الجمعة، 12 أبريل 2013

حدث في الثلاثين من جمادى الأولى

في الثلاثين من جمادى الأولى من عام 917 الموافق 24/8/1511م استكمل البرتغاليون استيلاءهم على مضيق مالقة في الملايو، وقضوا على سلطنة مالقة الإسلامية التي حكمت المنطقة أكثر من مئة عام، والتي كان عصرها العصر الذهبي في تاريخ الملايو ولا تزال آثارها وذكرها لا يمحى من الذاكرة الملاوية وتقاليد شعوب الملايو.
ويقع مضيق مالقة في أقصى جنوب آسيا، ويحده شرقاً شبه جزيرة الملايو وغرباً جزيرة سوماطرة، أي بين ماليزيا وبين أندونيسيا اليوم، ويصل بين المحيط الهندي وبين بحر الصين الجنوبي، ويمتد قرابة 800 كيلاً ويتراوح عرضه من 250 كيلاً إلى 65 كيلاً، وقد اكتسب اسمه من ميناء مالقة الواقع في الطرف الماليزي، وهو مضيق هام لكونه أقصر الطرق البحرية من الهند إلى الصين، وكان في السابق كما هو اليوم أحد أكثر الممرات المائية العالمية ازدحاماً.
تأسست سلطنة مالقة سنة 806 على يد السلطان باراميسفارا الذي كان في الأصل أميراً من سوماطرة ولكن هرب منها عندما هاجمها الجاويين من الجنوب، واستقر أول الأمر في توماسيك، وهي جزيرة سنغافورة اليوم، ثم استقر في مالقة لكونها ميناء طبيعياً جيداً يتحكم بالطريق البحري الرئيس بين الهند وبين الصين، واعتنق باراميسفارا الإسلام سنة 817 وتسمى السلطان إسكندر شاه، وأقام علاقات وثيقة مع إمبراطورية المينغ في الصين التي جعلت سلطنته أحد ركائزها التجارية في تجارتها الغربية، واتسمت هذه الإمبراطورية بالتنظيم والعدل ورعاية مصالح الشعب مما جعل الصين تشهد ازدهاراً صناعياً تجارياً واجتماعياً لا مثيل له، وأصبحت أكبر دولة تجارية في العالم، وقد أشاد الرحالة والتجار المسلمون بهذه الدولة وارتاحوا للسفر إليها والتعامل مع تجارها.
وتوفي السلطان إسكندر شاه سنة 827، وخلفه السلطان محمد شاه الذي استمر في الحكم 20 عاماً، وركز فيها على ترسيخ الأنظمة الإدارية في الدولة لتواكب النمو السريع في التجارة والزيادة السكانية، ولضمان الاستقرار والأمن في الدولة، ذلك إن مالقة أصبحت بحلول سنة 834 أهم مركز تجاري في جنوب شرق آسيا، ويتردد عليها التجار من المناطق المجاورة ومن التجار العرب والهنود والفرس، كما قصدتها الأساطيل التجارية الصينية التي كانت تنطلق في شكل بعثات منظمة تشرف عليها الحكومة، وقد تردد عليها عدة مرات الأدميرال الصيني الشهير شينغ هو في الحملات التجارية التي خرجت من الصين إلى المحيط الهندي، ووصل عدد التجار المقيمين فيها إلى 15000 تاجر، وكان عدد السفن في مرساها أكثر من أي ميناء في العالم في ذلك الوقت، وذلك بفضل العدل والإنصاف والاستقرار الذي تمتعت به هذه السلطنة واتباعها لسياسة التجارة الحرة واكتفائها بنزر معقول من الضرائب على التجارة التي تمر بمينائها.
وجعلت السلطنة لكل فئة من التجار بحسب بلادها رئيساً منها أسمته شاهبندر، وهي لفظة فارسية، كان مسؤولاً عن رسو السفن واستيفاء الضرائب، فكان هناك أربع شاهبندرات:للملايو والصين وغربي الهند وجنوبي شرق الهند، ولأن التجارة الخارجية كانت أساس ثراء ورفاه السلطنة فقد أصبح لهذه الوظيفة أهمية كبيرة في الدولة تلي مباشرة مستشاري السلطان، وبقي هذا المنصب قائماً في الملايو إلى القرن التاسع الميلادي.
وفي سنة 849 تولى الحكم السلطان مظفر شاه، وفي عهده الذي دام قرابة 15 عاماً أصبحت مالقة قوة سياسية إلى جانب قوتها التجارية، وصارت مصدراً لنشر الإسلام في أرخبيل الملايو وأندونيسيا، وبدأ مظفر شاه في حركته الاستقلالية برفض دفع الجزية المعهودة لملك تايلاند أيوتهايا، واستطاعت قواته صد حملتين انطلقتا براً وبحراً من سيام، تايلاند اليوم، في سنتي 849 و860، ثم توسع مظفر شاه فاستولى على سيلانجور في الشمال للاستفادة من أراضيها الزراعية الخصبة في تأمين الغذاء للسلطنة وللسيطرة على مزيد من الشواطىء في المضيق.
وانضم إلى السلطان مظفر شاه الأمير تون بيراك، الذي كان زعيماً بارعاً في الحرب، فجعله وزيره سنة 860، وصار الشخص الأقوى في الدولة والذي أشرف على انتقال السلطنة من السلف إلى الخلف، واتبع سياسة خارجية جعلت من السلطنة إمبراطورية محلية تضم كل شبه جزيرة الملايو ومعظم سوماطرة الشرقية، وتوفي الأمير تون بيراك سنة 903.
وتوفي مظفر شاه سنة 863، وخلفه السلطان منصور شاه الذي تزوج من أميرة صينية من الأسرة الإمبراطورية، فوطد العلاقات مع الصين وردَعَ سيام من الاعتداء عليه، وتوفي منصور شاه سنة 881 وخلفه السلطان علاء الدين شاه إلى أن توفي سنة 893، وجاء من بعده السلطان محمود شاه الذي بقي في الحكم 24 عاماً حتى عام 917، وكل هؤلاء السلاطين يمتون بالقرابة للأمير تون بيراك.
وقد شهدت هذه الحقبة ازهاراً اقتصادياً وعلمياً لم تعهده من قبل، وبخاصة في ظل السلطان منصور شاه الذي شجع التعليم والآداب، فشهد عصره نهضة دينية وأدبية وتأريخية احتفت بها الحوليات الملاوية المسماة شجرة الملايو Sejarah Mealyu، والتي تحدثت عن إنجازات سلاطين الملايو وسياساتهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية الدبلوماسية والتجارية، وكانت السلطنة تخضع لقوانين مكتوبة سميت قانون الحكم في مالقة Hukum Kanun Melaka، وتشتمل على قانون بحري ينظم التجارة البحرية وأمور الموانيء والسفن، وكان السلطان بصفته راعياً للإسلام يرسل الدعاة إلى أرخبيل الملايو لنشر الإسلام وكانت أغلب هذه المناطق على الديانة الهندوسية، كذلك كان السلطان يبني المدارس الشرعية ويشجع طلب العلم، وكان منصب القاضي من أعلى مناصب الدولة وأقربها إلى السلطان، ومهمته إضافة إلى الإشراف على المحاكم ونحقيق العدل، والتأكد من أن القوانين التي يسنها السلطان تتطابق مع الشريعة الإسلامية.
وتكونت الوطنية الملاوية في هذه الحقبة من مكوناتها الحالية: الإسلام واللغة، وتأسست عليهما لا على العرق أو القبيلة، وأتاح هذا لسكان تلك البلاد من الوثنيين والبوذيين الذين أسلموا على مدار الأيام أن يندمجوا في العنصر الملاوي دون أية اعتبارات أو عوائق عنصرية.
وكان من الطبيعي أن تصل شهرة مالقة إلى أوروبا، كأهم ملتقى تجاري في آسيا، وبخاصة في ميدان التجارة مع الصين وبضائعها النفيسة المتميزة، وكان القرنان الخامس عشر والسادس عشر الميلاديان قد شهدا توسعاً أوروبياً في مجال التجارة البحرية وبناء الأساطيل، بدأته أسبانيا والبرتغال ثم تبعتها بريطانية وفرنسا وهولندا، وحققت البرتغال نجاحاً كبيراً في هذه المجال فسيطرت بحراً على التجارة الأوروبية مع الهند والصين، وتجنبت الطريق البرية التي كانت تمر بمصر ويتحكم فيها ملوك المماليك معتدلين في ضريبتهم أحياناً وجشعين أحياناً أخرى، وكان فاسكو دي جاما قد عاد للبرتغال سنة905=1499م من رحلته حول القارة الإفريقية بطريق جديد إلى الهند، فقام الملك البرتغالي مانويل الأول على الفور بإرسال إسطول آخر بقيادة الأدميرال بيدرو الفاريز كابرال، مهمته تأسيس علاقات تجارية مع أمراء الهند وسلاطينها، وكسر احتكار تجارة التوابل الذي تمتع به المسلمون لقرون مضت، وكانت الخطة تقضي باحتلال عدن للقضاء على الطريق التجاري إلى مصر، واحتلال مضيق هرمز لقطع التجارة من البصرة إلى الشام فالبحر المتوسط، واحتلال مالقة للسيطرة على التجارة مع الصين، وحيث كانت جمهورية البندقية في إيطالية هي الطرف الأوربي المتعامل مع العرب والمسلمين، فقد كانت المتضرر الأكبر من هذه المخطط على صعيد أوروبا.
وخلال بضع سنوات قادمة أرسلت البرتغال الحملة تلو الأخرى لتأسيس قواعد بحرية تجارية وعسكرية في الهند وبحر العرب والمحيط الهندي، وفي سنة 914=1508 عين الملك مانويل الأدميرال ألفونسو دي البوكركي قائداً للأسطول البرتغالي في الهند، وكان الاستيلاء على مالقة نصب عينه فقد نُقِل عنه قولُه: لو استطعنا انتزاع مالقة من أيدي المور - أي المسلمين- فإن الخراب سيعم أرجاء القاهرة ومكة، ولن تستطيع البندقية شراء أية توابل إلا ما قد يشتريه تجارها من البرتغال.
فاستولى من المسلمين على ميناء جوا Goa في الهند، ويقع على بعد 400 كيلاً جنوبي مومباي، واتخذه قاعدة له، بعد أن دحر محاولات المسلمين لاسترجاعه، ثم اتجه شرقاً لغزو مالقة والسيطرة على تجارة التوابل الشرقية، فوصلها في سنة 915، وتوجس السلطان محمود خيفة من البرتغاليين، فقد وصلته أخبار استيلائهم على جوا من المسلمين، ولذا اعتبرهم بمثابة العدو فأسر بعضهم وهربت سفنهم بالباقين.
وعاد البرتغاليون بعد أن حشدوا أسطولاً يتكون من 18 سفينة و1200 جندي، وشنوا سلسلة من الهجمات على مالقة استمرت 40 يوماً، وصدَّها السلطان وجيشه بفضل استبسالهم وتفوق مدفعيتهم، ولكن نزاعاً نشب بين السلطان محمود وابنه أحمد فتَّ في معنويات الجانب المسلم، كما ساعد البرتغاليين بعض الهنود والصينين وقدموا لهم سفناً صغيرة أتاحت لهم دخول الميناء، واستطاعوا الاستيلاء على المدينة في 30 جمادى الأولى من سنة917، وأباح القائد البرتغالي المدينة لجنوده ينهبونها، وقتل وسبى سكانها المسلمين، ولكنه لم يتعرض لسكانها من الهندوس أو الصينين والبورميين، أما السلطان محمود شاه فانسحب جنوباً مع ابنه علاء الدين وأسس عاصمة جديدة في بنتان واستمر يقاوم البرتغاليين الذي شنوا حرب إبادة عليه ودمروا عاصمته سنة 932، فقام ابنه علاء الدين رياض شاه الثاني بالانسحاب جنوباً وأسس حاضرة جوهور، وهي مدينة تقابل سنغافورة اليوم، واستمر بها حتى وفاته سنة 924.
وكان هذا أعظم نصر حققه البرتغاليون في الشرق الأقصى، وانتهت عظمة مالقة وازدهارها مع الاحتلال البرتغالي، ذلك إن ألفونسو دي البوكركي كان يعتبر حملته حرباً دينية وامتداداً للحملات الصليبية، ولذا فإن مهمته الأساسية ليست تجميع الغنائم وتكديس الثروات بل الانتقام من المسلمين، وكان من جملة أحلامه أن يؤلب الفرس على الأتراك، وأن يدمر مصر بتحويل مجرى النيل، وأرسل البرتغاليون أخبار هذا الانتصار للبابا ليو العاشر في روما مع أثمن الهدايا من غنائم مالقة ومنها فيل أسماه البابا هانّو.
وانفض التجار المسلمون عن ميناء مالقة إزاء هذا العداء الصريح للإسلام الذي واكبه زيادة البرتغاليين للضرائب على البضائع العابرة، وسوء إدارتهم، ورداً على هذا الاعتداء حظرت الحكومة الصينية التعاون مع البرتغاليين أو الاتجار معهم، فقاموا بقرصنة بعض السفن الصينية، فردت الصين على ذلك بأن قتلت البرتغاليين الموجودين في أراضيها، ووجهت رعاياها للتعاون مع سلطان الملايو تجارياً ودعمه في تصديه للبرتغاليين، فانتقلت التجارة لمناطق أخرى، مثل جوهور، بدلاً من مالقة التي كانت سلطتها المركزية القوية توفر الإبحار الآمن والتخزين المضمون والضرائب العادلة والعدل والإنصاف لقاصديها من التجار، فخبا بريق مالقة وانتهى عصرها الذهبي، وبقيت في ذاكرة الملايو رمزاً لعصر ذهبي تأسس فيه الإسلام في تلك الديار وأتى معه الازدهار والتقدم.
ولم يمر الاحتلال البرتغالي دون مقاومة، فقد تصدت له سلطنة آشه Achehمن شمالي سومطرة، والتي اعتنقت الإسلام منذ أكثر من 100 عام، وهاجمت البرتغاليين في مالقة عدة مرات كان النصر منها أحياناً قاب قوسين أو أدنى، وطلبت المساعدة من السلطان العثماني لدحر البرتغاليين، ولكنه لم يستجب لذلك، وبقي الوجود البرتغالي جزيرة كاثوليكية وسط بحر مسلم يموج بالعداء والرفض للاحتلال.
ملأت آشه الفراغ الناجم عن سقوط سلطنة مالقة، واستمر الإسلام في الانتشار في الملايو، وتأسست في أرخبيل الملايو سلطنات إسلامية في الموانىء الواقعة على مصبات الأنهار حتى عم تلك الديار وأصبح أهلوها جزءاً هاماً من الأمة الإسلامية، ووفقاً لمصادر الكنيسة الكاثوليكية فإن عدد الكاثوليك يبلغ اليوم 1.4% من السكان.
استمر حكم البرتغاليين لمالقة حتى سنة 1051=1641 حين تنازلت البرتغال عنها لهولندا، ولم تهتم هولندا بإحياء دور مالقة التجاري فبقيت خاملة، وتنازل الهولنديون عن مالقة للبريطانيين سنة 1308=1824 وبقيت كذلك إلى أن انضمت إلى الاتحاد الماليزي سنة1957م، ثم صارت عام 1963م إحدى ولايات ماليزيا، ويبلغ عدد سكانها اليوم قرابة800000 نسمة، ويطل مسجدها الضخم المميز على مضيق مالقة شاهداً على العصر الذهبي الذي شهدته المنطقة في ظل الدولة المسلمة الغابرة.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer