الجمعة، 11 أكتوبر 2013

حدث في الخامس من ذي الحجة

 
في الخامس من ذي الحجة من عام 874 توفي بالقاهرة، عن 61 عاماً، المؤرخ الكبير ابن تغري بردي، جمال الدين أبو المحاسن، يوسف بن تغري بردي بن عبد الله الظاهري، المؤرخ البحاثة، وصاحب التواريخ العظيمة. قال الأستاذ الزركلي في الأعلام: وتغري بردي: كلمة مغولية بمعنى "عطاء الله" أو "الله أعطى"، كان يكتبها الأتراك "تكري ويردي" ويلفظون الكاف نونا، والواو أقرب إلى ال V بحركة بين الفتح والكسر. وهناك عدد من الأمراء في هذه الفترة يحملون هذا الاسم ويميز بينهم بذكر مالكهم الأول فيقال في تغري بردي هذا: تغري بردي من خواجا بشبغا.
ويخمن ابن تغري بردي أنه ولد بعد سنة 811، وهو أصغر إخوته، وكان والده الملقب سيف الدين، والمولود تقديراً سنة 760، من كبار أمراء المماليك، أتي به مملوكاً من الروم، أي الأناضول، وترقى في مماليك الملك الظاهر برقوق حتى ولاه حلب، ثم صار أتابك العسكر، ثم نائب السلطنة بدمشق، وتوفي بدمشق سنة 815 ، وكان جميلاً حسن الصورة جداً، كثير الحياء والسكون، حليماً عاقلا، مشارا بالتعظيم في الدول، وقد ترجمت له في أحداث السادس عشر من المحرم. ولم يكن للأب تأثير كبير على ولده إذ توفي وابنه في حدود الرابعة من عمره. وكانت أمه أم ولد ويبدو أنها توفيت وهو صغير لأنه يقول عنها إنها مجهولة العرق. 
نشأ ابن تغري بردي وإخوته العشرة فقراء رغم أن والدهم كان من أغنى الأمراء، وكان عدد مماليكه بدمشق 970 مملوكاً، وخلف رحمه الله من الأموال والخيول والسلاح شيئاً كثيراً، ولكن استولى عليه كله الملك الناصر فرج الذي انهزم حينها إلى دمشق أمام الأميرين المتمردين شيخ ونوروز، فكانت موجودات الأمير تغري بردي حياة جديدة للملك المتعثر. قال ابن تغري بردي: وتركنا فقراء من فقراء المسلمين، فلم يضيعنا الله سبحانه وتعالى، وأنشأنا على أجمل وجه من غير مال ولا عقار، ولله الحمد.
وهنا ينبغي أن نورد قصة يذكرها ابن تغري بردي أن الملك الناصر جاء يعود والده في مرض موته، وكان شاباً في الرابعة والعشرين من عمره، قال ابن تغري بردي: طلبنا الملك الناصر أنا وإخوتي فأحضرونا بين يديه، وكنا ستة ذكور، فقبلنا يده - وأنا أصغر الجميع - فسأل عن أسمائنا، فقيل له ذلك. ثم تكلم الأتابك دمرداش المحمدي عن لسان الوالد بالوصية علينا، فقال السلطان: هؤلاء أولادي وأصهاري وإخوتي، ما هذه الوصية في حقهم! كل ذلك والوالد ساكت قد أسنده مماليكه لا يتكلم. فلما قام الملك الناصر قال الوالد: أودعت أولادي إلى الله تعالى، واستعنت به في أمرهم، فنفعنا ذلك غاية النفع ولله الحمد.
ونشأ في حجر أخته وزوجها ناصر الدين ابن العديم، ثم في بيت أخته لأمه هاجر، وكان زوجها قاضي القضاة جلال الدين البلقيني الشافعي، عبد الرحمن بن عمر، المولود سنة 762 والمتوفى سنة 824، والذي كان إماماً بارعاً في الفقه والأصول والتفسير والنحو، وقد قرأ عليه ابن تغري بردي غالب القرآن الكريم، وقال في ترجمته: وما نشأت إلا عنده، وقرأت عليه غالب القرآن الكريم، وهو أنه لما كان يتوجه إلى منزه يأخذني صحبته إلى حيث سار، فإذا أقمنا بالمكان المذكور يطلبني ويقول لي: اقرأ الماضي من محفوظك، فأقرأ عليه ما شاء الله أن أقرأه، ثم يقول لي بعد الفراغ: الذي فاتك اليوم من الكتاب أخذته من درس الماضي. ولكن أول من قرأ عليه القرآن ابن تغري بردي هو الفقيه الحنفي الكبير سراج الدين، عمر بن علي، المعروف بقارئ الهداية، والمتوفى سنة 829 وقد تجاوز الثمانين، قال عنه ابن تغري بردي: ، وهو أول من أقرأني القرآن بعد موت الوالد، وهو أحد من أدركنا من الأفراد الذين مشوا على طريق فقهاء السلف رحمه الله تعالى، وكان مقتصراً في ملبسه ومركبه، يتعاطى حوائجه من الأسواق بنفسه، مع جميل السيرة وعظم المهابة في النفوس، يهابه حتى السلطان، مع عدم التفاته لأهل الدولة بالكلية، حتى لعلي لم أنظره دخل لأحد منهم في عمره، وهو مع ذلك لا يزداد إلا عظمة ومهابة.
وكان ابن تغري بردي على علاقة وثيقة بعلية القوم ومتنفذيهم، وكان يمت لعدد منهم بصلة القرابة، فابنة عم والده شيرين هي أم الملك الناصر فرج ابن الملك الظاهر برقوق، وأخته خوند فاطمة تزوجها الملك الناصر فرج، ولما قتل سنة 816 تزوجها بعده الأمير إينال النوروزي أمير مجلس السلطان، وأخته عائشة شقراء كانت زوجة الأمير أقبغا نائب السلطان في دمشق ومات عنها، وتزوجت بعده بالأمير خليل بن الملك الناصر فرج، وكان لها ابنة تولى تربيتها ابن تغري بردي تزوجها الأمير محمد بن السلطان الملك الظاهر جقمق.
وتزوج الخليفة المعتضد بالله، داود بن محمد، المتوفى سنة 845، بزوجة تغري بردي وتوفي عنها، وقال ابن تغري بردي في ترجمته: وكان يحب اللطافة والدقة الأدبية، وكان له مشاركة وفضيلة. هذا مع الدين المتين، والأوراد الهائلة في كل يوم، جالسته غير مرة، فلم أر عليه ما أكره، وكنت أدخل إلى حرمه، لأن زوجته بنت الأمير دمرداش كانت قبله تحت والدي رحمه الله.
ودخل ابن تغري بردي مرة وهو صغير في الخامسة على الملك المؤيد شيخ، فعلمه قبل دخوله بعض من كان معه أن يطلب من السلطان خبزاً، وهو مصطلح يعني آنذاك الراتب، قال ابن تغري بردي: فلما جلست عنده وكلمني سألته في ذلك، فغمز من كان واقفاً بين يديه وأنا لا أدري، فأتاه برغيف كبير من الخبز السلطاني، فأخذه بيده وناولنيه وقال: خذ، هذا خبز كبير مليح، فأخذته من يده وألقيته إلى الأرض، وقلت: أعط هذا للفقراء، أنا ما أريد إلا خبزاً بفلاحين يأتونني بالغنم والأوز والدجاج! فضحك حتى كاد أن يغشى عليه، وأعجبه مني ذلك إلى الغاية، وأمر لي بثلاثمئة دينار، ووعدني بما طلبته وزيادة.
وعلى صلته الحسنة بهذه الطبقة، لم يكن راضياً عنهم أو معجباً بهم، ولذا نجده في ترجمته للأمير ركن الدين بيبرس الخطائي الدويدار، المتوفى سنة 725 وهو في الثمانين، يقول: وكان فاضلاً، وافر الحرمة، مهاباً. وكان الملك الناصر محمد بن قلاوون يجله، ويقوم له لما يدخل عليه، ويأذن له بالجلوس. قلت: كان يستحق هذا وأكثر؛ لما احتوى عليه من العلم، والفضل، والعقل، والكرم، والسياسة؛ فهؤلاء كانوا هم الأمراء، لا مثل أمراء عصرنا هذا؛ البقر العاجزة!
تعلم ابن تغري بردي فن القتال بالرمح على يد الأمير المعلم سيف الدين جوبان بن عبد الله الظاهري، نسبة إلى معتقه الملك الظاهر برقوق، والمتوفى بعد سنة 330.
تتلمذ ابن تغري بردي على الشيخ تقي الدين المقريزي، أحمد بن عبد القادر المقريزي، المولود سنة 766 والمتوفى سنة 845 ، وهو المؤرخ الجامع المتفنن، وصاحب الكتب التي لا تبلى جدتها مثل كتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء، شمل به تاريخ مصر حتى زوال الدولة الفاطمية، وكتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، شمل به تاريخ مصر بعد زوال الدولة الفاطمية إلى سنة 844، وكتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، وقد ذكر فيه أصقاع مصر ومعالمها، وغيرها من الكتب. قال التلميذ عن أستاذه: كان له محاسن شتى، ومحاضرة جيدة إلى الغاية لا سيما في ذكر السلف من العلماء والملوك وغير ذلك ... وقرأت عليه كثيراً من مصنفاته، وكان يرجع إلى قولي فيما أذكره له من الصواب، ويغير ما كتبه أولاً في مصنفاته، وأجاز لي جميع ما يجوز له وعنه روايته من إجازة وتصنيف وغير ذلك.
درس ابن تغري بردي العلوم الشرعية والنحو واللغة والأدب، ومن أبرز من درس عليهم العلامة الشيخ تقي الدين الشُّمُنيّ، أحمد بن محمد، المولود سنة 801 والمتوفى سنة 872، الإسكندري المولد، المصري المنشأ والدار، وكان بارعاً فِي عدة علوم كالفقه والأصول والعربية والمعاني والبيان والمنطق والطب والهيئة والهندسة والميقات والحساب والفرائض والتفسير والحديث، قال ابن تغري بردي: وهو شيخي وعليه قرأت، وحضرت دروسه، وبه انتفعت، ولي منه إجازة بما يجوز له وعنه روايته.
وقد أخذ ابن تغري بردي عن شيخ الإسلام قاضي القضاة شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، قال ابن تغري بردي: ولي منه سماع وإجازة بجميع ما يجوز له وعنه روايته من تصانيفه ونظمه ونثره.
حج ابن تغري بردي مرات عديدة والتقى بعدد من علماء مكة وأدبائها وأخذ عنهم وذاكرهم، وترجم لهم في كتبه، ومنهم قاضي القضاة جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة، ويبدو أن ذلك كان هاجسه لأنه كان يسألهم سؤال من يريد أن يذكرهم في كتبه، فيسأل عن مولدهم ومكانه ومشايخهم وطلابهم، وما إلى ذلك.
ومن معاصريه العلامة ابن عرب شاه الدمشقي، أحمد بن محمد المولود سنة 791 والمتوفى سنة 854، قال عنه ابن تغري بردي: كان إمام عصره في المنظوم والمنثور، تردد إلى القاهرة غير مرة، وصحبني في بعض قدومه إلى القاهرة، وانتسج بيننا صحبة أكيدة ومودة،. ثم أورد ابن تغري بردي نص إجازة كتبها له ابن عرب شاه سنة 853 ووصفه فيها بأنه: أمير الفقهاء، وفقيه الأمراء، وظريف الأدباء، وأديب الظرفاء.
وقد اتجه ابن تغري بردي لكتابة التاريخ واشتُهِر به، واعترف له بالتقدم فيه علماء عصره، وهو يذكر في ترجمة قاضي القضاة بدر الدين العيني، محمود بن أحمد، المولود بعينتاب سنة 762 والمتوفى سنة 855، وكان فقيهاً مؤرخاً شرح صحيح البخاري، وله ميل للتاريخ: ، ولما انتهينا من الصلاة على قاضي القضاة بدر الدين، قال لي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادي الحنبلي: خلا لك البر فبِضْ وأصفِرْ ! فلم أرد عليه؛ وأرسلت إليه بعد عودي إلى منزلي ورقة بخط العيني يسألني فيه عن شيء في التاريخ، ويعتذر عن الإجابة بكبر سنه وتشتت ذهنه، إلى أن قال: وقد صار المعول عليك الآن في هذا الشأن، وأنت فارس ميدانه، وأستاذ زمانه، فاشكر الله على ذلك.
كان ابن تغري بردي موسراً كما يتضح هذا من حديثه عن نفسه وأهل بيته في ثنايا كنبه، ولكنني لم أستطع معرفة إن كانت له وظيفة محددة في الدولة، أو عمل يترفق به، إلا أنه في سنة 836 شارك في حملة عسكرية شنها الملك الأشرف برسباي على المناطق الواقعة شمالي سورية، وكان في عداد طلبة العلم آنذاك لأنه ذكر في ترجمته للحافظ برهان الدين الحلبي، إبراهيم بن محمد المعروف بسبط ابن العجمي، المولود سنة 753 والمتوفى سنة 841، قال: ورأيته أنا أيضا بحلب في سنة ست وثلاثين وثمانمائة، ولم يتفق لي أن أروي عنه شيئا، ولكن اجتمعت بغالب طلبته، وممن تخرج به، والجميع يثنون على علمه وفضله وحفظه.
صنف ابن تغري بردي مصنفات جليلة منها كتاب مورد اللطافة في من ولي السلطنة والخلافة، وكتاب البشارة في تكميل الإشارة للذهبي، وكتاب حلية الصفات في الأسماء والصناعات، وكتاب الدليل الشافي على المنهل الصافي، في التراجم، وكتاب السكر الفاضح والعطر الفائح، في الأدب، وكتاب نزهة الزاي، في التاريخ، وكتاب سكب الأدب شرح لامية العرب.
وقوة ابن تغري بردي في كتبه التأريخية، وأهم كتبه: النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة، وقد تناول فيه تاريخ مصر من الفتح الإسلامي إلى سنة 857، أي من دخول الفاطميين مصر إلى سقوط القسطنطينية، وله مختصر للمؤلف نفسه أسماه الكواكب الباهرة من النجوم الزاهرة، وقال إنه اختصره حذراً من أن يختصره غيره!
ولما فتح السلطان العثماني سليم الديار المصرية وجد كتاب النجوم الزاهرة واستحسنه، فأمر على الفور بترجمته إلى التركية، فترجمه القاضي شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا المتوفى سنة 940،  ثم عرضه على السلطان في الطريق فأعجبه.
وكتابه الكبير الثاني هو: حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، وهو ذيل على كتاب أستاذه المقريزي المسمى السلوك في تاريخ الملوك، قال في مقدمته: فلما كان شيخنا الإمام الأستاذ العالم العلامة المفنن رأس المحدثين وعمدة المؤرخين، تقي الدين أحمد بن علي المقريزي الشافعي، أيقنَ من حرر تاريخ الزمان وأضبطَ من ألف في هذا الشأن، وأجلُ تحفة استفرعها، وعمدة ابتدعها كتابه المسمى بالسلوك في معرفة دول الملوك ... ولم يكن من بعده من يعول عليه في هذا الفن ... أحببت أن أحيى هذه السنة بكتابة تاريخ يعقب موت الشيخ تقي الدين المقريزي وجعلته كالذيل على كتاب السلوك المذكور، وسميته حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور، ورتبته على السنين والشهور والأيام...
وكتابه الكبير الثالث: المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، في التراجم من سنة 556 إلى زمانه، وهو بمثابة ذيل على كتاب ابن أيبك، صلاح الدين  الصفدي، المسمى الوافي بالوفيات، قال ابن تغري بردي في ترجمته: وتاريخه المسمى: الوافي بالوفيات، في غاية الحسن، وقفت عليه وانتقيته ونقلت منه أشياء كثيرة في هذا المؤلف وفي غيره... وتسميتي للتاريخ المذكور والمستوفى بعد الوافي، إشارة لتاريخ الشيخ صلاح الدين، لأنه سمى تاريخه: الوافي بالوفيات، إشارة على تاريخ ابن خلكان أنه يوفي بما أخل به ابن خلكان، فلم يحصل له ذلك، وسكت هو أيضاً عن خلائق، فخشيت أنا أيضاً أن أقول: والمستوفى على الوافي، فيقع لي كما وقع له، فقلت: والمستوفى بعد الوافي. وذكر ابن تغري بردي في مقدمة كتابه هذا أنه ألفه: ، غير مُستدعى إلى ذلك من أحد من أعيان الزمان، ولا مطالب به من الأصدقاء والأخوان، ولا مكلف لتأليفه وترصيفه من أمير ولا سلطان، بل اصطفيته لنفسي، وجعلت حديقته مختصة بباسقات غرسي، ليكون في الوحدة لي جليسا، وبين الجلساء مسامراً وانيساً.
ومنهجه في كتبه هو تحليل الأمور التي ينقلها، ولا يتردد أن يبدي رأيه في الحوادث والأشخاص، وبخاصة فيما رآه أو عرفه، وهو إلى حد كبير محايد يبتغي الحقيقة، ولا يحابي قريباً أو كبيراً، فهو يقول في ترجمة زوج أخته الأمير الأتابك آقبغا التمراي نائب الشام: وكان عارفاً بأنواع الفروسية كلعب الرمح وضرب الكوة وسوق المحمل والبرجاس، رأساً في ذلك جميعه، إمام عصره في ركوب الخيل ومعرفة تقليبها في أنواع الملاعيب المذكورة، مع دين وعفة عن المنكرات والفروج، وقيام ليل وزيارة الصالحين دواماً؛ غير أنه كان مسيكاً، وعنده حدة مزاج، ولم تكن شجاعته في الحروب بقدر معرفته لأنواع الملاعيب والفروسية، رحمه الله تعالى.
ويقول في ترجمة زوج أخته الأمير سيف الدين إينال بن عبد الله النوروزي، المتوفى سنة 729: وكان أميراً جليلاً، مهاباً، عظيماً في الدولة، ذا حرمة وافرة، وجبروت، وله سطوة على خدمه وحواشيه، وكان ظالماً سفيهاً شرس الخلق، وعنده حدة وبادرة...
ويقول في ترجمته للأمير سيف الدين طوخ الجكمي المتوفى سنة 868 الذي أحيل على التقاعد القسري: واستمر طوخ المذكور ملازماً لداره بالذل والقهر والصغار، قلت: وهو مستحق لذلك، فإنه متجاهر بالمعاصي، مدمن للخمر، بلغ من السن ما بلغه وطالت أيامه في الإمرة هذه المدة الطويلة وهو إلى الآن لم يحج ولا قضى الفرض، هذا على ما اشتمل عليه من الكبر والجبن والبخل وعدم معرفته لأنواع الفروسية ولا أعرف فيه من المحاسن غير أنه جركسي الجنس من جنس القوم لا غير، وهو عندهم في الغاية القصوى لا سيما الشريه منهم فإنه إمامهم والمقتدى في هذا المعنى.
وينتقد ابن تغري بردي في أكثر من مكان شيخه وأستاذه المقريزي، ويكون انتقاده خفيفاً حيناً وشديداً قاسياً حيناً آخر،  فهو يقول في ترجمة الملك الأشرف برسباي: وعلى كل حال إن هذا ... أحسن مما قاله المقريزي في حق الملك الأشرف برسباي بعد وفاته في تاريخه السلوك، وقد رأيت أن السُكات عن ذكر ما قاله في حقه أليق، والإضراب عنه أجمل، لما وصفه به من الألفاظ الشنيعة القبيحة التي يستحى من ذكرها في حق كائن من كان.
ونجد كذلك في كتبه النظرات التعميمية التي يتسم بها ذلك الزمان تجاه بعض البلدان والطوائف، فنجده في ترجمة الشيخ شهاب الدين الأشموني الحنفي النحوي، أحمد بن محمد، المولود سنة 749 والمتوفى سنة 809، ينقل قول المقريزي: وكان قد مال إلى مذهب أهل الظاهر ثم انحرف عنهم وأكثر من الوقيعة فيهم. ثم يعلق ابن تغري بردي: ختم له بخير لأنه اقتدى برجل هو أعرف بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الأوباش الظاهرية الذين ينظرون الحديث فلا يفهمون معناه.
وقال ابن تغري بردي في ترجمة صاحب تونس أبي يحيى زكريا بن أحمد اللحياني، المولود سنة 640 والمتوفى سنة 727: وكان فاضلاً، بارعاً، إلا أنه كان بخيلاً، ولا ينكر هذا على مغربي؛ فإن البخل في طبعهم، والعجب الكرم منهم!
وفي ترجمة الأمير فخر الدين ابن أبي الفرج، عبد الغني بن عبد الرزاق ابن نقولا، الأرمني الأصل، المولود سنة 784 والمتوفى سنة 821، ينقل ابن تغري بردي عن المقريزي قوله:  وكان جباراً قاسياً، شديداً، عبوساً، قتل من عباد الله ما لا يحصى، وخرب إقليم مصر بكماله، وأفقر أهله ظلماً وعتواً وفساداً في الأرض ليرضي سلطانه، فأخذه الله أخذاً وبيلاً. ثم يعلق ابن تغري بردي: لا ينكر عليه ما كان يفعله من الظلم والجور، فإنه كان من بيت ظلم وعسف، وكان عنده جبروت الأرمن، ودهاء النصارى، وشيطتة الأقباط، وظلم المُكَسة، فإن أصله من الأرمن، وربي مع النصارى وتدرب بالأقباط، ونشأ مع المكسة بقطيا، فاجتمع فيه من قلة الدين وخصائل السوء ما لا يوصف كثرة، ولعمري هو أحق بقول القائل:
مساوئ لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق
وابن تغري بردي يستدرك في تواريخه على من سبقه من المؤرخين وبخاصة ما رآه أو عرفه وعزب عن معرفتهم، أو بفضل من معرفته للغة التركية، ومن ذلك قوله في اسم السلطان برقوق، وهل هو اسمه الأصلي أم سمي به فيما بعد: قال المقريزي رحمه الله: وكان اسمه ألطنبغا فغيره أستاذه يلبغا لما اشتراه وسماه برقوقاً لنتوء في عينه، وقال القاضي علاء الدين علي ابن خطيب الناصرية: كان اسمه سودون، نقلاً عن قاضي القضاة ولي الدين أبي زرعة العراقي، عن التاجر برهان الدين المحلي، عن خواجا عثمان بن مسافر. والقولان ليسا بشيء، وإن كان النقلة لهذا الخبر ثقات في أنفسهم فإنهم ضعفاء في الأتراك وأسمائهم وما يتعلق بهم، لا يُرجع إلى قولهم فيها. والأصح أنه من يوم ولد اسمه برقوق كما سنبينه في هذا المحل من وجوه عديدة... وقد أوضحنا هذا وغيره في مصنف على حِدَتِه في تحريف أولاد العرب للأسماء التركية والعجمية وفي شهرتهم إلى بلادهم في مثل جانبك وتنبك وشيخون، ومثل من نسب إلى فيروز باد واستراباد من زيادة ألفاظ وترقيق ألفاظ يتغير منها معناها، حتى إن بعض الأتراك أو الأعاجم إذا سمعها لا يفهمها إلا بعد جهد كبير.
ولا يتردد ابن تغري بردي في ذكر جوانب شخصية عندما يتناول الحوادث التي يؤرخها، وإن لم تكن لها كبير علاقة بالحدث المذكور، ولكنها تفيدنا كثيراً في إاقاء الضوء على شخصيته وأحواله، ونرى ذلك في تناوله للطاعون الذي ضرب مصر سنة 833 ، وفتك بسكانها فتكاً ذريعاً، وقد وصفه ابن تغري بردي وذكر بعض الأرقام الدالة على كثرة ضحاياه، وأورد بعض القصص والمفارقات التي جرت معه، في هذا الصدد.
وقد وقعت لابن تغري بردي قصة مع شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله، فقد نسب الملك الأشرف برسباي بأنه عتيق المير دقماق، قال ابن تغري بردي: وليس الأمر على ما نقله، وهو معذور فيما نقله لبعده عن معرفة اللغة التركية ومداخلة الأتراك، وقد اشتهر أيضاً بالدقماقي فظن أنه عتيق دقماق، ولم يعلم أن نسبته بالدقماقي، كما أن نسبة الوالد رحمه الله بالبشبغاوي، وغيرهم إنما هي من باب نسبتهم إلى مالكيهم وليس إلى معتقيهم.
وقد وقفت على هذه المقالة في حياته على خطه، ولم أعلم أن الخط خطه، فإنه كان رحمه الله يكتب ألواناً، وكتبت على حاشية الكتاب وبينت خطأه، وأنا أظن أن الخط خط ابن قاضي شهبة، وعاد الكتاب إلى أن وقع في يد قاضي القضاة ابن حجر، فنظر إلى خطي وعرفه، واعترف بأنه وهم في ذلك، وكان صاحبنا الحافظ قطب الدين محمد الخيضري حاضراً، فذكر لي ما وقع، فركبت في الحال، وهو معي، وتوجهنا إلى السيفي طوغان الدقماقي، وهو من أكابر مماليك دقماق، وسألته عن الملك الأشرف سؤال استفهام، فقال: هو عتيق الملك الظاهر برقوق وقدمه أستاذنا إليه، ثم حكى له ما حكيته، ثم أرسلت أيضاً خلف جماعة من مماليك دقماق، لأن أغلبهم كان خدم عند الوالد بعد موت دقماق، فالجميع قالوا مثل قول طوغان الدقماقي،. فتوجه قطب الدين إلى ابن حجر وعرفه هذا كله، فأنصف غاية الإنصاف، وأصلح ما عنده.
ختاماً لا بد أن نشير أن الإمام شمس الدين السخاوي، محمد بن عبد الرحمن، المولود سنة 831 والمتوفى بالمدينة سنة 902، قد استفاد كثيراً من ابن تغري بردي في تاريخه المسمى الضوء اللامع في أعيان القرن السابع، ولكنه ينال منه بين الحين والآخر إلى حد يتجاوز التعقيب إلى التجريح والتشويه، وهذه سمة بارزة في ثنايا تاريخه لا تكاد تنجو منه شخصية من شخصيات ذلك الزمان، قال السخاوي: وبالجملة فقد كان حسن العشرة، تام العقل والسكون، - إلا في دعواه فهو حمق - لطيف المذاكرة، حافظاً لأشياء من النظم ونحوه، بارعاً حسبما كنت أتوهمه في أحوال الترك ومناصبهم وغالب أحوالهم، منفرداً بذلك، لا عهد له بمن عداهم، ولذلك تكثر فيه أوهامه، وتختلط ألفاظه وأقلامه، مع سلوك أغراضه وتحاشيه عن مجاهرة من أدبر عنه بإعراضه، وما عسى أن يصل إليه تركي؟!
ولكن ابن تغري بردي يبقى في تاريخه متميزاً نبيهاً، ولذا قال فيه شمس الدين النواجي، محمد بن حسن المولود بعد 785 والمتوفى سنة 859، وكان شاعر تلك الفترة:
لك الله المهيمن كم أبانت ... حلاكَ اليوسفية عن معالي
وسقتَ حديث فضلك عن يراع ... تسلسل عنه أخبار العوالي
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer