العيافة، فنظر من بعيد، فلما رأى طلحة أوّل من بايع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أوّل يدٍ بايعت أمير المؤمنين يدٌ شلاّء، لا يتمّ هذا الأمر!
وقد تناول هذا الأمر القاضي ابن العربي في العواصم من القواصم فقال رحمه الله: إن قيل: بايعا مكرهين. قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما . ولو كانا مكرهين ما أثرَّ ذلك، لأن واحدًا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعاً. ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام. وأما قولهم: يد شلاّء.. فإن يدا شُلَّت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه.
وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه منهم، وهو في سن علي إذ ولد سنة 23 قبل الهجرة، فلما جاءوا به قال عليّ: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس؛ قال: خلّوا سبيله. وجاءوا كذلك بعبد الله بن عمر، المولود سنة 10 قبل الهجرة، فقال له عليٌّ: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، قال: ائتني بكفيل، قال: لا أرى كفيلاً، قال الأشتر: خلِّ عنّي أضرب عنقه، قال عليّ: دعوه، أنا كفيله.
ودعا عليٌ أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، فقال: أنت أحب الناس إلي وآثرهم عندي، ولو كنت بين لحيي أسد لأحببت أن أكون معك، ولكني عاهدت الله أن لا أقاتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله.
وتخلف كذلك نفر يسير من الأنصار عن بيعة علي رضي الله عنه، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلَّد، وأبو سعيد الخدريّ، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة. وقد سئل علي رضي الله عنه عن هؤلاء وأمثالهم، ممن لم يبايعوه ولم يطعنوا في إمامته، فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل.
ورجع على إلى بيته، فجاءه طلحة والزبير في عدد من الصحابة، فقالوا: يا عليّ، إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل. فقال: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عُبدانُكم، وثابَتْ إليهم أعرابُكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأيا ترونه أبداً إلا أن يشاء الله، إن هذا الأمر أمر جاهلية، وإن لهؤلاء القوم مادة، إن الناس من هذا الأمر - إن حُرِّك - على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقةٌ لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها، وتؤخذ الحقوق. فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا .
وكان من استطاع من بني بني أميّة أن يغادر المدينة قد هرب خشية أن يقتله المتمردون، وبخاصة أنهم كانوا ينقمون على عثمان رضي الله عنه استعماله لبني أمية وإكرامه لهم، وكان أول من هرب إلى مكة الوليد بن عقبة، أخو عثمان لأمه، وسعيد بن العاص، وكانا والييه من قبل على الكوفة، وتبعهم مروان بن الحكم وكان كاتب عثمان، وتتابع على ذلك من تتابع، وأخذ النعمان بن بشير قميص عثمان الذي قتل فيه وأصابع امرأته نائلة، وسار بهم إلى الشام.
وخشي علي رضي الله عنه أن يؤدي هذا إلى تشكيل بؤرة تمرد جديدة أو تعضيدها، فاشتد على قريش، ومنعهم من مغادرة المدينة، فأدى هذا لتذمر عدد منهم، وبدا لهم ضعف موقفه.
ومثله مثل كل حاكم جديد، جاء الناصحون علياً رضي الله عنه من البعيدين والأقرباء، فقد جاءه المغيرة بن شعبة، أحد دهاة العرب، المولود سنة 20 قبل الهجرة والمتوفى سنة 50، وكان قد ولي الكوفة لعثمان، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأي اليوم يحرز به ما في غدٍ، وإن الضَياع اليوم يضيع به ما في غدٍ، وإن لك عندي نصيحةٌ، قال: وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة على الكوفة، والزبير على البصرة، وابعث إلى معاوية بعهده على الشام حتى تلزمه طاعتك، ، ولك حجةٌ في إثباته، فإن عمر بن الخطاب كان قد ولاه الشام، وأقرِرْ عمال عثمان على أعمالهم، فإذا بايعوا لك، واستقرت لك الخلافة وسكن الناس، عزلت من أحببت وأقررت من أحببت.
فقال علي: أما طلحة والزبير فسأرى رأيي فيهما، وأما معاوية فلا يراني الله مستعملاً له ولا مستعيناً به ما دام على حاله، ولكني أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فإن أبى حاكمته إلى الله تعالى. فانصرف عنه المغيرة مغضباً لما لم يقبل منه نصيحته.. فلما كان الغد أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، نظرت فيما قلت بالأمس وما جاوبتني به، فرأيت أنك قد وفقت للخير وطلبت الحق. ثم خرج عنه، فلقيه الحسن وهو خارجٌ، فقال لأبيه: ما قال هذا الأعور؟ يعني المغيرة، وكان المغيرة قد أصيبت عينه يوم اليرموك، قال: أتاني أمس بكذا وأتاني اليوم بكذا. قال: نصحك والله أمس وخدعك اليوم. فقال له علي: إن أقررتُ معاوية على ما في يده كنت متخذ المضلين عضدا.
وقال المغيرة في ذلك:
نصحت عليا في ابن هند نصيحةً ... فردّ فلا يسمع الدهر لها ثانيه
وقلت له: أرسل إليك بعهده ... على الشام حتى يستقرّ معاويه
ويعلم أهل الشام أن قد ملكته ... فأمّ ابن هندٍ بعد ذلك هاويه
وتحكم فيه ما تريد فإنّه ... لداهيةٌ فارفق به وابن داهيه
فلم يقبل النّصح الذي جئته به ... وكانت له تلك النصيحة كافيه
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما  نحو هذا الخبر، وأن ابن عباس قال لعلي: وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله. فلما رفض علي هذا الرأي، قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع، لستَ صاحب رأيٍ في الحرب، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحرب خدعة؟ فقال: بلى. فقلت: أما والله لئن أطعتني لأصدِرنَّهم بعد ورود، ولأنظرنهم ينظرون في دُبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثمٍ لك. فقال: يا ابن عباس، لست من هنياتك ولا من هنيات معاوية في شيء، فقلت له: أطعني، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولةً وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنَّك الناس دم عثمان غدا! فأبى علي، وقال: تشيرُ علي، وأرى، فإذا عصيتك فأطعني. فقال: أفعل، إن أيسر مالك عندى الطاعة. فقال له علي: تسير إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجلٌ من بني أمية، وهو ابن عم عثمان، وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وإن أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك. وإن كل ما حُمِل عليّ حُمِل عليك، ولكن اكتب إلى معاوية فمَنِّه وعِدْه . فقال: لا والله لا كان هذا أبدا!
وأرسل علي رضي الله عنه المسور بن مخرمة الزهري إلى معاوية لأخذ البيعة عليه؛ وكتب إليه معه: إن الناس قد قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، وبايعوا لي، فبايع رحمك الله موفقاً، وفِدْ إليّ في أشراف أهل الشام. ولم يذكر له ولاية، فلما ورد الكتاب عليه؛ أبى البيعة لعلي واستعصى، ووجه رجلاً معه صحيفة بيضاء؛ لا كتابة فيها، وعنوانها: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب. فلما رآها علي قال: ويلك ما وراؤك ؟ قال: أخاف أن تقتلني. قال: ولم أقتلك وأنت رسول ! فقال: إني أتيتك من قِبل قوم يزعمون انك قتلت عثمان وليسوا براضين دون أن يقتلوك به. فقال علي: يا أهل المدينة والله لتقاتلن أو ليأتينكم من يقاتلكم.
وما لبث طلحة والزبير أن خرجا من المدينة ولحقا بمكة المكرمة وكانت فيها عائشة رضي الله عنها، وأخذا من هناك يطالبان علياً بالقصاص من قتلة عثمان، وهو أمر ما كان في مقدوره، وقد أبدى لهم عذره فيه من قبل، واتسعت الفتنة، وحركتها الغوغاء وهوام الناس، حتى كانت موقعة الجمل ثم صفين، وهي معالم شديدة السواد في تاريخ الإسلام، بها بدأت الفرقة والخُلف، وعاد المسلمون كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
إن سنن الله في الكون لا تستثني ولا تحابي فرداً أو مجتمعاً أو جماعة، إلا الأنبياءَ المرسلين في معجزاتهم وعصمة الله لهم، أما كبارُ الصحابة رضوان الله عليهم فهم بشرٌ يخطئون ويصيبون، ويتفقون ويختلفون، ولكن ما يدفعهم إلى ذلك هو بحثهم عما أهو أصلح للأمة وأنفع للبلاد، فهم فيما شجر بينهم لم يتنافسوا على عرض الدنيا، ومنهم الأثرياء الأسخياء، والمضحون الأولياء، بل هم مجتهدون في آرائهم وتصرفاتهم، وإنما اختلفوا على ما رأوا فيه مصلحة الأمة، فهم في هذا الاجتهاد مأجورون، وحسبنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإن حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. ولا نقول إلا ما علمنا الله عز وجل في القرآن الكريم: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer