الجمعة، 13 فبراير 2015

حدث في الرابع والعشرين من ربيع الآخر

في الرابع والعشرين من ربيع الآخر من سنة 829 عيّن السلطانُ الملك الأشرف برسباي الإمامَ كمال الدين ابن الهمام، محمد بن عبد الواحد، المولود نحو سنة 790 والمتوفى سنة 861،  شيخاً لمدرسته الضخمة التي أكمل بناءها قبل سنة، بعد أن صرف عنها علاء الدين علي بن موسى الرومي، المتوفى سنة 841، وجاء تعيين ابن الهمام في أهم مدارس القاهرة وهو في التاسعة والثلاثين، دون سعي منه لهذا المنصب الجليل، تقديراً من السلطان لمكانته العلمية رغم محاولة بعضهم ثنيه عن القرار وقولهم إنه شاب، فلم يلتفت السلطان لقولهم.
ولم يدم بقاء ابن الهمام في هذا المنصب إلا 4 سنوات ثم عزل نفسه، وذلك لأن الخازندار جوهر، أحد رجال الدولة أراد التدخل في شؤون المدرسة وتعيين أحد محاسيبه مكان تلميذ لابن الهمام، فقام كمال الدين بعد صلاة العصر في المسجد، وخلع طيلسانه ورمى به قائلاً: اشهدوا عليّ أنني عزلت نفسي من هذه المشيخة وخلعتُها كما خلعت طيلساني هذا! وانتقل على الفور من المدرسة لبيت في باب القرافة، وبلغ ذلك السلطان برسباي فشقَّ عليه، وأرسل الأمير جقمق، الذي سيصير فيما بعد ملكاً، يستعطف خاطره ليعود، فلم يستجب ابن الهمام لهذه المساعي، وانتقل لطُرة بالعدوية فسكنها واعتزل الناس، وخشي الخازندار جوهر غضب السلطان عليه بسببه، وسعى للاجتماع به لتلافي الأمر فما أمكنه، فجلس في زاوية في طرة كان الشيخ يصلي فيها، فلما جاء ابن الهمام  قام إليه حاسر الرأس ذليلاً فقبل قدمه مصرحاً بالاعتذار وسائلاً الصفح والعودة، فأجابه ابن الهمام: إنني لم أتركها بسببك، بل لله تعالى!
وعُرِض المنصبُ الذي تخلى عنه ابن الهمام على شمس الدين ابن الجندي، محمد بن أبي بكر بن أيدغدي، المولود سنة 765 والمتوفى سنة 844، فامتنع قائلاً: لا نأخذ وظيفة صاحبنا. وعرض كذلك على أمين الدين الأقصرائي، يحيى بن محمد، القاهري الحنفي، المولود بالقاهرة سنة 797 والمتوفى سنة 880، ويعرف بالأقصرائي لأن أصله من آقسراي في الأناضول، وفي البداية رفض أمين الدين المنصب بإصرار تأدباً مع ابن الهمام، ثم قبله لما تأكد أن ابن الهمام لا يرغب في المنصب، بل راسله يحضه على القبول.
ولد كمال الدين محمد بن همام الدين عبد الواحد بن سعد الدين عبد الحميد في الإسكندرية، لأسرة من القضاة تنتمي في الأصل إلى سيواس في قلب الأناضول التركي، فقد كان جده وجد أبيه وأبوه قضاة فيها، وقدم والده القاهرة ليتولى قضاء المذهب الحنفي، ثم ولي القضاء بالإسكندرية، وتزوج بها بنت القاضي المالكي المغربي، وتوفي والده سنة 801، فنشأ منذ العاشرة في كفالة جدته لأمه، وكانت مغربية خيرة تحفظ كثيراً من القرآن، فاهتمت بتعليمه كما يليق بأبناء القضاة، فحفظ قدراً من القرأن الكريم على زين الدين عبد الرحمن بن منصور الفَكيري المالكي وخطيب جامع اسكندرية الغربي وإمامه.
ثم قدمت به جدته إلى القاهرة فأكمل بها حفظ القرآن عند الشهاب الهيثمي، وكان فقيهه يصفه بالذكاء المفرط والعقل التام والسكون، وتلاه تجويداً على المقرئ محمد بن علي الزراتيتي الحنفي، المولود سنة 748 والمتوفى سنة 825، وحفظ مختصر القُدوري في فروع الفقه الحنفي، ومنار الأنوار  في أصول الفقه لحافظ الدين النسفي، والمفصل في النحو للزمخشري، وألفية ابن مالك في النحو .
ثم عادت به جدته إلى الإسكندرية فأخذ بها النحو عن قاضي الحنفية جمال الدين يوسف بن محمد الحُميدي، المتوفى سنة 821 وقد زاد على الثمانين، وكان تاجراً موسرا، ودرس كمال الدين الفقه الحنفي على زين الدين الإسكندري حيث قرأ عليه بعضاً من كتاب المرغيناني؛ الهداية في شرح البداية، وهو كتاب يعتبر يمثابة حجر الأساس في دراسة الفقه الحنفي.
ثم عاد ابن الهمام إلى القاهرة ثانية فدرس المنطق على شيخ جليل من شيوخ الوقت هو عز الدين البغدادي، عبد السلام بن أحمد المولود في بغداد سنة 775 والمتوفى في القاهرة سنة 859، والذي اتسم بعلم غزير وتواضع كبير، ودرس أصول الدين على الإمام شمس الدين البساطي المالكي، محمد بن أحمد بن عثمان الطائي، المولود سنة 760 والمتوفى سنة 842، وقرأ عليه شرح هداية الحكمة لملا زاده، وهدايةُ الحكمة كتابٌ في المنطق ألفه أثير الدين الأبهري، عمر بن المفضل السمرقندي المتوفى سنة 663، وشرحه أحمد بن عثمان الشهير بملا زاده السمرقندي الشافعي، المتوفى في خراسان في حدود سنة 900، فيبدو أن الكتاب كان قد ألفه حديثاً ملا زاده.
وحضر ابن الهمام دروس شرح الكشاف التي كان يلقيها الشيخ همام الدين همام بن أحمد الخوارزمي الشافعي شيخ الخانقاه الجمالية، المتوفى سنة 819، وأخذ الحديث عن الشيخ كمال الدين الشُمُنِّي المالكي، محمد بن حسين المتوفى سنة 821، وكثرت مخالطته له حينما سكن بالجمالية مدة لقرب سكنه من الشيخ وكان يتوجه منها غالبا فيشهد صلاة الجماعة بالبرقوقية قصدا للاسترواح بالمشي، وحضر دروس التفسير التي كان الشيخ بدر الدين الأقصرائي، محمود بن محمد، المتوفى وهو دون الثلاثين في سنة 825، وكان التلميذ الناشئ يدقق المباحث مع الشيخ الشاب تدقيقاً لا يجد له مخلصا، وفي سنة 818 جاء القاهرة من مكة المكرمة الشيخ العلامة المتكلم قطب الدين محمد الأبرقوهي، نسبة لأبرقوه آخر حدود فارس شرقاً، فأخذ عليه ابن الهمام أخذ عليه شرح المواقف وكان يقول عنه: إنه لم يكن في شيوخه أذكى منه، ومرض الأبرقوهي ثم توفي في سنة 819.
ودرس الكمال ابن الهمام على بدر الدين العيني، محمود بن أحمد بن موسى، المولود سنة 762 والمتوفى سنة 855، العلامة اللغوي الفقيه، صاحب عمدة القاري في شرح صحيح البخاري، قرأ عليه المعلقات السبع وجمهرة أشعار العرب، وكان العيني شيخ المدرسة المؤيدية بالقاهرة، فجعل الكمال أحد المقررين عنده في محدثي المؤيدية.
ودرس الكمال ابن الهمام علم الحديث على المحدث ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي، المولود سنة 762  والمتوفى سنة 826، فقرأ عليه غالب شرح ألفية العراقي لوالده الحافظ العراقي، وكان في بداية قراءته عليه يكثر من التدقيق في البحث بحيث يشكك في الاصطلاح، فلم يوافقه ولي الدين على الخوض في ذلك فترك التدقيق.
وفي سنة 814 سافر الكمال ابن الهمام إلى حلب صحبة العلامة محب الدين ابن الشحنة، محمد بن محمد بن محمد، المولود سنة 749 والمتوفى سنة 815، فقد أُحضر ابن الشحنة من حلب إلى القاهرة في سنة 813 بأمر الملك الناصر لكون محسوباً على أحد منافسيه، فلازمه ابن الهمام وقرأ عليه شيئاً من الفقه الحنفي، ولما خلي بين الشيخ وبين العودة إلى حلب استصحب تلميذه معه فأقام عنده بها يسيرا، وأدركت المنية الشيخ في أوائل سنة 815، فمات بعد أن أوصى لتلميذه بنفقة يستعين بها ليعود إلى القاهرة، وكان التلميذ يثني على علم شيخه ابن الشحنة وأخلاقه الكريمة. وكان ابن الهمام يتصف بصوت شجي رقيق ذي نغمة طلية جداً،  يُطرِبُ إذا أنشد أو قرأ، وله في ذلك أصوات، ويذكر المؤرخون أنه في مروره بدمشق في عودته للقاهرة التمس منه بعض الأصحاب أن ينشد فيها لنداوة صوته، ففعل وأكرمه على ذلك أهل دمشق بشيء من المال.
وفي سنتي 818-819 أعاد الكمال ابن الهمام دراسة الفقه الحنفي فقرأ الهداية بتمامها على الشيخ العلامة الزاهد المتواضع سراج الدين عمر بن علي بن فارس الخياط، المعروف بقارئ الهداية، المتوفى سنة 829 وقد زاد على الثمانين، فانتفع بذلك انتفاعاً كبيراً، إلا أن التلميذ النبيه كان يحاقق أستاذه ويضايقه بحيث كان يتحرج منه، ولما أجازه شيخه كتب له في الإجازة أنه أفاد أكثر مما استفاد، أما التلميذ فوصف أستاذه بالتحقيق في كل فن، وبالبراعة في الفقه والحديث والتفسير. وقيل للأستاذ: قارئ الهداية لأنه قرأها على أستاذه 16 مرة.
ولم تكن مكانة طالب العلم تكتمل في ذلك الزمان إلا إن سلك طريق التصوف والتزم الطريقة، وهكذا فعل كمال الدين، فقد التزم بالطريقة على يد الشيخ برهان الدين الأدكاوي الشافعي، إبراهيم بن عمر، المتوفى سنة 834، والشيخ زين الدين الخوافي الحنفي، محمد بن محمد بن علي، المولود سنة 757 والمتوفى سنة 838، وسافر معه الكمال إلى القدس حيث دعا له شيخه الخوافي في أرجائها المباركة أن يكون من العلماء العاملين والعباد الصاحين.
وقرأ ابن الهمام على شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المولود سنة 773 والمتوفى سنة 852، ونال منه إجازة وصفه فيها ابن حجر: بالعالم العلامة الفاضل حفظه الله ورفع درجته.
وقد درس ابن الهمام وصحب مشايخ كثيرين من أهل ذلك الزمن، وهناك واحد منهم ينبغي أن نذكره لغرابة ما اختص به، وهو الشيخُ جلال الدين الكجوري القزويني الشافعي، نصر الله بن عبد الرحمن، المولود في حدود سنة 760 والمتوفى سنة 833، والذي قدم القاهرة بعد سنة 800، وراج على أمراء الدولة لما ينسب إليه من معرفة علم الحرف وعمل الأوفاق، أي العرافة! وكان الكجوري فصيحاً مفوهاً حسن التأني عارفاً بالأمور الدنيوية، عرياً عن معرفة الفقه، مفضالاً مطعاماً محباً للغرباء، فهرعوا إليه ولازموه وقام بأمرهم وصيرهم سوقه التي ينفق منها وينفق بها، وسكن المدرسة المنصورية بعد قدومه بفترة بمثابة شيخها وأقام معه فيها ابن الهمام فترة من الزمن في أول عودته الثانية للقاهرة كما يبدو.
وما أن اكتملت دراسة ابن الهمام حتى اتضح تفوقه على أقرانه وتفرده بسعة العلم والذكاء واستعياب المسائل الفقهية على وجوهها المختلفة، حتى أن شيخه القاضي زين الدين التَفَهْني الحنفي، عبد الرحمن بن علي، المولود سنة 768 والمتوفى سنة 835، لما تولى قضاء الحنفية سنة 822 رام استنابته في القضاء، فاشترط عليه ابن الهمام في البداية بعض الشروط منها إعفاؤه من حضور عقود المجالس، واستجاب له التفهني، ولكن ابن الهمام امتنع في النهاية من قبول ذلك، ولما ألح عليه شيخه أفصح عن سبب رفضه، قائلاً: لست أحب أحدا من الشيوخ وغيرهم يتقدم عليّ، لكوني لست قاصر البنان واللسان عن أحد منهم! وإزاء هذا الموقف المتشدد الصعب لم يعاود التفهني الكلام معه في ذلك. والتفهني كان من قبل شيخ المدرسة الصَّرْغَتْمشية، الموقوفة على الحنفية، وكان ابن الهمام قد نزل طالبا عنده فيها، فقرأ عليه وأجازه بالعلوم، بل واصطحبه في إحدى رحلاته إلى القدس.
وفي سنة 822 تولى الهمام بن الكمال أول وظيفة من مراتب كبار الشيوخ، هي درس التفسير بالقبة المنصورية، التي وقف مدرستها الملك المنصور قلاون، ورتب بها دروساً أربعة لفقهاء المذاهب الأربعة، ودرساً للطب، وبنى تجاهها قبة وهي من أعظم المباني الملوكية وأجلّها قدراً تضم قبره وقبري ابنه وحفيده، وأقام ورثة حفيده فيها وقفاً لتفسيرالقرآن الكريم ودروس الحديث النبويّ، وكانت آنذاك وظائف قال عنها المقريزي: لا يليها إلا أجلُّ الفقهاء المعتبرين مثل قاضي القضاة.
وجاء تدريس ابن الهمام فيها لأن شيخها صدر الدين ابن العجمي، أحمد بن محمود القيسري الأصل القاهري الحنفي، المولود سنة 777 والمتوفى سنة 833، عزل عنها فجعل الدرس إليه، وكان أول درس للهمام ابن الكمال بحضور شيوخه ابن حجر والبساطي وقارئ الهداية وبدر الدين  الأقصرائي، وامتنع من الجلوس في صدر المجلس أدباً رغم إلحاح الحاضرين عليه في ذلك، بل جلس مكان القارئ، وكان موضوع درسه قوله تعالى في أواخر سورة البقرة: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، وافتتح درسه بجملة فيها لفتة احترام للقرآن الكريم فقال: الكلام على هذه الآية كما يجئ، لا كما يجب! وحاز الدرسُ القبولَ لدى مشايخه وأثنوا عليه الثناء الحسن، وباحَثَه شيخُه قارئ الهداية في قضية، ثم أثنى ابن حجر على علمه وتفننه، إشارة إلى إنهاء الدرس، فقال شيخه البساطي: دعوه يتكلم ويتلذذ بمقاله فإنه يقول ما لا نظير له! وهذا الدرس الأول الذي يحضره الشيوخ الكبار تقليد أزهري عريق ما أشبهه بمناقشة رسالة جامعية أعقبها منح المشايخ للتلميذ شهادة النجاح.
نعود إلى تركه مدرسة الملك الأشرف وانتقاله إلى ضاحية طرة في القاهرة، ونذكر أن انعزاله كان عن الملوك والكبراء، ولكنه استمر في تدريسه لطلبة العلم والالتقاء بهم في تواضع جمّ غير مألوف في ذلك العصر ذي التقاليد العديدة الجامدة، كان من مشايخ عصره الشيخ علاء الدين البخاري الحنفي، محمد بن محمد بن محمد، المولود سنة 779 في بلاد العجم والمتوفى سنة 841 بدمشق، وكان على قدر كبير من العلم والزهد والورع والقيام في إظهار الحق والسنة وإخماد البدع وردع أهل الظلم والجور، وجاء ابن الهمام يوماً إلى مجلسه وهو غاص بطلبة العلم والصلحاء، فجلس في جانب الحلقة فقام إليه العلاء وقال له: تعال إلى جانبي فليس هذا بتواضع! فإنك تعلم أن كلا منهم يعتقد تقدمك وإجلالك، إنما التواضع أن تجلس تحت ابن عبيد الله في مجلس الملك الأشرف. وابن عبيد هذا هو تاج الدين محمود بن عبيد الله الأردبيلي الشرواني القاهري الحنفي، المولود بالقاهرة سنة 794 والمتوفى بها سنة 875.
وهب الله ابن الهمام مزايا العلماء المحققين من جمع للعلوم مع اتقان  وجَلَد ودقة في النظر فيها، والرجوع إلى الحق ولو جاء من أحد طلابه،  وإجادته الفارسية والتركية،  وطيب الحديث وملاحة الترسل، وسلامة الصدر وتعظيم العلماء ومحبة الصالحين، وجمع الله له إلى ذلك حُسن السمت والبِشر والبِزة، ونور الشيبة، مع كثرة الفكاهة والتودد، ولذا أجمع أقرانه على أنه كان عالم عصره وإمام زمانه.
كان الكمال ابن الهمام معروفاً بالكرم المادي والمعنوي، وحرصه على قول الحق والأمر بالمعروف عند الملوك فمن دونهم، وكان فضله وشهامته تتسعان لأحبابه وغيرهم، كان شهاب الدين ابن العطار، أحمد بن محمد بن صالح الحلبي ثم القاهري الحنفي، منحرفاً عن ابن الهمام، ثم وقع في مشكلة بسبب استهزائه بعمامة الصوفية، فالتمس شفاعة ابن الهمام، فأجابه وكتب إلى السلطان رسالة قال فيها: إن شهاب الدين بن العطار، وإن كان رجلاً فيه شدة فهو من أهل العلم، وقد حصل له من التعزير زيادة... وكونه أساء على خصمه فلا بد أن خصمه أيضاً أساء عليه، ولو أرسلتموها إلي لكفيتكم همهما وأصلحت بينهما...
ومن فضل ابن الكمال أن خليفة بن مسعود بن موسى المغربي الجابري المالكي نزيل بيت المقدس وشيخ المغاربة فيه، والمتوفى سنة 830، كان مذكوراً بالصلاح والتعبد والفضل، ولقيه ابن الهمام في زيارته للقدس وأثنى على صلاحه، فلما قيل له: إنه يُقرىء كلام ابن عربي. قال: إنه لم يكن يعتقد ما ينسب لابن عربي، وإنما كان يؤول كلامه غلطاً منه، والغلط لا يُخرج الانسان عن الصلاح.
وتوفي الملك الأشرف برسباي في آخر سنة 841، وخلفه ابنه الملك العزيز يوسف مدة 3 أشهر قبل أن يخلعه الأتابك الأمير جقمق ويتسمى بالملك الظاهر، وتوفي جقمق سنة 857 بعد أن تنازل عن الملك لابنه الملك المنصور عثمان، البالغ من العمر 18 عاماً، فلم يلبث إلا يسيراً وخلعه الأتابك إينال العلائي وتسلطن هو متلقباً بالملك الأشرف، وكان جقمق ملكاً عدلاً ديناً كثير الصلاة والصوم والعبادة عفيفاً عن المنكرات، متقشفاً متواضعاً، وكان يحب الكمال ابن الهمام ويجله، وبإشارته أزال كثيراً من المنكرات في البلاط الملكي وفي المملكة .
وفي منتصف سنة 847 توفي، عن قرابة 77 سنة، الشيخ العلامة زين الدين إسحاق بن خالد الكختاوي الحنفي، المعروف بالشيخ باكير، شيخ الشيوخ بخانقاه شيخون، وقاضي حلب من قبل لسنوات طويلة، فأمر السلطان الملك الظاهر جقمق أن يكون كمال الدين بن الهمام عوضه في مشيخة الشيخونية، فباشرها بحرمة وافرة وعمَّر أوقافها، وجدد معالمها ولم يحاب أحداً ولو عظم.
ترك الكمال ابن الهمام مشيخة المدرسة الشيخونية في سنة 858، وسافر إلى مكة المكرمة للحج والمجاورة، وكان قصده المقام بها حتى الموت، ولكنه مرض مرضاً ضعف فيه عن الحركة، فعاد إلى مصر سنة 860، ولزم الفراش قرابة سنة حتى توفاه الله في السابع من رمضان سنة 861، وكانت له جنازة حافلة شهدها السلطان فمن دونه، وجرى فيها أمر يدل على استحكام الاستقطاب المذهبي في تلك الحقبة، فقد تقدم للصلاة عليه زوج ابنته القاضي الشافعي شرف الدين المناوي، يحيى بن محمد، المولود سنة 798 والمتوفى سنة 874، فأخره ابن عبيد الله، السابق ذكره، قائلاً: نحن أحق بأئمتنا! وقدَّم القاضي الحنفي سعد الدين ابن الديري المقدسي، سعد بن محمد، المولود ببيت المقدس سنة 768 والمتوفى سنة 867، وكان ابن الهمام يجله. ودفن ابن الهمام بالقرافة في تربة ابن عطاء الله وقبره معروف معلَّم إلى الآن.
درس على الكمال ابن الهمام جمع غفير من أهل العلم في عصره، من أهل مصر وممن قصدها لطلب العلم، وكذلك من التقى معه في مكة المكرمة والمدينة المنورة أيام حجه ومجاورته في الحرمين، وكانت أول حجة له في سنة 824، ورغم كونه حنفياً في زمن غلب فيه التشدد والتحزب في اتباع المذاهب، إلا أن علمه وفضله وسماحة أخلاقه اجتذبت طلبة العلم من كل المذاهب، ولا مجال لحصر تلاميذه أو تعدادهم، ولكن نذكر بعضهم للدلالة على أثره العلمي، فمنهم الحافظ ابن قطلوبغا، قاسم ابن قطلوبغا، المولود سنة 802 والمتوفى سنة 879، وهو المحدث الفقيه صاحب المؤلفات الكثيرة والفريدة، والذي لازم ابن الهمام من سنة 825 حتى مات، بحيث سمع عليه غالب ما كان يُقرأ عنده من علوم، وكان معظم انتفاعه به.
ودرس على الكمال ابن الهمام أحد أفراد أسرة ابن تيمية وهو ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني الأصل ثم الدمشقي القاهري الشافعي، والمولود سنة 809 والمتوفى بمكة سنة 876، فقد لزم خدمة ابن الهمام وحضور درسه، فقرره في خدمة الشيخونية مخالفاً تقاليد التوظيف فيها التي تقصرها على الأحناف، وكان رجلاً كبير الهمة وافر المروءة، وهنا ينبغي أن نذكر أن ابن الهمام كان حسن الرأي في شيخ الإسلام ابن تيمية، خلافاً لما كان عليه كثيرون من العلماء في تلك الحقبة.
وعُرِف بضعةٌ من تلاميذه الكمال بن الهمام بالهمامي نسبة له، لملازمتهم له مدة طويلة، وأبرزهم  زين الدين الهُمامي، عبد الرحمن بن أحمد، الذي ولد في دمشق سنة 828، ودرس بها العلوم، ثم قدم القاهرة أول مرة سنة 848، ودرس على ابن الهمام علوم القرآن والسنة والعربية، ولازمه كثيراً بحيث اشتهر به وعرف بخدمته حتى قيل له الهُمامي، واستوطن مكة قرابة 7 سنوات، وتوفي في القاهرة سنة 873، وكان صاحب عقل وفضل وعبادة وتواضع. ومنهم كذلك تاج الدين الطوي، عبد الوهاب بن أبي بكر، المتوفى سنة 886 الذي درس عنده الفقه وأصوله والعربية.
وممن درس على ابن الهمام في مكة المكرمة سديد الدين المرشدي المكي الحنفي، عبد الأول بن محمد، المولود بمكة سنة 817 والمتوفى بالشام سنة 872، وكان فقيهاً متفنناً، ونورد شيئاً من إجازة ابن الهمام له: يُقرىء ما شاء من العلوم اللغوية؛ صرف ونحو وبيان وبديع، والعقلية والمركبة كأصول الفقه والكلام، ويفتي بعد التأمل والمراجعة، فإنه لذلك أهل وكفؤ كريم، ألا وأنه قرأ علي وسمع كثيراً من الفقه والأصول، وألقى أبحاثاً شريفة دالة على رسوخ ملكته في الفنون دلالة ترتقي عن مجرد الظنون، فاستحق لذلك أن يُجثى بين يديه وأن يعوِّل الأفاضلُ في ذلك عليه.
وممن درس على ابن الهمام زين الدين المشالي ثم الشيشيني القاهري الحنفي ثم الشافعي الشاذلي، خلف بن محمد، المتوفى سنة 874 وقد زاد على السبعين، درس على ابن الهمام كتابه المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، ومن المفيد ذكره أنه لما رام قراءة المسايرة عليه أشار ببحثه له أولاً مع أبي العباس السِرسي ففعل، ثم عاد إليه، وكتب له ابن الهمام إجازة وصفه فيها بالأخ في الله الشيخ الأجل نفع الله به؛ وقال: قراءة بحث وتحقيق، فلقد أحسن الاستفادة والإفادة، وصادفتُ أهليتَه متقدمة على القراءة فوجبت إجازته بها بل وكل ما كان في معناها، فأجزته بهذا الفن وبما أجزت به من أصول وعربية ومنقول ومعقول، والمسئول منه تذكرى بدعائه الصالح، والله تعالى يديم النفع به إنه سميع قريب جواد مجيب.
وأبو العباس السِرسي القاهري الحنفي الشاذلي، هو شهاب الدين أحمد بن محمد، المتوفى سنة 861 عن أزيد من ثمانين سنة، وكان إماماً علامة واعظاً فصيحاً طارحاً للتكلف كثير المحاسن، وكان ابن الهمام يشيد بفضله ويرسل إليه الطلبة لقراءة تصانيفه عليه، ولما ألف ابن الهمام كتابه التحرير في أصول الفقه، أتى به إلى الشيخ أبي العباس، فنظر فيه وقال: هو كتاب مليح، إلا أنه لا ينتفع به أحد! فكان الأمر كما قال.
وكان للكمال ابن الهمام أخٌ لم تلده أمه، وهو الشيخ عز الدين المالكي، محمد بن عبد الله، الذي آخاه في الله، وسافر معه في شبابه إلى الشام، وكان نيراً ساكناً غاية في الزهد والعبادة والورع والقناعة والعزلة عن الناس، كتب بخطه الكثير من الكتب، وتوفي في سنة 861 بعد ابن الهمام بخمسة وأربعين يوماً.
وفي سنة 855 توفي أبو بكر والد الإمام جلال الدين السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، وترك ابنه وله من العمر قرابة 6 سنوات،  وكان كمال الدين ابن الهمام من الأوصياء الذي وكلهم والده برعايته، فجعله في المدرسة الشيخونية تحت نظره.
وقد أثنى على ابن الهمام بالعلم والخلق الفاضل معاصروه وأقرانه، حدثت وحشة بينه وبين زميله برهان الدين الأبناسي، إبراهيم بن الحجاج المتوفى سنة 836، فسار بعض المشايخ في إزالتها، فقال له الأبناسي: لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره، وشيخنا شمس الدين البساطي وإن كان أعلم فالكمال أحفظ منه وأطلق لساناً.
ووقع اختلاف حول إيمان ابن الفارض بين شيخه البساطي وبين الشيخ علاء الدين البخاري، محمد بن محمد بن محمد، المولود سنة 779 في بلاد العجم والمتوفى سنة 841 بدمشق، فأراد مناظرته فلما قيل له: من يحكم بينكما إذا تناظرتما؟ قال: ابن الهمام؛ لأنه يصلح أن يكون حَكَم العلماء. بل حضر إليه البساطي بنسخة من تائية ابن الفارض ذات هوامش عريضة وتباعد بين سطورها والتمس منه الكتابة عليها بما يخلق له من غير نظر في كلام أحد. وسئل البساطي مرة عن من قرأ عليه فذكر أفضلهم مثل شمس الدين القاياتي، محمد بن علي، المولود سنة 785 والمتوفى سنة 850، وشمس الدين الوَنَائي، محمد بن إسماعيل المولود سنة 788 والمتوفى سنة 849،  ثم قال: وابن الهمام، وهو يصلح أن يكون شيخاً لهؤلاء.
ويبدو أن الكمال ابن الهمام لم يرزق بأولاد ذكور، إذ لم يورد السخاوي في الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع أي ذكر لهم، في حين ذكر ابنتين له وزوجيهما وسبطه، وأنبغ صهريه هو تلميذه الشهاب الكيلاني، الحسين بن أحمد الشافعي، المولود سنة 842 بجيلان، ثم قدم مكة مع والده وقطنها ودرس بها على ابن الكمال وتزوج ابنته، وتوفي بها سنة 889 ، وكان كثير العبادة والخشوع والأدب والأفضال على الطلبة.
للكمال ابن الهمام مؤلفات عديدة، أهمها فتح القدير في الفقه الحنفي، وهو درسه في مدرسة السلطان برسباي التي ابتدأنا مقالنا بها، وهوكتاب ضخم يشرح فيه كتاب بداية المبتدي، مليء بأدلة الأحناف من الأحاديث وتخريجها وبيان حالها، وله فيه اختيارات واجتهادات وترجيحات قوية جعلت منه أحد أعلام الفقه الحنفي بل الفقه بعامة، قال رحمه الله في مقدمته بتواضع العلماء: ولما جاء بفضل الله ورحمته أكبر من قدري بما لا ينتسب بنسبة، علمت أنه مِن فتحِ جود القادر على كل شيء، فسميته ولله المنة: فتح القدير للعاجز الفقير . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأدركت المنية ابن الهمام ولما يكمل أبواب الفقه في كتابه، فقد وصل إلى باب الوكالة، فأكمله من بعده قاضي زاده، أحمد بن محمود الأدرنوي، المتوفى سنة 988، في كتابه نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار.
وألف ابن الهمام في أصول الفقه كتابه: التحرير الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية، وكانت عباراته فيه بالغة الإيجاز حتى كاد يعد من الألغاز، فشرحه بإشارة منه، وبعد مراجعة جزئية عليه، تلميذه محمد بن محمد بن أمير الحاج الحلبي الحنفي، المولود سنة 825 واالمتوفى سنة 879، وسمى شرحه التقرير والتحبير بشرح التحرير
ولابن الهمام كتاب المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، اختصر فيه الرسالة القدسية للإمام الغزالي، وزاد عليها مسائل كثيرة، فكان كتابا مستقلا، وشرحه شرحا لطيفا تلميذه العلامة كمال الدين بن أبي شريف، محمد بن محمد ابن عوجان المقدسي المصري الشافعي، المولود بالقدس سنة 822 والمتوفى به سنة 905، وكتب عليه حاشية تلميذه المدقق الشيخ زين الدين قاسم ابن قطلوبغا، وحققه في زماننا فضيلة الشيخ المعمر صالح موسى شرف العدوي  شيخ علماء الصعيد وعضو هيئة كبار العلماء، المولود سنة 1311 والمتوفى سنة 1405، رحمه الله تعالى
للكمال بن الهمام شعر أعلى قليلاً من شعر الفقهاء، منه قوله في قصيدة يحض على مدح الرسول صلى الله عليه وسلم:
إذا ما كنت تهوى خفض عيش ... وأن ترقى المدارج للكمال
فدع ذكرَ الحميا والمحيا ... وآثار التواصل والمطال
وأن تهدى بزهر وسط روض ... وأخبار المهاة أو الغزال
وكن حبساً على مدح المفدى ... رسول الله عين ذوي المعالي
فإن لديه ما يرجى ويهوى ... جميل الذكر مع جزل النوال
وكان شاعر العصر الذي عاش فيه الكمال ابن الهمام، هو شهاب الدين المنصوري، أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن الهائم، والمولود في المنصورة سنة 798 والمتوفى سنة 887، فمدحه بقصيدة منها:
بحرُ خضم في العلوم زاخر ... سيف صقيل في الحقوق مرهفُ
سل عنه في العلم وفي الحلم معًا        ... فهو أبو حنيفة والأحنف
لا ثانيا عطفا ولا مستكبرا ...  ولا أخو عُجب ولا مستنكف
لا يطرق الكبر له شمائلا ... ولا يهز جانبيه الصَلَف
فهو من الخير وأنواع التقى ... على الذي كان عليه السلف
فلو حلفت أنه شيخ الهدى ... لصدَّق الناس وبر الحلف
يا دوحة العلم التي قد أينعت ... ثمارها والناس منها تقطف
رحمه الله وجزاه عن الإسلام خير الجزاء.

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer