الجمعة، 26 أبريل 2013

حدث في الخامس عشر من جمادى الآخرة

في الخامس عشر من جمادى الآخرة من عام 65 توفي في مصر، عن قرابة 72 عاماً، الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
تزوج والده عمرو بن العاص بأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج ين عامر السهمي، وهو معدود في الصحابة، وكان الزواج وهما  في سن صغيرة، فكان أول ولد لهما هو عبد الله، ولد سنة 7 قبل الهجرة، ووالده أكبر منه بحوالي 12 عاماً، وقد كان واعياً منذ صغره لما يدور حوله فقد روى عنه ابن هشام حديثاً عن أكثر ما رآه من إظهار قريش لعداوتها للرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة.
أسلم عبد الله قبل أبيه، وهاجر بعد السنة السابعة للهجرة، وشهد مع رسول الله بعض المغازي، وكان يضرب بسيفين، ويقال إن اسمه كان العاص، فلما أسلم غيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله. وأسلمت والدته، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: نِعمَ أهل البيت عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله.
وكان عبد الله من الصحابة المقربين إلى رسول الله لرغبته في الدين وإقباله على العبادة، وعهد إليه رسول الله مرة أن يجهز أحد جيوشه، وهذا وسام ثقة من الرسول بأمانته وحسن تدبيره وتقديره، وكان عبد الله أحدَ الذين حفظوا القرآن العظيم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، روي البخاري والنسائي، وهذا لفظه، عن عبد الله بن عمرو قال: جمعت القرآن، فقرأته كله في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر. قلت: يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي وشبابي. قال: اقرأه في عشرين. قلت: دعني أستمتع، قال: اقرأه في سبع ليال. قلت: دعني يا رسول الله أستمتع. قال: فأبى. وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: إنه لن يفقه فيه رجل قرأه في أقل من ثلاث.
 وقد كان عبد الله بن عمرو من المتبتلين في الصيام والقيام، وقد أدى ذلك لإخلاله بواجباته الزوجية فشكاه أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن عمرو: زوَّجني أبي امرأة من قريش، فلما دخَلَتْ عليَّ، جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة، فجاء أبي إلى كنَّته، فقال: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير رجل من رجل لم يفتِش لها كَنفا، ولم يقرب لها فراشا، قال: فأقبل علي، وعضَّني بلسانه، ثم قال: أنكحتك امرأة ذات حسب، فعضلتَها وفعلت، ثم انطلق، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وجهه للاعتدال في العبادة في مجموعة من الأحاديث رواها عنه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: ألم أُخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك، هجمت عينك ونفِهَت نفسك، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزَوْرِك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله. فصم وأفطر، وقم ونَم. قال عبد الله: فشدَّدت فشدَّد علي، قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه، قلت: وما كان صيام نبي الله داود عليه السلام؟ قال رسول الله في حديث آخر: أحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحبُّ الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يوما ويفطر يوما. فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ما سبق فإن رسول الله حذَّر عبد الله بن عمرو من أن يتهاون فيترك قيام الليل بعد أن نبهه الرسول الكريم إلى أهمية التوازن والاعتدال، فيضيع خيراً كثيراً، فقد حدث عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله بن عمرو، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل. وفي هذا الحديث بيان لاهتمام الرسول بعبد الله بن عمرو وتوجيهه له على ديمومة العمل وحرصه عليه أن يبقى من القائمين الليل والمستغفرين بالأسحار. ويضاف إلى هذا اهتمام الرسول بالمظهر الشخصي لعبد الله بن عمرو أن يكون متميزاً في لباسه فلا يلبس ما هو خاص بالكفار وشعار لهم، فقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عليه ثوبين معصفرين فقال: إن هذه الثياب ثياب الكفار فلا تلبسها. وفي رواية أن عبد الله سأله: أغسلهما يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرِّقهما.
ومع كل هذه العبادة كان قلب عبد الله بن عمرو لا يزال يخشى النار ويتطلع أن يضمن أن يكون من أهل الجنة، ولذلك نراه يبحث ويدقق مسلك صحابي أنصاري وصفه الرسول بأنه من أهل الجنة، روى أنس بن مالك قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان من الغد، قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحَيتُ أبي، فأقسمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضيَ، فعلتُ. قال: نعم.
قال أنس: وكان عبد الله يحدِّثُ أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبّر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليالٍ، وكدتُ أن أحقرَ عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا هجرٌ ثَم، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلعت أنت الثلاث مرارٍ، فأردت أن آوي إليك، لأنظر ما عملك، فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق.
وعبد الله بن عمرو من المكثرين للرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه قرابة 700 حديث، وروى له البخاري ومسلم، وتتنوع مواضيع الأحاديث التي يرويها عبد الله بن عمرو تنوعاً ملحوظاً مما يدل على فقه وطول صحبة، وقد كان له ذلك لأنه توجه لكتابة حديث الرسول في وقت لم يتجه أحد إلى ذلك، وقد شهد له مكثِرٌ آخر بذلك هو أبو هريرة فقد قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الصحابة في بدء الوحي أن يكتبوا حديثه ليتفرغوا لحفظ القرآن وفهمه وتطبيقه، ولكنه في مرحلة تالية رخَّص لهم في الكتابة، واستأذنه عبد الله بن عمرو فأذن له، روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وأنت تكتب كل ما تسمعه منه، وهو يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق.
قال الإمام الذهبي في السِّير: والظاهر أن النهي كان أولا لتتوفر هممهم على القرآن وحده، وليمتاز القرآن بالكتابة عما سواه من السنن النبوية، فيؤمن اللبس، فلما زال المحذور واللبس، ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس أذن في كتابة العلم، والله أعلم.
وفي كتابة عبد الله بن عمرو لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول ردٌّ على بعض المستشرقين ومن سايرهم في أن تدوين السنة النبوية كان متأخراً فعمدة الحديث الرواية الشفاهية، ولم يكن عبد الله وحده الذي كتب ما سمعه من الرسول بل كان معه عدد من الصحابة والتابعين مثل سمرة بن جندب، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثابت وكتابه في الفرائض، والأشج الكوفي الأشجعي، وهمّام بن منبّه.
وكان عبد الله قد جمع ما كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيفة سماها الصادقة، وكان حريصاً على أن تبقى معه أشد الحرص، قال التابعي الجليل مجاهد: دخلت على عبد الله بن عمرو، فتناولت صحيفة تحت رأسه، فتمنَّع عليّ، فقلت: تمنعني شيئاً من كتبك! فقال: إن هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وسلمت لي هذه الصحيفة والوهط، بستان له بالطائف، لم أبال ما ضيعت الدنيا.  وقوله: ليس بيني وبينه حد. يبين أن لعبد الله بن عمرو سبقاً في التنبه لأهمية الإسناد والمشافهة، وتلك لَبِنَةٌ هامة في أساس علم الحديث الشريف.
ولم يقتصر عبد الله بن عمرو في روايته عما سمعه من رسول الله، بل روى حديثه كذلك عن أبي بكر، وعمر، ومعاذ، وسراقة بن مالك، وأبيه عمرو، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وكان يسعى للسماع منهم والاستفادة مما حملوه من حديث وتعلموه من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مَثَل.
 وتعلم عبد الله بن عمرو اللغة السريانية وكان ينظر في كتب الأقدمين، واعتنى بذلك، وقيل إنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدِّث منهما المعروف والمشهور والمنكور والمردود، وروى كثيراً مما ورد فيها عن أخبار أنبياء بني إسرائيل وتاريخ مصر مثل بناء مدينة الإسكندرية.
وروى أحاديث عبد الله بن عمرو عدد كبير من التابعين أبرزهم من أقاربه حفيده شعيب بن محمد الذي توفي والده في حياة أبيه عبد الله فتربى الحفيد في حجر الجد، وخدمه ولزمه، فأكثر عنه الرواية، وتوفي شعيب سنة 118 بالطائف.
وممن حدث عنه من كبار التابعين: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والشعبي، وعكرمة وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأمم كثير غيرهم، في الحرمين والشام ومصر، وبخاصة مواليه وموالي أهله، بل روى عنه عدد من أقرانه من شباب الصحابة وعلى رأسهم الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير: يا ابن أخت، إني قد أُخبِرتُ أن عبد الله بن عمرو حاجٌ في عامه هذا، فالقه، فإنه قد حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرةً.
ومن أشهر الأحاديث المروية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حديث الرحمة المسلسل بالأولية، والذي تداوله طلبة العلم المتزينين برواية الحديث والإجازات، ليكون أول حديث سمعوه من الشيخ أو المحدث، ولذا سمي المسلسل بالأولية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
ويضيق المقام هنا عن إيراد كل ما صح من الأحاديث التي رواها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ولكنها تعطي لمن يتأملها صورة واضحة عن منهج المدرسة المحمدية في الصلة بالله والأذكار والدعاء والتربية والأخلاق والتيسير والتي تخرَّج منها هذا الصحابي الجليل وإخوانه، فها هو يقول كما في صحيح البخاري: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً. وها هما الشيخان يرويان له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه. وها هو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً من الأيام لأصحابه: كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مَرَجَت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه هكذا، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : يا رسول الله! بم تأمرني حينئذٍ؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم. وسأل رجلٌ عبد الله بن عمرو بن العاص: أي المجاهدين أفضل؟ قال: من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل، قال: أنت قلت يا عبد الله بن عمرو؟ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.
ولما توفي كبار الصحابة من الرعيل الأول صارت الفتوى إلى أبناء الصحابة وشبابهم ومنهم عبد الله بن عمرو، وقد أورد ابن سعد في الطبقات قول زياد بن ميناء: كان عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر بن عبد الله، ورافع بن خديج، وسلمة بن الأكوع، وأبو واقد الليثي، وعبد الله بن بجينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتون بالمدينة ويحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا.
إن فضل ابن عباس معلوم، ودعاء الرسول له مشهور، وقد شهد ابن عباس لعبد الله بن عمرو بالعلم والتفقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عكرمة البربري مولى عبد الله بن عباس: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ابن عباس أعلمنا بما مضى، وأفقهنا فيما نزل مما لم يأت فيه شيء. قال عكرمة: فأخبرت ابن عباس بقوله فقال: إنَّ عنده لعلما، ولقد كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلال والحرام. وقد مدحه من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال سليمان بن الربيع العَدَوي: لقينا عمر، فقلنا: إن عبد الله بن عمرو حدثنا بكذا وكذا، فقال عمر: عبد الله بن عمرو أعلم بما يقول؛ قالها ثلاثاً.
وقد عدَّ ابن حزم في كتاب الإحكام لأصول الأحكام عبد الله بن عمرو من المتوسطين من الصحابة فيما روي عنهم من الفتاوى، ومن فقه عبد الله بن عمرو أن رجلاً أتاه فقال: إنى أريد أن أقيم هذا الشهر هاهنا عند بيت المقدس، فقال: أتركت لأهلك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: فارجع فاترك لهم ما يقوتهم، فإني سمعت، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت.
شهد عبد الله بن عمرو بن العاص مع أبيه فتح الشام، وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك سنة 13، وقد تنقل عبد الله بن عمرو بعد المدينة في الشام وبيت المقدس ومصر، وشارك مكرهاً في معركة صِفِّين سنة 37 بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية، وكانت مشاركته على كره منه وبإلزام من والده، ولذا كان يعتذر عن ذلك ويود أنه لو كان حجراً جلموداً ولم يشارك فيها، وكان يقول: ما لي ولصفين؟! ما لي ولقتال المسلمين؟! لوددت أني مت قبله بعشر سنين! أما والله على ذلك ما ضربت بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم، وما رجل أجهد مني من رجل لم يفعل شيئا من ذلك، كانت بيده الراية فقدم الناس منزلة أو منزلتين.
ويقال إنه لما اتفق علي ومعاوية على التحكيم جرى ذكر عبد الله بن عمرو فيمن جرى ذكره من الصحابة الصالحين لقيادة الأمة بدلاً من المختلِفَين علي ومعاوية، وهذا إن صح فيدل على أنه وصل إلى مقام مشهور بين المسلمين من العلم والاجتهاد والثقة بدينه ورأيه.
وكان عبد الله بن عمرو يرى أنه أخطأ في القتال مع معاوية ولا يتردد في تبيان ذلك رغم أنه كان في جانبه، فقد كان عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار بن ياسر رضي الله عنهما، كل واحد يقول: أنا قتلته. يطلب بذلك الجائزة، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب أحدكما به نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية، بشِّر قاتل عمار بالنار. فلما رأى ذلك معاوية أقبل على عبد الله بن عمرو فقال: ما يدعوك إلى هذا؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولاً، فأحببت أن أقوله. فقال معاوية: يا عمرو ألا ترد عنا مجنونك! فما بالك كنت معنا؟! قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي:  أطع أباك ما دام حياً. فأنا معكم، ولست أقاتل.
وفي سنة 41 استقل معاوية بالخلافة بعد نزول الحسن له عنها، وسمي ذلك العام عام الجَمَاعة، فولى معاوية على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتاه المغيرة بن شعبة متنصحاً، وقال: عمرو بمصر وابنه بالكوفة، فأنت بين فكي الأسد، فعزل معاوية حينئذ عبد الله بن عمرو عن الكوفة، وولاها المغيرة بن شعبة، ولم يدخل عبد الله الكوفة.
ويبدو أن عبد الله بن عمرو استقر بمصر بعد ولاية  والده لها عام 38، وبث فيها علمه وتبع أهلها فتواه، ذلك أنه كان فيها لما توفى والده يوم الفطر من سنة 43، وحضر احتضاره، وقام بتجهيزه ودفنه بالمقطم ثم صلى بالناس العيد، وولاه معاوية مصرا بعد وفاة أبيه فوليها إلى سنة 47.
وورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب، فكان من أثرياء الصحابة، وكان له بستان عنب بالطائف يسمى الوَهْط تكلف على عرائشه ألف ألف درهم، وكانت أكوام زبيبه أشبه بالتلال، ولكن ثروته كانت في خدمة الناس ومعونتهم، فقد زاره في أكثر من مناسبة بعض الصالحين الزهاد فهالهم ما رأوا من مظاهر ثرائه، وهو المعروف بشدة تواضعه، فلما رأوه تبين لهم صدق ذلك، قال سلمان بن ربيعة الغنوي: حججت زمن معاوية في عصابة من القراء، فحُدِّثنا أن عبد الله في أسفل مكة، فعمدنا إليه، فإذا نحن بثقل عظيم يرتحلون ثلاث مئة راحلة، منها مئة راحلة ومئتا زاملة، بعير يحمل الأثقال، وكنا نحدث أنه أشد الناس تواضعا. فقلنا: ما هذا؟ قالوا: لإخوانه يحملهم عليها ولمن ينزل عليه. فعجبنا، فقالوا: إنه رجل غني. ودلونا عليه أنه في المسجد الحرام، فأتيناه، فإذا هو رجل قصير أرمص، بين بردين وعمامة، قد علق نعليه في شماله.
وما كان عبد الله بن عمرو ليفوته أن حب الدنيا شاع بين الجيل الثاني من المسلمين فأقبلوا عليها وانغمسوا في ملذاتها، وغفلوا عن الآخرة وقربها، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لخيرٌ أعملُه اليوم أحب إليَّ من ضعفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنا كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تهِمُّنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنَّا اليوم قد مالت بنا الدنيا. ولذلك كان ميالاً للمساكين لا يملُّ من الصدقة عليهم والإحسان إليهم، وكان يقول: لأن أكون عاشر عشرة مساكين يوم القيامة، أحب إلي من أن أكون عاشر عشرة أغنياء، فإن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال هكذا وهكذا، يقول: يتصدق يميناً وشمالاً. وكان عبد الله بن عمرو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث المشهور في إنصاف الضعيف: لا تقدَّسٌ أمةٌ لا يُقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير  متَعْتَع.
ومرَّ عبد الله بن عمرو بن العاص بالمقبرة، فلما نظر إليها نزل، فصلى ركعتين، فقيل له: هذا شيءٍ لم تكن تصنعه، فقال: ذكرت أهل القبور، وما حيل بينهم وبينه فأحببت أن أتقرب إلى الله عز وجل بهما.
وفي سنة 60 توفي معاوية رضي الله عنه في دمشق، وكان قد استخلف ابنه يزيد، وكان والي مصر مَسْلمة بن مُخلَّد الصحابي الأنصاري، فجاء الكتاب بذلك إلى مصر ومسلمة في الإسكندرية واستخلف على مصر عابس بن سعيد، وأقره يزيد في الكتاب على مصر، وطلب منه أخذ البيعة له، فندب مسلمة عابساً وكتب إليه من الإسكندرية بذلك؛ فطلب عابس أهل مصر وبايع ليزيد فبايعه الجند والناس إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، فدعا عابس بالنار ليحرق عليه بابه، فحينئذ بايع عبد الله بن عمرو ليزيد على كره منه.
كان عبد الله بن عمرو رجلاً طِوالا عظيم البطن أبيض الرأس واللحية، يعتم بعمامة حَرَقانية ويرخيها شبرا أو أقل من شبر، وكفَّ بصرُه في آخر حياته، وتزوج بعمرة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وله منها ولده الكبير محمد.
توفي عبد الله بن عمرو في مصر في 15 من جمادى الآخرة من عام 65، وجاءت وفاته في يوم قتل الوالي الأموي المعين الأكدرَ بن حمام اللَّخَمي، وكان ممن شاركوا في قتل عثمان رضي الله عنه، فشغب عليه جنده، فلم يُستطع أن يخرج بجنازة عبد الله بن عمرو إلى المقبرة، فدفن في داره رضي الله عنه.
تزوج عبد الله بن عمرو زوجتين له منهما 4 أولاد و3 بنات منهن ابنته أم عثمان، التي تزوجها سَلَم بن زياد بن أبيه، ولاه يزيد على خراسان وسجستان سنة 61وعمره 24 عاماً، فعبر النهر مع زوجته فكانت أول امرأة من العرب قطع بها النهر، وولدت هناك ولدا أسموه صُغدى، على اسم جبل هناك، وفتح  سلم سمرقند، وكان عادلاً عاقلاً سخياً، لم يحب أهل خراسان أميراً قط حبهم سلم بن زياد، فسُمِّي في السنين التي كان بها بينهم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم. وتوفي سنة 73 بالبصرة، وفيه يقول يزيد:
عتبت على سلم فلما فقدته ... و جربت أقواماً بكيت على سلم
ومن بناته أم عبد الله التي تزوجها عبد العزيز بن مروان بن الحكم، والد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، وكان ولي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وواليه على مصر، الذي توفي بمصر سنة 85.
لعبد الله بن عمرو كلمات قيمة في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق، قال رضي الله عنه: مَن سُئلَ عما لا يَدري فقال: لا أدري، فقد أَحرَزَ نِصْفَ العِلم. وقال: أربع خلالٍ إن أُعطيتهنّ فلا يضرّك ما عدل به من الدّنيا: حسن خليقةٍ، وعفاف طعمةٍ، وصدق حديثٍ، وحفظ أمانة.
وقال: النوم على ثلاثة أوجه: نوم خُرْق، ونوم خَلْق، ونوم حُمْق . فأما النوم الخُرْق فنومة الضحى يقضي الناس حوائجهم وهو نائم، وأما النوم الخلق فنوم القائلة نصف النهار، وأما نوم الحمق فنوم حين تحضر الصلاة.
وسأل رجلٌ عبدَ الله بن عمرو بن العاص: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: وإن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك.
قال التابعي المفسر الإمام مجاهد بن جبر كان عبد الله بن عمرو بن العاص يضرب فسطاطه في الحِلِّ ويجعل مصلاه في الحرم، فقيل له: لم تفعل ذلك؟ قال: لأن الذنوب في الحرم أشد منها في الحل.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer