الأحد، 22 نوفمبر 2015

حدث في الثامن من صفر

 
في الثامن من صفر من سنة 1349 الموافق 4 تموز/يوليو 1930 خرجت بعد صلاة الجمعة في فاس وسلا بالمغرب جموع المواطنين في مظاهرات واسعة تندد بالظهير البربري الذي أصدرته في 17 ذي الحجة من عام 1348=16 أيار/مايو 1930 حكومة الحماية الفرنسية، وإن حمل توقيع السلطان محمد بن يوسف الذي سيعرف فيما بعد باسم الملك محمد الخامس، ذلك إن الملك الشاب كان تحت استبداد الصدر الأعظم الحاج محمد المقري، المولود سنة 1277=1860والمتوفى سنة 1377=1957، والذي كان متعاوناً مع الفرنسيين لأبعد الحدود.
ونشير هنا أننا استعملنا كلمة البربر ذات الأصل اللاتيني والتي تعني المتوحشين أو الهمجيين، والتي أطلقها الرومان في غزواتهم التاريخية على السكان الأصليين للمغرب، تنقيصاً من شأنهم، والاسم الأصيل الذي اختاره هؤلاء لأنفسهم هو الأمازيغ، وكان من الأصح استعماله لولا السوابق التاريخية الكثيرة التي استعملت اسم البربر في هذا السياق.
ونصَّ الظهيرُ البربري على أن: المخالفات التي يرتكبها المغربيون في القبائل ذات العوائد البربرية ... يقع زجرها هناك من طرف رؤساء القبائل... وأن الدعاوى المدنية أو التجارية تنظر فيها محاكم خصوصية تعرف بالمحاكم العرفية ... كما تنظر المحاكم المذكورة في جميع القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية أو بأمور الإرث وتطبق في كل الأحوال العوائد المحلية... والمحاكم الفرنسية التي تحكم في الأمور الجنائية حسب القواعد الخاصة بها لها النظر في الجنايات التي يقع ارتكابها في النواحي البربرية.
وهكذا جعل هذا الظهير نظاميين قضائيين في بلد واحد، فرتب إنشاء محاكم في مناطق البربر على أساس الأعراف والعادات البربرية، وأحل قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات الشريفي، أي السلطاني، المستمد من الشريعة الإسلامية، وجعل الظهير إدارة المنطقة البربرية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وأبقى المناطق العربية تحت سلطة حكومة المخزن والسلطان المغربي، وقد أبدى بعض الكتاب الفرنسيين استغرابهم من فرض العرف البربري، وهو الذي كان يعامل المرأة كسلعة يملكها أبوها أو زوجها أو أخوها مما يتعارض تعارضاً فاضحاً مع قيم الحرية التي تتغنى بها فرنسا.
وكان الهدف من هذا القانون العزل المزدوج للمناطق البربرية عن بقية مملكة المغرب؛ عزل الإدارة السلطانية عنها، وعزل الشريعة الإسلامية عن أن تكون وسيلة التقاضي فيها، ولم تكن أهداف فرنسا من هذا القانون إنصاف البربر، بل كان تريد منه أن تفصل سكان المغرب المسلمين إلى عرب وبربر، وتضع البربر في مواجهة إخوانهم العرب وتضعف مكانة السلطان المغربي والشريعة الإسلامية، وتجعل فرنسا من نفسها حامية لحقوق البربر المزعومة، وبخاصة أنها فتحت المدارس في مناطق البربر لتشجيع النزعة الانعزالية فيهم، ومنعت الحديث فيها باللغة العربية، ودرست فيها التاريخ على أن العرب غزاة، وأن البربر هم أصحاب البلاد الأصليون، وأنهم قريبون من الحضارة الأوربية التي تنتمي إلى الحضارة اليونانية، بل كان من بعض رجال الاستعمار أن زعم أن البربر أوربيو الأصل.
وكانت هذه الحركة تهدد لحمة النسيج المغربي، فقد كان البربر يشكلون آنذاك نصف سكان المغرب، وينتشرون في الريف وجبال الأطلس، ولو نجحت الآمال الفرنسية لانقسم المغرب إلى دويلتين ضعيفتين سياساً، هزيلتين اقتصادياً، خاضعتين ذليلتين للمستعمر الفرنسي وسطوته العسكرية وتفوقه الحضاري.
ومن طبيعة السياسات الاستعمارية أن تركز على التحكم في التعليم لسبك بوصلة الأجيال المتعلمة فتيمم وجهها دائماً تلقاء المستعمر وثقافته وأفكاره، وتعتقد أنها ما ينبغي أن تتحول إليه وتسير عليه، وإذا نجح المستعمر في إحداث هذا التحول فقد نجح في جعل استعماره استعماراً دائماً للعقول والوعي المعرفي، لا يزول وإن زال الاستعمار العسكري من تلك البلد، وتميز البريطانيون عن الفرنسيين في تقبلهم للتقاليد المحلية وتساهلهم مع رموزها، أما فرنسا فكانت سياستها في الدول التي استعمرتها أن تمحو الثقافة واللغة الأصلية وتجعل الثقافة واللغة الفرنسية هي محور النهضة والتقدم في تلك البلاد.
وقد نجحت هذه السياسة نجاحاً ظاهراً في الدول الإفريقية، وذلك لكون مجتمعاتها ذات حضارة بسيطة، تتألف من عدد كبير من القبائل المتعددة في لغاتها ومناطقها، ويدين لها أبناؤها بالولاء قبل أن يعرفوا الدولة المركزية، ولذا فإن الدولة المركزية التي ورثت المستعمر أو أورثها، أصبحت قائمة على اللغة والثقافة الفرنسية إذ جعلها المستعمر الفرنسي من خلال نظام التعليم الرابط الذي يجمع هذه القبائل والعناصر المختلفة، وهو ما نراه اليوم في بلدان كالسنغال والجابون والنيجر وتشاد، والتي أضحت اللغة الفرنسية لغة مؤسساتها الرسمية.
ولكن هذه السياسة فشلت إلى حد كبير في المجتمعات ذات الشخصية القوية والتاريخ العريق، ولم يقتصر ذلك على دول المغرب العربي، بل نذكر كذلك فيتنام التي احتلتها فرنسا عام 1883 وبقيت فيها حتى عام 1954، والتي فشلت فرنسا في فرنستها.
وكانت هذه السياسة نتاج أفكار وأبحاث مفكري ومستشرقي الدولة الاستعمارية، ونشير أن مركز الدراسات العليا العسكرية عقد مؤتمراً في سنة 1923 تحت عنوان: الإسلام والمسائل الإسلامية من وجهة النظر الفرنسية، وقد صدر كتاب حمل نتائج المؤتمر، وكان محرره أحد كبار خبراء الفرنسيين في القضايا الإسلامية وهو الجنرال إدوارد بريمون Édouard Brémond، وأورد الكتاب مداولات وتوصيات مما جاء فيها: من الخطأ الكبير أن ننشر الإسلام بين قبائل البربر، وأن نجبرهم على اللغة العربية والشريعة الإسلامية... يجب محو إسلام البربر وفرنستهم. وسيصدر الجنرال فيما بعد كتاباً أسماه: البربر والعرب، يحاول فيه إثبات أن البربر في الأصل شعب من شعوب أوربا.
ويقول المستشرق الفرنسي موريس جودفروا دومومبين Maurice Gaudefroy-Demombynes, ، المولود سنة 1279=1862 والمتوفى سنة 1377=1957، في كتابه: المهمة الفرنسية فيما يخص التعليم في المغرب، L'œuvre française en matière d'enseignement au Maroc ، الصادر عام 1928: إن الفرنسية، وليست البربرية، هي التي يجب أن تحل مكان العربية كلغة مشتركة وكلغة حضارة. ثم يقول: وجود العنصر البربري مفيد كعنصر موازن للعرب يمكننا استعماله ضد حكومة المخزن... إن قوام السياسة البربرية هو العزل الاصطناعي للبربر عن العرب، والمثابرة في تقريبهم منا من خلال التقاليد.
وقامت كل هذه السياسات والدراسات على أساس أن البربر هم الحلقة الأضعف في الكيان المغربي الذي يقاوم الاستعمار، وأنهم يمكن أن يكونوا حلفاء له في المغرب العربي، واستند هذا على افتراض أن إسلام البربر لم يكن إلا إسلاماً سطحياً لكونهم ما زالوا محتفظين بكثير من عاداتهم القبلية، ولذا فإن من الممكن تحويلهم إلى الدين المسيحي بعد خلق فجوة بينهم وبين العرب.
كان هذا الظهير البربري ظهيراً للنشاطات التنصيرية في أوساط البربر، وعلى الرغم من أن الدولة الفرنسية دولة شديدة التعصب للعلمانية إلا أنها في مستعمراتها كانت تحالف الكنيسة الكاثوليكية، وغالباً ما تضافرت المؤسسات التنصيرية مع المؤسسات الاستعمارية وسارت في ركابها، وحسبنا أن نشير لقول الباحث والمؤرخ أمديه جيرو Amédéé Guiraud في كتابه: العدلية الشريفية: أصولها،عملها، تنظيمها المستقبلي La justice cherifienne  الصادر عام 1930: يجب توجيه غزو معنوي للبربر ... وسيكون الغزاة الإرساليات التبشيرية... لنكلم هؤلاء الناس حول المسيح.
ولم يكن الظهير البربري أول خطوة تخطوها فرنسا للحد من سلطات السلطان المغربي، بل سبقه ظهير مماثل أصدره في 11أيلول/سبتمبر سنة 1914 المقيم العام الفرنسي الجنرال هوبرت ليوتي أخرج البربر من دائرة القضاء الشرعي وينص على: القبايل البربرية الموجودة بإيالتنا الشريفة تبقى شؤونها جارية على مقتضى قوانينها وعوايدها الخصوصية تحت مراقبة ولاة الحكومة. وكانت فرنسا بحجة الحرب قد قسمت البلاد إلى مناطق عسكرية يديرها ضباط فرنسيون، وأصدرت فرنسا في سنة 1927 ظهيراً يسمح بانتزاع ملكية الأراضي المشاع في مناطق قبائل البربر لصالح من ينوي استصلاحها من الأجانب.
واتخذت السلطات الفرنسية عدداً من الإجراءات التي تعضد فصل البربر عن العرب وتنصيرهم، فقد سمحت باسم حرية الدين للمنصرين بالتجول في القبائل والحضور في أسواقها ومواسمها، والدعوة إلى الديانة المسيحية، كما سمحت لهم بإحداث ملاجئ للأيتام ولقطاء المسلمين وإحداث مدارس للبنين والبنات، ومنحتهم الأموال والأراضي من ميزانية الدولة الشريفية وأراضيها، وعينت الرهبان والمنصرين مدرسين أو مديرين في مدارس الحكومة الشريفية، وجرى ذلك في الوقت التي فرضت فيه السلطات جوازات للتنقل داخل المغرب وبخاصًة بين المدن وبين القبائل البربرية، وذلك لمنع فقهاء الكتاتيب والمشارطين من تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم للقبائل، ولمنع الوعاظ والعلماء وشيوخ الطرق الصوفية من التجول في أنحاء المغرب وتعليم الناس أحكام دينهم وحثهم على شعائره.
وفي بداية الأمر لقي الظهير البربري ترحيباً لا بأس به من بعض زعماء البربر، لأنه في ظاهره سيمنحهم سلطة ووجاهة بين قبائلهم، ولكن غالبية البربر استنكرت أن تعود إلى الوراء فتحكم بغير الشريعة، ولما طردت السلطات الفرنسية القضاة الشرعيين الذين كانوا في قبائل البربر، أرسلت القبائل وفودا إلى السلطان تطالبه بإرسال القضاة الشرعيين وإقامة محاكم شرعية إسلامية على أساس متين، وقامت السلطات الفرنسية بسجن بعض هؤلاء وبدأت في إجبار زعماء قبائل البربر على توقيع رسائل تعبر عن شكر لفرنسا والامتنان لها، ومن امتنع منهم نال العقوبة المهينة.
ولم يخف على نبهاء الشباب في المغرب أهداف هذا المرسوم وما سبقه وتبعه من ترتيبات إدارية، رغم أن الإدارة الفرنسية تلطفت كثيراً في ديباجته وفي صياغته، فاتخذوا منه قضيتهم الأولى، واتصلوا بالعلماء والوجهاء، وقام كل بدوره في مقاومة هذا المرسوم المغرض الذي يخالف حتى معاهدة فاس المعقودة في 30 آذار/مارس سنة 1912 بين فرنسا وبين سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ بن الحسن، والتي بموجبها طلب السلطان الحماية الفرنسية لتخليصه من ثورة أخيه المولى زين وتمرد قبائل فاس، فقد نصت المعاهدة على التزام فرنسا بجعل القبائل المغربية كلها، عربية وبربرية، تحت رعاية السلطان تجري عليها أوامره كما كان الأمر قبل الحماية، وأن يتم إصلاح القوانين المغربية وفق الشريعة الإسلامية.
وفي أول الأمر أطلق القائمون على الحركة الوطنية المعارضِة للظهير اسم: الطائفة، واتخذ مؤسسوها أسماء حركية على أسماء العشرة المبشرين بالجنة، وضمت الحركة شباباً من خريجي المدارس الفرنسية في الرباط أمثال أحمد بلافريج، إلى جانب شباب القرويين بفاس أمثال علال الفاسي، ولم يمض وقت طويل حتى جرت اجتماعات ضمت علماء المغرب ووجهاءه وشبابه لبحث السبل التي تؤدي لإلغاء هذا المرسوم، وكانت أبرز هذه الاجتماعات في فاس وتطوان وسلا، فقد اجتمع علماء ووجهاء فاس في دار السيد أحمد مكوار بن الحاج طاهر وانتخبوا منهم وفداً ليرفع عريضة للملك تطالبه بإلغاء الظهير، وفي تطوان كان لأسرة بنونة دور كبير فقد كانت هذه الأسرة على اتصال بالأمير شكيب أرسلان، واستضافته في زيارته للمغرب قبل حوالي 9 أشهر من صدور الظهير، واتصل الأخوان عبد السلام ومحمد بنونة بالوطنيين في مدن المغرب لتشكيل حركة مقاومة موحدة، وكان للأستاذ عبد اللطيف الصبيحي دور في الكشف عن الظهير قبل أن يصدر في الجريدة الرسمية، حيث كان يعمل في القسم القانوني في الديوان الشريفي، فاطلع على الظهير فنبه إليه مجموعة من الشباب في مدينته سلا، ولنضاله ضد الظهير نفاه الفرنسيون ثم اعتقلوه لفترة من الزمن.
واتخذ الجهاد ضد الظهير مظاهر متعددة، منها الكتابة في الجرائد المحلية والفرنسية، ومنها أن يرفع العلماء والوجهاء رسالة للملك بهذا الصدد، ونشير على سبيل المثال إلى رسالة موجهة إلى السلطان وقع عليها 111 من كبار العلماء والشخصيات يستنكرون الظهير وأهدافه، ولكن أقوى هذه المظاهر كان التجمعات في المساجد والانطلاق منها في مظاهرات تحتج على الظهير وتطالب بإلغائه، واختارت الحركة يوم الجمعة 8 صفر 1349 لانطلاق هذه التجمعات والتظاهرات في عدة مدن مغربية، فجرى تجمع كبير في المسجد الكبير بسلا، وكان أكبر تجمع في ذلك اليوم في فاس، فما أن انتهى الإمام من الصلاة حتى بدأ الحاج العربي بوعياد قراءة الدعاء اللطيفي، وهو تقليد مغربي عريق جميل قائم على دعاء الله عزوجل باسمه: يا لطيف، الطف بنا فيما جرت به المقادير، ولا تفرق بيننا وبين إخواننا البربر. ولم تقتصر قراءة اللطيفية على صلوات الجمعة أو التجمعات المخصوصة، بل كان المصلون يقرؤونها بعد انتهائهم من صلاة الجماعة في المساجد.
وأصدرت السلطات الفرنسية بياناً في 13 ربيع الأول 1349= آب/أغسطس 1930 باسم السلطان تحاول تبرير الظهير البربري وأنه ليس إلا تجديداً لظهير 1914، ومما جاء في البيان: غير خفيٍّ أن للقبائل البربرية عوائد قديمة يرجعون إليها في حفظ النظام ويجرونها في ضبط الأحكام، وقد أقرهم عليها الملوك المتقدمون ... فتمشوا على مقتضاها منذ مدة مديدة وسنين عديدة، وكان أخر من أقرهم على ذلك مولانا الوالد قدس الله روحه... وحيث إن ذلك من جملة الأنظمة المخزنية اقتضى نظرنا الشريف تجديد حكم الظهير المذكور لأن تجديده ضروري لإجراء العمل به بين الجمهور، وقد قامت شرذمة من صبيانكم الذين يكادون لم يبلغوا الحلم وأشاعوا، ولبئس ما صنعوا، أن البرابر بموجب الظهير الشريف تنصروا، وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا، وموهوا بذلك على العامة، وصاروا يدعونهم لعقد الاجتماعات بالمساجد عقب الصلوات لذكر اسم الله تعالى اللطيف، فخرجت المسألة من دَوْر التضرع والتعبد إلى دور التحزب والتمرد، فساء جنابنا الشريف أن تصير مساجد قال الله في حقها: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ﴾ محلات اجتماعات سياسة تروج فيها الأغراض والشهوات... فنأمركم أن تلزموا السكينة والوقار وأن ترجعوا إلى سلك الجادة والاعتبار.
وهكذا أخذت الحركة طابعاً إسلاميا مساجدياً، وربطت القضيةَ الوطنية بالدين الإسلامي، فكانت التجمعات الخطابية في المساجد يتلوها قراءة الدعاء اللطيفي، ثم تخرج المظاهرات التي تستمر في قراءة الدعاء اللطيفي، واتسعت رقعتها اتساعاً مذهلاً، حتى قُدر عدد المشاركين في صلاة الجمعة بعد شهر بتسعة آلاف شخص، وقامت سلطات الاستعمار بمواجهتها بالقوة وباعتقال بعض القائمين عليها، وحاصرت مدينة فاس عقوبة لها على المظاهرات، وأدى هذا لتأجيج الروح الوطنية وزيادة أعداد المتظاهرين، واستمرت المظاهرات في بعض المدن عدة أيام متصلة، واستمرت التظاهرات مدة تقرب من ثلاثة أشهر ثم توقفت بعد تشكيل الوفد الذي سيذهب لمقابلة الملك وتقديم مطالب المواطنين التي كانت: إلغاء التشريعات التي تفصل العرب عن البربر، وتوحيد التشريع والحكم في المغرب، وكف يد الإدارة الفرنسية وإعادة السلطة الحقيقية للملك.
وبناء على معرفته الوثيقة بالمجتمعات الغربية وسياسات حكوماتها، قام الأمير شكيب أرسلان بتوجيه الحركة التوجيه السديد، وكان من توصياته أن تنتقل الحركة إلى الصعيد الشعبي الأوسع فتشرك عامة الشعب في نضالها، ودعاها لمقاطعة البضائع الفرنسية قائلاً: إن المقاطعة هي السلاح الذي يخشاه الأوربيون؛ فهم الذين يضعون النقود فوق الله. فبدأت حركة مقاطعة واسعة امتنع فيها عامة المغاربة عن شراء واستعمال المنتجات الفرنسية كالسجائر والسكر والمنسوجات.
وقامت في أنحاء العالم الإسلامي الهيئات والشخصيات الإسلامية تستنكر هذا الظهير وتشير لأهدافه البعيدة، وأصدرت جمعية الشبان المسلمين في مصر، وهي أكبر جمعية إسلامية آنذاك، نداءً إلى ملوك الإسلام وشعوبه وعلمائه، جاء فيه: إن أمة البربر التي استهدت بالإسلام منذ العصر الأول، والتي طالما اعتمد عليها الإسلام في فتوحه وانتشاره، وطالما استند إليها مستنجدا أو مدافعا في خطوبه العظمى... هذه الأمة التي كانت منها دولتا المرابطين والموحدين، فكانت لها في تاريخ الإسلام أيام غراء مجيدة ... هذه الأمة التي ظهر منها العلماء الأعلام، والقادة العظام، والتي لرجالها في المكتبة الإسلامية المؤلَّفات الخالدة إلى يوم الدين ... تريد دولة فرنسا الآن إخراجها برمتها من حظيرة الإسلام بنظام غريب تقوم به سلطة عسكرية قاهرة ممتهنة به حرية الوجدان، ومعتدية على قدسية الإيمان، بما لم يعهد له نظير في التاريخ.
ثم قال النداء: إن فرنسا إذا لم ترجع عن هذه الجريمة فإن العالم الإسلامي يعتبر ذلك مجاهرة منها بعداوته، وسيعلن ذلك على منابر المساجد، وعلى صفحات المجلات والجرائد، وفي حلقات الدروس الدينية، وفي نظم الجمعيات الإسلامية.
ووقع النداء الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين عبد الحميد سعيد وإلى جانبه محمد شاكر وكيل مشيخة الأزهرالسابق، ومحمد رشيد رضا  منشئ مجلة المنار، وعدد من علماء الأزهر والقضاة منهم الأستاذ خليل الخالدي، رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين.
ونفت سلطات فرنسا عدداً من الشباب الوطني لمعرفتها أنهم هم الذين شكلوا كتلة العمل الوطني السرية، والتي صارت حركة سياسية واسعة القبول، فاعتقلت الأستاذ علال بن عبد الواحد الفاسي، المولود سنة 1326=1908 والمتوفى سنة 1394=1974، ونفته قرابة سنة إلى تازة، ولما عاد إلى بلده فاس منعته من التدريس، واعتقلت السلطات الفرنسية الأستاذ محمد المختار بن علي السوسي، المولود سنة 1318=1900 والمتوفى سنة 1383=1963، هو من أسرة علمية بربرية، وكان والده أكبر شيوخ الطريقة الدرقاوية الصوفية، ولكونه من رجالات البربر فقد كانت عقوبته لدى فرنسا أشد، فاعتقلته لبعض الوقت ثم وضع رهن الإقامة الجبرية مدة 5 سنوات في بلده إلغ في جنوب المغرب.
هكذا أيقظ الظهير البربري روح الوطنية المغربية القائمة على الولاء للإسلام واللغة العربية، فكان ذلك وبالاً على المستعمر من حيث لم يحتسب، وتطورت أساليب الحركة ونقلت جزءاً من نشاطها إلى فرنسا، وأصدرت سنة 1351=1932مجلة في المغرب وأخرى في باريس لمخاطبة الرأي العام الفرنسي، وكان برنامجها يتلخص في إلغاء مظاهر الحكم المباشر الفرنسي وتطبيق معاهدة الحماية نصا وروحا، وقيام حكم ملكي دستوري، وإلحاق المغاربة بالوظائف التي كانت شبه محتكرة للفرنسيين، وتأسيس مجالس بلدية وإقليمية ومجلس وطني جميع أعضائه من المغاربة.
ولما جاءت الانتخابات الفرنسية في ربيع سنة 1936 بتحالف مكون من الأحزاب اليسارية عُرف باسم الجبهة الشعبية، وكان زعماؤه أقل تشدداً مع المغرب، أصدرت الكتلة جريدتي الأطلس بالعربية، والعمل الشعبي بالفرنسية، وشرع علال الفاسي ومحمد الوزاني في تنظيم حزب حقيقي، انتخبت له لجنة مؤقتة ريثما تسمح الظروف بعقد مؤتمر وطني، ولما عمدت السلطات الفرنسية إلى حل الكتلة في آخر سنة 1355=1937، أعاد قادتها تكوينها باسم الحزب الوطني، وحصلوا على الاعتراف الرسمي، ولكن ذلك لم يطل فقد حلَّ المقيم العام الفرنسي الحزب بعد بضعة شهور ونفى قادته.
وكان الملك محمد الخامس، المولود سنة 1329=1911، قد تولى العرش في السادسة عشرة من عمره بعد وفاة والده يوسف بن الحسن في سنة 1346=1927، ولم يكن محمد أكبر إخوته، وإنما قدَّمه للعرش توهم الفرنسيين فيه الانقياد إليهم، لهدوء طبعه وصغر سنه، وجاء كما يقول الأستاذ الزركلي في الأعلام: في ظل احتلال فرنسى يعبر عنه بالحماية، فقد كان المقيم الفرنسي هو المرجع الأعلى في سياسة البلاد وإدارتها، وليس للملك الذى كان يدعى بالسلطان، ولا للديوان الملكى الذى يسمى المخزن إلا المظهر الدينى في مواسم الأعياد الإسلامية، ووضع الطابع الشريف، أي الخاتم، على الأحكام الشرعية وشؤون الأحباس المعروفة في المشرق بالأوقاف، ولما اكتمل شبابه اتصل في الخفاء بأهل الوعي من حملة الفكرة التحررية في بلاده، متجاوبا معهم في نجواهم وشكواهم، وتألفت كتلة العمل الوطني وبرز حزب الاستقلال فكان محمد الخامس ممن أقسم له اليمين سرا، وكتم ذلك فلا أعلم أن أحدا أذاعه قبل كتابة هذه الترجمة.
ولما نشبت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939 أعلن السلطان محمد بن يوسف عن تأييده ودعمه لفرنسا وحلفائها، وهزم الألمان الجيوش الفرنسية هزيمة مخزية، وأنشأوا حكومة فيشي العميلة في فرنسا، وقوى ذلك من عضد الملك محمد الخامس فاتخذ عدداً من القرارات عصى فيها رغبة فرنسا الفيشية، منها قرار للتمييز ضد اليهود، ولما نزلت القوات الحليفة على سواحل المغرب في سنة 1942 رفض أمر المقيم الفرنسي أوجست نوجيه أن يرحل إلى الداخل، والتقى في سنة 1943 بالرئيس الأمريكي روزفلت في زيارته للمغرب لحضور مؤتمر الدار البيضاء، وذكّره بالعلاقات الوطيدة بين البلدين وأن المغرب كان أول دولة اعترفت بالولايات المتحدة الأمريكية عند ثورتها واستقلالها عن المستعمر البريطاني، وترك هذا اللقاء أثراً طيباً في نفس الرئيس الأمريكي الذي أصبح من أنصار استقلال المغرب وزوال الاستعمار الفرنسي.
وفي 16 محرم 1363=11 كانون الأول/ديسمبر 1944 عقد الوطنيون المغاربة مؤتمرا تأسيسياً تمخض عنه حزب الاستقلال الذي عدل عن سياسة الاستقلال المرحلي وطالب بإسقاط الحماية مباشرة شرطا مسبقاً للتفاوض مع فرنسا على تحقيق المطالب السابقة، وحرر حزب الاستقلال عريضة وقعها عدد كبير من الشخصيات الوطنية المغربية، ولقيت تأييداً واسعاً واستحساناً شاملا من عناصر الشعب المغربي، وقدم الحزب العريضة إلى السلطان محمد بن يوسف وممثلي حكومات فرنسا وبريطانيا وأمريكا وروسيا تطالبها فيها بالاعتراف باستقلال المغرب استقلالاً تاماً تحت ظل ملك البلاد السلطان محمد بن يوسف ... والرعاية الملكية لحركة الإصلاح، وإحداث نظام سياسي شوري تحفظ فيه حقوق وواجبات جميع مكونات الشعب المغربي.
وكانت لفتة ذكية من الحزب أن طلب في العريضة أن ينضم المغرب للدول الموقعة على ميثاق الأطلسي وميثاق الأمم المتحدة الذي أعقبه وتأسس عليه، وهو الإعلان المشترك الذي أصدره في 14 آب/أغسطس 1941 رئيس وزراء بريطانيا تشرشل والرئيس الأمريكي روزفلت، قبل دخول أمريكا الحرب، والذي نص في الفقرة الثالثة منه على أن الطرفين: يحترمان حق كل شعب في اختيار شكل الحكومة التي يريدها ويريدان أن تعود حقوق السيادة والحكم الوطني لأولئك الذين حرموا منها بالقوة.
ورفضت فرنسا عريضة حزب الاستقلال، وردت عليها بأن أعلنت عزمها على إدخال بعض الإصلاحات، وشكلت لجاناً لدراستها وتقرير ما ينبغي عمله، ولكن الرأي العام المغربي رفض هذه المماطلة، واستمرت المظاهرات في كافة أنحاء المغرب 3 أسابيع، وزجت فرنسا بالوطنيين في السجون، ونفت عدداً من وزراء الملك، وحلت الجمعيات والهيئات المغربية الوطنية التي كانت قد سمحت بها في السابق، واتهمت الوطنيين بالتواطئ مع عدوها اللدود ألمانيا الهتلرية، ولم يشفع لهم أن المغرب وضع تحت تصرف الدول الحليفة جميع موارده الطبيعية وموانئه وقواعده العسكرية، وأن أبناءه قاتلوا في صفوف الحلفاء لتحرير فرنسا وإيطاليا من النازية.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل محمد الخامس إلى العلن في تشجيعه لحركة الاستقلال، ولما سمحت له السلطات الفرنسية بزيارة طنجة في أبريل 1947 ألقى خطاباً لم يشكرها فيه بل أكد تمسك المغرب بمقوماته التاريخية والوطنية وبمقدساته الدينية وأشاد بتأسيس جامعة الدول العربية، وفي سنة 1950 تلقى الملك محمد الخامس دعوة لزيارة فرنسا التي استقبلته استقبالاً حافلاً بغرض استمالته، ولكنه لم يتراجع عن تجديد مطالبته باستقلال المغرب وأن المغاربة لن يرضوا عن ذلك بديلاً، وهو ما كان يردده في لقاءاته مع المسؤولين البريطانيين والأمريكان، ودفعت فرنسا بالتهامي بن محمد المزواري المراكشي الجلاوي، المتوفى سنة 1357=1956، وهو أحد كبار زعماء قبائل البربر في الجنوب، وكانت قد جعلته من قبل باشا مراكش، فجمع الجلاوي القبائل الموالية له وزحف على الرباط في ربيع الآخر 1370= 1951، وعندها حاصرت القوات الفرنسية القصر بدعوى حماية السلطان، وقدم المقيم العام إليه إنذارا يطالبه فيه بإصدار بيان إدانة لحزب الاستقلال أو التنازل عن العرش وإلا عزله، واضطر السلطان مكرها لتوقيع الاستنكار المطلوب دون ذكر للحزب.
وكان للتصرفات الفرنسية صداها السيء في البلاد العربية ودول العالم الثالث التي استقلت حديثاً، ورفعت الجامعة العربية القضية المغربية إلى هيئة الأمم المتحدة، فرفضت التدخل في المسألة، وقرر الفرنسيون ألا فائدة في إبقاء محمد الخامس على عرش المغرب، وأنه يزداد جرأة وصلابة بفعل التأييد الشعبي الذي أجمع على الاستقلال، ورفض الملك توقيع عديد من المراسيم التي بدون توقيعه لا تكتسب قوة القانون، وفي آخر سنة 1951 كرر الملك أمله في تحقيق اتفاق يضمن للمغرب السيادة التامة، وبقيت الأجواء متوترة إلى أن انفجرت في آخر سنة 1952 عندما تظاهر آلاف المغاربة في قلب الدار البيضاء احتجاجاً على اغتيال الفرنسيين للزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، فألقى الفرنسيون القبض على مئات من الوطنين وسجنوهم لأكثر من سنتين دون محاكمة.
وحرك الفرنسيون الزعيم البربري التهامي الجلاوي، ومع أن الأسرة الكتانية في المغرب كانت في طليعة الحركة الوطنية، إلا أن العالم الكبير المحدث عبد الحي الكتاني انضم للتهامي الجلاوي، وشكلت فرنسا مجلساً للحكم ينوب عن السلطان يتكون من وزراء مغاربة ومدراء فرنسيين، وطلبت من السلطان أن يتنازل عن سلطاته التشريعية لهذا المجلس، ورغم أن السلطان فعل ذلك في نهاية الأمر، إلا أن الفرنسيين وصنعائهم قرروا خلعه في 20 أغسطس 1953، ونفوه إلى إلى جزيرة أجاكسيو في كورسيكا، ثم إلى مدغشقر، ونصبوا على العرش صنيعة لهم من الأسرة العلوية هو ابن عم الملك محمد بن عرفة.
ورفض العلماء والشعب مبايعة السلطان الذي أتى به الفرنسيون، وثار المغرب حواضره وبواديه مدة سنتين، وحيث خلع الفرنسيون السلطان دون تشاور مع الأسبان الذين كانوا يحتلون العرائش على الأطلسي ومناطق أخرى في المغرب، لم يخف الأسبان استيائهم من هذا القرار، وتساهلوا مع الوطنيين الذين لجأوا لمناطقهم، مما صعب مهمة المحتل الفرنسي في السيطرة على الموقف، فعاد الفرنسيون إلى مفاوضة محمد الخامس في منفاه ليقدم بعض التنازلات، ولكنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً وأصر على الاستقلال الكامل في الوقت الذي كانت فيه مدن المغرب تغلي بالثورة، وبدأ بعض الوطنيين في حمل السلاح، فأخرج الفرنسيون ابن عرفة إلى طنجة، وأعادوا محمد الخامس إلى المغرب وأعلن استقلال المغرب في 3 مارس 1956، ليبدأ صفحة جديدة في تاريخه العريق.
ولئن أفشلت الحركة الوطنية المغربية مستندة إلى الإسلام أهداف الظهير البربري، إلا أنه بقي قانوناً حتى خطب الملك محمد الخامس في مهرجان شعبي في بلدة الخميسات فقال: هي سياسة قد أقبرت وألغيت نهائياً، ولم يبق العمل بها جارياً في المغرب الحر الموحد والمستقل، وأصدر الملك ظهيراً بإلغائه في 24 رجب 1375=7 آذار/مارس 1956.
وبقيت للظهير البربري رواسب تتمثل في الاستلاب اللغوي والفكري لدى فئة متنفذة من المجتمع المغربي، والذي تغذيه المدارس الفرنسية القائمة في المغرب والتابعة لوكالة التعليم الفرنسي في الخارج وللكنيسة الكاثوليكية، وهي شوائب ما زال المجتمع المغربي ينبذها شيئاً فشيئاً في ظل الصحوة الإسلامية ثم في اتصاله الذي يزداد قوة بأخوانه العرب والمسلمين بعد انهيار الحواجز الإعلامية واتساع رقعة الإعلام العابر للحدود .
أما القضية الأمازيغية فهي قضية يختلط فيها الحق بالباطل، ولا شك أن الأمازيغ قد عانوا من التمييز ضدهم لأسباب منها موضوعي ومنها جائر، ولكن قضيتهم تعرضت للاختطاف من اليساريين المعاديين للإسلام، والذين تستروا وراءها ووراء الفرانكوفونية في عداء ظاهر سافر للعرب والعربية، وهؤلاء بلا شك لا يعبرون عن الضمير المجتمعي الأمازيغي الذي بني على الإسلام وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعبرون عن التاريخ الأمازيغي الذي قدم للإسلام والمسلمين مجاهدين أشداء وعلماء فطاحل، فمن العبث فصلهم عن تاريخهم وجهادهم المشترك مع العرب المسلمين، ولعل التنمية والتطوير تزيل كثيراً من مظالمهم وتجعلهم عنصراً إيجابياً فعالاً في دول المغرب العربي.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer