الجمعة، 9 أغسطس 2013

حدث في الثاني من شوال

 
في الثاني من شوال  عام 675 توفي في تونس، عن 50 عاماً، أمير المؤمنين المستنصر الأول محمد بن يحيى بن عبد الواحد ابن أبى حفص الـهَنتاني، من ملوك الدولة الحفصية بتونس.
ترجم له المؤرخ موسى بن محمد اليونيني البعلبكي ترجمة واسعة في ذيل مرآة الزمان ومنها ومن الأعلام للزركلي استقيت أغلب هذه الترجمة:
جده أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاني، نسبة إلى هَنتاتة  أعظم القبائل المصامدة الذين هم أكثر قبائل البربر في إفريقية ، وكان يرفع نسبه إلى عمر بن الخطاب، واشتهر الجد بموالاته لدولة الموحدين ومؤسسها الإمام المهدي ابن تومرت، محمد  بن عبد الله المتوفى سنة 524 عن 39 عاماً،  ثم لخلفائه من بعده، وتوفي أبو حفص في سلا بالمغرب سنة 571.
أما والده أبو زكريا الحفصي يحيى بن عبد الواحد، المتوفى سنة 647 عن 49 عاماً، فكان أول من استقل بالملك ووطد أركانه من ملوك الدولة الحفصية بتونس سنة 625، وكانت الخطبة لبني عبد المؤمن أصحاب مراكش فقطعها سنة 626 وخطب لنفسه واستقل بدولته، ووجه نظره إلى توسيع ملكه، فمده إلى الجزائر والمغرب، واستولى على الجزائر وتلمسان وسجلماسة وسبتة وطنجة ومكناسة، وبايعه في الأندلس أهل إشبيلية وشاطبة والمرية ومالقة وغرناطة، وخافه فريدريك الثاني ملك صقلية وإمبراطور روما، فهادنه عشر سنوات.
وبه استنجد أهل الأندلس وأرسلوا إليه الشاعر ابن الأبار، محمد بن عبد الله المتوفى 658، وأنشد بين يديه سينيته المشهورة، وأولها:
أدرك بخيلك خيل الله، أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
ومنها:
هذي رسائلها تدعوك من كثب ... وأنت أفضل مرجو لمن يئسا
تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي ... حفص، مقبلة من تربه القدسا
وكان الوالد أبو زكريا كاتباً شاعراً، كثير الإحسان للمستورين، وخدم العلم فأنشأ عدة مدارس ومساجد، وجعل لها الأوقاف، وأنشأ دارا للكتب جمع فيها 36.000 مجلد، وهو الذي ابتنى جامع القصبة في تونس وصومعته الجميلة الشكل، ونقش عليها اسمه، وأذن فيها بنفسه ليلة تمامها، غرة رمضان سنة 630.
ولما توفي الوالد سنة 647 في بونة- وهي اليوم عنابة في شرق الجزائر- كان ابنه ووليُّ عهده محمد في صحبته، وسنه 22 عاماً، فترك والده ليدفن في بونة، وركب بغلاً يسمى الجيش وسار به سيراً حثيثاً حتى وصل تونس في خمسة أيام، والمسافة عشرون يوماً، ومات البغل في تلك السفرة، وحمله على ذلك خوفه من أن يسبقاه عمّاه.
ولما دخل تونس، وجد الخبر قد سبقه والنوح في القصر فأبطله، وأمر بضرب البشائر وسيّر مملوكاً له إلى مدينة بونا يستدعي من بها من العسكر، وأمر أن يسوق عمه أبو عبد الله اللحياني في مقدمة الجيش، وعمه أبو إبراهيم في ساقته، فساروا عشرين يوماً حتى وصلوا إلى السبخة على يوم من تونس.
فتقدم لهم مرسومه أن يترجل العسكر بأسرهم خلا عمّيه، وفي رؤساء العسكر خمسون طائعون وسبعون ممن يودون الإطاحة به، فلما دخلوا تونس مدّ لهم سماطاً فدخل الخلق طائفة بعد طائفة، والكوسات تضرب والخُلع تُفرَّق والأنعام تشمل القريب والغريب، وبقي على هذا المنهج سنة ونصفاً، وهو مع ذلك خائف من عميه وثلاثة رجال أخر متواطئين معهما، وكان مدة السنة ونصف يجتمع كل ليلة بهؤلاء الخمسة، وينعم عليهم لكل واحد منهم بألف دينار عيناً ومركوباً وسيوفاً وعبيداً ويضبط ذلك أرقاماً.
ونقم عليه أرباب دولته أموراً، وتواطؤا مع عمَّيه وانتهى الخبر للمستنصر، فأحاط بهم أعوانه وعيونه، فخاف عمه أبو إبراهيم حين رأى مماليك السلطان على رؤوسهم قياماً بأسلحتهم من غير عادة تقدمت في البلاد بذلك، وقال أبو إبراهيم لأخيه والثلاثة الذين معهما: هذه حيلة علينا لنقتل في وسط المكان، ثم طلبوا الإذن بالركوب للنزهة فأذن لهم، ثم ركب المستنصر متخفياً وراءهم إلى ان دخلوا بستاناً يقال له الحريرية، فدخل الأخوان وتحيّل الأمير محمد إلى أن دخل بحيث لم يُشعر به، وطلع إلى شجرة خرّوب مطلعة على المكان، فلما أن دخلا تعانقا، وقال أبو إبراهيم: أما أن تأخذها أو آخذها، فقال اللحياني: أنا قد زوجته ابنتي وحلفتُ له، ثم وافاهم الثلاثة واتفقوا على تولية اللحياني وهو يشاهدهم من الشجرة.
وخرجوا من البستان، ونزل الملك من الشجرة فرآه خَوَلي الإبل، فحل حزامه ودفعه إليه، وأخذ يحادثه إلى أن وصل إلى جانب ساقية في البستان، فرفسه برجله رماه فيها فمات، وذهب من ساعته، فأركب مماليكه وهم ألوف، وقال لهم: امضوا إلى الدار التي هم بها، فاهجموا عليهم واقطعوا رؤوسهم.
فما أحس المتآمرون إلا وقد أحيط بالدار، فهرب الأولاد واختفوا، وقطعت رؤوس العمَّين وأُتيَ بها الملك، فقال: أين بقيتهم؟ قال: واصلون في الزناجير، وكان عنده القاضي وأربعة عدول، فقال لهم: تركبون وتحفظون خزائنهم وموجودهم، وتحضرون لي ما في هذه الورقة مما صرفت إليهم، فقبضها القاضي وساروا إلى ما رسم لهم بهم، ودخل الباقون في الزناجير، فضرب أعناق سبعين من زعماء المتآمرين، وهرب أولاد عمّيه فقراء واختفوا واحتيط على ما كان لهم جميعه، وكل ذلك في ثلاثة أيام.
ثم صعد الملك محمد علي منبر من العاج مصفح بالذهب، فذكر الله وأثنى عليه وذكر نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال في آخر كلامه: عفا الله عنكم المجرم وغير المجرم. ثم أمر بهدم دور المتآمرين إلى الأساس، وكذلك بساتينهم ولم يُبق لهم أثر، ولم يظهر لها بعدهم غلام ولا مملوك إلا قبض عليه.
وأقام محمد بعد قتل عميه سنة، ثم جمع العلماء والأكابر، وقال: أنتم مؤمنون أم لا؟ - وقال: ومن أنا؟ - فقالوا: أميرنا، قال: فإذا اجتمع بحثي وبحثكم كيف يكتب؟ قالوا: أمير المؤمنين؛ قال: فاكتبوه. وكتب إلى سائر بلاده، وخلع على مقدّمي العسكر والأعيان من الرعية والمتميزين من الناس.
وكان بإفريقية من العربان خلق كثير لهم مقدم يعرف بسبع بن يحيى، وفخذه بنو كلب، وهم أشد العربان بإفريقية، فعصوا عليه، فلم يُظهِر لهم تغير، ورسله تتردد إليهم بالملاطفة إلى أن حضروا إليه، فضرب رقابهم عن آخرهم.
فبلغ ذلك قوماً من العربان يقال لهم الخلوط والذبابيين والمعفوقيين، مجموعهم ستين ألف راكب لم يعطوا طاعة لأحد، فزاد عصيانهم، فشاور أعيان دولته؛ فقالوا: نُخرِجُ العسكر بأسره إليهم، فقال: تذهب الخزائن وما نظفر بالجميع، ويستمر عصيان السالمين، ويقطعون الطرقات! لكن نأخذهم بالرفق. فراسلهم وأعطاهم خمسة بلاد وهي طرابلس وجرباء وزوارا وزواغا وقرقنا، ثم استعمل سيوفاً جدداً ورماحاً، وفصل جباباً منوعة ودراريع بيضاء وملابس النساء، وحمل ذلك هدية إليهم صحبة رجل يعرف بأبي يحيى بن صالح من كبراء دولته مشهوراً بالصدق عند العربان؛ وقال: إن اختاروا الحضور إلينا يحضروا، وإلا ما نكلفهم ذلك.
فلما حضر عندهم قدموا له الخيل والنياق وأحضروا المغاني، وبقي عندهم ثلاثة شهور يركب في جمهورهم، ثم إن الملك كتب إليه يأمره أن يخطب له ثلاث بنات من الثلاثة أفخاذ من كل أمير بنتاً، فعرّفهم ورفعت الرايات وقرّت في أحياء العرب البنات.
وكان أبو يحيى قد احتوى على عقولهم، فكتبوا إلى الملك يسألونه أن يكون مقدمهم، فأجابهم إلى ذلك وأمر لمحضِرِ الكتاب بألف دينار عيناً وعشرة أكسية حمر وعشرة من الإبل وخمس جوار خادمات، وجعل راتباً لمن يلوذ به وبلداً يباباً يقال لها الحماء يستغلها، فعاد إليهم، فاطمأنوا غاية الطمأنينة، وانكف شرهم عن البلاد، وحصل لها نهاية الأمن.
ثم إن الملك كتب إلى الشيخ أبي يحيى يستدعيه وقال: من أراد من العربان أن يحضر معك فليحضر، فصحبه تسعة نفر من كل فخذ ثلاثة أولاد الأمراء، فدخل تونس، وخرج الملك بنفسه لتلقيه، ثم أنزل التسعة ومن معهم، وصاروا كل ليلة يحضرون مجلس الملك وينصرفون بالخلع والمال، ثم إن الملك أحضر نقاشاً وقال له: افتح لي سكة تضرب عليها ديناراً مائة مثقال؛ فعمل السكة فضرب الملك عليها عشرة آلاف دينار، ثم دخل دار الطراز وأمر أن يعمل بها ثياب برسم بنات العربان اللاتي خطبهن، وأن يعمل سوار كل بنت شعار أبيها، وأخرج الذهب وجُعِلَ في الصناديق مقسوماً سوية، واخرج ستة من العدول صحبته والذهب وسيّر الجميع إلى العربان ليكونوا كتبة الصداقات عندهم.
فلما رأت العربان أولادهم عادوا سالمين، ومعهم أموال جمة، ورأوا تلك الأموال والقماش قد فرش في البرية ذهلت عقولهم، واشتدت أطماعهم، وكتبت الصداقات، وعادت العدول إلى تونس.
ثم بعد مدة يسيرة كتب كتباً تتضمن أنه قد طرأ أمر يحتاج إليه إلى المشورة فليحضر، فأول من سارع التسعة المقدم ذكرهم، ووصل معهم نحو السبعين رجلاً من كبارهم، فأركب الملك ولده للقائهم، وأنزل كل عشرة منهم في دار، وأوسع عليهم من النفقات والمأكول والمشروب، وصاروا معه حيث كان، فأقاموا كذلك عشرة أيام، ثم قال لهم: إن الأمر الذي أحضرناكم قد مضى من غير مشورة ببركاتكم، فارجعوا إلى بلادكم. فخرجوا رافعي الرايات داعين للملك شاكرين
فأخذ رجل منهم في الطريق غصباً عشرة رؤوس من البقر، فقطعوه بالسيوف، وسيّروا رأسه إلى تونس، فشُقَّ ذلك على الملك وقال: البقر لي، ولعله كانت له حاجة بها، فلم فعلتم ذلك؟ ثم أمر أن يُعمل له جنازة ويدفن، فتضاعف أمنهم، وأقاموا على ذلك سنة، فحصل بسبب أمن البلاد أضعاف ما أنفق من المال.
وورد على الملك من أكابر ملوك البربر رجل يعرف بابن عمراض فاحتفل به واستدعى أهل البلاد والعربان، فبادروا وأقبل جميع الناس وهم يومئذ سبعون أميراً، فخرج إلى لقائهم بنفسه، وضربت لهم الخيم وأخلي لهم في البلد عشر دور برسم راحتهم في النهار، واحترمهم حرمة تامة بحيث كان الرجل من أهل البلد يقتل قتيلاً ويلّم بدورهم، فلا يُؤذَى؛ ثم إن ابن عمراض قصد خدمة الملك فركبوا معه ودخلوا تونس، فقال لهم الملك وجعل يثني عليهم وعلى ابن عمراض، وأمر العربان يقبلون الأرض عقيب كل شكر، ثم طلبهم أن يدخلوا قصره ليلة واحدة ليشربوا معه، فدخلوا إلا عشرين نفراً تخيلوا، فسيَّر لهم المأكول والمشروب وغرائب ما عنده، وقال: إنما قصدت أن أريكم زخرف ما عندي، فمن خطر له الدخول فليدخل، ومن اختار أن يقيم مكانه فليُقِم.
ثم أظهر للذين دخلوا من أنواع الزينة ما ذهل عقولهم، وأخرج من جواريه نحو الخمسين جارية يتراقصن بين أيديهم، ومن خطر له جارية أعطيها، وأنعم عليهم بالذهب، ولم يسير للبرانيين شيئاً.
ولما أصبح ركب معهم، وخرجوا إلى عند الجماعة المتأخرين وسلم عليهم، وقال: العذر باق فيكم، فلهذا تأخرتم، ولكن ما نؤاخذكم، بل نعمل لكم قبة في وسط القصر جديدة نسميها قبة العرب تجتمعون فيها على اختياركم، ومن حين نضع أساسها نشرب فيها. فرضوا بذلك، ثم أمر لهم بمثل ما أعطى من كان معه من الذهب.
ثم ساق بخيله ومماليكه فدخل قصره، واستدعي بمعمار يقال له عمرون القرطبي، وقال له: أريد أن تبني لي في هذه الرحبة قبة أربعين ذراعاً في مثلها يكون جميعاً حجراً صامتاً، ويكون لها ثلاثة أبواب، باب يختص بالعرب وتكتب عليه أسماؤهم، وباب سرّ أدخل منه وأخرج، وباب للحاشية، فرُسِمت القُبة وقُطِعت الحجارة.
ثم إن الملك عانق عمرون من غير عادة، وقال له: إني وقفت على سيرة بعض الخلفاء، فرأيت فيها إنه قتل جماعة في قبة أساسها ملح سيّب عليه الماء فسقطت، فهل لك في ذلك حيلة؟ قال: نعم؛ فتقدم يعمل في حيلة لإحضار الملح، ثم شقّ الأساس ورَدَمَه ملحاً، ولم يصبح إلا وقد دار بالحجارة دوراً واحداً
ثم طلب العرب، فحضروا وبسط المكان، وجعل العربان يشربون والصناع تعمل إلى العصر، وركب الملك وتركهم، فمنهم من خرج ومنهم من تأخر، وبقي على هذه الحال يشرب في ناحية القبة والصناع تعمل في الجهة الأخرى مدة أربعين يوماً، فكملت ببياضها وتصوير العربان فيها، فكان البدوي ينظر إلى صورته كأنها تنطق، فيتعجب من حِذْق الصانع.
وكان بالقصر حمام عتيق مجرى مائها يسري باتجاه أساس القبة، فخزن الماء من حين الشروع في القبة في بركة معدة لها، فلما تمت القبة قال لهم: إني الليلة بائت في القبة معكم لا ينصرف منكم أحد. فشربوا إلى آخر النهار، واستقبلوا الليل بالسرور وهم على غاية الطمأنينة، وأمر الملك أن يُكشَفَ الترابُ عن الأساس إلى أن يظهر الملح، ثم يُستر بالبسط، وسأل في كم يذوب الملح إذا أطلق عليه ماء ساخن؟ فقيل له: في تسع ساعات، فعلَّق الأَسطرلاب، وأطلق الماء من المغرب في الأساس، فساح الماء على الملح إلى ثاني ساعة، وقام الملك بعد أن أرسل من يعز عليه بأشغال، وترك من لا يريده معهم، وخرج فأوسع طريق الماء بالإسباغ إلى أن ذاب أكثر الملح، وقوي عليه الماء، فسقطت القبة ولم يسلم منهم أحد، وكان قد أمَرَهم أن يكتبوا إلى أولادهم ليحضروا ويحضروا البنات معهم، فكتبوا من حال وصولهم، فاتفق وصولهم في صبيحة ذلك اليوم الذي سقطت فيه القبة.
فلما حضروا رأوا الملك باكٍ عليه ثوب قطن والحزن ظاهر عليه، فقال: ما ترون ما قد جرى على هؤلاء يعز والله عليّ، ولكن هذا أمر سماوي ليس فيه حيلة. ثم طلب المعمار فضرب عنقه لئلا يشيع باطن الحال، ونبش العربان فدفنوا، وحلَّف أولادهم ثم بايعوه واستعاد ما كان أعطاهم من البلاد الخَمس، وعوّض أولادهم عنها بالغلال.
ومن سيرته أن سلاح جنده وآلة الحرب عنده في خزائنه، وعلى كل سلاح اسم صاحبه لا يمكّن أحداً من التصرف في شيء منه، فإذا اتفق حرب حُمِلت العُدد على الجمال وأُخرجت ففُرقت على الرجال، فإذا قضى الشغل أعيدت إلى الخزائن، وكلما عَتِقَ منه شيءٌ جُدّد، وكلما فَسَدَ شيءٌ منها أُصلِح من ماله، وإن مات الرجل رتب لولده، وإن لم يكن له ولد ولا وارث تُرِكت لرجل غيره، وهو أول من اعتمد ذلك في تونس بعد قتل عمومته خوفاً من الخروج عليه.
ودَخلُ البلاد بأسرها يُجمع ويُحمل ثم يفرق في السنة أربع مرات كل ثلاثة شهور نفقة، ويُقسم المال الرُبع والثُمن منه - 37.5% - لأمير المؤمنين، والنصف والثُمُن - 62.5% -  لبيت المال، وما يصرف على الشواني - السفن - للجهاد والعمائر وإصلاح ما يجب إصلاحه من البلاد فهو من النصف والثمن بأمر قاضي القضاة، وما يخص أمير المؤمنين من خيل وسلاح ولباس وعدة ومماليك ونفقات فهو من الربع والثمن، ومن خامر من الجند أو مات وليس له وارث عاد ما ترك إلى أمير المؤمنين.
وفي سنة 668 غزا تونسَ لويسُ التاسع Louis IX ملك فرنسا والملقب بالقديس لويس Saint Louis،  غزوة اشتركت فيها جيوش رومة وغيرها.
وكان لويس التاسع قبل قرابة عشرين عاماً قد هاجم مصر واستولى على طرف منها واحتل دمياط سنة 647، وذلك في فترة اتفق فيها موت الملك الصالح نجم الدين أيوب سلطان الديار المصرية، فقام بتدبير الأمور وتقدمة العساكر الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ فاستشهد، ثم حضر الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح من حصن كيفا وقاتلهم، ثم قتلته المماليك البحرية بتحريض من شجرة الدر زوجة والده.
ورغم هذه الفتن خذل الله تعالى الفرنج وأهلكهم ورزق المسلمين النصر من حيث لم يحتسبوا، فهزموا جيوشهم وأسروا ملكهم لويس التاسع، وتسلمه الطواشي جمال الدين محسن هو وجماعته، وضرب في رجله قيداً ثقيلاً، واعتقله بالمنصورة في الدار التي كان بها فخر الدين بن لقمان كاتب الإنشاء، ووُكِلَ به الطواشي صبيح المعظمي، وأطلقوا سراحه بعد الاتفاق على إعادة دمياط وانسحاب جيوشه.
وتوجه لويس التاسع إلى فرنسا، وبقيت نفسه تحدثه بالعود إلى البلاد الإسلامية، فعزم في سنة 668 على انتهاز فرصة حلول مجاعة بتونس ليهاجمها، وأرسل يستنفر ملوك أوروبا، وبعث إلى البابا يطلب تأييده فكتب البابا إلى ملوك أوروبا بالمسير معه، وأطلق يده في أموال الكنائس يأخذ منها ما شاء.
فقصد لويس التاسع تونس، ومعه جماعة من ملوك الفرنج، فاستعد له المستنصر بالله وبعث إليه رسله في طلب الصلح، ومعهم ثمانون ألف دينار، فأخذها ولم يصالحهم، ونزل بساحل قرطاجنة في ستة آلاف فارس وثلاثين ألف راجل، وأقام هناك ستة أشهر قاتله المسلمون خلالها قتالاً شديداً قُتِلَ فيه من الفريقين أعداد كبيرة، وكاد المسلمون أن يُغلَبوا، فأتاهم الله بالفرج إذ أوقع في عسكر الفرنج وباءً عظيماً؛ ومات لويس التاسع وخلقٌ كثير من عسكره، فطلب الفرنج الصلح ورجع من بقي من عسكره إلى بلادهم بالخيبة والصغار.
وقال الصاحب جمال الدين بن مطروح عندما بلغته نية لويس التاسع في مهاجمة مصر من جديد:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال حق من قؤول فصيحْ
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحَين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكلُّ أصحابك أوردتهم ... بسوء أفعالك بطن الضريح
خمسون ألفاً لا ترى منهم ... إلا قتيلاً أو أسيراً جريح
وفقك الله لأمثالها ... لعل عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضياً ... فرب غش قد أتى من نصيح
وقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثأر أو لقصد قبيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باقٍ والطواشي صبيح
واشتُهِرت هذه الأبيات لحسنها ورشاقة ألفاظها.
ولما قصد لويس التاسع بلاد تونس، قال فيه أحد شعرائها أحمد بن إسماعيل الزيات:
يا فرنسيس هذه أخت مصر ... فتيقن لما إليه تصيرُ
لك فيها دار ابن لقمان قبراً ... وطواشيك منكر ونكير
وتصف المصادر العربية المعاصرة لويس التاسع بأنه كان فطناً عاقلاً داهياً خبيثاً مفكراً.
توفي المستنصر سنة 675 بعد أن وطد أركان الدولة، حتى إنه أتته بيعة من أهل مكة سنة 657، وهو أول من ضرب نقود النحاس بإفريقية، وكانت تضرب من الذهب والفضة، وعلامته عليها: الحمد لله والشكر لله.
وانتهت الدولة الحفصية في تونس بعد قرابة 370 سنة وذلك في سنة 981 عندما قام السلطان محمد بن الحسن بالتواطؤ مع الأسبانيين إذا أعانوه على إخراج الترك من تونس، واشترط الأسبانيون أن يشركهم في حكم البلاد، فرضي بشرطهم، وأعانه أسطولهم فدخل تونس، واحتلها الأسبانيون وهو خانع، وأذاقوا أهلها الويلات، فأرسل السلطان سليم جيشاً من القسطنطينية يقوده الوزير سنان باشا، فنشبت معارك انتهت بظفره ودخوله تونس، فقبض علىه وعاد به إلى العاصمة العثمانية، فأمر السلطان سليم باعتقاله، واستمر في سجنه إلى أن هلك.
 

ليست هناك تعليقات:

 
log analyzer