الجمعة، 24 يوليو 2015

حدث في الثامن من شوال

في الثامن من شوال سنة 568 توفي في دمشق، عن 79 عاماً، ملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي، الإمام النحوي الذي كان أنحى أهل زمانه، ودفن رحمه الله في مقبرة باب الصغير.
ولد ملك النحاة في بغداد، وسمع بها الحديث، ودرس الفقه وأصوله على مذهب الإمام الشافعي، وقرأ النحو على أبي الحسن علي بن أبي زيد الفصيحي، وكان قد قرأ على الإمام عبد القاهر الجرجاني، ثم سافر ملك النحاة إلى خراسان وكرمان وغزنة، وسكن واسط مدة بعد سنة 520، ثم أقام بحلب، وكان يُقرئ بها الأدب بالمسجد الجامع، واتصل بالملك العادل نور الدين الشهيد، وكان يكرمه ويحسن إليه، واستوطن دمشق وتوفي بها.
 كان ملك النحاة من الفضلاء المبرزين، فَهِماً فصيحاً ذكياً، اتفقوا على فضله ومعرفته، إلا أنه كان عنده عُجْبٌ بنفسه وتِيه، لقب نفسه ملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، وكان أبوه صافي مولى الحسين الأرموي التاجر، وكان لا يذكر اسم أبيه إلا بكنيته، لئلا يُعرف أنه مولى.
ولملك النحاة مصنفات كثيرة في الفقه والأصول والنحو: كتاب الحاوي في النحو مجلدتان، كتاب العمدة في النحو مجلدة وهو كتاب نفيس، كتاب المعتضد في التصريف مجلدة ضخمة، كتاب أسلوب الحق في تعليل القراءات العشر وشيء من الشواذ مجلدتان، كتاب التذكرة السفرية انتهت إلى أربعمائة كراسة، كتاب العروض مختصر محرر، كتاب في الفقه على مذهب الشافعي سماه الحاكم مجلدتان، كتاب مختصر في أصول الفقه، كتاب مختصر في أصول الدين، كتاب ديوان شعره، وله كتاب المقامات حذا فيه حذو مقامات الحريري، وكان يقول: مقاماتي جد وصدق، ومقامات الحريري هزل وكذب. وعلَّق على ذلك ابن ‏تَغْري بِرْدي في النجوم الزاهرة: ولكن بين ذلك أهوال. وقد أعيته عشر مسائل واستعصت عليه فألف فيها كتاباً أسماه المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر، وأوصى أن توضع معه في قبره، ليحلها. وجاء من بعده ابن بري، عبد الله بن برّي، النحوي اللغوي المصري، المولود سنة 499 والمتوفى سنة 582، فألف جواباً على هذه المسائل.
ولملك النحاة مدائح كثيرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها:
لله أخلاقُ مطبوع على كرم ... ومن به شُرِفَ العلياء والكرمُ
أغر أبلج يسمو عن مساجلة ... إذا تذوكرت الأخلاق والشيم
سمت علاك رسول الله فارتفعت ... عن أن يشير إلى إثباتها قلم
يا من به عاد وجه الحق متضحاً ... من بعد أن ظوهرت بالباطل الظُلَمُ
علوت عن كل مدح يستفاض فما ... الجلالُ إلا الذي تنحوه والعُظِمُ
على علاك سلام الله متصلاً ... ما شئت والصلوات الغر تبتسم
وكانت له في حياته طرائف منها أنه قدِمَ إلى الشام قبل استيطانه لها، فهجاه ثلاثة من الشعراء، ابن منير الطرابلسي، أحمد بن منير المتوفى سنة 548 عن 75 عاماً، وابن القيسراني، محمد بن نصر المتوفى سنة 548 عن 70 عاماً، والشريف الواسطي، عبد القادر بن علي المتوفى سنة 548، ومدح ملك النحاة وزير دمشق ابن الصوفي، حيدرة بن مفرج المتوفى سنة 548، فاستخف به الوزير ولم يوفه قدر مدحه، فعاد إلى الموصل ومدح الوزير جمال الدين الأصفهاني، محمد بن علي المتوفى سنة 559، وجماعة من رؤسائها وقضاتها، فلما نَـبَتْ به الموصل، قيل له: لو رجعت إلى الشام، فقال: لا أرجع إلى الشام إلا أن يموت ابن الصوفي، وابن منير، والقيسراني، والشريف الواسطي. فقُتِلَ الشريف الواسطي، ومات ابن منير والقيسراني في مدة سنة، ومات الصوفي بعدهم بأشهر.
وكان بين ملك النحاة وبين ابن منير الطرابلسي مهاجاة، وكان لملك النحاة بحلب تلميذ يقال له الذُباب، وكان راوية شعره، وكان ابن منير كثيراً ما يمزح معه إذا لقيه ويقول له: إيش عمل الملك على لسانك اليوم؟ وما يشبه ذلك، فمر الذباب يوماً بابن منير وهو جالس على حانوت بباب الجامع الغربي تجاه المدرسة الحلاوية، وكان يجلس بها كثيراً عند خياط بها وبيده قضيب يعبث به، فقال ابن منير لراوية ملك النحاة: أيه أيش عمل الملك اليوم فقال له: ما تريد أن تسمع، فقال: لابد، فقال: اتركني بالله، فقال: لا بد أن تقول، فقال: قال فيك:
لبغضك الصِّديق يا ذا الخنا ... تقدح في كُلِّ أبي بكر
يعرِّضُ بأنه يهجو أبا بكر بن الداية نائب نور الدين بحلب، وكان مطلق اليد فيها، وكان ابن منير شيعي المذهب، فخاف على نفسه من ابن الداية وألقى القضيب من يده وقال: لعنه الله، ولعن ساعة عرفناه فيها. وقام من وقته.
ولعله في تلك الفترة قبل أن يتصل بنور الدين الشهيد كان يحن إلى واسط في العراق فقال:
أراجع لي عيشيَ الفارطُ ... أم هو عني نازح شاحطُ؟
ألا وهل تسعفني أوبة ... يسمو بها نجم المنى الهابط؟
أرفل في مِرط ارتياح وهل ... يطرق سمعي: هذه واسط
يا زمني عُدْ لي فقد رُعتني ... حتى عراني شيبي الواخط
كم أقطع البيداء في ليلة ... يقبض ظلي خوفها الباسط؟
أأرقب الراحة أم لا وهل ... يعدل يوماً دهري القاسط؟
أيا ذوي ودي أما اشتقتمُ ... إلى إمام جأشه رابط؟
وهل عهودي عندكم غضة ... أم أنا في ظني إذاً غالط؟
ليهنكم ما عشتم واسط ... إني لكم يا سادتي غابط
أما إعجابه وتيهه فكان غاية في الغرابة من حيث تظاهره به وطلبه له، وهي خصلة لازمته منذ مقتبل العمر، فقد ذُكِر أنه لما سافر ملك النحاة إلى غزنة، وأراد أن يجتمع بملك غزنة، ولعله بهرام شاه بن مسعود المتوفى سنة 548، فقيل له: إن الملك يجلس على سرير عال، ويجلس وزيره بجانب السرير ولا يقعد أحد إلا تحت الوزير، فقال: مبارك، فأُذِنَ له فدخل إلى ملك غزنة، وجاء إلى السرير وكان طويل القامة، فوضع رجله على السند الذي إلى جانب الوزير وتعلق في السرير ليقبل يد ملك غزنة، فتحرك له ملك غزنة، فقال: أيها الملك، ينبغي للملك أن يقوم للملك. فقام له ملك غزنة فجلس على السرير إلى جانبه.
وخلع الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي خِلعة سَنَية على ملك النحاة، فلبسها يوماً واجتاز بها على حلقة عظيمة فمال إليها لينظر ما هي، فوجد رجلاً قد علم تيساً له استخراج الخبايا وتعريفه من يريد أن يعرفه به من الحلقة بإشارة لا يفهمها غير ذلك التيس المعلَّم، فوقف ملك النحاة وهو راكب بالخلعة فقال الرجل: في حلقتي رجل عظيم القدر، شائع الذكر، ملك في زِيِّ سوقة، أعلم الناس، وأكرم الناس، وأجمل الناس، فأرني إياه. فشق ذلك التيس الحلقة، وخرج حتى وضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك ملك النحاة أن نزع الخلعة ووهبها لصاحب التيس، فبلغ ذلك نور الدين فعاتبه على ما فعل وقال: استخففت بخلعتنا حتى وهبتها من طُرَقيّ؟ فقال: يا مولانا عذري في ذلك واضح، لأن في هذه المدينة زيادة على مئة ألف تيس، ما فيهم من عرف قدري غير ذلك التيس! فضحك منه نور الدين وسكت.
وقال الشاعر الأديب شميم الـحِلِّي، علي بن الحسن المتوفى سنة 601 عن نحو 90 عاماً، أتيته لأقرأ عليه النحو، فاتفق يوماً أن كان عنده جماعة يقرؤون عليه شيئاً من النحو، فجرى بحث فقلت: قال أبو علي الفارسي فيها كذا، وقال ابن جِنِّي كذا، فقال: وأيش كان ذلك الكلب أبو علي الفارسي! وأيش كان ذلك الكلب ابن جني! قال شميم: فتقدمت إليه وقلت له: يا سيدنا هؤلاء هم علماء النحو وكبراؤه، فإذا قلت إنهم كلاب، وأنت تُدعى ملكَ النحاة فتصيرَ إذاً ملك الكلاب لا ملك النحاة، قال: فقال لي: والله صدقت، هؤلاء هم علماء النحو، قال: فلم أسمع منه بعد ذلك مثل هذا الكلام.
وقدم دمشق عَلَم المُلك بن النحاس رسولاً إلى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من الدولة الفاطمية في مصر، وبقي علم الملك ابن النحاس مدة بدمشق ليس له شيء، ونور الدين يقوم به، فسأل في تلك المدة ملك النحاة أن يجمع له مقدمة في النحو، فجمعها وأنفذها إليه وكتب على وجهها:
يا عَلَم الملك افتخر ... بهذه المقدمة
ولا تقل فيما أُمِرتَ ... - لا افتخارٍ - ولِـمَه؟
فإنني أَفصح من ... فاه وأجرى قلمه
قِسٌّ إذا عاينني ... خيط بالعي فمه
ولو رأيتُ سيبويه ... قال يا نحوي مه
والشعر لا يسطيع ما ... أقول منه علقمه
والفقه قد فقت لعمر الله فيه أُممه
وكان ملك النحاة رحمه الله سخي اليد كريم النفس، وصفه معاصره العماد الأصبهاني في خريدة القصر فقال: أقام ملك النحاة بالشام في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعاً متناسب الأحوال والأفعال، مر الشكيمة، حلو الشيمة، يضم يده على المئة والمئتين ويمشي وهو منها صِفرُ اليدين، مولع باستعمال الحلاوات السكرية، وإهدائها إلى جيرانه وإخوانه، مغرى بإحسانه إلى خلصانه وخلانه.
وعضت يده يوماً قطة فربطها بمنديل، فقال تلميذه فتيان بن علي بن فتيان النحوي الأسدي مداعباً:
عتبتُ على قِطِّ ملكِ النحاة ... وقلتُ أتيتَ بغير الصوابِ
عضضتَ يداً خُلقت للندى ... وبث العلوم وضرب الرقاب
فأعرض عني وقال اتئد ... أليس القطاط أعادي الكلاب؟
فبلغته، فاستحيى فتيان، وانقطع عنه، فكتب إليه ملك النحاة جواباً عن أبيات يعتذر فيها:
يا خليلي نلتما النعماء ... وتسنمتما العلا والعلاءَ
ألـمِما بالشاغور بالمسجد المهجور واستمطرا له الأنواء
امنحا صاحبي الذي كان فيه ... كل يومٍ تحيةً وثناء
ثم قولا له اعتبرَنا الذي فهت به مادحاً فكان هجاء
وقبلنا فيه اعتذارك عما ... قاله الجاهلون عنك افتراء
وقد أجمع معاصروه على أنه على عُجْبه كان يتحلى بأخلاق الكرام وشيم النبالة، كان ملك النحاة يهوى امرأة كانت له، كانت تنافره فقال فيها خالطاً الذم بالهزل:
جاريةٌ كلما خضعتُ لها قالت ... عَدِمتُ النحاةَ والشُّعَرا
طويلةُ القدر واللسان فما ... أدري أأهجو أم أمدح القِصَرا
أحسن منها عندي مدققة ... ساذجة لوزها قد انقشرا
فاللبن الفارسي أضرَسَني ... والكشك في ذي الديار قد كثرا
ويبدو أنه ملَّ من إصلاحها فطلقها، وسئل كيف حاله بعدها، فأنشد ناظراً إلى قوله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم:
سلوتُ بحمد الله عنها فأصبحتْ ... دواعي الهوى من نحوها لا أجيبُها
على أنني لا شامِتٌ إن أصابها ... بلاءٌ ولا راض بواش يَعيبها
قال شمس الدين حسن بن صالح السلمي خادم ملك النحاة: رأيته في المنام بعد موته فقلت له: ما لقيتَ من ربك؟ فقال لي: ويكَ ارفع صوتك، ما أسمعُ ما تقول! فأعدتُ عليه القول فقال لي: ويك وما ذكرتُه لك؟ فقلت: لا، فقال: غفر لي ربي بأبيات قلتها، وهي:
يا ربِّ ها قد أتيت معترفاً ... بما جنته يداي من زللِ
ملآن كفٍ بكل مأثمة ... صِفرَ يـدٍ من محاسن العمل
وكيف أخشى ناراً مسعَّرة ... وأنت يا رب في القيامة لي
ورآه في النوم الشيخ مهذب الدين أبو السخاء فتيان البانياسي في سنة 569، فسأله ما لقي من ربه؟ فقال: دع هذا واسمع مني، ثم أنشده:
فإن نحنُ جُمعنا بَعدَ بُعْدٍ ... شفينا النفسَ من ألم العتابِ
وإن ألوى بنا صَرْفُ الليالي ... فكم من حسرة تحت التراب

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer