الخميس، 17 أكتوبر 2013

حدث في الثاني عشر من ذي الحجة

في الثاني عشر من ذي الحجة في السنة الأولى قبل الهجرة، والثانية عشرة للبعثة، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً وامرأتين من الأنصار في مكة المكرمة، وهي بيعة العقبة التي أرست أساس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، والتي ذكرها الله في سورة التوبة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام على من أتى من القبائل إلى مكة أيام موسم الحج، وقبل سنتين لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فلما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم من أنتم؟ قالوا : نفر من الخزرج، قال أمن موالي يهود؟ - أي حلفائهم - قالوا : نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، وكان يهود معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكان الأنصار أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توَّعدُكم به يهود فلا تسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا : إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدِم عليهم فندعوهم إلى أمرك، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.
والخزرجيون التقوا بالرسول عند العقبة هم: أبو أمامة أسعد بن زُرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك،  وعقبة بن عامر، وقُطبة بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رِئاب، فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام.
ونذكر هنا نبذة عن كل واحد من هؤلاء الذين كان لهم شرف السبق الأول رضوان الله عليهم، أما أسعد بن زرارة بن عدس، من بني النجار، فكان أحد الشجعان الأشراف في الجاهلية والإسلام، ومات قبل بدر، فدفن في البقيع. وأما عوف بن الحارث فقُتِل يوم بدر شهيداً، قتله أبو جهل. وأما رافع بن مالك فكان من الكَمَلَة، وكان الكامل في الجاهلية الذي يكتب ويحسن العوم والرمي، ولم يشهد رافع بن مالك بدرا وشهدها ابناه رفاعة وخلاد، ولكنه قد شهد أحدا وقتل فيها شهيدا.
وعقبة بن عامر شهد بدراً وأٌحدا وأعلَمَ يومئذ بعصابة خضراء في مِغفره، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد يوم اليمامة في حروب الردة في خلافة أبي بكر الصديق، وقتل فيه شهيدا سنة 12. وأما قطبة بن عامر، فكان قطبة من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورمى قطبة يوم بدر بحجر بين الصفين، ثم قال: لا أفر حتى يفر هذا الحجر! وتوفي في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.  وأما جابر بن عبد الله بن رئاب، فشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أحاديث، وتوفي وليس له عقب.
وجاء منهم في السنة القادمة اثنا عشر رجلا منهم بعض الستة، فاجتمعوا به عند العقبة وبايعوه، وتسمى بيعة العقبة الأولى، على ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتون ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فإن وفوا فلهم الجنة، وإن غشوا من ذلك شيئا فأمرهم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر. وتسمى هذه البيعة كذلك بيعة النساء لخلوها من ذكر القتال.
فلما رجعوا إلى المدينة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، فكان يسمى بالمدينة المقرئ، وكان يصلى بالأوس والخزرج، وأسلم على يده فوج جديد منهم أُسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهم، وكان لإسلامهم أثر كبير في إسلام كثير من أتباعهم من أهل المدينة.
ثم جاء منهم في العام القادم سبعون رجلاً وامرأتان مع حجاج الأوس والخزرج، فانطلق منهم البراء بن معرور وكعب بن مالك لترتيب الاجتماع برسول الله، وهما لا يعرفان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم. وقد كنا نعرف العباس؛ كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه فسلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم هذا البراء بن معرور، سيد قومه، وهذا كعب بن مالك. قال كعب: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر؟ فأجاب العباس: نعم.
وواعدوا رسول الله على الاجتماع به ثاني أيام التشريق،  قال كعب بن مالك: فلما كانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، أخبرناه، وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا، فكلمناه، وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، وكان نقيبا.
فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا أم عمارة نسيبة بنت كعب من بني النجار، و أم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي من بني سلمة، فاجتمعنا بالشَعْب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج؛ خزرجها وأوسها - إن محمدا صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عز من قومه ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومَنَعة.
وهنا نتوقف لبعض الملاحظات والفوائد، وأولها أن البيعة كما هو مفهوم من كلام العباس رضي الله عنه كانت بهدف أن ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ويؤسس دولته وينشر دعوته، ويتضح الأمر تماماً في رواية أخرى لجابر بن عبد الله الذي حضر البيعق، يقول في روايته: فائتمرنا واجتمعنا وقلنا : حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف؟!  وثانيها أن أغلب السبعين كانوا من الشباب، تحدوهم همة الفتوة ومضاؤها، فقد جاء في رواية جابر بن عبد الله: فقال له عمه العباس: يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك، إني ذو معرفة بأهل يثرب. فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث! فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت.
نعود إلى رواية كعب بن مالك رضي الله عنه، قال فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أُزرنا فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر! فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدَّمَ الدَّمَ، والهدمَ الهدمَ، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. الهدم : العفو عن الدماء أو هدرها، والمراد أن من طلب دمكم فقد طلب دمي.
ونأخذ بقية ما حدث من رواية جابر بن عبد الله الأسلمي، وكان أصغر من حضر، قال: قلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة. فقمنا إليه نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: أمِطْ عنا يا أسعد، فو الله لا ندع هذه البيعة ولا نستقيلها أبدا. قال: فقمنا إليه رجلاً رجلاً فبايعناه، يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرِجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
ويضيق المقام عن ذكر أسماء كل من بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة، فنجتزئ بأسماء النقباء، والامرأتين، ونبذة عن كل واحد منهم:
أبو أمامة أسعد بن زرارة:  سبق ذكره
سعد بن الربيع بن عمرو: كان يكتب في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلة، وبعد الهجرة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، وشهد سعد بدرا وأحدا وقتل يوم أحد شهيدا من جراحاته،  وبعد انتهاء معركة أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله. فذهب الرجل يطوف بين القتلى فعثر على سعد بن الربيع وفيه رمق، فقال له سعد: أقرئ رسول الله مني السلام، وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وأن قد أنفذتُ مُقاتلي، وأخبر قومك أنه لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله وأحد منهم حي. وجاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فاستفاءه، فلم يدع لهما مالا، والله لا تُنكحان إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقضي الله في ذلك. فأنزل الله عليه آية الميراث فدعا عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، ولك ما بقي.
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة: كان عبد الله بن رواحة يكتب في الجاهلية ومن الشعراء، وشهد بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر، واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في إحدى الغزوات، ولما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في عمرة القضاء سنة 7، كان معه عبد الله بن رواحة آخذ بزمام ناقته، واستشهد سنة 8 في غزوة مؤتة بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب.
رافع بن مالك بن العجلان: سبق ذكره
البراء بن معرور: كان البراء بن معرور أول من مات من النقباء، توفي قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر، وأوصى بثلث ماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء، وقالت زوجته أم بشر: يا رسول الله هذا قبر البراء،  فصف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وصلى عليه، وقال: اللهم اغفر له، وارحمه، وارض عنه. وقد فعلت.
عبد الله بن عمرو بن حرام: والد الصحابي الجليل جابر بن عبد الله، شهد بدرا وأُحدا وقتل يومئذ شهيدا، وهو أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، قال ابنه جابر بن عبد الله: لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهونني، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وجعلت عمتي فاطمة بنت عمرو تبكي عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه.  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفنوا عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد. لما كان بينهما من الصفاء وقال: ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد.
عبادة بن الصامت بن قيس: كان عبادة يوم العقبة في السابعة والعشرين من عمره، وشهد بدرا وأُحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي بالرملة في فلسطين سنة 34 وهو ابن 72 سنة.
سعد بن عبادة: كان سعد في الجاهلية يكتب بالعربية، وكان يحسن العوم والرمي وكان من أحسن ذلك يسمى الكامل، ولم يشهد بدرا لإصابته، ولكنه قد شهد أحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثرياً كريماً يطعم الناس، وكان يدعو اللهم هب لي حمدا، وهب لي مجدا، لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه. وكان سعد لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليه كل يوم جفنة فيها ثريد، فكانت جفنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، وكانت أمه عمرة بنت مسعود ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفيت في السنة الخامسة والرسول غائب في غزوة دومة الجندل، وكان معه سعد بن عبادة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال له سعد: إن أم سعد ماتت، وإني أحب أن تصلي عليها. فصلى عليها وقد أتى لها شهر. توفي سعد بن عبادة بحوران من أرض الشام في سنة 15.
المنذر بن عمرو بن خُنيس: كان المنذر يكتب بالعربية قبل الإسلام، وشهد بدرا وأحدا، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة من الهجرة إلى بني عامر بن صعصعة، فاستنجد عامر بن الطفيل عليه عصية وذكوان ورعل، فقتلوه وأصحابه أميرا على بئر معونة فقتل، فحزن الرسول لمقتلهم حزناً شديداً، ودعا على قاتليهم شهراً في قنوت الفجر، وقال عن المنذر: أعنق ليموت. والإعناق: المشي السريع الفسيح.
أُسيد بن حُضير: أسلم أسيد على يد مصعب بن عمير بالمدينة، وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وشهد مع عمر فتح البيت المقدس، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان أحد العقلاء الكملة أهل الرأي، وله في بيعة أبي بكر أثر عظيم، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يكرمه ولا يقدم عليه واحداً، ويقول: إنه لا خلاف عنده. روى عنه أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إنكم سترون بعدي أثرة، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: اصبروا حتى تلقوني على الحوض. توفى أسيد بن حضير سنة 20، وحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه النعش حتى وضعه بالبقيع؛ وصلى عليه.
سعد بن خيثمة: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت سعد بن خيثمة عندما قدم المدينة، ثم انتقل إلى بني النجار، فنزل في بيت أبي أيوب النصاري، وقُتِل سعد شهيداً في غزوة بدر، ولما أرادوا الخروج إلى بدر قال له أبوه خيثمة: لا بد لأحدنا أن يقيم، فآثرني بالخروج، وأقم أنت مع نسائنا. فأبى سعد، وقال: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا. فاستَهَما فخرج سهم سعد، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم إلى بدر، فقتل.
رفاعة بن عبد المنذر: شهد بدرا وأحدا وقتل يوم أحد شهيدا.
وشهدت بيعة العقبة امرأتان هما أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية من بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو من بني سلمة .
أما نسيبة بنت كعب، فقد شهدت أحدا والحديبية وخيبر وعمرة القضاء وحنينا، وكانت تخرج إلى القتال، فتسقي الجرحى وتقاتل، وأبلت يوم أحد بلاءا حسنا، وجرحت اثني عشر جرحا، بين طعنة رمح وضربة سيف، وكانت ممن ثبت مع رسول الله حين تراجع الناس، وكان رسول الله إذا حدث عن يوم أحد وذكر أم عمارة يقول: ما التفت يمينا ولا شمالا إلا رأيتها تقاتل دوني. وحضرت حرب اليمامة، فقاتلت وقُطِعت يدها وجرحت، فكان أبو بكر وهو خليفة يعودها في المدينة ويسأل عن حالها، وتوفيت في نحو سنة 13.
وأما أسماء بنت عمرو فتكنى أم منيع، وهي ابنة عمة مُعاذ بن جبل، فقد شهدت فتح خيبر مع زوجها خديج بن سلامة.
فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتقموا من الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلنوا الجهاد، ويميلوا على أهل منى بأسيافهم، فلم يأذن لهم في ذلك.
ونادى الشيطان في قريش بخبر اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل يثرب، وبيعتهم له على المنعة والقتال، فجاءت جُلَّة قريش وأشرافهم في اليوم التالي إلى الأنصار فقالوا : يا معشر الخزرج إنه بلغنا أنكم لقيتم صاحبنا البارحة وواعدتموه أن تبايعوه على حربنا، وأيمُ الله ما حيٌّ من العرب أبغض إلينا من أن ينشب بيننا وبينه الحرب منكم! فانبعث من كان هناك من الخزرج من المشركين يحلفون لهم بالله ما كان هذا وما علمنا، وجعل عبد الله بن أبي ابن سلول  يقول: هذا باطل، وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا علي مثل هذا، لو كنتُ بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني!
فرجعت قريش من عندهم ورحل البراء بن معرور فتقدم إلى بطن يأجج، وتلاحق أصحابه من المسلمين، وتأكدت قريش من الخبر فخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجذبونه بجمته حتى أدخلوه مكة، فجاء المُطعِمُ بن عدي والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكرّوا إليه، فإذا سعد قد طلع عليهم فوصل القوم جميعا إلى المدينة.
وبعد بيعة العقبة الثانية، أذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة، فبادر الناس إلى ذلك، ثم لحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر، وتأسست دولة الإسلام في المدينة المنورة، وفاز الأنصار بفخر الدهر، ونزلت فيهم الآية الكريمة من سورة التوبة: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer