الجمعة، 13 نوفمبر 2015

حدث في الثلاثين من المحرم

في الثلاثين من المحرم من عام 1356 الموافق 12 نيسان/أبريل من عام 1937 انعقد في سويسرا مؤتمر مونترو  بين مصر وبين 12 دولة أوروبية بغرض إلغاء الامتيازات التي تمتع بها رعايا هذه الدول أمام المحاكم المصرية، وانفض المؤتمر عن عقد اتفاق بين هذه الدول وبين مصر على إلغاء الامتيازات الأجنبية، وحققت بذلك مصر مطلباً شعبياً وخطوة عملاقة في سبيل تحقيق استقلال حقيقي، وفيما يلي موجز عن هذا الحدث منقول في معظمه عن مقالات نشرتها مجلة الرسالة المصرية في تلك الفترة.
ويعود تاريخ هذه الامتيازات الأجنبية إلى أيام الدولة العثمانية التي كانت دولة الخلافة الإسلامية، وسارت في أنظمة الدولة والقضاء على نهج الشريعة الإسلامية، فأنشأت فيما يتعلق بالمواطنين غير المسلمين نموذجاً إسلامياً اسمته نظام الملة، ويقال له كذلك عهد نامة لكون متعلقاً بالمعاهَدين، وكان استمراراً تاريخياً لمصطلح أهل الذمة الذين منحتهم الشريعة الإسلامية الحق في أن يحتكموا في منازعاتهم إلى رئاستهم الدينية، ولم تلزمهم بقبول حكم القاضي الشرعي.
وكان السلطان محمد الفاتح أول من أسس هذا النظام بعد فتح استانبول، حين منح أهلها غير المسلمين حق انتخاب رؤسائهم الدينيين، وجعل هؤلاء الرؤساء مسؤولين عن إدارة الشؤون الشخصية والعامة لأتباع دينهم، فأضحت كل كل طائفة دينية مستقلة في تنظيم شؤونها الداخلية، وكان زعماؤها الدينيون يفصلون في قضايا الأحوال الشخصية كالميراث والزواج والوصايا والتركات، وكذلك في المنازعات الداخلية بين أعضائها، ولكن دون منع لأتباع هذه الطوائف غير المسلمة من اللجوء إلى قضاة المسلمين إن أرادوا ذلك، عملاً بقوله تعالى في سورة المائدة ﴿فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
وتغير الأمر من ترتيب داخلي إلى ترتيب ذي صبغة دولية حين عقد السلطان سليمان القانوني اتفاقية سلام ووفاق مع فرانسوا الأول ملك فرنسا في سنة 942=1536، ومنحت الاتفاقية لرعايا الدولتين حرية السفر والتجارة في الدولة الأخرى ومساواتهم برعاياها في الضرائب.
ونصت الاتفاقية في المادة الثالثة على أن للقنصل الفرنسي: أن يسمع ويحكم ويقطع بمقتضى قانونه في جميع ما يقع في دائرته من القضايا المدنية والجنائية بين رعايا ملك فرنسا، بدون أن يمنعه من ذلك حاكم أو قاضي شرعي أو صوباشي أو أي موظف آخر... وعلى أي حال ليس للقاضي الشرعي أو أي موظف آخر أن يحكم في المنازعات التي تقع بين التجار الفرنساويين وباقي رعايا فرنسا، حتى لو طلبوا منه الحكم بينهم، وإن أصدر حكما في مثل هذه الأحوال يكون حكمه لاغيا لا يعمل به مطلقا.
وجاء في المادة الخامسة: لا يجوز للقضاة الشرعيين أو غيرهم من مأموري الحكومة العثمانية سماع أي دعوى جنائية أو الحكم ضد تجار ورعايا فرنسا بناء على شكوى الأتراك أو جباة الخراج أو غيرهم من رعايا الدولة العلية، بل على القاضي أو المامور الذي ترفع إليه الشكوى أن يدعو المتهمين بالحضور إلى الباب العالي محل إقامة الصدر الأعظم الرسمي، وفي حالة ... حصلت الواقعة في محل غير الاستانة يدعوهم أمام أكبر مأموري الحكومة السلطانية وهناك يجوز قبول شهادة جابي الخراج والشخص الفرنساوي ضد بعضهما.
وجاء في المادة السادسة: لا يجوز محاكمة التجار الفرنساويين ومستخدميهم وخادميهم فيما يختص بالمسائل الدينية أمام القاضي أو السنجق بيك أو الصوباشي أو غيرهم من المأمورين، بل تكون محاكمتهم أمام الباب العالي، ومن جهة أخرى يسمح لهم باتباع شعائر دينهم ولا يمكن جبرهم على الإسلام أو اعتبارهم مسلمين ما لم يقروا بذلك غير مكرهين.
وجاء في المادة الخامسة عشرة: كل تابع لملك فرنسا إذا لم يكن أقام بأراضي الدولة العلية مدة عشر سنوات كاملة بدون انقطاع لايلزم بدفع الخراج أو أي ضريبة أيا كان اسمها، ولا يلزم بحراسة الاراضي المجاورة، أو مخازن جلالة السلطان، ولا بالشغل في الترسانة، أو أي عمل اخر، وكذلك تكون معاملة رعايا الدولة في بلاد فرنسا. وقد اشترط ملك فرنسا أن يكون للبابا، ولأخيه وحليفه الأبدي ملك انكلترا وسكوتلندا الحق في الاشتراك بمنافع هذه المعاهدة لو أرادوا بشرط أنهم يبلغون تصديقهم عليها إلى جلالة السلطان، ويطلب منه اعتماد ذلك في ظرف ثمانية شهور تمضي من هذا اليوم.
وفي أيام السلطان سليم وفي سنة 1569جرى تجديد هذه الاتفاقية وأضيف إليها مادة تقضي بأن يعفى الفرنسيون من دفع الخراج الشخصي.
وأرسلت فرنسا تحت ظل هذه المعاهدات عدة إرساليات دينية كاثوليكية إلى كافة بلاد الدولة العثمانية التي يوجد بها مسيحيون وبخاصة بلاد الشام لتعليم أولادهم وتربيتهم على محبة فرنسا، وأدت هذه الامتيازات إلى تدخل القناصل الأوربيين في الإجراءات الداخلية بدعوى رفع المظالم عن المسيحيين واتخذتها دول أوربا سبيلا لتمد نفوذها بين رعايا الدولة المسيحيين، فروسيا تحامي عن الأمم السلافية والمتدينين بالمذهب الأرثوذكسي، وفرنسا عن الكاثوليك، وإنكلترا عن مبشري البروتستانت، وكل هذه الدول تحرض المسيحيين من رعية الدولة على مقاومة الاستبداد ما دام عثمانياً مسلما.
ولم يكن لهذه الامتيازات أثر سلبي كبير في أيام عنفوان وقوة الدولة العثمانية، ولكن مع ضعف الدولة في القرن الثامن عشر الميلادي فإن هذه الامتيازات التي كانت منحة من القوي للضعيف وعطفاً عليه، غدت بالنسبة للأجانب حقوقاً مكتسبة تقيد سلطة الباب العالي نحو الأجانب في كثير من الشؤون المالية والقضائية، ولذا كان إلغاء الامتيازات من أبرز أهداف حركة الاتحاد والترقي المعارضة للسلطان عبد الحميد، ولما قامت بانقلابها عليه كان من أول أعمالها إلغاء الامتيازات الأجنبية، واعترفت بهذا المادة الثامنة والعشرين من معاهدة لوزان التي وقعتها تركيا مع الأطراف الأوربية في سنة 1923.
وكانت مصر بحكم خضوعها للدولة العثمانية في تلك العصور تخضع لنظام الامتيازات الأجنبية الذي يطبق في جميع الأراضي التابعة للدولة، وبقي هذا النظام سارياً فيها حتى بعد أن حصلت على استقلالها في عصر محمد علي، ولم تستطع أن تتحرر منه بعد أن رسخت جذوره على كر العصور وغدا معقلا لرعايا الدول الممتازة يحتمون به، ويتمتعون في ظله بكثير من الحقوق وضروب الإعفاء القضائية والمالية، وبخاصة في عهد الخديوي إسماعيل الذي أعطى الأجانب ما لم يرد في الاتفاقات العثمانية، تزلفا إليهم، وطمعا في مساعدتهم له على الاستقلال عن الدولة العثمانية.
وتفاقمت هذه الحالة في أواخر عهد الخديو إسماعيل لغرقه بالديون، ورفضِ المقرضين الأجانب إقراضه مزيداً من المال خوفاً من احتكامهم  في حالة النزاعات للمحاكم المصرية والقوانين الشرعية، ففكر وزيره نوبار نوباريان باشا في إنشاء نظام خاص ومحاكم خاصة تنظر فيها قضايا الأجانب، وانتهت مفاوضاته مع دول كبار المقرضين إلى إنشاء المحاكم المختلطة في سنة 1875، لتختص بالفصل في قضايا الأجانب المختلفي الجنسية والأجانب والمصريين، وجعل أغلبية قضاتها من الأجانب، ووضعت لها لوائح وقوانين جديدة مستمدة من القانون الفرنسي ثم القانون البريطاني والشريعة الإسلامية؛ والدول ذوات الامتيازات التي عقدت مع مصر هذا الاتفاق هي: بريطانيا العظمى؛ الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، النمسا والمجر، إيطاليا، روسيا، السويد والنرويج، إسبانيا، البلجيك، اليونان، هولندا، الدنمارك، البرتغال.
وهذه خلاصة القواعد الأساسية لاختصاصات المحاكم المختلطة:
أولاً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين المصريين وبين الأجانب، سواء في المسائل العقارية أو المنقولة
ثانياً - تختص بالفصل في المنازعات المدنية والتجارية بين الأجانب المختلفي الجنسية؛ وكذلك بين الأجانب المتحدي الجنسية في المسائل العينية العقارية فقط.
ثالثاً - إذا وجد رهن عقاري لأجنبي على عين ثابتة تختص المحاكم المختلطة بالفصل في صحة الرهن وكل ما يتعلق به ويترتب عليه.
رابعاً - تختص بالفصل في التعويضات التي يطلبها الأجانب من الحكومة المصرية عن الضرر الناشئ عن أعمال الإدارة إذا مست هذه التصرفات حقوقا مكتسبة أو مقررة.
خامساً - أما في المواد الجنائية فلا تختص المحاكم المختلطة إلا بالفصل في بعض الجنح والمخالفات البسيطة، وبالأخص الجرائم التي تقع على قضاة المحاكم المختلطة وموظفيها
وإلى جانب المحاكم المختلطة، بقيت المحاكم القنصلية مختصة بالفصل في المواد الجنائية المتعلقة بالأجانب، وفي المنازعات المدنية والتجارية المنقولة بين الأجانب المتحدي الجنسية وفي قضايا الأحوال الشخصية، كل قنصلية بالنسبة للرعايا التابعين لها.
وهذا كله إلى جانب الإعفاء والحصانة التشريعية والمالية والشُرَطية التي يتمتع بها الأجانب، فليس في وسع الحكومة المصرية أن تصدر تشريعاً يسري عليهم إلا بموافقة دولهم، وفيما بعد بموافقة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف المختلطة؛ وليس لها أن تفرض عليهم أية ضريبة إلا بموافقة دولهم، وليس للشرطة أن تهاجم منازلهم أو محالهم في المسائل الجنائية أو تفتشها إلا في حالة التلبس أو بموافقة القنصل، وليس لها أن تقرر إبعاد أجنبي غير مرغوب فيه إلا بموافقة القنصلية التابع لها.
وقد كان الأمل معقوداً بأن يكون إنشاء المحاكم المختلطة خطوة موفقة في سبيل الإصلاح، وفي سبيل تخفيف الأغلال التي تحد من السيادة المصرية، ولكن ظهر بمضي الزمن أن المحاكم المختلطة جاءت بالعكس عبئا باهظاً على السيادة المصرية، وأنها ذهبت في أحكامها وفي تفسيراتها القضائية وفي مزاعم اختصاصها إلى حدود غير معقولة، حتى غدت أشبه بدولة داخل الدولة، وغدت حصناً للنفوذ الأجنبي، وسياجا منيعا لحماية المصالح الأجنبية؛ وابتدعت المحاكم المختلطة نظرية الصالح المختلط، فادعت الاختصاص في كل قضية وكل نزاع فيه صالح أو شبه صالح لأجنبي، وتوسعت في تفسير كلمة أجنبي بحيث شملت كل الأجانب التابعين للدول الممتازة وغير الممتازة والرعايا المحميين وغيرهم، وأضحت رقيبا على السلطة التشريعية فيما تصدره من قوانين يراد سريانها على الأجانب مهما كان نوعها وغرضها.
كذلك مارست إدارة المحاكم المختلطة تمييزاً فادحاً ضد القضاة المصريين الذين دخلوا في سلكها، لتعيق ترقياتهم في دوائرها العليا، وكانت مرافعاتها تتم بإحدى اللغات الأجنبية وغالباً باللغة الفرنسية، وكانت تصدر أغلب أحكامها باللغة الفرنسية أو الإيطالية في تجاهل تام للغة العربية لغة البلاد، وقد ناضل قضاة مصريون عظام لمقاومة هذا التحيز ضد المصريين ومن أجل إصدار الأحكام باللغة العربية.
وشعرت مصر بفداحة هذه الأغلال المرهقة التي تقيد سيادتها وسلطاتها من جراء هذا النظام الشاذ الذي فرضته عليها الامتيازات الأجنبية، والذي غدا بما يسبغه على الأجانب من الحقوق والمنح الاستثنائية، وصمة في جبين الأمة تؤذي شعورها وكرامتها؛ هذا فضلا عن كونه قد غدا بما يسبغه على سفلة الأجانب وأفاقيهم من ضروب الحماية غير المشروعة، وما يمكن لهم من ضروب العيث والفساد والإجرام الدنيئة، خطرا على الأمن والنظام والصحة والأخلاق العامة. لذلك لم تنس البلاد منذ اضطرمت بحركتها الوطنية الكبرى أن تعتبر قيام الامتيازات الأجنبية كارثة قومية لا تزول إلا بزوال هذه الامتيازات.
ولما تكللت الحركة الوطنية المصرية باعتراف بريطانيا أن مصر دولة مستقلة، وذلك في المعاهدة المصرية الإنجليزية التي وقعها البلدان في آب/أغسطس 1936، كانت مسألة الامتيازات الأجنبية ضمن المسائل الجوهرية التي تناولتها المعاهدة، وجاء في المادة الثانية عشرة: يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور أن المسؤولية عن أرواح الأجانب وأموالهم في مصر هي من اختصاص الحكومة المصرية دون سواها، وهي التي تتولى تنفيذ واجباتها في هذا الصدد. وقالت المادة الثالثة عشرة: يعترف صاحب الجلالة الملك والإمبراطور أن نظام الامتيازات القائم بمصر الآن لم يعد يلائم روح العصر ولا حالة مصر الحاضرة، ويرغب صاحب الجلالة ملك مصر في إلغاء هذا النظام دون إبطاء، وقد اتفق الطرفان المتعاقدان على الترتيبات الواردة بهذا الشأن في ملحق هذه المعاهدة.
وخلاصة الملحق المشار إليه، هو أن مصر تنوي في أقرب وقت اتخاذ التدابير التي تمكنها من إلغاء نظام الامتيازات، وما يترتب عليه من القيود التشريعية والمالية بالنسبة للأجانب، وإقامة نظام انتقال لمدة معقولة لا تطول بلا مبرر، تبقى فيها المحاكم المختلطة، وتباشر الاختصاص المخول الآن للمحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية فضلا عن اختصاصها الحالي، ثم تلغى نهائيا بانتهاء فترة الانتقال، ولتحقيق هذه الغاية تتصل الحكومة المصرية بالدول ذوات الامتيازات للاتفاق على ما تقدم. أما فيما يتعلق ببريطانيا العظمى، فإنها بصفتها من الدول العظمى، وبصفتها حليفة لمصر لا تعارض مطلقاً في التدابير المشار إليها، وتعِدُ فوق ذلك أن تعاون مصر على تحقيق غايتها، وذلك باستعمال نفوذها لدى الدول ذوات الامتيازات، وإذا تعذر وصول مصر إلى غايتها بطريق التفاهم مع الدول، فإنها تحتفظ بحقوقها كاملة في إلغاء نظام الامتيازات والمحاكم المختلطة من تلقاء نفسها.
وينص الملحق المذكور على بعض المبادئ العامة التي اتفق على اتخاذها أساساً لوضع الاتفاق المذكور، ومنها أن أي تشريع مصري يطبق على الأجانب يجب ألا يتنافى مع مبادئ التشريع الحديث، ويجب ألا يتضمن تمييزاً مجحفاً بالأجانب، وأن تبقى مسائل الأحوال الشخصية الخاصة برعايا الدول الممتازة من اختصاص المحاكم القنصلية لمن ترغب ذلك من الدول، وأن يعاد النظر في القوانين الحالية وأن يصدر قانون جديد للتحقيق الجنائي.
وبادرت الحكومة المصرية فوجهت في أوائل سنة 1937 إلى الدول ذوات الامتيازات عدة مذكرات تدعوها فيها إلى المشاركة في المؤتمر الذي اعتزمت عقده للبحث في مسألة إلغاء الامتيازات الأجنبية في مدينة مونترو بسويسرا في 12 أبريل، وتفصِّل المبادئ التي ترى مصر من جانبها أن تتخذها أساساً للاتفاق المنشود، وخلاصتها أن يحال اختصاص المحاكم القنصلية سواء الجنائية أو في منازعات الأجانب المتحدي الجنسية إلى المحاكم المختلطة، وأن لا يشمل اختصاص هذه المحاكم سوى الأجانب الذين هم فعلا رعايا الدول ذوات الامتيازات، وأن يلغى التوسع الصوري الواقع في تفسير كلمة أجنبي وفي مسألة الصالح المختلط، وأن يكون للمحاكم الأهلية أن تنظر في قضايا الأجانب الذين يرغبون في اختصاصها، وأن تمتنع المحاكم المختلطة عن النظر في القضايا الخاصة بسيادة الحكومة، وألا تفسر أو تفْصل في صحة أي قانون أو أمر أداري، وألا يكون هناك تمييز بين القضاة الوطنيين وبين الأجانب في مسالة تنظيم الدوائر ورياستها، وأن تحرر الأحكام باللغة العربية مع إحدى اللغات الأجنبية المقررة. . . الخ
وقد قبلت الدول ذوات الامتياز دعوة الحكومة المصرية، وهذه الدول هي بريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، والسويد، والنرويج، وأسبانيا، وبلجيكا، واليونان، وهولندا، والدنمارك، والبرتغال. وغابت عن الاجتماع ثلاثة دول من الدول التي كانت في نظام المحاكم المختلطة، وهي ألمانيا، والنمسا والمجر، وروسيا، أما ألمانيا فقد فقدت امتيازاتها بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى وتوقيعها معاهدة فرساي في سنة 1919، حيث اعترفت بالحماية البريطانية على مصر وتنازلت عن الامتيازات الأجنبية فيها، وعن جميع المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينها وبين مصر، ولكنه لم يفت ألمانيا أن توقع مستقلة معاهدة صداقة مع مصر مُنحت فيها بعض الامتيازات المؤقتة لحين إلغاء الامتيازات، وكذلك فقدت إمبراطورية النمسا والمجر ،وكانت آنذاك تضم النمسا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، امتيازاتها بمقتضى معاهدة صلح سان جرمان، ولكن النمسا كذلك عقدت مع مصر معاهدة صداقة مُنحت فيها امتيازات مماثلة لامتيازات ألمانيا؛ أما روسيا السوفيتية ففقدت امتيازاتها منذ أن قامت فيها الثورة الشيوعية، ولم تعترف الحكومة المصرية بها إلى ذلك اليوم.
وعقد مؤتمر مونترو في موعده المحدد؛ 30 محرم 1356= 12 نيسان/أبريل 1937؛ وكان وفد مصر مؤلفا من مصطفى النحاس باشا رئيس الوزارة، والدكتور أحمد ماهر رئيس مجلس النواب، وواصف غالي باشا وزير الخارجية، وعبد الحميد بدوي باشا رئيس أقلام قضايا الحكومة؛ واستمر المؤتمر منعقدا حتى اليوم الثامن من أيار/مايو حيث تم توقيع الاتفاق الذي انتهت إليه مصر والدول؛ وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد مصر في مطالبها، وكانت فرنسا أشد الدول صلابة وتمسكا بالامتيازات وبخاصة تلك المتعلقة بالمؤسسات التعليمية؛ وكمثال على الصلافة التي تعامل بها مندوبو بعض الدول نذكر أن الوفد الإسباني طلب أن تعامل طائفة اليهود السفرديم المقيمين بمصر كالرعايا الإسبانيين وأن يمنحوا مزية التقاضي أمام المحاكم المختلطة أثناء فترة الانتقال، لأنهم من ذرية اليهود الأسبان الذين طاردتهم محاكم التفتيش في القرن السادس عشر وشردتهم عن وطنهم في مختلف البلاد، وقال المندوب الأسباني: إن أسبانيا الجمهورية التي تحررت من نزعات التحامل والتعصب، تريد أن تقدم ترضية لسلالة هذه الطائفة التي نكبت في عصور الظلم والتعصب والطغيان.
ودافعت مصر في المؤتمر عن موقفها وتمسكت بالنقط الأساسية التي تتعلق بالسيادة المصرية؛ بيد أنها اضطرت إلى التساهل في بعض التفاصيل والضمانات الخاصة بفترة الانتقال؛ وتجاوز المؤتمر كثيرا من الأزمات الدقيقة التي أثارتها فرنسا بتشددها وفداحة مطالبها. وهذه خلاصة للمبادئ الهامة التي تم الاتفاق عليها:
أولا - وافقت الدول على إلغاء الامتيازات الأجنبية وكل ما يترتب عليها من الحقوق والمزايا الخاصة إلغاء تاماً شاملاً
ثانيا - ألغيت جميع القيود التي كانت قائمة في سبيل التشريع المصري بما ذلك التشريع المالي على الأجانب، واصبح من حق مصر أن تطبق على الأجانب جميع القوانين التي تطبقها على الوطنين، وألغى حق الإشراف الذي كانت تزاوله المحاكم المختلطة في تطبيق هذه القوانين وفي الحكم بصحتها.
ثالثا - رضيت مصر بتنظيم فترة للانتقال حددت مدتها باثني عشرة عاما، يحتفظ خلالها بالمحاكم المختلطة، ويضاف إلى اختصاصها اختصاص المحاكم القنصلية في المواد الجنائية والمدنية؛ وكذلك في مواد الأحوال الشخصية بالنسبة للدول التي ترغب في نقل الأحوال الشخصية إليها.
رابعا - يقتصر اختصاص المحكم المختلطة أثناء هذه المدة على رعايا الدول ذوات الامتيازات، وكذلك رعايا الدول الآتية: ألمانيا، النمسا، تشيكوسلوفاكيا، المجر، يوجوسلافية، سويسرا، بولونيا، رومانيا؛ ويتناول اختصاصها الرعايا المحميين أيضاً في المواد الجنائية. أما في المواد المدنية فلهؤلاء الرعايا أن يختاروا بين المحاكم الأهلية والمختلطة. وفي الأحوال الشخصية بالنسبة للرعايا الذين ينتمون إلى طوائف دينية معينة يبقى الاختصاص الطائفي. ولا امتيازات لرعايا سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن.
خامسا - يحظر على جميع المصريين أن يلجئوا إلى حماية أية دولة أجنبية.
سادسا - في نهاية فترة الانتقال تلغى المحاكم المختلطة وذلك في 12 أكتوبر سنة 1949، كما تلغى المحاكم القنصلية ويخضع جميع الأجانب المقيمين بالقطر المصري للقضاء المصري في جميع الأحوال المدنية والجنائية والشخصية
يعتبر اتفاق مونترو بالنسبة لمصر حدثا عظيما في تاريخها الحديث، فقد بقيت مصر مكبلة بقيد الاحتلال البريطاني، فلما كاد أن يزول بحكم المعاهدة المصرية الإنكليزية، بقيت الامتيازات تحد من سلطان مصر وسيادتها حدا أليما، وتجعل الأجانب سادة في أرضها يتمتعون بحقوق ومنح لا يتمتع بها أبناء البلاد أنفسهم، ولذا فإن مؤتمر مونترو حطم صرح الامتيازات الأجنبية بعد أن لبث زهاء أربعة قرون كابوسا مرهقا، ولذا لم يكن غريباً بعد المؤتمر أن يكتب المرحوم الأستاذ أحمد حسن الزيات افتتاحية مجلة الرسالة تحت عنوان: بعد مؤتمر الامتيازات: الآن يبدأ الاستقلال!
ولأن الامتيازات التي محيت في الورق والمعاهدات بقيت في بعض النفوس وكثير من التصرفات، كتب الأستاذ الأديب الحكيم أحمد أمين رحمه الله مقالة بعنوان: امتيازات من نوع آخر. مما جاء فيها:
هل لاحظت أن المقاهي والفنادق الأرستقراطية وما يشبهها وما يقرب منها، صاحبها أجنبي، ومديرها أجنبي، والمشرف على ماليتها أجنبي، والذي يقدم إليك الخدمات الرفيعة أجنبي، ومن يقبض ثمن ما قدم ويأخذ منك البقشيش أجنبي؛ ثم من يمسح الأرض مصري، ومن يتولى أحقر الأعمال مصري، ومن يمسح لك حذاءك في المقهى أو الفندق مصري، ومن يجمع أعقاب السجاير مصري؛ وأن الأجنبي له الخيار في الأعمال، فما استنظفه عمله بنفسه، وما استقذره كلف به مصرياً؛ ثم أنت لا تجد العكس أبداً في المقاهي المصرية والفنادق المصرية. فلا تجد رئيساً مصرياً ومرءوساً أجنبياً، ولا تجد الأعمال الرفيعة لمصري، والأعمال الوطنية لأجنبي؛ وإذا كان لكل قاعدة استثناء كما يقولون فقد ظفرنا في هذه الحال بقاعدة لا استثناء فيها!
وهل تتبعت الصناعات في مصر فرأيت أن كل صناعة رأسها أجنبي وقدماها مصريتان؟ أو ليس ما يثير عجبك، ويبعث دهشك، أن كلمة الأحياء الوطنية في مصر تحمل من المعاني كل أنواع السوء والفوضى والإهمال وكان يجب أن تحمل كل معاني العناية والنظافة والنظام؟
ثم هل علمت أن امتيازات أخرى بجانب هذه الامتيازات المادية، هي امتيازات عقلية أو نفسية؟ فإن غلبة الأجنبي في الصراع بينه وبين المصري في مرافق الحياة المادية أوجدت حالة نفسية شراً من الحالة المادية، مظهرها قلة وثوق المصري بنفسه وقوة وثوقه بالأجنبي. فإذا تعسرت حالة مَرَضية اتجه أهل المريض إلى الطبيب الأجنبي، وإذا أراد رب مال أن ينجح في إدارته قصد إلى مدير أجنبي، وإذا تعقدت مسألة حكومية أو أهلية اختير لها خبير أجنبي، وإذا اختلف الباحثون في مسألة علمية كان الحكم الفصل قول المؤلف الأجنبي، وهكذا في كل شأن من شؤون حياتنا!
 واستتبع هذا تقويمنا للأجنبي قيمةً غالية، ودخل في التقويم أجنبيته أكثر مما دخل في التقويم فنه أو علمه... هذه الامتيازات في المادة والعقل والنفس شر مما اصطلحنا على تسميته بالامتيازات الأجنبية، ومن الأسف أنها لا تحل بمؤتمر كمؤتمر مونترو، ولا باشتراك الدول ومفاوضتها، ولا بمعاهدة، ولا بقانون، إن حلها أصعب من ذلك كله: إنها تحتاج إلى عقول جبارة، وإرادات من نار، وحمية لا حد لها، ووطنية قوية وثابة.
إنها تحتاج إلى مؤتمرات لا من جنس مؤتمر مونترو، إلى مؤتمر يتكون من فطاحل في التربية يعرفون كيف فشا فينا مرض العبودية حتى حبب إلينا العمل الدنيء وبغض إلينا العمل الرفيع ... ما أصعب هذه المؤتمرات وما أشقها وما أحوجنا إليها! ولكنها أصعب من مؤتمر مثلت فيه كل الدول، لأنها مؤتمرات لا تلغي قانوناً موضوعاً، ولكنها تلغي أخلاقاً موروثة، وتقاليد سمّرها الزمان، وتحطم أوتاداً سهر عليها الحاكم الظالم المستبد حتى صلبت الأرض عليها ... فهل لنا وقد نجحنا في مؤتمر الامتيازات الأجنبية أن نوجه هممنا لمعالجة أختها؛ الامتيازات التي هي من نوع آخر. علنا ننجح أيضاً؟
 
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer