الجمعة، 21 أغسطس 2015

حدث في الرابع من ذي القعدة

في الرابع من ذي الحجة من عام 1315 الموافق 27 آذار/مارس 1898 توفي في عليكرة بالهند، عن 83 عاماً، السيد أحمد خان مؤسس جامعة عليكرة الإسلامية في الهند، وأحد رواد الإحياء الإسلامي فيها.
ولد السيد أحمد خان في دلهي في 6 ذي الحجة من عام 1232=1817 لأسرة تنتمي إلى سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هنا جاء لقب السيد، وكانت من الأسر النبيلة في بلاط المملكة المغولية في الهند، وتسنم فيها جده لوالدته خواجا فريد الدين منصب رئيس الوزراء مرتين، ولما توطدت أقدام الاحتلال البريطاني عمل جده لوالدته في شركة الهند الشرقية، وكان والده محمد متقي مستشاراً للإمبراطور أكبر الثاني، ولكنه قضى آخر أيامه في خلوة روحية، وفي سنة 1842 منح الإمبراطور المغولي بهادُر ظفر شاه لقب جواد الدولة للسيد أحمد خان، وهو اللقب ذاته الذي كان جده يحمله من قبل تكريماً له من الإمبراطور شاه علام الثاني، ولكن السيد أحمد خان ولد وقد آلت الدولة المغولية في الهند للغروب، فقد كان السلطان الحقيقي هو شركة الهند الشرقية البريطانية، التي حرضت وساعدت حكام المناطق والمتنفذين فيها على التمرد على الدولة المغولية، وأصبح الإمبراطور اسماً بلا معنى.
وتلقى السيد أحمد خان تعليمه وفقاً لتقاليد النبلاء في الإمبراطورية المغولية، فدرس القرآن الكريم، وتعلم الفارسية والعربية والأردية، ودرس العلوم الشرعية والكونية، وكان ماهراً في السباحة والمصارعة والرياضة، وشارك في المجالس الأدبية التي كان نبلاء البلاط يغشونها آنذاك، وأنشأ أخوه الكبير أول مطبعة في دلهي وأصدر باللغة الأُردية جريدة صيد الأخبار التي تعد أولى الجرائد الناطقة عموماً بلسان المسلمين.
وتوجه السيد أحمد خان في شبابه لدراسة الطب، وعاش حياة الأثرياء المنعمين، ولكن والده توفي في سنة 1838، فأصبحت العائلة بلا مورد إذ لم تكن من كبار ملاك الأراضي، ولذا كان على السيد الذي لم يمارس عملاً من قبل أن يقطع دراسته النظامية ليعمل، فعمل مع أخيه في تحرير المجلة، ودرس في نفس الوقت في كلية تابعة لشركة الهند الشرقية تؤهل فيها موظفيها، وتخرج وهو في سن 21 سنة، فعمل كاتباً ثم رقي إلى منصب كاتب الإنشاء، ثم استطاع بعد 3 سنوات أن ينال وظيفة مساعد قاضي، ومنها تنقل في عدة وظائف في السلك القضائي.
ووفرت له الوظيفة الرتيبة الوقت الذي استفاد منه في التأليف والكتابة، وأصدر أول كتاب له في سنة 1263=1847 حول آثار دلهي بعنوان آثار الصناديد.
وفي أواخر سنة 1273=1857 اندلعت شرارة صغيرة بتمرد كتيبة هندوسية في قوات شركة الهند الشرقية لتتحول إلى ثورة عارمة على المستعمر البريطاني، يطلق عليها البريطانيون التمرد الهندي ويسميها الهنود حرب الاستقلال الأولى.
ويعتبر المؤرخون أن الوجود البريطاني في شرق الهند توطد في معركة بلاسي عندما هزمت قوات الكولونيل روبرت كلايف ملكَ البنغال سراج الدولة في سنة 1170= 1757 وأعدمته بعد أن خانه أعوانه، ثم هزمت في سنة 1764 الإمبراطور المغولي شاه علام الذي منحها حق جباية الدخل في الولايات الشرقية، وفي بداية القرن التاسع عشر الميلادي بدأت شركة الهند الشرقية في التوسع السريع معتمدة على شبكة من الحكام المحليين الذي يعيشون بدعم وتمويل منها، وانتهزت الشركة وفاة المهراجا السيخي القوي رانجيت سينغ وانتقال العرش إلى ابنه الأصغر، فاستولت على المناطق السيخية وضمتها لممتلكاتها في حربين نشبت أولاهما في سنتي 1845-1846 والثانية في سنتي 1848-1849، وانتهت بضم البنجاب إلى الطرف البريطاني، وتلتها كشمير، وغيرها من الأراضي حتى أصبحت الشركة تتحكم في معظم أراضي الهند، وازداد عدد الجنود الهنود في قواتها حتى بلغ 300.000 جندي مقابل 50.000 بريطاني.
وهناك عدة عوامل تراكمت حتى وصلت الأمور إلى الانفجار، منها أن بسط سلطان الشركة على كثير من الأراضي أدى إلى إرسال هؤلاء الجنود بعيداً عن مناطقهم وأهليهم وذويهم، ومنها أن البريطانيين أدخلوا نوعاً جديداً من الخرطوش مغلفا بشحوم البقر أو الخنزير، وهو أمر مستنكر عند الهندوس الذين يقدسون البقر، وعند المسلمين الذين يعتبرون الخنزير نجساً، وفي الطرف المدني قامت الشركة بتعديلات على نظام ملكية الأراضي الزراعية أخذت بموجبه كثيراً من الأراضي من ملاكها الكبار وبخاصة أولئك الغائبين أو الذين لم يزرعوها لعدة سنوات، وأصدر الحاكم العام للهند أوامره للإمبراطور المغولي بهادر شاه ظفر بأن يغادر قصره في دلهي ومنعه من استعمال لقب الملك، وقامت الشركة بعدة إصلاحات اجتماعية اعتبرها الهندوس تدخلاً في شؤونهم الخاصة مثل منع حرق الأرملة مع زوجها المتوفى، والسماح لها بالزواج من جديد، وكذلك كانت طبقة كبار الموظفين القديمة ناقمة على البريطانيين الذين تجاهلوها فخسرت نفوذها في المجتمع، وهكذا تراكمت النقمة على المستعمر البريطاني من مختلف الطبقات والجهات.
ورفض بعض الجنود في حامية مدينة ميروت استعمال الخرطوش المغلف بالشحم، فأصدر البريطانيون حكماً بسجنهم 10 سنوات مع الأشغال الشاقة، ولكن زملاءهم ما لبثوا أن تمردوا وأطلقوا سراحهم، وانضمت إليهم الجماهير وقاموا بقتل من وصلت إليه أيديهم من الأوربيين، ثم اتجهوا إلى عاصمة الهند التاريخية دلهي، ومالبث التمرد أن اتسع من مدينة إلى أخرى وانضم إليه كثير من الجنود الهنود، ليشمل أغلب مناطق الهند الشمالية، وانضم إليه كثير من المسلمين معلنين الجهاد على المستعمر ، ولم ينضم للثورة أغلب السيخ الذين اعتبروها حركة يقوم بها أعداؤهم الهندوس أو الحكم المغولي، ولم يؤيدها كذلك الآغا خان، فكافأه البريطانيون فيما بعد  بأن اعترفوا بإمارته على الإسماعيلين.
وما لبث الإميراطور المغولي أن انضم إلى الثوار الذين أعلنوه إمبراطور عموم الهند، ودعا الإمبراطور الشعب لتأييد الثورة، وكان البريطانيون يظنون أن نفوذه قد اضمحل، ولكنهم فوجئوا بما لقيته دعوته من استجابة من الجماهير أشرافها وعامتها.
ولعدة عوامل لا يتسع المجال لذكرها، انتهت الثورة بفشل ذريع، وأعدم الإنكليز قادتها، وأمعنوا في الهنود تنكيلاً ليردعوهم عن مجرد التفكير بالثورة، وكان من نتائجها إلغاء الإمبراطورية المغولية، وإعلان الحكم البريطاني المباشر، وتأثرت بالتمرد ونتائجه الكارثية المدن ذات الأغلبية المسلمة مثل دلهي وأجرا ولكنو وكنبور، وقتل من جرائه عدد من أقرباء السيد، ونجح في إنقاذ والدته من القتل لتموت من المعاناة التي أعقبت التمرد.
ولم يشارك السيد أحمد خان في التمرد ولم يؤيده، وأنقذ عدداً من الأوربيين من الموت المحتم، فكان لذلك أثره في تقدير المستعمرين له، وكان القادة البريطانيون في الهند قد ادعوا أن التمرد كان مؤامرة دبرتها النخبة المسلمة بدافع من استيائها لاضمحلال نفوذها في ظل الوجود البريطاني المتعاظم، ولكن السيد أحمد خان أصدر في ذات السنة كتيباً تحت عنوان أسباب التمرد الهندي، تناول فيه التمرد، وحلل أسبابه تحليلاً صائباً جريئاً صريحاً، وأنحى باللوم على شركة الهند الشرقية لتوسعها معتمدة على القوة والعدوان ولجهل موظفيها بالثقافة والتقاليد الهندية، وغير ذلك من نقاط ضعف الإدارة البريطانية وأخطاءها التي أدت إلى الاستياء في عموم البلاد، ثم إلى انفجار التمرد، وقدم السيد بعض الاقتراحات وأبرزها تعييين المسلمين في شركة الهند الشرقية على نحو يتلاءم مع وجودهم وإمكانياتهم.
ولما كتب السيد هذا الكتيب خشي أصدقاؤه أن تكون عاقبته عليه وخيمة، وناشدوه ألا ينشره، ولكنه فعل ذلك بطريقة ذكية، فقد طبع منه 500 نسخة باللغة الأردية، وأرسل واحدة إلى حكومة الهند البريطانية، واحتفظ بالباقي دون أن يوزعه، ولما ترجمت حكومة الهند البريطانية الكتيب وعرضته على مجلس الوزراء لم ير أغليهم فيه غير تحليل موضوعي للأمور من المفيد أن تأخذه الحكومة بعين الاعتبار، ولكن وزير الخارجية في حكومة الهند طالب بإنزال أشد العقوبات بالسيد لأن من شأن هذا الكتيب أن يؤجج المشاعر الهندية بعد استقرارها، وأن مؤلفه لو كان صادقاً في نصحه لبريطانيا لقدم الكتيب في شكل مذكرة للحكومة، وطلبت الحكومة السيد للاستجواب، ولما تبين للوزير أن السيد لم يوزع الكتاب، خفف من غلوائه وانتهى الأمر بأن أصبح الكتيب محط اهتمام كبار الموظفين البريطانيين وصار من أول ما يقرؤه القادمون الجدد منهم، وكان له أثر ملموس في تغيير السياسة البريطانية في الهند.
وللسيد أحمد خان مؤلفات منها نظرات في الإنجيل، وكتاب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كتب عدة أجزاء في تفسير القرآن الكريم، وكان يتحرق بدافع من إسلامه وغيرته من تأخر قومه، ويرى أن الإسلام الصحيح الخالص لا يقف في طريق التقدم، وأنه في الأصل هو الدين الوحيد صديق العلم والتقدم، وحيث لم ينطلق السيد أحمد خان من أساس ديني علمي متين، نجده في مؤلفاته شديد التأثر بانهزام المسلمين أمام القوة البريطانية الباهرة، ولذا فهو يسعى جهده للتوافق مع المعطيات الغربية وإثبات أن الإسلام يتوافق معها، وهو في سبيل ذلك يتهرب من القبول بالمعجزات والغيبيات، ويدعو للاجتهاد ونبذ التقليد ويشمل بذلك تلميحاً وتصريحاً الحديث الشريف، ولذا فهو من مؤسسي المدرسة التوفيقية التلفيقية أو الإنهزامية - إن شئت! ومن آرائه الشاذة التي لم يسبقه أحد إليها قوله إن الوحي الإلهي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى لا باللفظ، ونفى وجود الجن حقيقة وأوّل الآيات االتي ورد فيها ذكرهم، وعند تحليله لآيات تعدد الزوجات قرر أنها تدل على منع التعدد والاكتفاء بزوجة واحدة.
وقد أدت هذه الأفكار لقيام علماء الدين على هذا المارق المتفلسف، وكفرَّه عدد كبير منهم، وبعد ذلك تجنب السيد أحمد خان الخوض في الأمور الدينية وأصبحت كتاباته تدور حول التعليم وتطويره بين المسلمين، ولكن دعوته من ناحية أخرى ساهمت في القضاء على كثير من العادات والخرافات التي لا تمت للإسلام بصلة والتي كانت شائعة بين عامة المسلمين ولا تزال.
على أن محور حياة السيد أحمد خان كان التعليم بأوسع مفاهيمه، فقد أدرك أن ضعف المسلمين وهزيمتهم كانت بسبب تخلفهم العلمي والحضاري، وأن العلم والتعلم هو طريق تقدمهم وبقائهم، وأسس أول مدرسة في سنة 1274=1858 ثم تلتها مدرسة أخرى في سنة 1280=1863، ثم قام بتأسيس جمعية عليكرة العلمية على غرار المحافل العلمية، ومولت الجمعية كثيراً من المشاريع التعليمية وقامت بنشر كثير من الأبحاث في مجال التربية والتعليم، وأصدرت مجلة بالإنجليزية والأردية.
وكان البريطانيون قد أمروا في سنة 1842 بالكف عن استعمال اللغة الفارسية في دوائر شركة الهند الشرقية، وكان مسلمو الهند المتضرر الأكبر من هذا التغيير، وبذل السيد أحمد خان ورفاقه جهوداً كبيرة لدى المستعمر البريطاني لاعتماد اللغة الأردية كإحدى اللغات الرسمية، ولما لم توفق مساعيهم إلى ذلك، صار من أولويات دعوته أن تبقى اللغة الأردية لغة الثقافة والعلم في الهند كما كانت لمئات السنين في عهد الدولة المغولية، التي كانت فيها اللغة الفارسية لغة البلاط الرسمية، وفي سبيل ذلك أنشؤوا جمعيات لتشجيع استعمال الأردية وتطويرها، وكانت الأردية لغة مؤلفاته وما نشرته الجمعية من أبحاث أصيلة أومترجمة، ومن ثمرات ذلك أن أصبحت الأردية اللغة الرسمية لولاية حيدر آباد ولغة التدربس في الجامعة العثمانية فيها، وأصبحت كذلك جزءاً أساسياً من الشخصية الإسلامية لدى مسلمي الهند وبخاصة في شرق الهند وغربيها.
ورغم منطلق السيد أحمد خان الإسلامي إلا أن دعوته كانت دعوة وطنية موجهة لكل أبناء الهند من مسلمين وهندوس، وكانت المؤسسات التي أنشأها تضم في إدارتها المسلمون والهندوس، ولكن النعرة الهندوسية ظهرت في قضية اللغة عندما نادت باعتماد اللغة الهندية واعتبرت الأردية لغة دخيلة على الهند، ورآها السيد أحمد خان رأي العين عندما نقل في وظيفته في سنة 1284=1867 إلى مدينة بنارِس، مدينة الهندوس المقدسة الواقعة على نهر الجانج، وشاهد هناك  بزوغ الحركة الداعية إلى إحياء اللغة الهندية وإحلالها محل الأردية التي كانت لغة العلم والثقافة في الهند، وكيف انضم إليها على الفور ودون تردد كثير من مثقفي الهندوس وكبرائهم، حتى إنه واجه ضغوطاً في الجمعية العلمية لنشر الأبحاث باللغة الهندية.
وأدى ذلك إلى تغيير في نظرة السيد أحمد خان للعلاقة بين الهندوس وبين المسلمين، وبدأ يعتقد أن التقاء العنصرين المسلم والهندوسي أمر متعذر، وأن لكل منهما وجهته الخاصة، فركز جهوده على إحياء اللغة الأردية بين المسلمين وبقائها أحد وجوه تميزهم الثقافي، وتنبأ السيد أحمد خان أن ما ر آه من الهندوس ليس إلا بداية لحركة عنصرية وأن المستقبل سيشهد مزيداً من الحقد والكراهية التي سيؤججها من يعتبرون أنفسهم متعلمين ومثقفين، وبسبب هذا التحول الفكري فإنه يعد من مؤسسي فكرة الأمتين التي قامت عليها دولة الباكستان.
وكان السيد أحمد خان محل شك شديد من الناشطين المسلمين والهندوس، وذلك بسبب دعوته المسلمين للتعاون التام مع البريطانيين والامتناع عن خوض غمار السياسة، وأن يوجهوا إمكانياتهم وطاقاتهم إلى التعليم بدلاً من ذلك، وكان يعارض المؤتمر الوطني الهندي معارضة شديدة ويعتبره مؤسسة قومية هندوسية، ولما انخرط بعض المسلمين في المؤتمر صب السيد أحمد خان حُمم غضبه عليهم وعلى المؤتمر، ودعا لجمع المسلمين تحت منظمة الرابطة الإسلامية الموالية للوجود البريطاني في الهند.
وكانت وجهة نظره في ذلك أن التحريض على خوض مواجهة غير متكافئة البتة مع البريطانيين لن يعود إلا بالبطش ومزيد من الهزائم والانحطاط، وقال إن بلداً كالهند يحتل فيه الانتماء الطائفي المركز الأهم ولا حظَّ في مؤسساته التعليمية والسياسية إلا لطبقات قليلة بعينها، لهو بلد لا شك في أن الديمقراطية البرلمانية ستكون  غير عادلة فيه، وقد تأثر غالب المسلمين بهذه النظرة وبقوا سنوات عديدة بعيدين عن ممارسة السياسة حتى قامت مؤسساتهم السياسية الإسلامية.
وسافر السيد أحمد خان إلى بريطانيا في سنة 1286=1869، ومنحته الحكومة البريطانية وسام نجمة الهند، وخلال هذه الزيارة تبلورت في ذهنه فكرة تأسيس كلية إسلامية على غرار كليات أكسفورد وكامبريدج، وفور عودته إلى البلاد نظَّم لجنة لتأسيسها وبدأ في نشر مجلة أسماها تهذيب الأخلاق وهدفها: تقويم وإصلاح المسلمين، وكان لها أثر كبيرفي الأوساط الإسلامية.
وفي سنة 1292=1875 أعلن السيد أحمد خان عن تأسيس مدرسة في عليكرة تحت اسم: الكلية المحمدية الإنجليزية الشرقية، وكانت مرتبطة عند تأسيسها بجامعة كلكوتا، والتي تأسست سنة 1857، ثم انتقلت بعدها بعشر سنوات للارتباط بجامعة الله آباد، وتقاعد السيد أحمد خان في سنة 1293 من عمله الحكومي لبتفرغ لهذا المشروع تفرغاً تاماً، وفي سنة 1294=1877 أرسى نائب الملكة في الهند حجر الأساس لهذه الكلية، وجاءتها التبرعات من علية القوم ومن ملوك المقاطعات الهندية، ومن ذلك مئة ألف روبية تبرعت بها البيجوم سلطان جهان ملكة بوبال وزوجة العلامة صديق حسن خان، وكانت هي أول رئيس للجامعة.
وأنشأ أحمد خان الكلية على أسس شبيهة بكليات بريطانيا التقليدية من حيث استقلال الأساتذة وسكناهم في الحرم الجامعي، وإفساح المجال أمام الطلبة لمناقشة الأفكار والقضايا التي يدرسونها، في جو تزول فيه كثير من الحواجز بين الأستاذ وبين تلاميذه، مع منح الطالب مرونة في اختيار ما يرغب أخذه من الدروس، وهو نظام المدارس الإسلامية منذ نشأتها وكان في الأزهر حتى مطلع القرن الرابع عشر، وتأسس في الكلية أول اتحاد للطلبة في الهند، وكان مستقلاً ينتخب الطلاب رؤساءه ولجانه، وكانت الصلاة تقام لأوقاتها ويفترض من كافة الطلبة حضورها.
ولقيت الكلية معارضة شديدة من الأوساط الدينية التقليدية المحافظة، لآراء مؤسسها التي سبقت الإشارة إليها، وكذلك لمخالفتها المألوف في الهند وقبولها الطلبة من السنة والشيعة، ولكنها لمجاراتها روح العصر وتمتعها بالرضا من المستعمر في منهجها وقبوله لخريجيها في وظائفه، نجحت نجاحاً سريعاً وصارت من أهم المراكز التعليمية في القارة الهندية، والمركز المسلم الأول، وتخرج منها عدد كبير من أدباء ومثقفي وكبراء مسلمي الهند، منهم رئيس الهندي ذاكر حسين، ولياقة علي خان أول رئيس وزراء للباكستان، ومحمد منصور علي رئيس وزراء بنغلاديش.
وامتداداً لعمله في الكلية قام السيد أحمد خان في سنة 1303=1886 بتنظيم مؤتمر سنوي تحت اسم: المؤتمر التعليمي المحمدي لعموم الهند، وكان ينعقد كل سنة في مكان مختلف لتشجيع التعليم وتوفير مناسبة يلتقي تحت ظلها المثقفون والمتعلمون المسلمون من الهنود، وبقي المؤتمر ممثلاً للبنية الإسلامية في الهند حتى تأسيس الرابطة الإسلامية في سنة 1323=1906.
ومن أوائل من عملوا في كلية عليكرة العلامة شبلي النعماني، المولود سنة 1274=1857 والمتوفى في 28 ذي الحجة من سنة 1332=1914، والذي كان صديق السيد أحمد خان فانتدبه لتدريس العلوم العربية منذ سنة 1300=1883، فكان عونا له على النهوض بالجامعة، وبقي فيها 15 سنة حتى وفاة السيد أحمد خان فغادرها إلى حيدر آباد  ثم تركها وذهب إلى لكنو ليشارك في إنشاء دار العلوم التابعة لندوة العلماء، وكان النعماني متمكناً أبلغ التمكن من اللغة العربية وآدابها، ويميل لترك التقليد في الفقه، وكان وثيق الصلة بالعالم الإسلامي ونهضاته السياسية والاجتماعية، وعلى صداقة وثيقة مع السيد محمد رشيد رضا مؤسس مجلة المنار.
وممن عمل في الكلية كذلك الأستاذ عبد العزيز الميمني الراجكوتي، المولود في راجكوت بالهند سنة 1306=1888 والمتوفى في كراتشي بالباكستان سنة 1398=1978، والذي كان أستاذ اللغة العربية فيها، وكان علامة محققاً وأديباً مبرزاً ونقادة باحثاً، وسافر في مشارق الأرض ومغاربها بحثاً عن المخطوطات العربية والإسلامية وأخرج عشرات منها.
وممن عمل في الكلية من العرب الأستاذ عبد الحق حقي الأعظمي البغدادي الأزهري، الذي كان نائب رئيس قسم اللغة العربية فيها، وممن درَّس في عليكرة المستشرق الإنكليزي توماس ووكر آرنولد Thomas Walker: Arnold، الذي عين مدرسا فيها سنة 1888، ثم انتقل منها إلى لاهور، فالكلية الشرقية في جامعة البنجاب، وعاد إلى لندن، فعين أستاذأ للعربية في جامعتها سنة 1904 فمديرا لمعهد الدراسات الشرقية، وتوفي آرنولد عن 69 سنة في سنة 1349=1930.
ودرّس فيها كذلك المستشرق الألماني البحاثة فريتز كرنكو، Freitz Krenkow، المولود سنة 1289=1872 والمتوفى سنة 1372=1953، والذي كان يسمي نفسه بالعربية محمد سالم الكرنكوي، والذي درس فيها سنتين ثم انتقل بعدها للعمل مع دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الدكن في تحقيق بعض المخطوطات العربية، فحقق عدداً وافراً منها.
وفي سنة 1907 أنشأت الكلية قسماً للإناث، وفي سنة 1920 تغير اسم الكلية إلى جامعة عليكرة الإسلامية، وفي سنة 1927 أنشأت كلية للمكفوفين، وفي سنة 1930 أنشأت كلية الهندسة، وتضم الجامعة اليوم حوالي 30.000 طالب يدرسون في 100 تخصص، وتعد من أفضل جامعات الهند وتضم كل التخصصات في الأدب والعلوم، وتضم مكتبة الجامعة عدداً وفيراً من المخطوطات العربية ودائرة للتحقيق نشرت كذلك عدداً من كتب التراث العربي في مواضيع مختلفة، وتضم الجامعة المجمع العلمي الهندي الذي أنشأ على غرار المجامع العلمية العربية، وتعاقب على إدارتها أشخاص من السنة والشيعة والإسماعيلية الآغاخانية والبُهرة.
ورغم انكبابه على الجانب التعليمي كان للسياسة دور في حياة السيد أحمد خان، فقد أصبح الزعيم الإسلامي الأول بسب كتاباته ومشاريعه وبحكم موقعه لدى المحتل البريطاني الذي عينه في في سنة 1878 عضواً في مجلس نائب الملك التشريعي، الذي كان بمثابة برلمان هندي،  وأسس هو في نفس السنة الجمعية المحمدية لعموم الهند، وفي سنة 1883 أسس الجمعية المحمدية لإعانة موظفي الدولة، بهدف إعانة المسلمين للالتحاق بسلك الخدمة المدنية الهندية، وهنا ينبغي أن نذكر أن مشايخ المسلمين وقفوا من المستعمر البريطاني موقفاً متشدداً فمنعوا التعامل معه والالتحاق بوظائفه، وهي مقاومة مطلوبة ومفهومة في بداية الاحتلال على أمل ألا يشارك المسلمون في ترسيخ أقدامه، ولكن كان من نتائج هذا الموقف أن خسر المسلمون ما كانوا يحتلونه من مواقع متميزة في الإدارات الحكومية في ظل الدولة المغولية، وأقبل الهندوس على هذه الوظائف، فأصبحت لهم السيطرة والنفوذ في دوائر الدولة.
وفي سنة 1888 منحته الحكومة البريطانية السيد أحمد خان لقب سير، ومن هنا جاء اسمه في الهند؛ سير أحمد، وفي السنة التالية منحته جامعة أدنبره الدكتوراة الفخرية تقديراً لجهوده التعليمية.
خلف السيد أحمد خان ثلاثة من الأولاد هم حامد ومحمود وأمينة، وكان لابنه محمود دور هام في مساعدته والده في تأسيس الكلية وإدارتها، ولما توفي دفن في مدفن مجاور لمسجد الكلية التي تحوي متحفاً يتضمن كثيراً من أغراضه الشخصية.
ولا يكتمل مقالنا دون أن نشير إلى أن جمال الدين الأفغاني، هاجم السيد أحمد خان، وكان معاصراً له، واعتبره صنيعة بريطانيا في الهند، ونجد في المقابل أن السيد محمد رشيد رضا في مجلته المنار كان يثني على السيد أحمد خان مرة تلو الأخرى، بصفته مصلح الهند الأول الذي يمائل الشيخ محمد عبده في مصر، وذلك مع معرفته برأي الأفغاني فيه، ونورد جانباً من ذلك حيث يقول:
إن المسلمين بعد أن تمكنت السلطة الإنكليزية في بلادهم حملتهم عداوة الإنكليز على معاداة لغتهم وجميع علومهم والفرار من مدارسهم، وأقبل الوثنيون على ذلك؛ فسادوا على المسلمين بالثروة والوظائف بعد أن كان المسلمون هم السائدين عليهم في كل شيء، وكان أول من استيقظ منهم من نوع الغفلة والغرور أفراد أعظمهم قدرا وخطرا وأشدهم نفعا وأحسنهم أثرا: السيد أحمد خان مؤسس مدرسة عليكرة الكلية التي هي ينبوع هذه النهضة، ومما يجب التنبيه عليه أن سنة الله تعالى في المصلحين أنهم يساء فيهم الظن ويرمون بسوء القصد وفساد النية، وبمثل هذا كان يتهم السيد أحمد خان؛ كان يتهم بأنه مغرًى من الحكومة الإنكليزية بإفساد تعاليم المسلمين وعقائدهم وبث العقائد الطبيعية فيهم، لأن الإنكليز لم يروا وسيلة لإفنائهم إلا هذه الوسيلة، ومن العجيب أن مثل هذه التهمة كان يصدقها الفيلسوف العظيم السيد جمال الدين الأفغاني، وكان يعادي السيد أحمد خان ويطعن فيه غيرةً على الدين وحذرًا على المسلمين، فتبين الآن أنه لا رجاء للمسلمين باسترجاع شيء من مجدهم إلا بمدرسة السيد أحمد خان وتلامذته ومن تلا تلوهم واحتذى مثالهم، ولولا شدة بغض السيد جمال الدين للإنكليز لما خابت فراسته بالسيد أحمد خان، ولقد كانت الشبهة على السيد أحمد خان قوية فإنه لم يسع في تأسيس هذه المدرسة إلا بعد سياحته في بلاد إنكلترا وإكرام الإنجليز له، أما سبب هذا الإكرام فهو أنه في أثناء ثورة الهنود على الإنكليز أجار بعض ضباطهم ووجهائهم وحماهم من القتل، وما ذاك إلا عن عقل وبعد نظر في العواقب رحمه الله تعالى وجزاه خيرًا.
وقد قام السيد محمد رشيد رضا برحلة إلى الهند في سنة 1330=1912، بدعوة من ندوة العلماء في لكنو، وزار كذلك كلية عليكرة وأكرمته إدارتها وطلبتها وألقى فيها كلمات أوردتها المنار، وكان عبد الحق الأعظمي، الأستاذ في كلية عليكرة، مرافقه ومترجمه في الرحلة، ولا يمكن للجهل أن يبرر استمراره في الثناء على السيد أحمد خان رغم آراءه الشاذة التي لا يمكن أن يوافقه عليها، فلا شك أن السيد التقى في الرحلة بمشايخ الهند ممن انتقدوا السيد أحمد خان، وهو موقف فيه إشكال كبير، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer